أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ميثم الجنابي - عمران بن حطان الخارجي: ممثل الوجدان والعصيان















المزيد.....


عمران بن حطان الخارجي: ممثل الوجدان والعصيان


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 6551 - 2020 / 5 / 1 - 03:08
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


للوجدان الثائر مآثره في المصير. وهي الحالة التي تجعل الإرادة أسيرة الطغيان العارم للروح المتسامي. وقد تكون هي الحالة الوحيدة التي تعطي لكلمة الطغيان أنغامها المذهلة في السماع الروحي للوجود، وأصواتها المغرية في القصائد الشعرية للحياة، ومذاقها الجميل في تاريخ التمرد والتشرد. لكنها حالات مرهقة للعقل والضمير والروح والجسد، لكنها الوحيدة القادرة على صقل حيوية الوجدان وإبداع الجنان بمقاييس الحركة المتوترة أمام هاوية الشك واليقين والحياة والموت. وقد جسد عمران بن حطان هذه الحالة، بحيث تحول النغم الساري في اسمه إلى كينونة تتطابق مع حقيقة شخصيته المتمردة بمعايير الإخلاص للنفس والفكرة المتسامية . ومن ثم لم تكن مختلف التأويلات المتحزبة أو الواقعية إلا الصيغ المتنوعة للتفسير الظاهر، والخالي من إدراك الحقيقة البسيطة القائلة، بان الشخصية الفعلية للشاعر الكبير تقف بعيدا وراء الكلمات والمواقف، وذلك لما فيها من انفعال مباشر مع مقتضيات الحياة ودروبها المغرية والمؤذية. وبالتالي ليست "علامات" الحياة الفارقة سوى معالم الروح الدفين بين جوانح الجنان الثائر.
فقد حاولت مختلف صيغ الاتهام العقائدي والسياسي إنزال شخصية عمران بن حطان إلى الحضيض من خلال البرهنة على أن انتقاله إلى الخوارج كان بسبب عشقه لامرأة هي ابنة عمه. فقد كانت هي، كما ينقل في كتب التاريخ آية في الجمال بينما كان هو دميما. وهي الصورة التي أثارت بدورها خيال الأجيال اللاحقة لتسويق "حوار" الدمامة والجمال بالشكل الذي يعوض كل منها بمعايير القناعة الشخصية. إذ تنقل لنا بعض كتب التاريخ والأدب قول زوجته له عندما أعجب بها يوما: أنا وأنت في الجنة! لأنك أُعطيت فشكرت، وابتُلِيتُ فصبرت!". وتعكس هذه الصيغة فكرة البلاء الشخصية بوصفها معيار الاختيار والاختبار الأبدي للجمال والحقيقة. فكما ابتلى عمران بن حطان بفكره، فإنها ابتلت به! لكنه بلاء يضمحل في ذكرى الأجيال بوصفه رونق الفكرة والمواقف. وذلك لان اختلاق القصص هو الآخر بلاء. غير أن الشخصية المتسامية تظل تحتفظ حتى في اشد الصورة الملفقة إثارة للاشمئزاز ملامح الأنا الملهمة. وذلك لان مضمون القصص الملفقة يفقد مع مرور الزمن حافز التلفيق والاصطناع. ومن ثم تندثر فيه مساعي النفس الخبيثة لإحراق الخصوم والأعداء. وتبقى شعلة التاريخ المخفية فيمن جرت محولات حرقه. وهو الوهج الذي يتلألأ فيما وراء الحبكة بوصفه القوة المثيرة لاستعادة الشخصية موقعها في وعي الذات التاريخي. ومن الممكن رؤية الصيغة النموذجية لهذه الحالة في القصص الملفقة عن انجذاب عمران بن حطان لإغواء امرأة. فالذي بقي من وراء هذه القصة ليس الإغواء بل الجمال ويقين القناعة الأبدية بالبلاء بوصفه معيار الإرادة الحرة والعيش بموجبها. وهو الوجه المثالي والمهذب للحياة المرة والمريرة التي أنعشت وجدان عمران بن حطان وجعلته يحترق، شأن كل الأرواح المتسامية على نار الوجود والأبد.
والشيء نفسه يمكن قوله عن الرواية المتممة لإغواء الجمال، التي حاولت تفريغ شخصية "المسلم القويم" فيه عبر تلفيق إحدى القصص المحببة لنفسية وذهنية السلفية المسطحة. وتقول هذه الرواية، بان عمران بن حطان حالما رأى ابنة عمه، فانه أراد الزواج بها لكي يردها إلى "مذهب السنة والجماعة" لكنها كسبته إلى مذهبها. وهي تفاسير كانت تضمر في أعماقها فكرة "لا خير في رجل يتأثر برأي امرأة!" . أما في الواقع، فان التاريخ اللاحق لشخصية عمران بن حطان تكشف عن تجانس التمرد الهائل في شخصيته والانسجام مع النفس، الذي جعل من مواجهة مذهب "أهل السنة والجماعة" أمرا حتميا. إذ لم يكن مذهب "أهل السنة والجماعة" آنذاك شيئا غير حصيلة الذوق والرغبة السلطوية للأموية. ومن ثم فإذا كان اكتشافه لحقيقة الفكرة الخوارجية من خلال امرأة فهو الحدس الكامن في تذوق الجمال ورغبة الإخلاص التام له. وليتها بحد ذاتها كانت حقيقة! فهو الفعل الأسمى للوجدان.
غير أن حياة عمران بن حطان تكشف عن انه لم يكن أسير الحب الجسدي، بل أسير الروح. لهذا قد يكون الأقرب إلى الدقة الخبر القائل، بان انتقاله إلى معسكر الخوارج كان بسبب تأثره الفكري والسياسي بهم. إذ ينقل عنه انه جادل في إحدى المرات حروريا (من الخوارج) في مجلسه، وبأثره اعتنق مذهبهم. ولم تكن هذه الحالة نادرة بين صفوف شعراءهم. ولعل انتقال الطرماح إلى الحركة الخوارجية هو احد الأمثلة النموذجية المشهورة .
غير أن لكل شاعر مصيره الخاص. كما تتوقف نوعية هذا المصير على نوعية الوجدان وتحقيقه في الأقوال والأفعال. وتتراكم نوعيته في مجرى الحياة وتكتمل في الخاتمة وأثرها الروحي في التاريخ. فقد نشأ عمران بن حطان بالبصرة. وهو المكان الذي حدد بمعنى ما مصيره في ظل السلطة الأموية وتاريخ الصراع العنيف ضدها على امتداد عقود من الزمن. وكان معروفا عنه قبل اعتناقه فكر الخوارج بطلب العلم والحديث. حتى "بلى بهذا المذهب فضلّ وهلك لعنه الله"، كما يقول البغدادي . وهي صيغة مقلوبة عن حقيقة الحرية والفردانية المتسامية . فالخروج على العقائد الميتة وسطوة السلطة الجائرة هي بلاء وابتلاء فعلي للمرء. وهو البلاء الذي نعثر على صداه في احد أشعاره القائلة

حتى متى تُسقى النفوس بكأسها ريب المنون وأنت لاه ترتع
فقد كانت الفكرة الخوارجية هي فكرة رجوع النفس إلى حقيقتها. وليس مصادفة أن تتحول فكرة الموت إلى إحدى الهواجس الدفينة والعنيفة في شخصية الخوارج، بوصفها الحاجز الأول والأخير لاختبار حقيقة الحرية بوصفها التزاما مستمرا وإخلاصا أبديا. وليس مصادفة أن تكون فكرة مواجهة الموت هي الصيغة الأوسع انتشارا بينهم، لأنها الأصدق تعبيرا عن المواقف، والمحك النهائي لاختبار الإرادة. إذ لم تكن فكرة مواجهة الموت سوى الوجه الآخر لحب الحياة ولكن بمعايير الوجدان الصادق والحرية الأبدية. لهذا نرى على سبيل المثال قطري بن الفجاءة يقول في احد أشهر قصائدهم

أقول لها وقد طارت شعاعا من الأبطال ويحك لا تراعي
سيبل الموت غاية كل حـي فـداعية لأهل الأرض داعي
ونسمع نفس الفكرة في شعر البهلول بن بشر الشيباني وهو يقول:
من كان يكره أن يلقي منيته فالموت أشهى إلى قلبي من العسل

في حين ترتفع دعوة الاستعداد للموت من اجل الفكرة في إحدى الأراجيز إلى أن يصبح حمل الرأس والاعتناء يه ثقلا على المرء! وهي قمة التمثل الواعي لأهمية التضحية الكبرى والنهائية في تحدي الموت، كما نراه على سبيل المثال في أرجوزة أم حكيم وهي تقول:
أحمل رأس قد سئمت حمله
وقد مللت دهنه وغسله
ألا فتى يحمل عني ثقله!

وقد بلغت هذه هذه التقاليد ذروتها في تصوير الخوارج لأنفسهم، وكأنهم يحملون قبورهم في بطون الطير. بمعنى أن حياتهم محمولة دوما في سماء الانسياب العاصف للحرية والابتعاد عن ارض الرذيلة. ومن ثم لا شيء يمكنه أن يحصرها ويحاصرها. وتمثل عمران بن حطان هذه التقاليد في احد أبياته العميقة عندما قال أشعاره بهذا الصدد، مثل قوله:
لا يعجز الموت شيء دون خالقه
والـموت يفنى إذا ما ناله الأجل
وكل كرب أمام الموت منقشـع
والكـرب والموت ممّا بعده جلل
ولم يكن هذا الموقف معزولا عما يمكن دعوته بفلسفته عن الحياة، التي وضعها في احد أبياته الشعرية التي يصور موقفه منها كما يلي:
أحلام نوم أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع.
وليس مصادفة استشهاد الثوري بشعره القائل:
أرى أشقياءَ الناس لا يسأمونها
على أنهم فيها عراة وجوع
كركب قضوا حاجاتهم وترحَّلوا
طريقهم بادي العلامة مهيع

إننا نعثر في شعره هذا على شعور وجداني هو التعبير الأعمق والأصدق لفلسفة الحياة والموت الخوارجية، التي تجعل من التحدي والعصيان والاستعداد للموت من اجل الفكرة المتسامية القيمة الوحيدة القادرة على إثارة الوجدان والإخلاص لما فيه. ومن الممككن سماع دبيب هذه الحالة في عروقه وروحه عندما رثى أبا بلال مرداس بن جدير في إحدى أجمل وأرّق وأعمق واصدق الأشعار التي يمكن أن تقال في حق من كانت حياته وموته تعبيرا عن مثاله الفعلي: -

أصبحت عن وجل مني وإيجاس
أشكو كلوم جراح ما لها أسـي
يا عيـن ابـكي لمـرداس ومصرعه
يا رب مرداس اجعلني كمرداس
تركتنـي هائما ابــكي لمـرزئتـي
في منزل موحش من بعد إيناس
أنكرت بعدك من قد كنت اعرفه
ما الناس بعد يا مرداس بالناـس
إمــا شــربت بكـأس دار أولـها
على القرون فذاقوا جرعة الـكأس
قد كنت أبكيك حينا ثم يئسـت
نفسي فما ردّ عني عبرتي يأسـي

لقد بلور عمران بن حطان في أبياته هذه النشيد الأبدي للإخلاص، مع ما ترتب من مواقف شخصية هي الوجه الظاهر لحقيقة ما كان يعتمل في أعماقه، وما كان يتكامل فيه بوصفها صيرورة "الأنا الخوارجية". إذ وضعته هذه الأنا أمام الامتحان الدائم للبرهنة على أن قيمة الحياة في الحرية، وان الاختبار الفعلي لها يقوم في تحدي كل ما يعرقل أو يشوه إمكانية تحقيقها كما هي. ووضعها في شعره القائل:
أحاذر أن أموت على فراشي وأرجو الموت تحت ذرى العوالي
إننا نعثر في هذا البيت على موقف يتمثل فردانية السمو العملي للفكرة الخوارجية، بوصفها فكرة الوجدان العارم. وشأن كل فكرة متسامية من هذا القبيل، فانه رمت بشخصيتها في دهاليز الزمن ودروب التاريخ وأمواج الحياة الصاخبة وبؤس الاتهام الخبيث والخنيث للسلطة وشراسة كتبتها من مرتزقة الأقلام وفاقدي الأحلام. من هنا تباين المواقف منه واختلاف التقييم.
فقد وصفه بعضهم بشاعر الخوارج الأكبر. لهذا نسمع الفرزدق يقول عنه "عمران بن حطان من أشعر الناس، لأنه لو أراد أن يقول مثلنا لقال، ولسنا نقدر أن نقول مثل قوله". بينما وجد فيه البعض الآخر نهاية في الورع والصلاح وترك الدنيا. فيما وجد فيه البعض رجلا جامعا لفنون العلم والنزاهة والحلم وشهامة الجنان وفصاحة اللسان، إن خطب أبلغ أطنب أو أوجز، وإن نظم سحر بيانه وأعجز. لهذا اعتبروه شاعرا وخطيبا وفقيها من أهم رجال الخوارج . وهي صفات نادرا ما تجتمع في شاعر. ومع ذلك كانت الصيغة "العادية" لشعراء الخوارج. وذلك لأنهم من طينة أخرى. فقد كان عمران بن حطان سبيكة نادرة من الوجدان المخلص للحق والحقيقة. وليس مصادفة أن يذكره أبو داود في تقييمه لنقلة الحديث في عبارته القائلة، بأنه "ليس في أهل الأهواء أصحُّ حديثا من الخوارج". وفيما لو رمينا عبارة "أهل الأهواء" بوصفها أهواء السلفية المتشنجة والجمود الروحي والعقلي، فان مضمونها يبقى جليا، بمعنى وصفه لعمران بن حطان باعتباره رجلا أمينا صادقا مخلصا لا شائبة عليه. لهذا اعتبره ابن حبان أيضا من الثقات في نقل الحديث. في حين كثف المبرد في (الكامل) وصفه بعبارة "كان رأس القعدة من الصفرية وفقيههم وخطيبهم وشاعرهم". أما الأصفهاني، فقد جمع كل ما يمكن جمعه بهذا. حيث نراه يصوره بعبارات تقول، بان عمران بن حطان كان من الصفرية (القعدة). لكن قعوده كان بعدما طال عمره وكبر وعجز عن الحرب وحضورها. فاقتصر على الدعوة والتحريض بلسانه. بينما كان في بداية أمره مهتما بطلب العلم والحديث قبل أن "يبتلي بمذهب الخوارج". إذ نرى فيها صورة عن الصيغة العادية لرؤية الانقلاب الهائل في الشخصية. بمعنى رؤية البلاء في التحول والانتقال. وهي فكرة سليمة عندما يجري وضعه ضمن السياق الحقيقي لارتقاء ووحدة النفسية والذهنية بمعايير الحق والحقيقة. فالوحدة ابتلاء والعيش بمعاييرها ابتلاء، بوصفها الذروة التي يمكن لشاعر أن يبلغها، بحيث جعل من شعر الخوارج صوت الضمير الحر، وسلامة العقيدة الكونية، والنزوع الإنساني العميق، والعقل المتحرر من عبودية الجاه والمال، والقلب النابض بوهج الحق والحقيقة . وهو سر تناثره وتشرده في أدغال الاتهام والنسيان المتعمد . كما انه السبب الذي جعل منه بالضرورة شعر التمرد والعصيان.
وحالما يتكامل التمرد والعصيان في الشخصية المتوحدة بمعايير الحقيقة، عندها يتحولان إلى أسلوب الحياة والوجود، وبالتالي إلى أبد المصير الواعي. حينذاك يصبح التشرد تحديا وليس تخفيا، وهجوما وليس هروبا، بينما يصبح العصيان الفائر تعبيرا عن الوجدان الدائر بعجلات الإخلاص ودروبه المتنوعة. وليس مصادفة أن يحتوي النغم في اسمه (عمران بن حطان) أيضا على صدى الوجدان والعصيان. ولا علاقة لهذه المعادلةا بالتأويل المفتعل، لان العبارة هنا مجرد تعبير عن صيرورته الفردية وكينونته الإنسانية. والافتعال الوحيد هنا هو ألا يجري رؤية الخيوط المتلونة في نسيج الإرادة الحرة ورغبتها العارمة في جعل الحركة المجهولة لأيادي القدر صورة معلومة للحاضر والمستقبل. وهذا بدوره ليس إلا التعبير الأدبي عن الاحتمال غير المحدود القائم في استعداد الروح الحر لحمل الأمانة الإنسانية حتى النهاية. وضمن هذا السياق يمكن فهم سر البيت الذي مدح فيه قاتل الإمام علي، عندما اعتبر ضربة سيفه وقتله للإمام علي بن أبي طالب فعلا متساميا مهمته بلوغ الرضوان الإلهي. بحيث جعله هذا الموقف يضع عبد الرحمن بن ملجم في ميزان الوجود والقيم باعتباره "أوفى البرية عند الله ميزانا" .
إننا نقف هنا أمام احد المواقف الأكثر درامية وتناقضا، وفي الوقت نفسه الأكثر تجانسا بمعايير الإخلاص للفكرة الذاتية. وقد يكون من الصعب الآن تحسس حدة الألم الذي كان يعتصر أعماقه وهو يرفع من شأن قاتل الإمام إلى مصاف "أوفى البرية"، إلا أنها كانت الصيغة الوحيدة القادرة على تبريد غلو الوجدان من ثقل الهزيمة التي رافقت انتصار الأموية. بعبارة أخرى، إن عمران بن حطان لم يبحث في هذه الدراما التاريخية ومآسيها الهائلة عن عبرة يمكن الاستعانة بها لترميم النفس المتثاقلة من لزوجة الدماء وروائح الأشلاء المتناثرة في ذاكرة القتال والأضحية، بقدر ما كان يسعى لبناء هوية الوجدان الخوارجي بوصفه عصيانا. من هنا طابعها الدرامي والمأساوي العميق بالنسبة للذاكرة والذكرى، والحياة والتاريخ. وحالما تجري محاولة وضع هذه المكونات وترتيبها حسب قواعد المنطق، فإنها لا تؤدي إلا إلى الدوران في فلك التجريد البارد وسخونة السفسطة، أي البعيدة عن خطوط التاريخ بوصفه المسرح المنظم لعبث الوجود والعدم. فالتاريخ الواقعي وانعكاسه في اشد المواقف مفارقة هو أيضا القدر الملازم لمعاناة الروح في محاولاته تحسس القرابة في اشد الأمور غرابة، شأن الغريزة في تقبلها للمعدوم على انه مصدر الحسب والنسب النبيل! وهي الحالة التي يمكن تحسسها في مفارقة تقديم مقتل الإمام علي قربانا لصعود الرذيلة الأموية. وهي الحالة الأشد غرابة ومفارقة في شخصية عمران بن حطان، إلا أنها الأصدق أيضا. وذلك لان النهاية الوحيدة التي يمكن أن يحققها شاعر حر هو أن يحملها في أعماقه وتحمله بوصفه الموقف العصي على الخنوع والخضوع لكل سلطة خارجية باستثناء سلطان الوجد الصادق. كما انه السبب الذي جعله عصيا على السلطة في مختلف مظاهرها وأشكالها. لهذا نراه مرة ينتقد الفرزدق، حين سمعه ينشد شعره متكسبا. بحيث نراه ينصحه بالتجرد عن السلطة أيا كانت والبقاء ضمن عالم الإرادة الحرة والاكتفاء بما فيها بوصفها مصدر الإلهام الحقيقي. وهو عالم لا يقبل قلب الأمور لأنه فعل يؤدي إلى قلب المرء بتشويه قلبه. بمعنى مطالبته إياه بالبقاء ضمن إدراك حقائق الأشياء كما هي والعمل بموجبها، كما في قوله مخاطبا الفرزدق:
لا تقل في الجواد ما ليس فيه وتسمي البخيل باسم الجواد
وتحلى بهذه الصفة وعاش حتى آخر لحظة بمعاييرها، بوصفه الممثل النموذجي لوحدة الوجدان العصيان، أي لأحد نماذج التحقيق الفرداني لمرجيات الروح المتسامي. فعندما ظفر به الحجاج الثقفي، وقال لجلاده حربي:
- يا حربي أضرب عنق ابن الزانية!
- بئس ما أدبك به أهلك يا حجاج! أبعد الموت منزلة أصانعك عليها؟! ما كان يؤمنك أن ألقاك بمثلها؟!
فأطرق الحجاج استحياءً، كما يقال، وأمر بإخلاء سبيله. وعندما قال له أصحابه
- إنما أطلقك الله لما رأى في رجوعك إلينا! هلم إلى محاربة الحجاج!
- هيهات! غل يداً مطلقها، واسترق رقبة معتقها! والله لا أحاربه أبدا.
وهو موقف متجانس مع النفس والفكرة المتسامية. بمعنى إنها لا تخضع لحساب المقايضة والخوف والفائدة والزمن العابر. أنها محكومة بقوة الوجدان والعصيان. لهذا نراه يستهزأ بالحجاج، بحيث يتحول شعره فيه إلى مثل دارج، بينما يبقى متخفيا متشردا بوصفها التضحية الضرورية للاحتفاظ بالأنا الخارجية، أي أنا الانتماء لعالم الحرية والإخلاص لها. فقد عيّر الحجاج الثقفي لأنه تهرب عن ملاقاة إحدى نساء الخوارج (غزالة) التي دعته للقتال، في شعره القائل:
أسد علي وفي الحروب نعاقــة فتخاء تنفر صفير الصافــر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى بل كان قلبك في جناحي طائر
وهي الشتيمة التي تحتوي في أعماقها على معاناتها الفعلية بوصفها جزء من الشجاعة والإقدام على مواجهة الطغاة والاستبداد. والفرق جلي، بين قلب رفرف على جناح طير، وبين قبر تحمله بطون الطيور. وجسّد عمران بن حطان في مجرى حياته اللاحقة هذه الصيغة عندما تخلص من الموت. إذ تنقل لنا كتب التاريخ، كيفية وكمية تنقله بين القبائل. بحيث كان ينتسب إلى الحي والقبيلة التي يسكن فيها متخفيا متشردا. وأبدع في هذه الحالة أجمل الصور وأدقها وأقواها في مواجهة ما أسميته بالمصير الواعي. وقد يكون البيت المشهور
يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معدياً فعدناني
فهو البيت الذي يتمثل تجاربه وخروجه على السلطة الذي جعله يتماهى مع حقيقة الفكرة التي اعتنقها. من هنا اضمحلال العائلة والقبيلة والمكان، وبقاء التحدي العنيد للسلطة. ونعثر على صدى هذه الحالة في إحدى أجمل القصص التي تروى عنه، بعد بداية المشوار الطويل للتشرد والتمرد. وهي القصة التي تبدو في أحداثها المختلفة متوحدة في الهاجس والغاية. أنها تعكس ما يمكن دعوته بالتشرد الدائم والتحدي الأبدي. بحيث تحول عمران بن حطان إلى شخصية عكست في اختفائها وتشردها التحدي العنيد للأموية. وهي القصة المحبوكة من وقائع التاريخ والشخصية، وأوهام القصص. وتجمع بين إرهاب السلطة الممثلة بالحجاج وعبد الملك بن مروان وبين تحديهما في شخصية مران بن حطان. أما روح بن زنباع، فهو الممثل الوسط الذي يجمع بين تقاليد الفروسية العربية والخضوع للسلطان، أي الممثل العام للمجتمع. ففي نموذج منها تحكي لنا كيف أن عبد الملك بن مروان أراد الانتقام من عمران بن حطان بسبب شعره المعروف بمدح قاتله ابن ملجم. انطلاقا من الحمية التي أخذته بسبب قرابة عبد الملك بعلي بن أبي طالب! إذ نذر دمه ووضع عليه العيون! فلم تحمله أرض! فاستجار بروح بن زنباع. وبقي في ضيافته سنة لا يعرف روح عن حقيقة عمران شيئا! وعندما سأله من أي قبيلة هو، أجابه بأنه من الازد. لكن ابن زنباع يكتشف حقيقته لاحقا. مرة عبر حادثة تقول، بان عمران بن حطان كان ممن يطيل الصلاة. وكان غلمان بني عمرو يضحكون منه. فأتاه رجل (زفر) يوما ممن رآه عند روح بن زنباع، فسلم عليه. وعندما سألوه إن كان يعرفه، أجاب: نعم انه رجل من الازد رأيته ضيفا لروح بن زنباع. عندها قال الشخص: ما هذا؟ أزديا مرة وأوزاعيا أخرى! أن كنت خائف أمناك! وان كنت فقير جبرناك!" وهو انكشاف جعله يختفي هربا من جديد. بحيث لم يترك خلفه إلا قصيدة على قصاصة فيها:

مازال يســألني حـولا لأخبره
والناس من بين مخدوع وخداع
حتى إذا انقطعت عني مسائله
كف السؤال ولم يولع باهلاعي

بينما تحكي لنا رواية أخرى عن أن سر انكشافه هو متابعة السلطة إياه. إذ تروي لنا الحكاية إعجاب روح بن زنباع بشخصية عمران بن حطان دون أن يعرف هويته. فقد كان روح بن زنباع، حسب هذه الرواية مسامراً لعبد الملك بن مروان، أثيرا عنده. وكان روح بن زنباع لا يسمع شعرا نادرا ولا حديثا غريبا عند عبد الملك ثم يسأل عنه عمران بن حطان إلا عرفه وزاد فيه. فذكر ذلك مرة لعبد الملك بن مروان قائلا
- إن لي جاراً من الأزد ما أسمع من أمير المؤمنين خبراً ولا شعراً إلا عرفه وزاد فيه!
- خبرني ببعض أخباره!
وعندما اخذ روح بن زنباع بقص ما يعرفه عنه، حينذاك قال عبد الملك بن مروان: إن اللغة عدنانية! وإني لأحسبه عمران بن حطان! وفي رواية أخرى تحتوي على الجهل به ومعرفته (!) تحكي كيف تسامر مرة عبد الملك بن مروان مع روح بن زنباع فتذاكرا قول عمران بن حطان يمدح ابن ملجم:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

فقال عبد الملك "والله إني أحب أن أعرف قائل هذه الأبيات وفيمن قيلت"!! فرجع روح إلى داره وكان من عادته أن يدخل إلى ضيوفه قبل أن يدخل إلى أهله. وعندما ذكر لهم ما جرى له الليلة مع عبد الملك، أجابه عمران بن حطان، بأنه يعرف قائلها وفيمن قيلت. بمعنى أنها لعمران بن حطان يمدح بها عبد الرحمن بن ملجم قاتل الإمام علي. وعندما استمع عبد الملك لرواية روح بن زنباع، قال: "والله إن اللغة لغة عدنانية! وإني لأظنه عمران بن حطان. أرجع إليه! فإن كان هو فقل له إن أمير المؤمنين يخيرك واحدة من ثلاث:إما أن يكتبك في صحابته، أو يكتب لك أمانا من الحجاج، أو يعطيك المال ما أحببت"! وعندما كاشف روح بن زنباع عمران بن حطان بما جرى واعتراف عمران بنفسه على شرط أن يعطيه العهد بان لا يمنعه من الخروج من عنده. وعندما ذكر له روح بن زنباع خيارات عبد الملك بن مروان، فانه أجاب: "إما أن يعطيني من المال فلا حاجة في ماله! وإما أن يكتبني في صحابته فو الله ما فارقته إلا في الله! ولكن لن أعود إليه حتى يعود إلى الله. وأما أن يكتب لي أمانا من الحجاج فلئن أكون خائفا من الحجاج آمنا من الله أحب إلي من أن أكون خائفا من الله آمنا من الحجاج". وعندما رجع روح بن زنباع إلى عبد الملك وأخبره بما جرى، قال له عبد الملك:"إنك تعود فلا تلقاه"! فرجع فلم يره.
وفي رواية أخرى، انه حالما رجع روح بن زنباع بعد المسامرة الأولى مع عبد الملك بن مروان واستماعه إلى إجابة عمران بن حطان عن قائل الشعر وعمن قيل، ونقله الخبر إلى عبد الملك، الذي أجاب بدوره:"ضيفك عمران بن حطان! اذهب فجئني به". وعندما نقل إليه طلب عبد الملك بن مروان، أجابه :"قد أردت أن أسألك ذلك فاستحييت منك! فامض، فإني بالأثر!" وعندما رجع روح بن زنباع إلى عبد الملك ليخبره بالأمر، قال له عبد الملك: "أما إنك سترجع فلا تجده". وهو ما حدث. إذ لم يعثر روح بن زنباع إلا على قصاصة فيها شعره الذي يحكي عن معاناته وتنقله وتلونه بين القبائل والأماكن. وهي معاناة تختمر في موقفه المتمرد على السلطة الغاشمة، كما في قوله:

لو كنت مستغفرا يومـا لطاغية
كنــت المقدم في سر وإعلان
لكن أبت لي آيات مفصلة عقد
الولايـة فـي (طه) و(عمران)

لقد اضطره ذلك للهرب من جديد، أول الأمر إلى الجزيرة، ثم إلى عمان حيث وجدهم يعظمون أمر أبي بلال (مرداس) ويظهرونه، فاظهر أمره فيهم. وعندما بلغ الخبر الحجاج بن يوسف الثقفي، طالب به إلى عمان. فهرب بعدها إلى الكوفة ونزل بقوم من الازد قيل أنهم لم يسألوه عن نسبه. وبقي هناك حتى مات. وقد ختم هذه الخاتمة بسرّ الهروب والتخفي، بوصفها الصيغة المثلى للتمرد والتشرد. فقد كانت حياته ومماته تحديا أبديا للسلطة والحياة وإمكانية شراء الذمم.
لقد جعل عمران بن حطان من تشرده الواعي معلقة الحياة وقصيدة الوجود الكبرى. وكشف عن أن التشرد الحر هو الفعل الملازم لإرادة الخير. وبرهن على أن الوجدان الصادق هو فؤاد حر، كما أن العصيان الصادق هو الصفة الجوهرية للوجدان المتمرد. وعصيان بلا وجدان حماقة أبدية! من هنا كان التشرد الدائم بالنسبة لعمران بن حطان تمردا أبديا على السلطة والنفس والرذيلة. بمعنى انه حقق في ذاته احد النماذج المثلى لمثقف الوجدان والعصيان، وترك للأجيال اللاحقة كلمات تائهة في غيب المستقبل، كيفما يجمعها المرء، فان مضمونها يقول: دعوا الصغار تلهو بالكتابة عنا! لا يفهم العظيم إلا العظيم، كما لا يحس بالنبيل إلا النبيل!
***



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -الصحوة السلفية الجهادية- العراقية نموذج للانحطاط المادي وال ...
- الغلو الديني والعقائدي - هاوية الإرهاب والفساد(1-2)
- «الإرهاب الإسلامي» السلفي وتحطيم العدل والاعتدال
- «الإرهاب الإسلامي» السلفي في العراق: المقدمات والنتائج.
- نفسية وذهنية المؤامرة والمغامرة في العراق (3-3)
- نفسية وذهنية المؤامرة والمغامرة في العراق (2-3)
- نفسية وذهنية المؤامرة والمغامرة في العراق (1-3)
- ظاهرة المؤقتين الجدد وضمور المرجعية الوطنية (4-4)
- ظاهرة المؤقتين الجدد وضمور المرجعية الوطنية (3-4)
- ظاهرة المؤقتين الجدد وضمور المرجعية الوطنية (2-4)
- ظاهرة المؤقتين الجدد وضمور المرجعية الوطنية (1-4)
- صعود المرجعيات الدينية وهبوط السياسة المدنية (3-3)
- صعود المرجعيات الدينية وهبوط السياسة المدنية (2-3)
- صعود المرجعيات الدينية وهبوط السياسة المدنية(1-3)
- الأحزاب السياسية الشيعية : من ظلال الروح إلى ضلال العقل الوط ...
- الأحزاب السياسية الشيعية : من ظلال الروح إلى ضلال العقل الوط ...
- الأحزاب السياسية الشيعية : من ظلال الروح إلى ضلال العقل الوط ...
- الأحزاب السياسية الشيعية : من ظلال الروح إلى ضلال الطائفية
- الاحزب القومية الكردية: تحزب العرقية الضيق
- صعود الأحزاب العرقية (الكردية) واندثار الأبعاد العراقية


المزيد.....




- ماذا قال الجيش الأمريكي والتحالف الدولي عن -الانفجار- في قاع ...
- هل يؤيد الإسرائيليون الرد على هجوم إيران الأسبوع الماضي؟
- كوريا الشمالية تختبر -رأسا حربيا كبيرا جدا-
- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ميثم الجنابي - عمران بن حطان الخارجي: ممثل الوجدان والعصيان