أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - حديث عن عائشة: الفصل العشرون/ بقية















المزيد.....

حديث عن عائشة: الفصل العشرون/ بقية


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 6548 - 2020 / 4 / 27 - 20:18
المحور: الادب والفن
    


4
نتيجة شكاوى رؤسائه، المنقولة في برقية إثر الأخرى لمقر الدرك في العاصمة، صدر أمرٌ بنقل عليكي من حوران. غاراته الليلية على أرزاق القرويين، كانت قد كُشفت. توافق ذلك مع خبر نشوب الحرب في أوروبا، وكانت فرنسا في جانب دول الحلفاء، المشتبكة مع قوات هتلر وموسوليني. على ذلك، استعيدت في الشام ذكرياتُ الحرب العظمى وما رافقها من ويلات التجنيد والمجاعة والوباء. على هذه الحال تجلى الوضعُ لعيشو، لما وصلت إلى دار والديها عقبَ نقل صهرها من حوران بمدة يسيرة. في صيف ذلك العام، الشاهد على قرع طبول الحرب في أوروبا، احتفلوا في المنزل بزفاف فَدو. العروس، واسمها " عائشة "، كانت صبية جميلة من آل " عاقو "، تقيم في حارة أخرى بغرب الحي. على خلاف رجلها، المائل طبعه لملذات الحياة، ظهرت هيَ جديّة في تناول المسائل الخاصة والعامة. معها، دخل النقاش في السياسة إلى مجالس نساء منزل المرحوم الحاج حسن؛ وكان هذا في حياته بالكاد يقبل فكرة دراسة البنات عند الخوجة. كانت العروس تدحضُ دعاياتِ الفاشيين، الزاعمة أن انتصار هتلر في الحرب سيعقبه استقلال سورية: ثمانية أعوام على الأثر، وستلبس عائشة ثوبَ الحِداد على شقيقها الكبير، " حسين ". كان هذا قائداً نقابياً، سقط قتيلاً على يد غوغاءٍ حرضتهم جماعة الأخوان المسلمين للهجوم على مقر الحزب الشيوعيّ في مركز المدينة، وذلك رداً على اعتراف الإتحاد السوفييتي بقرار الأمم المتحدة في شأن تقسيم فلسطين.
خالدو، وكانت قد رزقت مؤخراً بطفلة أخرى، استقرت في منزل أبيها، المقيمة فيه حماتها وحيدةً. عمتها، زوجة برو طنبورفان، سبقَ وانتقلت إلى مسكن قريب من منزل ابنتهما في حارة الوانلية. قالت السيدة سارة لابنتها ضاحكةً، تعليقاً على ذلك: " عمة ابنتك، شاءت الانتقال إلى تلك الحارة، أين يتجمع أقاربها من آل لحّو. بينما تعززت صلة صهرك بنا، بزواج خالته خاني من آكو؛ حبيب زمن الصبا ". كانت سعيدة برجوع عيشو للشام، وكذلك بضم طفلتيّ الحفيدة إلى صدرها. لأول مرة، تغيب الابنة والحفيدة خمسة أعوام كاملة دونَ أن يتخللها ولو زيارة واحدة. تغيرت، ولا غرو، صورُ النساء الثلاثة في خلال تلك السنوات. في المقابل، حافظت السيدة سارة على عادة قراءة الطالع في حثالة فنجان القهوة؛ هيَ من حطت على أعتاب العقد السابع من عمرها. عيشو، طلبت يومئذٍ من الأم أن تقرأ لها فنجانها. حدقت هذه الأخيرة ملياً في الخطوط البيضاء، المتخللة حثالة القهوة ثم ما لبث وجهها أن تجهم. قالت تلقاء نظرات الابنة، الملحّة، متكلّفة شعورَ المرح: " كذبَ المنجمون ولو صدقوا ". انقبضَ قلبُ عيشو، وفي التالي، لم يبدُ عليها الاقتناع بمناسبة الجملة المقدسة. بعد بضعة أيام، تنفست الصعداءَ حينَ قدمت خالدو كي تنقل لها هذا الخبر: " امرأة عمي أصيبت بسكتة دماغية، جعلتها نصف مشلولة ".

***
عليكي، ما لبثَ أن فقد آخر أفراد عائلته، المباشرين. توفيت والدته بعد أيام من تلقيها الضربة الدماغية، وبعيد ساعاتٍ من توجيه شقيقتها الوحيدة، اللدودة، الضربة الأخرى. لقد ظهرت خاني، على حين فجأة، في منزل الذكريات الأليمة، لقف فوق رأس المريضة كي تغمرها بفيض من المواساة. وعلى الأرجح، أن فاتي لم تجد في مبادرة شقيقتها سوى حركة مسرحية، مبطنة بالشماتة والتشفي. قبل نحو عشرين عاماً، كان الكثير من أهالي الشام يودون رؤية امرأة قاطع الطريق الأسطورة؛ حمو جمّو. بيد أن ذلك كان من الماضي، مثل الذكريات الأليمة سواءً بسواء. أما أهالي الحارة، فلم يغفروا الخطيئة الفادحة، المرتبطة باسم قاطع الطريق والمتمثلة في اقترانه بأختين. جنازة فاتي، كانت إذاً جد متواضعة، برغم أنها كانت تستحق العطف على الأقل لرحيلها في عُمر الورود الذابلة.
مع علمه الأكيد بالأقاويل عن السبب المباشر، المزعوم، لموت والدته، بقيَ عليكي على محبته واحترامه للخالة. سره أيضاً أنه لن يضطر لإعالتها، طالما ابتسم الحظ لها بعد وقت قصير من فترة ترمّل، فوضع في طريقها رجلاً شهماً أبدى استعداده أيضاً لرعاية ولدها الوحيد غير المتجاوز سنّه السنتين. بدَوره كان آكو أرمل، وامرأته الراحلة قد تركت ابناً أضحى في سنّ البلوغ ويستعد للانتساب إلى سلك الدرك. بسبب طبعه المعلوم، لم ينفتح عليكي على أيّ من آل حج حسين؛ إن كانَ رجل خالته أو أخوال امرأته: من المستبعد أن تحفظه حيالهم، كان على خلفية مقتل ابنة عمه. بل ويجوز القول، أن اعتبار كَولي مفقودة الأثر قد أراحَ ابن عمها الوحيد، لناحية تجنّب ما تفرضه عليه التقاليدُ من ضرورة الأخذ بالثأر من قاتلها.
من ناحية أخرى، لاحَ أنّ صهر عيشو اعتبرَ نقل خدمته إلى برّ الشام كما لو كانَ مكافأة لا عقوبة؛ فاستمر على سيرته مع قروييها، الذين نظر بجشع إلى غناهم مقارنةً مع فقر حال غالبية فلاحي حوران. ما جعله يتمادى في مسلكه، أنّ العديد من رؤسائه هم من بني جلدته، وكذلك بالطبع أكثر زملائه.

5
كان يجب أن يمضي عامٌ على عودة عيشو إلى الشام، قبل أن تشارك غيرها قناعتهم بأن ذكريات الحرب العظمى، المشئومة، لن تُستعاد في هذا الحريق العالمي الجديد. المؤن كانت متوفرة في الأسواق كالمعتاد، كذلك الأمر بالنسبة للناحية الصحية؛ حيث لم ينتشر أي نوع من الوباء. المتطوعون في جيش الشرق، وبينهم العديد من أبناء الحي ( بما فيهم فَدو وجمّو )، لم يُجبروا على الذهاب إلى جبهات الحرب في أوروبا. عقبَ وفاة فاتي، قررت عيشو الانتقال نهائياً إلى منزل ابنتها كي تكون قريبة منها. خالدو، وكانت قد أنجبت في عام مضى ابنة ثانية، ظهرت عليها مجدداً علاماتُ الحمل وكانت الحربُ في عامها الثاني. على عكس رجلها، كانت ابنةُ عيشو إنسانة كريمة وطيبة، لا يخلو منزلها يوماً من الضيوف إن كانوا من الأقارب أو الجيران. كما كانت تشعر بأنها أقرب لأقارب والدتها، عاطفياً ووجودياً على حدّ سواء.
قرار عيشو تركَ دار والديها، جدَّ بعدما عاينت ثمة الوضع المتوتر لساكنيه. فعدا عن مكائد هَدي، المألوفة، أضحت رابعة صعبة الطبع لا تكاد معاشرتها تُحتمل. لكن علاقتها بشقيقتها بقيت وثيقة، واعتادتا على بث همومهما بعضهما لبعض. ذات مرة، وكانت عيشو ما زالت في المنزل الأول، قالت لشقيقتها بنبرة مداعبة: " الآن، بتطليق بَدو لزوجته الثانية وانتقال والده إلى الدار الآخرة، فإن منزله بحاجة إلى امرأة حازمة "
" ليبحث عنها في مكان آخر، لأنني زهدتُ منذ زمنٍ بعيد بسيرة الزواج "، ردت رابعة عابسةً. عادت عيشو للقول في نبرة جدية هذه المرة: " ما زلتِ صبية، لا يتجاوز عمرك الثلاثين؛ فلِمَ تدفنين نفسك في الحياة؟ ". لوّحت الأخرى يدها في إشارة ضجرة، ما جعل شقيقتها تكف عن مواصلة الخوض في الموضوع.

***
لعل رابعة كانت تفكّر بكلام شقيقتها، بخصوص حبيب أيام زمان، لما قدمت هَدي إلى الإيوان، أين جلست مع والدتها في عصر أحد أيام الصيف. بحركة مسرحية، فيها ما فيها من إيماءات، أخبرتهما أنها مكلّفة من لدُن أقاربها الطلبَ منهما التدخل لدى أمّو كي تحسن سلوكها وإلا فإن رجلها قد يضطر إلى اللجوء لأبغض الحلال.
لكن نورو كان يحب امرأته، وفي كثير من الأحيان وقف في صفها بمواجهة نساء أسرته. بقيت أمو في منزله عشر سنين أخرى، وكان دافع الطلاق أخيراً عدم إنجابها طفلاً له. في ذلك الوقت، لم تكن سارة بعدُ على قيد الحياة. خمسة أعوام على أثر واقعة طلاق ابنة شقيقتها، وكانت عيشو على موعدٍ مع آخر مآثرها في الحياة.

***
في هذه المرة، تواشجَ الأمرُ مع عرس لآل علكي؛ الأقاربُ البعيدون لامرأة سلو. وإنها هيَ، هَدو، مَن تكفلت بدعوة نساء آل زوجها إلى عرس قريبها، المدعو " عزّو ". آل علكي، مثلما سبقَ وذكرنا في مكان آخر، يقع منزلهم الكبير في منتصف الزقاق تقريباً، وكان بالأصل ملكاً لصالح ابن السيدة شملكان: كانوا خمسة أشقاء، كبيرهم انتسب لسلك الدرك بعدما عمل فترة طويلة في مشغل النول، القائم في مدخل دارهم، والمملوك من قبل سلو. العريس، وهوَ يصغر شقيقه الكبير بأعوام قليلة، كان يشتغل آنذاك في مقهى بمركز المدينة.
بالنظر لكون أهل العريس هم الجيران الأقرب للسيد معمو، ابن المرحوم عليكي آغا الكبير، فإن التلبيسة جرت في منزله. بينما العرس أقيم في دار آل علكي، وشهدَ حضور عدد من نساء الشراكسة، قريبات العروس. خارج ذلك المكان، وقعت في منتصف الليل مشاجرة انتهت بسفك الدم. مبتدأ الأمر، لما خرجَ عدة مدعوين من حفل التلبيسة وهم مخمورون. كانوا من آل ملي، مقيمين في حارة بغرب الحي. لما استمروا بالعربدة بالقرب من مدخل المنزل، المقام فيه العرس، برز إليهم الشقيق الأصغر للعريس راجياً إياهم الكف عن ذلك بالنظر لوجود الحريم. وإذا بأحدهم يأخذ في شتم الشاب بعبارات بذيئة، ثم ما لبثَ أن أطلق عليه النار من مسدسه.
عيشو، وكانت حاضرة في العرس مع ابنتها وحفيداتها، اندفعت كغيرها على صوت إطلاق النار لمعرفة ما يجري خارجاً. كان صراخ النسوة على أشده، مختلطاً مع العويل، طالما أن العريسَ قذفَ بنفسه وسط المعمعة. رأته عيشو وهوَ مستلقٍ على الأرض بالقرب من جثة شقيقه، فيما وجهت إليه فوهات الأسلحة، المنفلتة العقال. فما كان منها سوى شق الحشد مثل الرمح، لترمي نفسها فوق العريس: " ناشدتكم الله ألا تقتلوا ابني! "، هتفت بأولئك السكارى المجانين. في الأثناء، شملَ الصمتُ الجميعَ، نساءً ورجالاً، وكانوا مبهورين بالمشهد. لما رفعت عيشو رأسها مرة أخرى، كان أولئك المجانين قد غادروا المكانَ.
في فجر خريفيّ من عام 1960، عقبَ تلك الليلة الدموية بخمس سنين، أعربت بطلة سيرتنا عن سأمها من الحياة بأن أسلمت الروحَ في هدوءٍ ودِعَة.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حديث عن عائشة: الفصل العشرون/ 3
- حديث عن عائشة: الفصل العشرون/ 2
- حديث عن عائشة: الفصل العشرون/ 1
- حديث عن عائشة: بقية الفصل التاسع عشر
- حديث عن عائشة: الفصل التاسع عشر/ 3
- حديث عن عائشة: الفصل التاسع عشر/ 2
- حديث عن عائشة: الفصل التاسع عشر/ 1
- حديث عن عائشة: بقية الفصل الثامن عشر
- إطعامُ الثعبان
- حديث عن عائشة: الفصل الثامن عشر/ 3
- أنا الموتُ
- حديث عن عائشة: الفصل الثامن عشر/ 2
- حديث عن عائشة: الفصل الثامن عشر/ 1
- حديث عن عائشة: بقية الفصل السابع عشر
- حديث عن عائشة: الفصل السابع عشر/ 1
- حديث عن عائشة: بقية الفصل السادس عشر
- حديث عن عائشة: الفصل السادس عشر/ 2
- حديث عن عائشة: الفصل السادس عشر/ 1
- حديث عن عائشة: الفصل الخامس عشر/ 5
- حديث عن عائشة: الفصل الخامس عشر/ 4


المزيد.....




- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...
- عبر -المنتدى-.. جمال سليمان مشتاق للدراما السورية ويكشف عمّا ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- يتصدر السينما السعودية.. موعد عرض فيلم شباب البومب 2024 وتصر ...
- -مفاعل ديمونا تعرض لإصابة-..-معاريف- تقدم رواية جديدة للهجوم ...
- منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في ...
- مصر.. الفنانة غادة عبد الرازق تصدم مذيعة على الهواء: أنا مري ...
- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - حديث عن عائشة: الفصل العشرون/ بقية