أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابوذر ياسر - حب اول العمر ....حب أخر العمر















المزيد.....


حب اول العمر ....حب أخر العمر


ابوذر ياسر

الحوار المتمدن-العدد: 6552 - 2020 / 5 / 2 - 14:49
المحور: الادب والفن
    


حب اول العمر....حب آخر العمر
اغلقت كتاب الفيزياء الذي بيدها بعد ان عجزت عن فهم نظريات تفسير الضوء وتحولت الفوتونات وماكس بلانك الى كوابيس مزعجة وقررت ان تأخذ قسطا" من الراحة بعد ساعات طويلة من القراءة استعدادا لامتحان البكالوريا الذي كان نقطة تحول في حياة الشباب آنذاك في ظل آفاق واعدة على كافة المستويات من بينها شد الرحال الى العاصمة للدراسة هناك وما تعنيه بغداد في ذلك الزمان فهي مدينة الانفتاح و المتعة و الثقافة.
استلقت على السرير وحاولت النوم لكن تزاحم الافكار في رأسها سلبها القدرة على اغفاءة قصيرة اعتادت ان تنعم بها عصر كل يوم ...كان اقتراب موعد الامتحان الوزاري من جهة ومن جهة اخرى المشروع الذي همست به صديقتها المقربة في الاعدادية : الانتماء للتنظيم الطلابي التابع للحزب الشيوعي واخيرا ذلك الشاب الذي طرق باب البيت قبل اسبوع مواضيع سببت لها شيء من الشرود الذهني.
كان الحزب الشيوعي يستقطب المثقفين والمثقفات والمتطلعين والمتطلعات للارتقاء الثقافي وكان هذا بحد ذاته سببا" يجعل الكثيرين يطمحون في الانخراط في هذا التنظيم الذي استفاد كثيرا من اجواء الحرية النسبية في العراق فتوسع عدديا وتطور نوعيا وهيمن على الساحة الثقافية الى حد كبير.
اما هذا الشاب الذي طرق الباب قبل اسبوع سائلا عن اخيها فقد كان على درجة عالية من الخلق واللباقة و الاناقة ايضا و قد ترك في نفسها انطباعا" عميقا سيما وهي تعيش في مدينة محافظة اعتادت ان تضع فواصل سميكة بين المرأة والرجل و تعزلهما عن بعض عزلا تاما"
وبينما هي تسند جسدها الجميل على سريرها المعدني و تداعب خصلات شعرها الذهبي غارقة في افكارها المتشابكة رن جرس البيت فنهضت على الفور وكأنها على موعد مع طارق الباب او انها خمنت انه هو ذلك الشاب الذي غمرها بأحساس غريب عندما التقته اول مرة قبل اسبوع.
فتحت الباب ببطيء فتراءى لها وجه ذلك الشاب الذي بادرها بنظرة ساحرة متأمله لكنها خجولة واحست هي بسعادة كبيرة و تسارعت ضربات قلبها و عجزت عن النطق بأي كلمة استفهام او ترحيب.
أحس هو بخجلها وبادرها قائلا :
هل ان ( حسنين) في داخل البيت
قالت بنبرة من فهم ان ( حسنين ) هو ليس سبب الزيارة:
كلا ...لقد خرج من الظهر.
اجابها :
اخبريه اني ذاهب الى بغداد بعد ساعة فأن شاء الذهاب معي فأني سانتظره في موقف الباصات .
تشجعت قليلا وقالت :
هل انت مع اخي بنفس الكلية .
اجابها وقد سره جدا ان يطول الحديث معها:
نعم نحن في نفس الشعبة.
تنهدت قائلة:
ما اسعدكم وانتم تدرسون في بغداد
استغل الفرصة ليقول لها:
مدينتنا احلى...مدينتنا مدينة الشعر والجمال.
نطق عبارة الجمال و حدجها بنظرة ذات مغزى.
لم يكن ( كمال) و ( حسنين) وزملاءهم القادمين من الحلة سعداء في بغداد في السنة الاولى من الدراسة كما كانت تظن ( ياسمين) فقد جابهوا الكثير من المشاكل المزعجة تتعلق بتوفير مستلزمات الحياة اليومية الاساسية وكذلك التكيف مع الاجواء الجديدة والفارق الطبقي المظهري مع طلاب العاصمة القادمين من الاحياء ( الغنية) .
كان شعور التفوق العلمي والثقافي و التميز يتبدد يوما بعد يوما" بسبب الانشغال بتفاصيل الحياة اليومية و بدأت تتبدد ايضا" الثقة العالية بالنفس فسيطرت على ( كمال) خاصة" وساواس قهرية مبنية على اوهام بعيدة عن الواقع مفادها انه لايمتلك القدرات الذهنية التي يمتلكها زملاءه ابناء العاصمة التي كانوا يحصلون على درجات اعلى منه بكثير.
لم يحصل طلاب الصفوف الاولى القادمين من المحافظات في ذلك العام على سكن في الاقسام الداخلية فأضطرت شلة الاصدقاء ومنهم (كمال) الى استئجار غرفة بائسة في بيت متداعي في زقاق اكثر بؤسا" في محلة الحيدرخانة قرب تمثال الشاعر ( معروف الرصافي) وهذا الزقاق يفضي الى شارع الرشيد الذي كان يعج بالحركة والنشاط والضوضاء معظم ساعات النهار والليل في تلك الايام وفي الضفة الاخرى من شارع الرشيد كان شارع ( المتنبي ) شارع الكتب والقرطاسية وكبة السراي.
كان البيت يضم عدد كبير من الغرف وكان يعيش في الغرفة الواحدة خمس او ست اشخاص وكان اثاث الغرفة لا يتعدى مجموعة من الأسرة المعدنية المفروشة بفراش متهريء وكان يبرز من الجدران عدد من المسامير لتعليق الملابس التي غالبا ماتكون مشاعة للجميع وهي بمعظمها مشتراة من سوق ( اللنكة) في الباب الشرقي .
اما المرافق الصحية وهي لم تكن صحية بالمرة فقد كانت مشاعة لكل ساكني البيت و كان من الطبيعي ان تشاهد طابور المنتظرين امام هذه المرافق كل صباح.
كانت المطالعة في اجواء هذا البيت هي ضرب من الخيال فقد كانت الضوضاء و حركة الداخلين والخارجين مستمرة طوال الليل وكان كل شيء في هذا البيت لا يصلح لأي نشاط انساني سوى شرب ( الخمرة) والاستماع الى اغاني الشيخ امام ومارسيل خليفة وغيرها من الاغاني الثورية السائدة في تلك الايام والمناقشات السياسية التي تمتد حتى ساعات متأخرة من الليل.
كان يوم الخميس يوما سعيدا في حياة مجموعة الاصدقاء هذه فهو يوم السفر الى الحلة لقضاء اجازة نهاية الاسبوع في ظروف ( انسانية) كانت كفيلة في نسيان مرارة الحياة في الحيدرخانة و كذلك نسيان ساعات الانتظار الطويلة في كراج باص الحلة في منطقة علاوي الحلة قرب ساحة المتحف.
حسمت ( ياسمين ) قضية انتماءها السياسي الى الشيوعيين بسرعة عجيبة فقد ابلغت صديقتها موافقتها على الانضمام للتنظيم الطلابي رغم انها لم تكن عن الحزب سوى شعاره ( وطن حر وشعب سعيد) وتعرف ان الشيوعيين مثقفين ومسالمين وبدأت بقراءة ( طريق الشعب) بشكل يومي و حضور اللقاء الاسبوعي مع صديقتها التي اصبحت مسؤولتها الحزبية وكان هذا اللقاء كان يتم مشيا" على الاقدام في طريق العودة من المدرسة الى الحي الذي كانتا تسكنان فيه.
لم يكن هذا الانتماء ينطوي على اي نوع او قدر من المجازفة او التضحية فقد كان الحزب الشيوعي مسموحا به من قبل السلطة وكان يملك مقر علني هو عبارة عن بناية صغيرة على كورنيش شط الحلة وكانت مدينة الحلة بيئة حاضنة للافكار اليسارية و كان معظم شبابها المتعلمين والمثقفين اعضاء او متعاطفين مع الحزب الشيوعي و كانت ( ياسمين) تسمع ان ( اعتقال الطائي) التي كانت معجبة بها وتطمح ان تكون يوما ما بثقافتها هي امرأة شيوعية. وكانت المطبوعات والكتب الشيوعية تملأ واجهات المكتبات في الحلة وفي غيرها من مدن وسط وجنوب العراق.
اما ( كمال ) فلم يعاود المجيء الى بيتهم وانقطع فترة طويلة من الزمن لاسباب لاتعرفها ولم يكن بوسعها ان تتجرأ وتسأل اخاها ( حسنين ) عنه وانطوى الامر وكأنه سحابة صيف مرت بعد اسقطت حملها رذاذا خفيفا من المطر انعش البشر والشجر و غمر المكان برائحة التراب المحببة للنفوس.
اثار ( كمال) في نفسها الكثير من الاحلام في حياتها القادمة في بغداد فكانت تتخيل نفسها تجلس معه في نادي الكلية تتبادل معه الحديث وتفصح له عن همومها دون ان تأبه لعيون الرقباء و كان يخطر ببالها انها سوف تخرج معه للسينما او مسرح من المسارح الكثيرة في بغداد او انها تتمشى معه عصرا في كورنيش ابو نواس الذي كانت تسمع عنه كثيرا".
جاءت الامتحان وانتهى وهي لم تتصور ان هذا الكابوس سينتهي يوما ما و مرت ايام عصيبة بانتظار ظهور النتائج حتى جاء الخبر السار :
نجحت ( ياسمين ) وبمعدل ٩٢ بالمئة وهو معدل يؤهلها للقبول في اي كلية تختارها في جامعة بغداد لكنها اختارت كلية الهندسة التي كانت مفضلة في تلك الايام على كليات الطب والصيدلة لدى الكثير من اصحاب المعدلات العالية.
كما ان لكلية الهندسة ميزة اخرى مهمة جدا" فقد كانت الكلية التي يدرس فيها ( كمال)
هل كانت ( ياسمين ) تخطر ببال ( كمال ) ؟
بالتأكيد نعم سيما وأن بغداد لم تحمل له اية آفاق واعدة على الصعيد العاطفي وأن عاصفتها الموعودة لم تحمل له أي نبيذ او اقواس قزح كما كان يأمل.
كان العبء النفسي يتزايد مع تصاعد صعوبة الدراسة في كلية الهندسة ومتطلباتها التي لم يكن باستطاعته الايفاء بها وكان درس الرسم الهندسي بحد ذاته يشكل له هما" كبيرا" فالواجبات البيتية لهذه المادة تحتاج اجواء نظيفة وهادئة وليست كتلك الاجواء التي كان تسود البيت البائس في الحيدرخانة وكان هناك في الكثير من الاحيان من يعبث باوراق الرسم او ادواته.
وكان العمل الحزبي يشكل عبئا" اضافيا" على كاهل ( كمال) وكانت الواجبات الحزبية غير معقولة على الاطلاق فكانت تتطلب حضور اجتماعين في الاسبوع في منطقة بعيدة عن مكان السكن وكان الاجتماع يستهلك اكثر من ست ساعات بما فيها وقت الذهاب والعودة ناهيك عن حضور الحفلات والنشاطات الثقافية التي كان اعضاء الحزب ملزمين بحضورها اضافة الى الكتب والنشريات الحزبية التي كان يتطلب قراءتها واستيعابها استيعابا" جيدا".!!
وكان الكادر القيادي في الحزب في الكلية لا يجيد سوى اللوم والتقريع عند الاخفاق في الايفاء في تلك الالتزامات دون ان يبذل اي جهد في مساعدة الاعضاء في حل مشاكلهم او تقديم العون لهم.
وكان من الظواهر التي تركت انطباعا" سيئا" في نفس ( كمال) تسابق غالبية اعضاء التنظيم في الظهور الثقافي والاجتماعي دون ايلاء توجيهات الحزب في الصيانة والسرية اي اهتمام سيما في وقت كان يلوح في الافق ملامح هجمة شرسة على الحزب واعضاءه وتنظيماته.
فلقد كان نادي الكلية يعج بتجمعات الشيوعيين وحلقاتهم و كان الجميع يحمل جريدة الحزب العلنية بشكل واضح للعيان ضاربا" عرض كل الحائط كل التحذيرات وكان الجميع يقدم خدمة مجانية لاجهزة السلطة الامنية والقمعية. وكان يكفي ان تتواجد في نادي الكلية لمدة ساعة واحدة لتكتشف كل المرتبطين بالحزب وحتى درجاتهم الحزبية فكان الكادر المتقدم يحاط بهالة الاهتمام تتناسب مع موقعه الحزبي لا يحظى بها الاخرون !!!
و في حقيقة الامر كان ( كمال) يعيش صراعا" نفسيا" حادا" في موضوعة الاستمرار بالعمل الحزبي فهو في قرارة نفسه لم يكن مؤمنا" بالحلقة المركزية في نضال الحزب آنذاك ( الجبهة الوطنية) ولم يكن يقتنع مطلقا" بحسن نوايا الحلفاء البعثيين وكان متأكدا" ان هؤلاء يبيتون ضربة ماحقة للحزب في الوقت المناسب لكنه في الوقت نغسه لم يكن يستطيع ترك العمل الحزبي لاعتبارات تتعلق بمباديء الوفاء للشيوعيين و الكرامة الشخصية.
بعد صيف حار بدأت السنة الدراسية الجديدة وانتقل كمال و اصدقاءه الى المرحلة الثانية بشق الانفس مستفيدين جميعا" من نظام العبور .
كان الحال افضل في السنة الجديدة فقد انتقلت تلك المجموعة من الاصدقاء الى الاقسام الداخلية في منطقة العيواضية و هي بيوت قديمة شيدت في الثلاثينات او الاربعينات من القرن العشرين وكانت في الاصل قصور تعود للوزراء والنواب والطبقة المتنفذة في العهد الملكي.
كانت العيواضية منطقة جميلة وهادئة وقريبة من شاطيء دجلة وعلى مسافة ليست بعيدة من كورنيش الاعظمية الجميل و تتوسط تلك المنطقة مقبرة الجنود الاتراك وهي حديقة جميلة اقرب الى المتنزه منه الى مقبرة وكان طلاب الاقسام الداخلية يقضون فيها ساعات العصر في مطالعة دروسهم !!
احس ( كمال) في المكان الجديد بشيء من الراحة النفسية و الالفة معه و استطاع خلال فترة قصيرة ان يظهر مؤشرات التفوق الدراسي بحيث اصبح ( حسنين) وبقية الشلة يعتمدون عليه في تدريسهم المواد صعبة الفهم.
تعرف كمال في الاقسام الداخلية على عدد من الطلبة العرب واقام معهم علاقات جميلة و استطاع ان يخرج قليلا من حالة التقوقع وتحسن قليلا اداءه الحزبي الا ان بصمات السنة الماضية والاثار النفسية التي تركتها لم يكن من السهل الخروج منها بشكل كامل.
اقترب موعد الامتحانات النهائية و اعلنت درجات السعي السنوي وكان كمال متفوقا فجلس مساء ذلك اليوم المشؤوم في حديقة القسم مسترخيا تغمره النشوة والسعادة بماحققه من نجاح دراسي باهر بعد انتكاسة كبيرة في العام الماضي.
وبينما هو يستمتع بمنظر الاشجار والزهور في حديقة القسم الداخلي الجميلة لمح من بعيد مسؤوله الحزبي وهو يتجه نحوه بجدية كبيرة وخطى سريعة و باغته بالقول:
- لقاء استثنائي بعد ربع ساعة في كورنيش الاعظمية قرب الكشك .
- خيرا" ماذا حصل؟
- ستعرف هناك.
غادر الرفيق بسرعة ليبلغ بقية الرفاق . ونهضت كمال من فوره للتوجه الى المكان المتفق عليه.
وبعد وصوله الى المكان جلس على احد المساطب الخشبية وانتظر بضعة دقائق صعبة ثم تقاطر بقية الرفاق و حضر المسؤول الحزبي الذي اخرج من جيبه ورقة واخذ يقرأ بيان المكتب السياسي :
اقدمت السلطة على اعدام اكثر من ٢٠ من رفاقنا من بينهم نجم المنتخب الوطني من بينهم بشار رشيد بحجة انهم استمروا بعلاقتهم بالحزب بعد التحاقهم بالخدمة العسكرية !!!
وقع الخبر على الجميع وقع الصاعقة
الحزب الحليف ( حزب الديمقراطيين الثوريين ) قائد المسيرة الثورية صوب الاشتراكية يقوم يرتكب مجزرة بحق كوكبة من الشباب الشيوعيين حلفاء السلطة وسندها ودون سابق انذار !
سأل كمال :
وماهو رد فعل حزبنا؟
اجاب المسؤول بثقة عالية:
لن يسكت وسوف يقوم بتنظيم تظاهرات حاشدة في بغداد والمحافظات.
لكن المظاهرات لم تخرج ولم يكن هناك اي رد فعل يتناسب مع حجم الحدث!!!
بالعودة الى ياسمين فقد حصلت بسهولة على قبول في كلية الهندسة ولكنها وبضغط من اهلها قدمت على قسم الهندسة المدنية الذي لم تكن تحبه وفعلا تم قبولها وباشرت الدوام في هذا القسم الذي كان معظم الطالبات والطلاب فيه من ابناء الطبقات البغدادية الارستقراطية وابناء المسؤولين و لهذا لم تكن مرتاحة ياسمين و كانت تتمنى لو انها كانت في قسم الكهرباء الذي كان فيه ( كمال) وعدد كبير من طلاب وطالبات المحافظات القريبين من بيئتها وافكارها.
كان عزاء ( ياسمين ) الوحيد تلك اللقاءات العابرة مع كمال في نادي الكلية او عندما كان يتمشى معها ليوصلها الى القسم الداخلي للبنات في منطقة الوزيرية لكن لقاءهم الاطول هو يوم الخميس في طابور باص المصلحة المتوجه الى الحلة الذي كان عليهما الوقوف ساعتين على الاقل قبل الحصول على تذكرة السفر لكنهما بالطبع لم يكونا منزعجين من ساعات الانتظار هذه بل كانا يتمنيان ان يطول الانتظار اطول مدة.
بعد انقضاء هذه السنة بحادث اعدام الشيوعيين عاد الطلاب كالعادة الى محافظاتهم و كان صيف ذلك العام ساخنا" جدا"...فرغم ان الاوضاع في بغداد كانت عادية الى حد كبير وكانت صحافة الحزب الشيوعي تصدر كالمعتاد وكان الوزران الشيوعيان لا زالا في منصبهما الا ان اجهزة الامن في المحافظات بدأت بشن حملة اعتقالات واسعة وممنهجة ضد الشيوعيين وكان ( البروتوكول) المتبع هو اجبار المعتقل تحت التعذيب الجسدي والنفسي على اعطاء مالديه من معلومات تخص التنظيم الحزبي ثم اجباره على الانتماء لحزب البعث او على الاقل توقيع ( تعهد) بعدم الانتماء للحزب الشيوعي مجددا".
استجابت الغالبية العظمى من اعضاء الحزب لمتطلبات هذا ( البروتوكول) ...اما من كان يرفض فقد تم تصفيته جسديا تحت التعذيب او ابقاءه رهن الاعتقال الى اشعار آخر. فيما اختفى الكثير من الشيوعيين واصدقاءهم عن الانظار تجنبا للملاحقة و الاعتقال.
عاد كمال الى بغداد فبل انقضاء العطلة الصيفية هربا من حملة الاعتقالات وفي اول لقاء له مع مسؤوله الحزبي شرح له مايجري في الحلة لكن المسؤول اجابه ببرود :
انت تبالغ كثيرا"....انت متأثر بالدعاية الرجعية.
ولأن ( كمال ) متأثر بالدعاية ( الرجعية) ومروج لها فقد تم معاقبته حزبيا" ومنعه من حضور اجتماعات خليته الحزبية و اصبح اتصاله بالحزب فرديا" من خلال احد اعضاء خليته الحزبية !!!
استمر جو الترقب في بغداد وكانت قيادة الحزب اشبه بالنعامة التي تدس رأسها في الرمال لكي لا يراها احد ...حتى حل ربيع عام ١٩٧٩ فتم اغلاق صحافة الحزب وبدأ قادة الحزب بالهرب الى خارج العراق تاركين اعضاء الحزب الى مصيرهم المجهول وعندما كانوا يسألون : ملعمل كان الجواب ( كل عضو في الحزب هو عزيز محمد ) اي بمعنى ادق : اذهب انت وربك ياموسى فقاتلا اننا للعراق مغادرون !!!
ماان حل نيسان عام ١٩٧٩ حتى اصبحت الجبهة الوطنية في مهب الرياح بعد تصفية الحزب الشيوعي في المحافظات واغلاق صحافة الحزب واستقالة عامر عبد الله من منصبه كوزير دولة فيما بقي ( مكرم الطالباني) في منصبه وزيرا" للنقل بأعتباره شعرة معاوية التي لا تنقطع لاسباب غير معروفة .
ادارت الاجهزة الامنية وجهاز حزب السلطة واتحادها الوطني للطلبة حملة تصفية الحزب الشيوعي في بغداد بالكثير من الحذر ودون اثارة شوشرة لا مبرر لها وربما كانت الغاية عدم تسرب انباء الحملة الى خارج العراق و ربما ان هناك اطراف في السلطة كانت غير راضية على هذه الحملة و في مقدمة هذه الاطراف رئيس الجمهورية مكسور الجناح احمد حسن البكر الذي لم يكن يملك من السلطات مايكفي لكبح جماح مجموعة صدام- برزان - سعدون شاكر وخاصة بعد موت ابنه القوي محمد في حادث مروري قيل انه مدبر .
اقترب موعد الامتحانات النهائية صيف ١٩٧٩ وبدأت بوادر الحملة في كلية الهندسة بأعتقال ( زيد عبد الاحد) الطالب في القسم المعماري مع والده الطبيب الشيوعي المعروف.
بلغت الحملة اوجها ايام الامتحانات فقد كانت المجاميع التابعة للاتحاد الوطني للطلبة تنتظر الطلبة المشكوك في انتماءهم للحزب الشيوعي في ابواب القاعات الامتحانية ويتم اقتيادهم الى غرفة الاتحاد الوطني مقابل النادي الطلابي و يتم تهديدهم بالاعتقال في حالة رفضهم التوقيع على ( التعهد) السيء الصيت فيما كان ضابط امن الكلية (شاكر) ينتظر الرافضين في غرفته في الطابق الاول من النادي الطلابي .
قرر ( كمال ) اتباع اسلوب الخروج من الامتحان قبل نصف ساعة على الاقل من انتهاء المدة المحددة له حتى لو اضطر الى ترك سؤال كامل معتمدا على معدلاته العالية في السعي السنوي وقد نجحت الخطة في تفادي المفارز الاتحادية حتى اليوم قبل الاخير من ايام الامتحان.
كان البناية التي يمتحن بها كمال تتكون من طابقين و كان العمل جاري لاضافة طابق ثالث للبناية ممااستدعى احداث فتحة في جدار الغرفة المجاورة للدرج لغرض تصعيد المواد الانشائية.
وقد انتبه ( كمال) لهذا الجدار المفتوح على الخارج وقرر استخدامه عند الضرورة القصوى لتفادي الخروج من باب القسم .
في اليوم الاخير من الامتحانات اضطر ( كمال ) للبقاء حتى آخر دقيقة من الامتحان نظرا لصعوبة الاسئلة وعندما سلم دفتره الامتحاني وخرج من باب القسم انقض عليه ثلاثة من الطلبة البعثيين لكنه استطاع الافلات و دخل الى القسم مرة أخرى فيما بقي الطلاب البعثيون ينتظرون خروجه مرة أخرى .
صعد كمال السلم وفتح باب الغرفة المجاورة للدرج ورمى نفسه من فتحة الجدار . كان سقوطه غير موفقا" فقد ارتطم ظهره بكدس الطابوق في الممر الخارجي وفقد الوعي ولم يستعيد الوعي الا بعد عدة ايام لكنه فقد القدرة على المشي بشكل نهائي واضطر ان يعيش ما تبقى من حياتة على الكرسي فقد اصيب بالشلل ولم تنفع كل المحاولات التي بذلها الاطباء لمعالجته.
اصبح عالم ( كمال) المادي صغيرا لا يتعدى الغرفة التي لايبارحها الا بالضرورة القصوى على كرسي المعوقين لكن عالمه الروحي كان يتسع يوما بعد يوما فقد اصبح لديه الكثير من الوقت لكي يقرا الادب والفلسفة وعلم الاجتماعي وسماع الموسيقى الكلاسيكية ومشاهدة الافلام الاجنبية . فقرأ ابرز نتاجات الادب العربي والعالمي وخاصة الروسي والاسباني فقرأ بعمق نتاجات نجيب محفوظ وحنا مينا وغائب طعمة فرمان و زكريا تامر و توفيق الحكيم وعبد الرحمن منيف وتولستوي و بوشكين وشكسبير و هوغو و ماركيز و انطوان تشيخوف و شولوخوف و جنكيز ايتماتوف و بابلو نيرودا وماركيز و استمع الى كل ماتيسر له من موسيقى شتراوس و باخ و موزارت وبيتهوفن و كورساكوف و تشايكوفسكي وغيرهم.
كانت غرفته عبارة عن سرير و جهاز تلفزيون وفديو كاسيت و جهاز تسجيل و مكتبة عامرة بالكتب و عدد من الكراسي المخصصة لاصدقائه الذين لم ينقطعوا عن زيارته يوما واحدا.
بدا (كمال) بكتابة الشعر الذي كان يقرأه على اصدقاءه والذي نشر بعضه بعد سقوط النظام في الصحف والمواقع الاليكترونية واقام له اتحاد الادباء فرع الحلة عدد من الامسيات الشعرية التي لاقت اعجابا وتعاطفا شديدا من الحاضرين.
كانت صدمة الحادث شديدة الوقع على ( ياسمين) فكان حزنها شديدا لما آل اليه وضع ( كمال) ولم تستطع ان تلتق بعد الحادث .
عاشت ( ياسمين) اياما مريرة من الحزن الممزوح بالشوق للقاء ( كمال) و اثار الحادث في نفسها المزيد من الاصرار والتحدي على تكملة مشواره السياسي والصمود بوجه محاولات السلطة لاسقاطها سياسيا" واضطرت لترك الكلية و الانخراط في تنظيمات الحزب الشيوعي الجديدة تحت شعاره الجديد ( من اجل انهاء النظام الديكتاتوري واقامة الديمقراطية في العراق) .
لكنها اكتشفت بعد حين ان الطريق الذي سلكته اكبر كثيرا من طاقتها على التحمل فبعد اختفاء شقيقها ( حسنين) الذي التحق بفصائل الانصار في كردستان اعتقلتها الجهات الامنية في محاولة لمعرفة مكان ( حسنين) وتعرضت للتعذيب ولم يطلق سراحها الا بعد عدة ايام وبعد هذه الحادثة قررت ان تترك العمل السياسي الذي انقطعت عنه اصلا بعد التحاق مسؤولها الحزبي الى فصائل الانصار ايضا"دون يسلمها بعهدة مسؤول آخر فتركت ( ياسمين) مدينتها الحلة وسكنت في بيت عمها في بغداد بعد زواجها من ابن عمها بعد الحاح وضغوط من اهلها و لأنها رات في زواجها خارج الحلة فرصة للتخلص من ملاحقات الاجهزة الامنية وكانت القشة التي قصمت ظهرها محاولة تجنيدها في عملية الايقاع بصديقتها القديمة ( زبيدة) التي استطاعت الافلات منها باشارات ذكية ارسلتها لزبيدة في الوقت المناسب ودون ان تثير انتباه احد.
اما زوجها الذي كانت تكن له احتراما شديدا فقد كان رجلا مثقفا حسن الخلق طيب القلب عاملها بلطف في بداية حياتهما الزوجية ثم سارت الامور بشكل مختلف بعد عدة سنوات من زواجهما وللقصة بقية.
وبزواجها انتهى حب اول العمر .
اما شقيقها ( حسنين ) فقد بقي في كردستان وشهد الاقتتال الداخلي في فصائل المعارضة ثم الانفال ثم غادر كردستان الى ايران ثم الى الاتحاد السوفيتي مشيا" على الاقدام وانتهى به المطاف لاجئا انسانيا" في هولندا بعد دخول قوات صدام للكويت.
و لحب أخر العمر قصة اخرى



#ابوذر_ياسر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مراحل حكم البعث في العراق : المرحلة الاولى 1968-1972
- عذرا غرامشي
- ماذا قال سيد قطب في المعالم
- حلم بأثر رجعي ..............سيناريو بديل لما حصل في التاسع م ...
- يوم غير عادي -قصه قصيره
- تحولات الانسه فيان
- هل ان الحب مؤسسه فاشله؟
- فيان .............. قصه قصيره جدا
- بعد فوات الاوان
- من وحي الثامن من يونيو
- الدين الشعبوي والدين الكهنوتي
- لماذا أحب العراق
- نداء الى رئيس وزراء العراق القادم قدم استقالتك من الآن يا رج ...
- هل ان ممارسات داعش تنسجم مع تعاليم الاسلام؟
- بكالوريا
- حجي رضا العجلاتي
- ثلاث قصائد الى فينوس
- امي
- كلمات للوطن
- يوم ........ قد لا يأتي


المزيد.....




- فنان إيطالي يتعرّض للطعن في إحدى كنائس كاربي
- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابوذر ياسر - حب اول العمر ....حب أخر العمر