أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سلسلة قصص الجنون 6- سامي المجنون















المزيد.....

سلسلة قصص الجنون 6- سامي المجنون


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6550 - 2020 / 4 / 29 - 02:35
المحور: الادب والفن
    


الحياة العامة ضرورة اجتماعية لابد منها. يحتاج اليها الناس في القرى والمدن. وتزيد حاجتهم اليها في المدن. فالهدف من ارتياد الافراد للأسواق والمقاهي والحمامات، وتسكعهم في الساحات والحدائق العامة هو الاختلاط بالناس والاحساس بوجودهم، وتبادل المعرفة معهم. وعندما تجعل الظروف من الاجتماع أمرا ممنوعا، أو محفوفا بالمخاطر، لا يتخلى الناسُ عن تلك الحاجة، بل يستعيضون عنها ببدائل أخرى. بدائل يكون الاجتماع فيها عرضيا وليس أساسيا. مثل باصات النقل العام وغيرها من وسائل النقل الأخرى.
ففي الباصات تستطيع أن تسمع همس الناس. وفي الكراجات عند مواقف انتظار الباص تستطيع أن تتعرف على هموم وآمال الناس. وفي الباصات تستطيع أن تشعر بحب المتحابين، وأحباط المحرومين، وحقد الحاقدين، وحسد الحاسدين. تستطيع أن تشعر بوجود الناس.
خطوط النقل العام في مدينة البصرة كما في المدن الأخرى لها بداية ونهاية. ولها خط سير معلوم. في بدايتها ينتظر الناس قدوم الحافلة ليركبوا فيها، وغالبا ما تتواجد الحافلة بانتظارهم، لا بل يتواجد عدد كبير من الحافلات. كل منها ينتظر دوره. فيركب الناس في الحافلة التي عليها الدور وينتظرون حتى تمتليء بالركاب لتبدأ انطلاقها صوب وجهتها. وغالبا ما يطول الانتظار، فيستغل المتسولون تلك الظروف السانحة، فيجولون على الركاب المنتظرين يسألونهم ألحافا. ويطوف أيضا الباعة الجائلون، بـ (حّب... سجائر... علك)، وبكل ما يخطر لك على بال.
كل ذلك نعرفه جميعا، ونستمتع به، أو قد ننزعج منه، لكن الذي لايعرفه الكثيرون هو ما كان يدور في ساحة باصات خط تموز. تنطلق باصات ذلك الخط من العشار قرب فندق حمدان متجهة إلى البصرة القديمة عبر شارع 14 تموز لتنتهي عند جامع الكواز. ومن هناك تستدير مباشرة لتعود عبر الشارع نفسه لتصل إلى الساحة التي انطلقت منها. ليس لنقطة نهايتها ساحة، بل تستدير حول جامع الكواز وتبدأ بجمع الركاب من أمام محطة بنزين عز الدين، ومن أمام شركة الأسماك، ومقبرة محمد جواد، ثم تقاطع أبو شعير ثم ساحة الطاسة حيث يتقاطع شارع السعدي مع شارع تموز، ومن أمام مدرسة الراهبات حتى تقاطع شارع 14 تموز مع شارع الاستقلال حيث تستدير لتقطع شارع الاستقلال وانتهاء بالثانوية المركزية وقاعة عتبة بن غزوان، حين ينزل آخر راكب قبل أن تستدير لتدخل في الفروع الجانبية لتصل إلى الساحة مرة أخرى في بريهة قرب فندق حمدان.
الشيء المميز في ذلك الخط هو وجود سامي المجنون في الساحة يوميا، وفي كل الأوقات حتى أنه صار جزءً من الساحة، فاعتاد الناس على وجوده، بل أنهم صاروا يتطلعون إلى لقاءه كلما راموا استعمال ذلك الخط. وبعضهم كان يتفادى الوقوع في حبائله، وبعضهم يتعمد التواجد أمامه ليكون عرضة لسؤاله. سامي رجل يحاول أن يكون أنيقا. فهو يرتدي بدلة رسمية كاملة بما في ذلك القميص والرباط والسترة، والصديري (اليلك)، والبنطال، والحذاء. صحيح أن كل ملابسه قديمة ومتسخة بعض الشيء ومجعدة. والملفت أنه كان يرتدي معطفا أيضا، ويضع غالبا وردة حمراء على صدره. ولتكتمل القيافة فأنه كان يضع على رأسه قبعة. وفوق ذلك كله، كان سامي يحمل كتابا، أو كارتونا بهيئة كتاب ان توخينا الدقة. كانت تلك هي قيافة سامي الدائمة بغض النظر عن فصول السنة وتقلبات مناخها. ففي الشتاء البارد، وفي الصيف القائظ، كانت تلك قيافة سامي لا تتبدل.
وجه سامي تعلوه ابتسامة دائما. ابتسامة خفيفة محيرة. فأنت لا تعرف تماما ما اذا كان سامي يبادلك الود بهذه الابتسامة، أم أنه يسخر منك، أم أنه يسخر من الأوضاع التي آلت اليها البلاد، أم أنها مجرد ابتسامة بلهاء من رجل أبله.
وسؤال سامي المجنون سؤال واحد لاغير. سؤال يكرر طرحه على كل من يلتقيهم فردا فردا، يوما بعد يوم دون ملل ولا كلل. وهو بقدر بساطته وسذاجته فهو سؤال حيَّر الناس ودوخهم كثيرا. فهو يطلُّ برأسه في الباص غير الممتليء ركابا، يتطلع في الوجوه المرتبكة الحيرى، يتفرس فيها برهة من الزمن تبدو طويلة جدا، ويختار أحد الركاب، ويتوجه اليه بسؤاله الكبيروالابتسامة الماكرة تعلو وجهه: شتقول تصير لو ماتصير؟
يشعر الراكب بالحرج، ويرتبك ويتصبب عرقا وتختلط لديه المشاعر. فبالرغم من أن الجميع يعرفون هذا السؤال، فهو سؤال وحيد ومتكرر وليس لسامي سؤال غيره، إلا أنه يسبب كل ذلك التوتر، فتحمّر الوجوه، وتتزداد سرعة ضربات القلوب، وتضطرب الحركات. ترى ما عسى المسكين أن يجيب؟ الاجابة على ذلك السؤال الكبير المحيّر بسيطة جدا. فاما أن تقول تصير، أو أنك تقول لن تصير.
لا تكمن المشكلة هنا، بل في تعقيب سامي على جوابك. والويل لك من سخرية سامي. فهو يُضحك جميع الركاب عليك، ويجعلك عرضة للسخرية، تتمنى ساعتها لو أنك لم تأت إلى هذه الساحة، ولم تركب هذا الباص، ولم تكن أمام سامي الماكر وجها لوجه في هذه الساعة المشئومة. ربما تحاول أن تداري حرجك، فتضحك مع الضاحكين، وتتصنّع أنك تعمدت أثارة سامي. ولكنك لا تستطيع أن تكذب على نفسك، فأنت تعلم ما حلَّ بك. فأنت هناك تجلس على مقعد ذلك الباص وتتمنى لو أن الأرض تنشق وتبتلعك.
فاذا قلت (تصير)، سيقول: (شوفوا هذا الغشيم، يقول تصير، لو أنها تصير لصارت، شبيك أنت مخبل؟) .أما اذا قلت له (ما تصير) فيردّ عليك مباشرة بلا تردد: (هههه.. أيا غشيم يا أثول! يقول ما تصير! أنت نائم؟ عمي صارت ودارت، أنت مطفي؟).
وفي كل الأحوال يعجُّ الباص بالضحك، لا تعلم هل يضحكون عليك، أم على سامي، أم على السؤال، أم على الوضع السوريالي كله؟
جلس خلفي ذات مرة أثنان ممن كان يبدو عليهما أنهما مثقفان. وعندما امتلأ الباص ركابا وتحرك، وانتهت حفلة الهرج والمرج التي سببها لنا سامي المجنون، سمعتهما يهمسان بحديث طويل وجدت نفسي مجبرا على استراق السمع اليه.
قال الأول: تعلم أن السؤال في ظاهره صحيح، ولكن القصة تكمن في ما يمكن أن يكون عليه القصد. فما يصير أو لا يصير هو حدث ما، حدث في قصد السائل، ومن غير الممكن أن يكون هو عينه الذي يقصده المجيب، وهنا يحصل الاختلاف. فالحوار اذن عن شيئن مختلفين.
قال الثاني: أوافقك الرأي، ولكنني أعتقد أن السؤال المطروح لم يكن سؤالا. ذلك لأن السؤال هو رسالة السائل للمسئول، ويجب أن تكون الرسالة متكاملة الأركان. فاذا غاب عن الرسالة القصد منها فقد انتفت عن كونها رسالة وصارت لغوا.
قال الأول: القضية التي تصيرأو لاتصير برأيي والتي يمكن أن يقصدها سامي هي القضية التي يصعب التصريح بها في الأماكن العامة. وعندما نكون أنا وأنت على بينة من تلك القضية التي لايمكن التصريح بها، فانها ستكون معلومة لي ولك أيضا فلا داعي اذن لذكرها. وبهذا فالسؤال مكتمل الأركان.
قال الثاني: وما هي تلك القضية التي يصعب التصريح بها برأيك؟ قد تكون خيانة تعرض لها سامي؟ أو خديعة أوقعت به؟ أو جريمة ارتكبها فأطاحت بعقله؟
قال الأول: لا أخي، القضية التي يتحدث عنها سامي هي قضية الثورة! الثورة على الفساد، الثورة على الظلم، الثورة على الأوضاع. والموقف من الثورة اذن قضية عميقة يحاول سامي تفجيرها وتذكير الناس بها. وهي قضية سياسية. وهي فعلا قد صارت، أي أن الثورة قد حصلت بدليل أن مقدماتها قد حدثت، وبداياتها واضحة لكل ذي بصيرة. ومجنون أو غشيم من يتصور أن الأوضاع ستدوم على ما هي عليه.
قال الثاني: أما أن تكون الثورة لم تحصل، فهي مسألة صحيحة برأيي . فحصول الثورة يعني زوال الأوضاع التي ثارت من أجلها الثورة. وطالما أن الأوضاع لازالت كما هي عليه قبل حصول الثورة فهذا يعني أن الثورة لم تحصل بعد. فثمة فرق بيّن يا صديقي بين حصول الشيء وامكان حصوله. فأنت ولدت عندما خرجت من رحم أمك، لكنك لم تولد عندما كنت جنينا هناك على الرغم من امكان تحقق الولادة.
قال الثاني: نعم صديقي، فسامي يريد من الناس أن ينشغلوا بالثورة وصيرورتها حتى وأن كانوا مشغولين بأمورهم اليومية البسيطة كالانتقال من مكان الى آخر. أنا أحترم هذا السامي وأحبه.
قال الثاني: ولكن ثمة شيء آخر لم تنتبه أليه... نازل....نازل. توقف الباص. ثم نزلا قبل وصول الباص لنهاية الخط. أما أنا فبقيت مذهولا. هل حقا ان سامي هذا كان يقصد كل ذلك. ورحت أفكر عميقا فيما قالاه للتو، وتخيلت سامي وقد تحول الى حكيم. حتى أنني أشتقت اليه، وددت أن أراه مرة أخرى. أراه من جديد بعد أن تكوَّن لديَّ احتمال أن يكون سامي المجنون هذا رجل يريد أن يبقي في عقول الناس فكرة الثورة متقدة حيّة. كنت مستغرقا بأفكاري حين صرخ بي السائق: ( شني قصتك عمي؟ شو ما نزلت ؟ لو تنزل لو تدفع كروة مال رجعة، مال تغشم روحك ما تعبر عليَّ).



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سلسلة قصص الجنون 5- شهاب
- سلسلة قصص الجنون 4- حمادووه
- سلسلة قصص الجنون 3- عبود المجنون
- سلسلة قصص الجنون 2- غنوم المجنونة
- سلسلة قصص الجنون 1- قاسم المجنون
- رفعة الجادرجي
- مستقبل الفضاء الحضري بعد كورونا
- كورونا والفضاء الخاص: مقالة في الوباء والعمارة
- الحمام ..مشاغلة في التراث والكلمات
- غسل الرأس
- أم جابر
- حكاية من محلة الباشا
- في ساعة فجر
- غضب
- للحكاية أكثر من وجه
- آخر ليلة في حياة كبش
- آباء وأمهات
- عيدية العيد
- عصابة الكف الأسود
- غطاء الرأس .. وظيفته ورمزيته


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سلسلة قصص الجنون 6- سامي المجنون