أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات - نعيمة الرياحي - الثانتو- سياسة أو الليبيرالية في آخر أطوارها















المزيد.....


الثانتو- سياسة أو الليبيرالية في آخر أطوارها


نعيمة الرياحي
د.مختصة في الفلسفة الحديثة و المعاصرة

(Naima Riahi)


الحوار المتمدن-العدد: 6539 - 2020 / 4 / 16 - 21:47
المحور: ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات
    


الثانتو- سياسة
أو الليبيرالية في آخر أطوارها

المقدمة

قد يتبادر إلى أذهان البعض أنّ انتشار الوباء بين الجميع هو عبارة عن انتشار فكرة المساواة أو هو قيام الديمقراطية رغم أنف رأس المال. لكن الواقع يدعونا إلى مسائلة هذا الانتشار فمن نافل القول أن نذكّر بأنّ جوهر رأس المال يتعارض مع المساواة والعدالة حتى السالبة منها.
وقياسا على ذلك فيما يتعلّق بفكرة كونيّة حق الحياة فقد مثّل موضوعا للمادة الثالثة من الوثيقة العالمية الحقوق الإنسان التي تقرّ بأنّه :* لكل فرد الحق في الحياة والحريّة وسلامة شخصه* وبعض الدول مثل ألمانيا قد سنّت هذا الحق في المادة الأولى من دستورها :*في احترام حق الإنسان في الحياة والكرامة الجسديّة*. وهذا يعني أنه لا شيء يعلو على الحياة. هذا الحق في حقيقة الأمر أقرّته كل الفلسفات السياسية في العصر الحديث، إذ الحياة هي شرط كل ما يحدث في الوجود.
ولكن ما يحدث اليوم مع انتشار هذا الوباء الضار و القاتل، يجعلنا نعتقد أنّ الحياة لم تعد معطى طبيعيا أو حقا ولا أحد يمكنه اليوم أن يضمن هذا الحق لا الطبيعة ولا الدساتير الإنسانيّة. وليس لأيّ أحد أن يساءل آخرا باسم هذا الحق الطبيعي، فالجميع لا يعرف من أين صدر الموت وحتى إن اتّهم البعض بكونه هو المصدر فإنّ انتشار الموت في كلّ أرجاء العالم يبدو أنّه أمر خارج عن إرادة الناس مهما كانت مسؤوليتهم و قدرتهم على إتيان الشر.
لقد تعمم الموت وأصبح ضربا من *القدر البيولوجي* الذي يصيب البشرية جمعاء ولا نجاة منه إلا بعقل فوق بشري سابق لأوانه.
يبدو إذا أن الانسان ما بعد الحديث أو المعاصر، رغم غلّوه في طلب الماديّ، لم يعد بإمكانه أن يحافظ على الحياة في أدنى شروطها وهو الشرط البيولوجي. ولم يعد قادرا أيضا على أن يتفادى الموت أو بالأحرى جرائم القتل، فمن الإرهاب الذي يمارس خفية ويأتي مفاجئا ويمارس في كل مكان إلى حروب الإبادة الجماعية وأخيرا إلى الأوبئة وآخرها كورونا. والغريب في كلّ هذه الأوضاع السالبة لحق الحياة القاتلة، أنّها تبدو قدرا ميتافيزيقيا ليس للإنسان عليه أي قدرة أو سلطة.
إنّ العقلانية الحديثة وما خلناه انتصارا للعلم على الطبيعة لم يف بأبسط الأشياء وهو ضمان حق الحياة. فقد بات هذا الحق مطلبا أساسيا سابقا على مطلب السعادة التي حلم بها ديكارت عندما كانت الحياة أمرا طبيعيا. يبدو أنّ الحداثة نفسها لم تطرح على نفسها مسؤولية الحفاظ على الحياة ولا إسعاد البشر جميعا بل كان هدفها الأول والمطلق هو كيف يسيطر الإنسان على الطبيعة ويستثمر خيراتها لصالح الإنسان )الطبقة أو القوة العظمى( ووقع نسيان الأهم وهو الحياة.
باختصار إنّ الإنسان ما بعد الحديث وتحديدا السياسة العالميّة التي عيّنت نفسها كسياسة حيوية تتوجه إلى الإنسان ككائن حي هي سياسة تريد الحياة الجيدة للجميع ولكن ما نعاينه مع انتشار الأوبئة وجرائم القتل بكل أنواعها تكشف عن الخاصية الثانوتاسية لهذه السياسة فيبدو أن هنالك قلق إزاء حق الحياة أو حرج من تكاثر عدد الأحياء إذ لم تعد السياسة العالميّة، منذ ثلاثة عقود على الأقل، سياسة اجتماعيّة،بل تحوّلت إلى سياسة إدارية تقنيّة لا تبالي بالأحياء.
وليس غرضنا هاهنا وصف ما انجرّ عن وباء الكورونا من انهيار لأعتى القوى وأضعفها ولا النظر في دلالات ومعاني البيو- سياسة وأهدافها التي رسمتها لنفسها كما لا نريد أن نسجل غياب البعد الأخلاقي والإيتيقي لهذه السياسة الحيوية. ولن نهتمّ أيضا بمسألة الحيوي من جهة ما يقوله العلم المحض أعني البيولوجيا، بل إنّ ما نروم التفكير فيه هو امتحان مقولة *حق الحياة* التي تدهورت وأصبحت في طريقها إلى التلاشي لنبيّن أنّ التفكير في الكائن الحي أو صحّته أو الجسد لم يعد مهما إلاّ من جهة ما هو جسد كتلة من السكان يخطط له داخل استرتيجيات تراعي في المرتبة الأولى الإنتاج وتنمية رأس المال وتكون الحياة وبصورة أدق الجسد وسلامته هو إحدى الأدوات التي تخدم هذه الإستراتيجيات فيغدو مساحة تمرّ من خلالها السلطة أو *السياسة الحيوية* ويكون موضوعا مهمّشا للسياسة التي تبوّؤه الدرجة الدنيا ضمن خططها فيمسي متروكا لحاله إلى حدّ الموت.
ولهذا فالسؤال المحوري هو: هل السياسة التي تدبّر شأن المجموعات السكانية تريد الحياة لأجسادهم أم أنها تعمل على تدبير النظام المدني والاقتصادي دون أن تولي اعتبارا للأجساد وللحياة ؟ وأخطر من ذلك هل السياسة الراهنة تترك الناس يعيشون دون أي مبالاة أم تحوّلت إلى تدبير -ربما غير مقصود- لشروط الموت فتتركهم يموتون رغم ما تبديه من شعور قديم بقدسية الحياة وبضرورة احترامها؟

السلطة الحيوية والسياسة الحيوية

هنا أريد أن أميّز بين مقولتين استند إليهما فوكو في تمييزه لأبستمية المعاقبة عن ابستمية المراقبة وأريد أن أميز أيضا بين السلطة الحيوية والسياسة الحيوية.
في البداية ميز فوكو بين مقولة *جعل الناس يموتون وتركهم يعيشون* التي سادت في عصر العقوبة الجسدية ومقولة *جعل الناس يعيشون وتركهم يموتون* التي وسمت فترة نشأة الحجز والمراقبة أعني في بداية نشأة الليبيرالية. كانت السلطة في العصر الكلاسيكي تترك الناس يعيشون وتعمل على قتل الخطرين منهم وذلك من خلال عقوبة الإعدام التي لم يتخلّ عنها الملك ذلك أنه يعتقد أن المخالفات التي يقوم بها الناس أو الجرائم هي موجهة لشخصه أكثر ممّا هي موجهة إلى المتضرّر فهو الذي يحمي المجتمع وأي جريمة أو مخالفة هي بالأحرى تطال شخصه فكان يعمل على قتل كل من يقوم بجريمة ويترك البقية يعيشون دون أن يبالي بطرق عيشهم. همه الوحيد هو حفظ النظام أو حفظ شخص الملك ولكن مع نشأة السلطة الليبيرالية في القرن 18 عشر نشأ ضرب جديد من السلطة وهو المراقبة والترصّد والعزل والحجز والنفي. ها هنا يترك الناس يموتون ولكن يهتم الحاكم لحياتهم .
لقد نشأت الليبيرالية وبدأ الحاكم يهتم لحياة الناس كقوة عمل وإنتاج أما أن يموتوا أو لا فذلك أمر مهمش لا قيمة له.
لقد بيّن ميشال فوكو في تعريفه للسياسة الحديثة بأنّها أصبحت ممارسة تهتم بالحياة وحلّل علاقة السياسة بالجسد وبعدد السكان وحياتهم تحدّد الإنسان كموضوع للسياسة الحيوية في قوله : *إنّ الإنسان الحديث هو الحيوان الذي أصبحت حياته ككائن حي محلّ تساؤل. *
وفي هذا الأفق قد ميّز فوكو بين أمرين إثنين :السلطة الحيويّة التي ظهرت ونشأت في العصر الحديث أعني مع بداية ظهور الليبيرالية وولادة السجن أو النموذج السجني كنموذج لتنظيم المجتمع على شاكلة هندسة الإشراف البنتهامية ومن ناحية أخرى حدّد السياسة الحيوية التي ظهرت مع تطوّر النظام الليبيرالي الذي عرف في كلّ مرّة أزمات هيكلية وأعاد إنتاج ذاته بصناعة استراتيجيات تجعله يستوعب أزمته ليتطوّر بشكل أكثر نجاعة.
بنشأة السلطة الحيوية في العصر الحديث تغيّرت الممارسة السلطوية مع ولادة السجن و أصبحت أكثر لطفا ولينا مع نشأة المراقبة والتخلّي على العقوبة الجسدية. كلّ ما في الأمر أنّ الليبرالية القائمة على مبدأ النجاعة، اقتضت الاستفادة من الأجساد إذ ما الفائدة التي سيجنيها النظام الإقتصادي إذا قتلنا كلّ المجرمين أوالمذنبين؟
سيبقي الحاكم الناس على قيد الحياة ولكنّه سيراقبهم ويسجنهم حيث ما كانوا سواء في الثكنة أو في المشفى أو في المصنع ويستفيد من خدماتهم ومساهماتهم في الدورة الاقتصادية. للتذكير فإنّ أصناف الذين يسجنون أو ينفون أو يعالجون في المستشفيات ليسوا كلهم مرضى أو مجرمين بل هم فئات ظلّت طريقها الإقتصادي والإجتماعي ووجب إعادتها إلى النظام بشكل صارم وفعّال: هم الفقراء والعاطلون عن العمل والمتقاعسون. كلّ تلك الأصناف كانت محلّ اهتمام فوكو في كتابه تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي.
وفي كتابه المراقبة والعقاب يبيّن أنّ التحوّلات الكثيفة التي عرفتها نظريّات الحق السياسي لم تتمثل في تعويض حق السيادة بل في إكماله وبلورته. *لقد كان ذلك الحق يتمثل في تعمّد الحاكم قتل الناس ولا يهتمّ كثيرا بحقهم في الحياة فهو يتركهم يعيشون ولم يقع التخلّي عن ذلك الحق، بل وقع إدماجه وتغييره واختراقه وبشكل أدق وقع قلبه فتحوّل إلى قدرة السلطة على أن تجعل الناس يعيشون وتتركهم يموتون *
أعني أنّ الحاكم كان يعمل على فرض النظام بدرجة أولى ويسهر على التخلّص من كل ما يشكّل مصدر خطر عليه فسيادته تتمثل في قدرته المطلقة على السيطرة وإحكامها بصرامة تامّة ) تنين هوبس مثلا( ومع حلول سلطة المراقبة ونشأة الليبيرالية أصبح الحاكم يهتمّ لحياة الناس ولم يعد هدفه الأول هو فرض النظام ، بل النجاعة في تطوير العمل والإنتاج وهو ما يتطلّب الاهتمام بالحياة.
وتطوّر هذا الأمر وتعمّق فنشأت البيوسياسة في الطور النيوليبيرالي أعني تعمقت مقولة ترك الناس يموتون وازداد الاهتمام بجعلهم يعيشون. يعني أنّ السلطة السياسية الحيوية لا تبالي بموت الأفراد ولكنّها تتوجّه إلى الطريقة التي يعيشون بها أعني تحثهم على الإستهلاك وعلى الإنتاج والعمل، فلعلّ تنمية الإقتصاد ورأس المال هي التي رسمت دورة حيوية يعيش داخلها الناس بشكل هستيري.
الكلمة المهيمنة وسر النجاح في الحياة هو مدى الانخراط في طريقة عيش تفرضها منظومة الانتاج والعمل. هذا يعني أنّ الحياة كحياة أعني *كحق طبيعي* لا تشغل السياسيين ولا تحتلّ مرتبة أوّلية بل الأهم هو كيف ننخرط في منظومة الإنتاج والاستهلاك ونرنو دوما وبشكل جنوني إلى أن نبلغ ما بلغه الآخرون. يمكن هاهنا أن نذكّر بأطروحات بنيامين وأدرنو وحتّى هيدغر ونقدهم لمنظومة التقنية التي أتت على كلّ أشكال الحياة بقضائها على مفاهيم الأصالة والإبداع والتجديد. لقد اتفق الماركسيون والفينومنولوجيون/الوجوديون على ضرورة العودة إلى الأصالة والإبداع وذلك لا يكون إلاّ بالفن.
السياسة الحيوية النيوليبيرالية هي سياسة المجموعات السكانية التي لا تقوم على قيم الديمقراطية والعدالة -وإن كانت تدّعي ذلك-، بل هي سياسة تقوم على مبدأ الرفاه للجميع أعني حثّ الكل على الاستهلاك بحجة حب الحياة والرغبة في الحياة الجيّدة. والحقيقة أنّ مسار تنمية رأس المال يجب أن يشتغل بطريقة ناجعة.
*حب الحياة* لا يعني *حق الحياة* ولا حث الناس على أن يحققوا رغباتهم الطبيعية، بل حثّهم على أن يعيشوا مرفهين مثل غيرهم وفق نموذج استهلاكي معمم ويستجيبون إلى رغبات مصطنعة.
الحياة أو الكائن الحي / الجسد لا ينظر له كجسد فردي بل هو جسد المجموعة التي ينتمي إليها بحيث لا توجد فردانية أو قدرة على السلوك الأصيل.
المرض أو الموت لا ينظر اليه بوصفه مرض جسدي / فردي بل مرض يهم المجموعات السكانية وكذلك عدد الولادات والوفايات. وتترجم هذه الإستراتيجيات السياسية الحيوية في الإهتمام بالصحة وبالمستشفيات وبالنظافة. واليوم نرى الأمر مجسّدا في الانتخابات حيث ما يهم هو فقط عدد الأصوات ولا تهم البتّة الخيارات الحقيقية للناس أو ماذا يريدون. يقاد الناس يوم الإقتراع كحشود لا تمييز بينهم أبدا.
هكذا تتحدّد السياسة الحيوية لدى فوكو وهي تدبر الشأن السياسي لمجموعة من السكان من حيث عدد ولادتهم ووفايتهم وأصواتهم الإنتخابية. في النظام النيو ليبيرالي لا يخطط لحركتنا الفردية ولقدرتنا على الإنتاج كما كان الأمر في العصر الحديث حيث نشأ نموذج السلطة الحيوية مع بنتهام وعندما ولد الانضباط وظهر السجن أو النموذج السجني كصورة ينبني عليها المجتمع كالمصنع أو الثكنة أو السجن.
إنّ ما يخطّط له السياسي في النيوليبيرلية هو ضبط حركات المجموعات السكانية. السلطة الحيوية كانت حقيقة الممارسة السياسية في عصر السيادة أعني في العصر الليبيرالي. أمّا في العصر النيوليبرالي ففوكو يحلّل علاقات الجسد بباقي الأجساد الأخرى من حيث تنظيمهم وتوحدهم ككتلة سكانية محلّية صمّاء تضمنها متلازمة الإنتاج والإستهلاك وكذلك الخطط الإستراتيجة لنظام الإستهلاك والإنتاج. يقول فوكو: *البيوسياسة أو السياسة الحيوية تتوجّه إلى الإنسان الحي : ليس لجسده ولكن إلى كثرة من الناس ككتلة شاملة تتأثر بمسارات كلّية تخص الحياة. *
بايجاز السلطة الحيوية تمارس في فضاء مغلق استشرافي حيث يكون هدف السلطة الهيمنة والسيطرة على سلوك الأفراد من خلال مراقبتهم ككائنات حيّة طيعة منضبطة. أمّا في السياسة الحيوية النيوليبيرالية، فالأمر يتعلّق بظواهر شاملة وبتنظيم محكم لعدد الولادات والوفايات في نظام سياسي يحثّ على الإستهلاك الجنوني والإنتاج المكثف كما يتعلّق بعدد الأصوات في الإنتخابات.
يقول فوكو : *تتدخّل السياسة الحيوية في المسارات التي تتعلّق بالولادة والموت والأمراض التي تعتبر عوامل تخفيض للقوى وتتدخل هذه السياسة أيضا في الشيخوخة وفي الحوادث وكل ما يتطلّب آليات الرعاية والأمان وكذلك أيضا العلاقة بين النوع البشري ومحيطه مثل مشكل المدينة. بشكل عام إنّ مجال السياسة الحيوية هم السكان باعتبارهم مشكلا علميا وسياسيا. تشتغل السياسة الحيوية على ظواهر جماعية لها تأثير سياسي في الديمومة وهي سياسة تجتهد في تنظيم هذه الظواهر. يتعلّق الأمر بإرساء آليات أمنية حول ما يمكن أن يحدث للسكان باعتبارهم كائنات حية. *

في النيوليبيرالية أصبح الحاكم شيئا فشيئا أقل رغبة في تعمّد قتل الناس وتحوّلت السياسة أكثر فأكثر إلى قدرة على مساعدة الناس على الحياة. احتاجت السلطة إلى إجراءات وتكنولوجيات جديدة تفعل إضافة إلى سلطة الحاكم وكأّنّ هذا الأخير لم يعد يمارس سيادته بشكل مباشر وعلني مثلما كان في عصر المعاقبة بل أصبح النظام الإقتصادي والسياسي القائم بذاته في مجتمع معيّن ينمو وينمّي عدد سكّانه ويطوّر صناعته بصورة ميكانيكية مستقلّة عن إرادة الحاكم أو نزواته الخاصة. أصبحت الحياة تمارس ضمن مسارات واستراتيجيات وضمن حكم إداري خالص وما الحاكم غير موظّف يتم انتخابه لمدة نيابية محدّدة.
هذه هي السياسة الحيوية أو الليبيرالية الجديدة التي تختلف كثيرا مع السلطة الحيوية في القرن الثامن عشر ولكنها لا تتعارض معها، فإن كانت هذه تهتم بحياة الأفراد من حيث ما هم أجساد منضبطة داخل فضاءات مغلقة، فإنّ السياسة الحيوية هي تدبير حياة الناس في نظام إقتصادي هو في جوهره نظام سياسي حيث البعد الوحيد للإنسان هو - كما تقول أيضا حنا آرنت في كتابها شرط الإنسان الحديث- هو البعد البيولوجي أعني البعد المادي حيث تمّ القضاء على كل أبعاد الإنسان الأخرى وأساسها البعد الروحي.
هل ما زالت الليبيرلية في طورها الأخير تعمل على الحفاظ على *الحياة الجيدة* والرفاهية؟ أم أنها كشفت على أسرارها الحقيقية وفظاعتها وبشاعتها من خلال تهميشها للصحة وللكائن الحي ككائن حي بشري؟ هل الليبيرالية الأخيرة تعمل بمقولة *اجعل الناس يعيشون وتتركهم يموتون* أم أنّها لا تبالي مطلقا لا بحياتهم ولا بموتهم إذ الإنسان لم يعد هو الشاغل الأساسي للساسة بل شاغلهم الأوحد هو الربح الأقصى واستنفاذ وإنهاك كل شيء في سبيل ذلك؟

الطور الأخير من النيوليبيرالية

إذا كان العصر الكلاسيكي أو النظام الليبيرالي هو نظام السيادة التي تعمل على فرض النظام بدرجة أساسية من أجل ضمان الحياة ونظام القرن التاسع عشر -نظام النيوليبيرالية- هو بداية انفتاح السيادات أو الدول على بعضها البعض وتدبر شأن الحياة في تنظيم الكتل السكّانية في فضاء جغرافي لا يزال يحافظ على حدوده،، فإنّ النظام السياسي العالمي اليوم وفي طوره الأخير أعني الليبيرالية في شكلها العولمي هو نظام نهاية الحدود بين القوى العظمى خاصّة وهو نظام اقتصادي يقوم على التبادل الحر والتجارة العابرة للحدود. ويبدو أن مقولة *حق الحياة* فيه أصبحت هشّة إن لم نقل وقع تهميشها وكذلك مقولة *الحياة الجيدة* تم إبعادها حيث نشهد عودة للعصور البربرية في آخر أطوار الليبيرالية التي تدّعي الرفاه والحياة الجيدة لكامل لكوكب. في هذه الليبيرالية الأخيرة هنالك توحيد بين الجميع وسحق لكل الفروقات بين البلدان والأوطان وهنالك مؤسسات وهيئات دولية لفضّ النزاعات تحكّم *عند الحاجة* لإعادة صنع توازنات مصطنعة. ولكن في المقابل وفي الواقع اشتد الفقر وانتشر الموت والقهر والظلم في كلّ مكان ) الإرهاب والحروب غير المبررة والعشوائية وانتشار الأمراض والأوبئة والحرب النووية والاحتباس الحراري والحصار الإقتصادي ومعارك الشركات الكبرى وافتكاك النخب (باختصار : إنّها الحياة في أسفل درجات الكرامة أو الموت المهدّد في كل لحظة بشكل متجدّد.
إن هذا الضرب من التواجد في العالم لا يعبّر بأي شكل عن هوس بالحياة لا الطبيعية ولا المرفهة، بل غالبا ما نرى الناس يتضوّرون جوعا على شاشتنا في كل أنحاء المعمورة. فالجثث منتشرة هنا وهنالك إما بسبب الجوع أو بسبب الحرب أو بسبب الإرهاب. ولم تعد السياسة تمارس بشكل محلّي في ما يعرف بمفهوم السيادة وموضوعها هم الأفراد أو الرعايا كما سمّاهم هوبس ولا يتعلّق الأمر بمفهوم البيوسياسة حيث يزال مفهوم السيادة المحلّية أوكتلة السكّان الذين تجمعهم رقعة جغرافية محدودة ذا معنى ويعمل على التحكّم في ظواهر شاملة كلية تخصّ الحياة في فضاء جغرافي محدود. على خلاف ذلك فالنظام السياسي الراهن هو نظام يتجاوز الحدود وينزع نحو كونية مزيّفة يريد منها في الواقع تدارك أزماته الدورية على حساب الآخر.
تصبح كل الدول في العالم متهيئة لاستقبال المنتوجات العالمية وتشتغل لدى شركات عابرة للحدود حيث تستثمر كلّ الخيرات المحليه لغير أهلها. إنّها سيطرة نيوليبيرالية متطوّرة بشكل فظيع حيث تقضى كل المعاملات *من بعيد* بنفي المسافات الحقيقية وتوسيع المسافات الإفتراضية فيحصل التبادل وتنمو حركة الطيران والتنقل بكل أنواعه ويحقق التواصل الإفتراضي التواصل الفعلي. لسنا بحاجة إلى حرية التنقل ككائنات حية بل ننقل بضائعنا دون حاجة إلى تأشيرة و تعقيدات بيروقراطية.
في هذه الممارسة السياسية اللليبيرالية الأخيرة نشهد انقلابا جذريا في مقولة *حق الحياة*. فبينما كانت الليبيرالية الجديدة تهتم بالحياة وأدمجتها في نظام العمل والانتاج وتخلّت عن الدلالة الحقوقية للمفهوم، فإنّ الليبيرالية الأخيرة تخلّت كلّياعن الحياة وعن الحق في الحياة وعن قيمة الحياة وأصبح الوجود مزعجا تارة يتهدّده الإرهاب وطورا تتهدّده الحروب أو الأوبئة الأخطر. السياسيون الجدد مابعد النيوليبيراليين لم تعد الحياة هاجسهم البتتة، فالمكنة يمكن أن تعوّض كل شيء. العمل عن بعد يمكن أن يجعل السياسي يقتصد في *الطاقة الشغيلة*.
في هذا الطور الأخير من السياسة النيوليبيرالية ما بعد الجديدة، غيّرت المنظومة العالمية هدفها. مع اشتداد المنافسة بين القوى المهيمنة تكنولوجيا وعلميا وتنامي المشاكل الإيكولوجية ، احتاج السياسيون النيوليبيراليون الجدد إلى إعادة رسم خارطة سياسية ديمغرافية جديدة بحيث يسهل التحكّم في الجميع بقدرة أقلّ تكلفة وأكثر نجاعة. بعد أن كان الهدف في العشرينية الأولى من القرن الواحد والعشرين، هو كيف يتمّ التوسع مكانيا )جغرافيا(، أصبح الهدف في الطور الأخير للسياسة الليبيرالية الجديدة، يتحدد ديموغرافيا من خلال مقولة عدد السكّان. ليس من المهم أن يتكاثر عدد الأحياء، بل يمكن أن نتعمّد تركهم يموتون ولا نهتم لحياتهم. فكلما قلّ العدد نجح التحكّم.
مع وباء الكورونا الأخطر من كلّ الأوبئة السابقة كالإيبولا والسارس وأنفلوانزا الطيور والخنازير، أصبح هاجسنا الوحيد هو تعداد المصابين وتعداد الأموات وتعداد الناجين. ليس هاجسنا الأوّل هو كيف نبحث عن اللقاح، بل كيف ننجو أولا من الموت بأيّ شكل. أصبح الأطباء هم أولياؤنا المقدسون فهم الوحيدون القادرون على إنقاذنا.
اليوم بات شاغلنا، هو تعداد السكان الأحياء والأموات أو المتهيئين للموت. أضحى التهيؤ للموت رقما في معادلة هي الأصعب من نوعها، لأن علماء البيولوجيا و كذلك علماء الإحصاء يكتفون بالوصف دون قدرة على تغيير الواقع المرير. الموت أصبح يعاشر الأحياء و عدد المصابين والموتى يتصدر عناوين نشرات الأخبار ، إنها قدريّة رهيبة . إذ الموت لم يعد فعلا إنسانيا أو لاهوتيا ولا حتى سياسيا بل هو قدر مسبق بيولوجيا فاق كل توقعات واستراتيجيات السياسة الجديدة التي أدركت *فجأة* مخاطرها وأولها الموت الذي كان نتيجة لعدم انشغالها بالحياة.
أصبحنا نقرأ الحالات النشطة في موقع تعداد الحالات المصابة والمتماثلة للشفاء والحالات الخطيرة أو الجديدة. الحاكم/الموظّف تجاوزته الأحداث ولم يعد بإمكانه أن يفعل أي شيء، أو هو ربّما فعل كل شيء وترك الناس يموتون ولم يبالي لحياتهم إذ ماذا تعني هشاشة المنظومة الصحية في أعتى الدول كأمريكا وفرنسا غير ضرب من الثانتوقراطية ؟
تعمّد ترك الناس يموتون لا يعني عدم المبالاة بموتهم بل أفظع هو نقيض لتركهم يعيشون وتجاوز لمقولة جعلهم يموتون. إن حاكم النيوليبيرالية الأخيرة لا يهتم لا بالحياة ولا بالموت لأن الإنسان لم يعد هاجسه البتّة. ذلك ما نقف عنده عندما نرى الولايات المتحدة وفرنسا خاصة تتأخران في استعمال تقنية *الحجر الصحي* وفي الرغبة السريعة للعودة لل*حياة العادية* أعني لإنقاذ المؤسسات.
في النهاية أقول، كثيرة هي المراجعات الضرورية بعد كورونا إن كنا نريد أن نظل على قيد الوجود في هذا الكوكب وبعيدا حتّى عن الأهداف الإيتيقية.
أولها التفكير في تطوير مقولة الحق في الحياة لجميع الكائنات كحق كوني يشمل جميع الكائنات والمحافظة على البيئة كفضاء يطيب فيه العيش. وذلك لا يكون إلاّ بمعالجة شاملة للكائن البشري الجديد من هيستيريا الإنتاج والإستهلاك والتخفيض من استعمال الآلة أو تطويرها بشكل يحترم الحياة على الأرض. وتبعا لذلك ينتج تدبير حكيم للديموغرافيا وللجغرافيا بحيث تحترم الحدود والإستقلالية وسيادة الدول. ونعود إلى ترتيب المكان والحياة بحسب ما يمكن أن يجعلنا نتفادى الشر والأذى فنستعيد قيمة العمل والسياسة والوطنية والعالم بأكمله. يجب أن يصبح لدينا أشخاص يفكّرون ويقودون ولهم وجهة وبرنامج، واستراتيجية ولغة. نحن بحاجة مرة أخرى إلى كلام آخر. لنكن متفائلين نعود إلى ما نبّه إليه آلان توران *بأن الأوبئة ليست كل شيء.* ولكنها تدفعنا إلى مراجعات.



#نعيمة_الرياحي (هاشتاغ)       Naima__Riahi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السلفية والمواطنة
- ليبيا بين الخيار الديمقراطي و الخيار الوطني
- الثورة و إعادة تجذير مفهوم الديمقراطية


المزيد.....




- روسيا توقع مع نيكاراغوا على إعلان حول التصدي للعقوبات غير ال ...
- وزير الزراعة اللبناني: أضرار الزراعة في الجنوب كبيرة ولكن أض ...
- الفيضانات تتسبب بدمار كبير في منطقة كورغان الروسية
- -ذعر- أممي بعد تقارير عن مقابر جماعية في مستشفيين بغزة
- -عندما تخسر كرامتك كيف يمكنك العيش؟-... سوريون في لبنان تضيق ...
- قمة الهلال-العين.. هل ينجح النادي السعودي في تعويض هزيمة الذ ...
- تحركات في مصر بعد زيادة السكان بشكل غير مسبوق خلال 70 يوما
- أردوغان: نتنياهو -هتلر العصر- وشركاؤه في الجريمة وحلفاء إسرا ...
- شويغو: قواتنا تمسك زمام المبادرة على كل المحاور وخسائر العدو ...
- وزير الخارجية الأوكراني يؤكد توقف الخدمات القنصلية بالخارج ل ...


المزيد.....

- جائحة الرأسمالية، فيروس كورونا والأزمة الاقتصادية / اريك توسان
- الرواسب الثقافية وأساليب التعامل مع المرض في صعيد مصر فيروس ... / الفنجري أحمد محمد محمد
- التعاون الدولي في زمن -كوفيد-19- / محمد أوبالاك


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات - نعيمة الرياحي - الثانتو- سياسة أو الليبيرالية في آخر أطوارها