أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد الحمدي - قراءة لكتاب الفنّ والمقدّس نحو انتماء جمالي للعالم أمّ الزّين بن شيخة المسكيني















المزيد.....

قراءة لكتاب الفنّ والمقدّس نحو انتماء جمالي للعالم أمّ الزّين بن شيخة المسكيني


عماد الحمدي

الحوار المتمدن-العدد: 6541 - 2020 / 4 / 19 - 22:13
المحور: الادب والفن
    


أيّة علاقة بين الفنّ والمقدّس؟ وكيف يمكن التّرحال في عالم المقدّس خارج أفق اللّاهوت؟ وهل بوسعنا أن نسكن العالم جماليّا فيكون المقدّس رسما فنّيّا لهذا السّكن؟ ألا يمكن تصريف المقدّس فيكون رديفا للاقتدار والإرادة ضدّ ـشكال الزّيف وقبح العالم الّذي يتلوّن بدماء الضّحايا وتأثيم الإبداع بأحكام الفقهاء وهل يستطيع الفنّ أن يعيد للمقدّس بهجته وفرحه بعد أن استبدّ به الوهن فصار الاسم الآخر للعنف والإرهاب؟
تلك بعض الأسئلة الّتي يحاول الفنّ والمقدّس أن يسير على دربها. لقد مرّ المقدّس بتعريفين حاسمين: مقدّس ديني وقّعه دوركايمومارسياإلياد، ومعنى آخر للمقدّس خارج حدود الدّين استأنفه مفكّرون من "قبيل فيليب ودافيد بروتون"، وثمّة فكرة ثالثة تصل المقدّس بالعنف قد وقّعها "رينيه جيرار" مستدلّا على ذلك انطلاقا من فكرة الذّبيحة التّأسيسة المولّدة للخيرات وتحمي الجماعة من الشّرور والعنف. ما يثير الانتباه مع جيرار هو ما يؤدّيه الأدب بما هو ضرب من القربان الرّمزي يتمّ عبره التّطهّر من العنف وهذا يعني أنّ الأدب هو ضرب من مواصلة المقدّس على نحو جماليّ ولكن ألا يمكن الذّهاب بعيدا حيث نعثر على حقول جديدة للمقدّس يخرج به من ثنائيّات الدّيني والدّنيوي حيث يغيّر المقدّس من معانيه فيصير مقدّسا دنيويّا علمانيّا، إنّه المقدّس الّذي يستعيد شبابه مع ريجيسديبراي (شباب المقدّس) والّذي يتجلّى في الحياة اليوميّة. لقد وقع تصريف المقدّس على معاني مغايرة بعد موت الإله (المسكيني الإيمان الحرّ) فالإيمان الحرّ لم يعد مرتهنا إلى المؤسّسات الدّينيّة بل صار مقيما في مشاعر الإنسان الحرّ أو منخرطا إيجابيّا في أفق الإيمان الحرّ. لأجل ذلك تقرّر الكاتبة إحدى الإمكانات الأساسيّة لهذا الانتماء وهو الانتماء الجماليّ للعالم لذلك فإنّ الرّهان الأساسيّ لهذا العمل يتمثّل في اختبار مدى قدرة الفنّ على اختراع ألعاب مقدّسة جديدة تجعل الحياة ممكنة على الرّغم من القحط الانطولوجي الّذي أصاب الرّاهن أو لنقل بعبارة أوضح التّفكير في انتماء جماليّ للعالم.
إنّ ذلك لا يتمّ إلّا عندما يضطلع الفنّ بمهمّة اقتفاء أثر المقدّس في العالم حيث يكون الأدب بحثا عن المقدّس الّذي لم يعد باحة للوعّاظ ومساحة لدموع الكهّان بل ميدان الفنّانين الّذين يكتبون لمستقبل لم يأت بعد. وهي كتابة تريد أن تمسك بتلابيب السّرد في طيّاته المتعدّدة حيث يجري اعتبار العلم إحدى السّرديّات، ألم ير ميشال سار في العلم سرديّة جماليّة لا مجرّد حقائق ذهنيّة بعيدة عن أعين النّاس، إنّ العلم سرد جميل ضدّ سرديّات المؤمنين بالشّعوذة وسماسرة الدّين. كيف لنا أن نتوجّه نحو هذا المقدّس المابعد الدّيني حيث يكون الفنّ مداه من أجل تأسيس حياة روحيّة جديرة بأن تعاش؟ كيف يكون الفنّ مضادّا حيويّا وإتيقا للعيش المشترك ضدّ سياسات الموت الّتي يُراد لنا أن نتآلف معها في مستنقع متوحّش للامبرياليّة؟ كيف يكون الفنّ عقدا جماليّا يكفل العيش معا على أرض التّسامح والاختلاف؟
إنّ هذا العمل وفي قسمه الأوّل يستدعي أهمّ النّقاشات الفلسفيّة والجماليّة فتراه يترحّل بين فلسفة الدّين والتّذكير بحرب الأيقونات الّذي لا يتقوّض إلّا على قاعدة التّسامح التّنويري ليخلص في القسم الثّاني إلى البحث عن المقدّس في ميدان الأدب أين نعثر على سجال تأويليّ حول مفهوم الاستعارة وكينونة المكتوب والأشعار والأغاني وجماليّات الفنون التّشكيليّة الّتي تصوّر المقدّس وترسمه عبر التّصوّف ومن خلال الفنّ التّجريدي للّذين سُلبت أوطانهم وهُجّروا من غرناطة إلى فلسطين، من لوركا إلى أعمال الفنّانة منى حاطوم ليكون الفنّ صرخة المقهورين ضدّ وجه قبيح للّذين يكرّرون التّاريخ في شكل مهزلة كما حدث في بلاد الرّافدين لينتهي العمل إلى معاودة السّؤال حول أصل المقدّس بما هو وعد بالسّعادة أو عودة رمزيّة لفينوس تخلق العالم من جديد على إيقاع تنويعات معاصرة في حضارة تحوّل فيها العالم إلى صحراء وجدب في المشاعر.
القسم الأوّل: الحداثة انتماء جماليّ
يضطلع هذا القسم بالإجابة عن السّؤال التّالي: ماهي شروط إمكان اختراع انتماء جمالي للعالم؟ وكيف للتّسامح أن يهبنا إمكانيّة الانتماء الجمالي للعالم والاعتراف بالآخر في عالم يتّسع للجميع؟
إذا كان التّسامح قد نشأ تاريخيّا من أزمة دينيّة (ج.لوك– فولتير) فإنّ هذا التّسامح التّنويريّ قد أوّله كانط جماليّا وصولا إلى هابرماس عندما اعتبر الجماليّات حقلا من حقول المعقوليّة التّواصليّة.
التّسامح الجمالي بما يعنيه من انفتاح على كونيّة استيتيقيّة حيث يكون الفنّ تجربة كونيّة بتأسيس الانفتاح على الآخر والانتماء السّلمي المدني إلى العالم.
عندما يعجز العقل عن التّسامح تظهر الحاجة الرّمزيّة إلى الفنّ وكأنّ هذا الأخير صار ضربا من الاعتذار عن بشاعة العالم (أدرنو) لأجل ذلك لا يكون الأدب كما أورد رورتي سوى تهكّما لبراليا إزاء ما يحدث في عصر ما بعد رومانسي، إنّ من شأن الأدب أن يبتدع يوتوبيات صغرى في عصر نهاية السّرديّات الكبرى فالشّعوب الّتي لا تتسامح مع مخزونها الإبداعي ليس باستطاعتها الانتماء إلى المستقبل.
إنّ ما يشهد على هذا الانتماء الجمالي للعالم هي فكرة الحداثة نفسها باعتبارها مفهوما فنيّا وقد وقّعت الكاتبة على ذلك من خلال أعمال بودلير الّذي يعيّن منزلة مخصوصة للرّسّام حين يرسم للحشود ويقيم في العالم ولا يمكث حذو نموذج كما لو كان في معبد (رسومات غويس)، إنّه الطّفل الّذي يرى كلّ شيء في جدّته فالحداثة هي أيضا الموضة نفسها " ذلك أنّ لكلّ حقبة ثغرها ونظرتها وابتسامتها". لقد تحرّر الفنّ من جدران الكنائس وصار الفنّان يقيم بين النّاس من أجل انتماء مغاير للعالم الجديد وتلك هي روح الحداثة الّتي من أبرز أماراتها نشأة العلم الحديث والّذي مثّل أفقا للتّحرّر من الأوهام شريطة تنشيط المخيّلة فضمن هذا المنظور بإمكاننا الحديث عن تصوّر جماليّ للعلم وقد ظهرت بوادر هذا المفهوم الجمالي للعلوم مع الموسوعيّين ولاحقا مع باشلار بتأسيسه لتصوّر جماليّ للمخيّلة وإقرار ميشال سار أنّ العلوم تقوم على سرديّة جماليّة تجعل من العلم رواية كبرى للإنسانيّة الحاليّة والثّالث مع باديو الّذي يضع الشعر والرّياضيات في قلب الطّريق إلى الحقيقة إلى جانب الحبّ والسّياسة. وحدها إذن الثّقافة الجماليّة بإمكانها أن تعيد إلى المخيّلة قدرة على إبداع أشكال أفضل من الحياة وأن نحتفي إيجابا بكلّ أنواع الإبداع العلمي والفنّي في ديارنا.
ممّا لا شكّ فيه أنّ العمل المذكور يراهن على الفنّ كمجال بشريّ لإبداع أشكال مغايرة من المسقبل وهو عين التّسآل الّذي صاغه كانط حول فكرة الأمل ضمن أفق مساءلة مغايرة للعلاقة بين الدّين والفنّ أو كيف نصرّف مشاعرنا على نحو بهيج من أجل أن نفرّق بين دين يخلق الأمل ودين لا يرى في المقدّس غير التّكفير والتّقتيل، كيف نعقد ضمن باحة الأمل مصالحة بين الدّين والفنّ؟ هل ينتمي الأمل إلى سجلّ أسطوري ورسالة إلهيّة مؤنّثة للثأر من البشر؟ أم هو بحسب الدّيان الرومانيّة اسم لربّة رومانيّة أخذت صورة امرأة تمشي وفي يدها وردة؟ غير أنّ الفلسفة تُؤرضن المفهوم وتنزل به من اللّاهوت إلى عالم الإنسان فهو انفعال من انفعالات النّفس وبالتّالي يدخل السّؤال عن الأمل ضمن خطّة العقل البشري نفسه (ديكارت –سبينوزا–كانط) ممّا يفضي إلى القول أنّ حقل الجميل هو الضّمانة من أجل العبور فوق الهاوية.
تذهب هذه المصالحة بين الفنّ والدّين إلى حدّ الحديث عن ديانة الفنّ حيث يشترك فيها مع الدّين والفلسفة في التّعبير عمّا هو إلهيّ وحاجات الرّوح فالشّعوب حسب هيغل أودعت في الفنّ أفكارها الأكثر سموّا ونحن لا نجد أفضل من الفنّ طريقة لفهم ديانة شعب ما إذ لم يعد من الوجيه أن نواصل إدّعاءاالفصل بين الدّين والفنّ فديانة الفنّ أصبحت نموذجا للوصل بين المقدّس والتّراث الجمالي منذ هيغل مرورا بنيتشه وهيدغر وصولا إلى غادامير أليس الشّعراء هم حماة المقدّس وكلّ معتقد هو عبارة عن تمثيل رمزيّ هدفه إحياء الأمل حتّى نسكن العالم على نحو بهيج ونحصّن أنفسنا ضدّ الشّرور الّتي يمكن أن تنفلت من جرّة باندور الّتي منحها زوس لهذه المرأة وأوصاها بأن لا تفتح العلبة فلم يشفع لها فضولها منع انتشار الشّرور بين النّاس ما عدا الأمل فما مستطاع الفنّ إزاء هذه الشّرور زمن الإرهاب؟ وما قيمة الفنّ في ابتكار تجارب معنى تجعل المستقبل ممكنا في ديارنا؟
بهذه الأسئلة توجّهنا المؤلّفة نحو انعطافة أخرى تتمثّل في علاقة معقّدة بين الفنّ والإرهاب حيث لا تعدو داعش إلّا صورة قبيحة لجرائم في حقّ الفنّ والفنّانين تجسّدت تاريخيّا في حرق النّازيّين لأعمال فنّية مثل لوحات كاندنسك وفان غوغ وبول كلين فلا يعدو الإرهاب مهما كان لونه أو دينه إلّا سياسة من سياسات الذّاكرة وهو تعبير عن هويّة إرهابيّة هيّ نتاج هويّة جماعيّة تركّز على الجوانب الاجتماعيّة للهويّة وتنبع من حاجة الفرد إلى العثور عن هويّة ذات معنى ودلالة.
ليس الفنّ إذا إلّا أفقا للخلاص من عالم قد انحدر إلى البربريّة (مدرسة فرانكفورت) وما الفنّ الطّلائعيّ مثل أعمال بيكاسو وأدب كافكا ومسرح براشت سوى شكل من المقاومة لثقافة الموت وحينئذ هل مازال بوسع العالم الإسلامي أن يواجه بشاعة الإرهاب وقد دخلت الإنسانية عصر نهاية السّرديّات الكبرى وكيف السّبيل للخروج من ذاكرتنا دون أن تكون أيادينا ملطّخة بالدّماء؟
ترى المؤلّفة أنّه بإمكان الفنّ خلق رموز جديدة مضادّة لزعماء الإرهاب بإنتاج أشكال جديدة من الذّاتيّة الفرديّة والجماعيّة و نحت مشروع تربية جماليّة تقاوم الشّعوذة والخرافة واللّاهوت المهزوم، كيف يمكن العبور إذا من الخرائط الحزينة وسفك الدّماء إلى ضفّة أجمل؟ ترى المؤلّفة أنّ اختبار هذا العبور يكون وفق تأويل مغاير للتّسامح لا بوصفه قضيّة دينيّة أو سياسيّة بل التّسامح في أبعاده الجماليّة متجاوزين ثنائيّات من قبيل الفنّ والمحاكاة أو الفنّ والتّطهير أو الفنّ والذّوق نحو إعادة رسم لعلاقة طريفة بين الفنّ والمقدّس حيث لا يتردّد الفنّان في تجسيد المقدّسات إذ لم يعد هناك أيّ مبرّر لتحريم الصّور وعندها بإمكان الفنّ أن يتصدّى للتّعصّب الدّيني فيتصالح الشّاعر مع المقدّس، ثمّة في التّاريخ ما يدّلل على ذلك فهوميروس هو الّذي خلّد آلهة اليونان، وحده الشّاعر بوسعه اقتفاء أثر المقدّس كما يقول هولدرلين.
بهذا المعنى فقط يمكن أن تنعقد مصالحة بين الفنّ والمقدّس وكثيرة هي النّماذج الدّالّة على ذلك: هيغل وفكرة المصالحة بين الفنّ والمقدّس، هيدغر وتأويله للمعبد اليوناني، غادامير وكينونة الصّور، ليس المقدّس إذا ملكا لرجال الدّين بل شأن الشّعراء والفلاسفة لقد صار المعبد أثرا فنّيّا يلتقي فيه المقدّس بالفنّ وتتصالح فيه الأيقونة مع الفنّ ومع المقدّس ومع الرّبّ في كرّة واحدة.
القسم الثّاني: الأدب والمقدّس
أبرزت المؤلّفة أنّ ساحة الأدب قد شهدت حركة كثيفة صارت بمقتضاها الكتابة مستودعا لأحلام الشّعوب وآلامهم وآمالهم كأدب شكسبير وبالزاك–فلوبير- كافكا–ديستوفسكي...صارت هذه التّجارب حقلا لولادة معاني جديدة لإنقاذ العالم من السّقوط في الفراغ ونشير هنا إلى أنّ المؤلّفة تميّز بين نماذج ثلاثة من فلسفة الأدب: نموذج أوّل يراهن على الرّواية التّاريخيّة والأدب الملتزم (لوكاتش وسارتر) ونموذج ثان مع المنعرج التّأويلي للفلسفة (هيدغر –غادامير–وريكور) هذا النّموذج يقوم على فنّ الفهم بوصفه حدثا أو بوصفه مغامرة ضمن اللّامتوقّع، نموذج ثالث ما بعد حديث (بلانشوودولوزورانسيار) عندما يتحدّث عن سياسة للأدب ويذهب بعيدا في تأويله للدّيمقراطيّة الّتي تفترض مساواة بين الجمل، إنّ الأدب صار أدب الكارثة فأن تكتب معناه أن تكون صدى لما يمكنه أن يكفّ عن الكلام، أن تكتب هو أن تتحرّر من عقدة أوديب وأن تكتب وأنت تفكّر في أوديب مضادّ لمسائل الأصل والهويّة والذّاكرة والوجه.
ما تخلص أليه المؤلّفة أنّه بوسع الأدب أن يصاحبنا في حجم المشاعر الحديثة فتتحوّل الرّواية إلى ورشة لاستدعاء المقدّس بل إنّ الجوع إلى المقدّس هو الّذي يجعل الكتابة الرّوائيّة الحديثة ممكنة، إنّ الأدب يعلّمنا كيف نتوجّه إلى المقدّس فروايات دونكيشوت والأحمر والأسود لستوندال والإخوة كرامازوفلديستوفسكي هي بمثابة أناجيل جديدة للإنسانيّة الحديثة بعد أن هجرتها الآلهة وبالتّالي كلّ تأويل للكتابة يدخل ضمن لعبة الاستعارة حيث يغيّر المقدّس كلّ مرّة من عنوانه وما الحقيقة إلّا مجازا وكلّما التقينا بنصّ أدبيّ كان ثمّة لقاء بأنفسنا وهو ما اشتغل عليه غادامير كثيرا لحظة تأويليّة الأثر الأدبي كما أنّ اللّغة الشّعريّة هي في جوهرها استدعاء للكينونة إلى بيت اللّغة من أجل إظهارها لذلك تنبّه المؤلّفة إلى فكرة العرض باعتبارها خيطا ناظما يقودنا إلى تأويل الأثر الفنّي مع غادامير.
القسم الثّالث: كيف نرسم المقدّس؟
يمكن القول أنّ المؤلّفة تمارس نوعا من التّجريب على الفنّ كباحة للمقدّس وهي تختبر ذلك انطلاقا من نماذج فنيّة كالأدب والفنون التّشكيليّة فتأخذ الأدب الصّينيّ تجربة لهذا التّجريب مثل رواية بالزاك والخيّاطة الصّغيرة للكاتب الصّيني ديه سيجيي وهي رواية ترتق ما تبقّى من الإنسان في قرية تصلح لكلّ شيء إلّا للعيش هي بيئة فقيرة مادّة وروحا، هي بيئة يمنع فيها الأدب والموسيقى والحبّ، حيث يقوم الأدب مقام الخلاص وتقوم الموسيقى بتحريرنا من الاضطهاد، نفس اللّعبة تلعب بأرض العراق حيث تكون الرّواية وثيقة سرديّة لتشهد بالكتابة على جرائم تنظيم الدّولة، تخبرنا رواية عذراء سنجار للرّوائي وارد بدر السّالم أنّ الأدب يُولد أيضا على حافة الكارثة، لغة الرّواية حبلى بأوجاع مخزّنة وأصوات مكتومة، هذه الرّواية تفضح ذاكرة التّاريخ الّذي استحال إلى خرائط للخراب ومن رحم الكارثة أيضا يُولد الأمل ويكون الحرف بلسما لجراح الثّكالى والمنكوبين فلم يبق لليزيديّين إلّا الغناء في عالم الخراب، الأدب إذن تجربة كونيّة لمأساة متعدّدة الوجوه حيث تنبثق الجماليّة من العنف أو بعبارة أدرنو جماليّة القبح أو مثل ما يقول المسكيني " لقد كان غابريال ماركيز يغمس الحبّ في صلصالة الموت".
إنّ الشّعراء مثل النّوابت بعبارة المسكيني يمكثون دوما في جهة قصيّة من الكينونة، كلمتهم سلاحهم ويقتاتون مثلما يذكر رانسيار" من لحم الكلمات" بل يطيب لهم أن لا يستحثّوا الخطى في عالم مسعور بالسّرعة فالشّعر تجربة معنى من أجل الانفتاح على العالم الّذي لا يكون لنا إلّا حينما نقتفي أثر المقدّس في لغتنا، المقدّس صار نصّا يقرؤه الشّعراء ويرسمه الفنّانون فهيغل ينظر إلى القرآن باعتباره شعرا محمّديّا وحينما نعتقد أنّ العالم يحتاج إلى الشّعراء لتأثيثه ضدّ الخراب والمكننة وسلطان اليومي، حينئذ لم يعد المقدّس مملكة للرّبّ بل صار ينشأ وينمو ويترعرع تحت أقلام الشّعراء، لقد أشات المؤلّفة إلى أشعار لوركا الّذي يُولد في أعراس الدّم الّتي وقّعها الفاشيّ فرانكو وهكذا يرسم الشّاعر هويّة شعريّة مقاومة للاضطهاد.
بإمكان المقدّس أن يتحدّث إلينا من جديد عبر اللّوحات وعبرها أيضا يمكننا السّفر إلى الدّاخل نحو أرواحنا العميقة وهو ما بدا لنا من خلال تأويل المؤلّفة لأعمال كاندنسكي وبول كلي واندريان وغيرهم من التّشكيليّين، لقد آمن كاندنسكي أنّ للألوان روحا خاصّة تعبّر عن نوع من الموسيقى أو الرّنين إذ بمقدور المرء أن يستغرق في تجربة الباطن في صلب فنّ الرّسم نفسه، الفنّ أيضا هو مواجهة للعالم مثلما واجهت الرّسّامة الفلسطينيّة منى حاطوم منفاها مسلوبة وبانتماء مفخّخ.
الفنّ إدانة للسّياسات الاستعماريّة الّتي حوّلت العالم كلّه إلى وطن غريب وظن الأقفاص والقضبان. إنّ تنصيبات منى حاطوم ترسم ذاكرة أرض لا يمكن اختراقها.
يبدو أنّ للفنّان منزلته الخاصّة فلم يعد دوره اختراع الجمال أو تهذيب الذّوق أو البحث عن الخير في مملكة ضائعة لقد صار قادرا على تشكيل الحياة في أفق النّضال الأيكولوجي للدّفاع عن مستقبل الحياة على الأرض، لقد صار بوسع الفنّ أن يحوّل الحياة إلى ظاهرة فنيّة مثلما تشير الكاتبة إلى ما يعرف بالفنّ الحيوي فنحن نحتاج اليوم إلى ما يسمّيه غاتاريالأيكوسوفيا في صلب هذا الإيقاع الجنوني للتّكنولوجيا وللنموّ السّكّاني الضخم وما يعنينا في هذا البراديغمللأيكوسوفيا هي فكرة المستقبل بحيث ستُعوّض كلّ أشكال المقدّس القديمة.
تنتهي المؤلّفة إلى خاتمة بمثابة تقريظ للفنّ بما هو وعد بالسّعادة لأنّ الفنّ مثلما يقول شوبنهاور" ضرب من العزاء الجمالي"، وعد بالسّعادة باتّجاه الحياة نفسها الّتي لم تعد ممكنة إلّا في الفنّ، الفنّ بوصفه شعورا بالاقتدار وتجاوز الإنسان لنفسه نحو مقام أسمى والسّعادة هي " أن تتمتّع بالوجود المقتدر والخلّاق لشيء ما قد كان من وجهة نظر العالم أمرا مستحيلا".



#عماد_الحمدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد الحمدي - قراءة لكتاب الفنّ والمقدّس نحو انتماء جمالي للعالم أمّ الزّين بن شيخة المسكيني