أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض رمزي - موت مواطن لا ينتمي إلى وطنه. رياض رمزي















المزيد.....

موت مواطن لا ينتمي إلى وطنه. رياض رمزي


رياض رمزي

الحوار المتمدن-العدد: 6538 - 2020 / 4 / 15 - 17:27
المحور: الادب والفن
    


فؤاد كرجي ولعبة الأقنعة رياض رمزي

بم التعلّل لا أهلٌ ولا وطنُ/ ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكنُ
أريد من زمني ذا أنْ يبلّغني/ ما ليس يبلغه من نفسه الزمنُ. المتنبي

من الصعب ألا تنتبه لهذا الرجل الذي يأتي إلى المقهى كل يوم، يجلس متوحدا يشارك ولا يشارك في الحديث، لا أحد يفطن لمنظره الحزين بسبب سرٍ مكشوف تارة، ومستتر تارة أخرى، يظهر ويختفي على وجهه المغطّى بغلالة من كربٍ مردّه بكاء نشيجه محبوس لفترة طويلة. خلف صمته منطقةٌ ليس من السهل الوصول إليها. من الصعب أن ترى أمثاله ممن يوارون مشاعرهم وهو يمارسون الأشفاق على بلوى بلادٍ طردتهم قبل سبعين عاما، يتحكمون في غيظهم وهم يفتحون بوابة الأحزان، فلا تسمع عنهم سوى في وسائل التواصل الاجتماعي التي تحفل بأخبار يهود يحنون إلى فردوسٍ طردوا منها. ما يفاقم حالته أنه يعيش محنة بلاد لم يرها منذ سبعة عقود، يتذكرها من خلال لقاءات يومية مع مواطني بلاده وحضوره جلسات ولقاءات واحتجاجات، وهو تواصل عمّق نفيه وأزاله بنفس الوقت، يعترف بأنه منفي ويرفض التسليم به. لأنه لم يعلن عن كآبة أثخنت صوته وهو يصرفها لما يزيد عن على سبعة عقود، فقد تدّلت جوزة حنجرته، لأنه طوال تلك الفترة كان يلجم نفسه عن إعلانها أمام من لديهم من الخيبات ما يزيد على قدراتهم ويفيض. مثل امرأة ترمّلت في عز فتوتها، وهي محاطة بأرامل، كانت رغباته مثل شرر قابل للاشتعال والتصاعد عليه أن يوجر تنورها من وأن يحافظ، بنفس الوقت، على إدامة شدة أواره. يخمد النار ويبقيها بنفس الوقت. كذلك هي علاقته مع العراقيين الذين يلتقي بهم يوميا؟ مثل مريض احترق جوفه وما عليه إلا أن يزيد يوميا من تناوله للسوائل الحارة.
تعجبه عبارة ردّدتُها يوما أمامه" أشواك متعلقة بالتربة وبرياح الصحراء برغم ما يوجّه لها من إساءات بالمرور بعيدا عنها أو بالقفز عليها". نبات لم تكن الأقدار رحيمة به حين أنبتت له أبرا ورمته بعيدا في الصحراء. هل يشكر الخالق لأنه منح العاقول قدرة مدهشة على الأنحناء أمام عصف الرياح لتسهيل الحياة على محروم من الخصب؟. عندما كان يعمل في الكيبوتزات كان يعجب من أولئك الذين يأتون من بلاد بعيدة يقتلعون الأشواك ويستنبتون بدلا منها أشجارا مستوردة. كان يشاهد المستوطنين يسورون أرضا طردوا منها سكانها وزرعوا فيها سوسنات بيضاء، لم يكن لدى الأشواك من رد غير مد رؤوسها خلل السور معبرة عن رفض لوجود تلك السوسنات قائلة" كلا" بأبسط صورها.
إن كنت تتساءل عمن يكون هذا الرجل؟. أجيبك بأنه فواد كرجي المولود في محلة الجباويين في مدينة الحلة. ما هو أكثر: دفعته حالة التسليم بأنه منفي ورفض الاعتراف بها إلى انتحارٍ مقنّع. إذ ما معنى أن تخرج من البيت وتتجول في الشوارع ووحش الكورونا يجول فيها؟. عندما كان يقال له بأن يلزم بيته كان يرفض بكل ما لديه من قوة على الرفض. أليس عدم توخي الحذر انتحارا مقنعا، وفعل موت لاإرادي؟. كان بوسعه الحيلولة دون حدوثه، وكان بوسعه ألا يموت. ولأنه لم يتخذ احتياطات فقد كان موته انتحارا.
الكاتب الأيطالي العظيم بريمو ليفي كان مكتفيا ماديا ومشهورا، لكن تجربة مروره بالمحرقة اليهودية جعلته يلقي بنفسه، وهو في عمر السابعة والستين، من فوق درج في مدينة تورينو عام 1967 . ما أدعيه ليس رأيا قاطعا، بل تفاصيل لا تحمل معنى سوى لمحقق جنائي متمرس. من لديه معرفة بفؤاد يفهم زعمي. الانتحار قرينة دامغة على حالة الفقدان. فقدان السكن والأصدقاء والبيت، حالة شديدة التعقيد. لو كان السلاح الألي موجودا، لو كانت الحبال متوفرة ما كان آدم ليسمح لنفسه ألا تفعل ذلك بعد طرده من جنات النعيم.
أحكم عقل فؤاد قبضته على ذكريات تعود لما قبل خمسة عشر عاما من عمره. بما أن مجموعها شحيح، وكي لا تفر منه، انغلق عليها وراح يسرّي نفسه بها، مثل مريض لا يتوفر لديه ماء ليستحم، ولكن حظه أسعفه بحمى أصابته فراح يستحم بعرقها. لنفيه شَبَهٌ بذكريات اليتم التي تبسط سلطتها على يتيم فقد أمه، وهو في عمر الخامسة عشر، فقدان جعله يسن ويهرم في فترة قياسية، لأن الحالة التي لا تنصرف عن الذهن سترافقه أبدا وتجعله يشعر بالإشفاق على نفسه التي تسعى للتركيز على حياة ما قبل فقدانه لأمه. الوجه العبوس والشرود الدائم ثنائية تقتصر على اليتيم والمطرود من البيت. حالات كثيرة تمسسهما في العمق: باب بيت يغلق وراء من يخرج حاملا حقيبة واحدة، طفلٌ يقال له يجب أن تؤمن بقضاء الرب وهو يتسائل ما هي الفائدة التي يجنيها الله من شطب سجل أمي من الدنيا؟. استشهد ابن إحدى المواطنات في ساحة التحرير، فجاءها من يواسيها قائلا :أتحزنين على من يتناول طعامه الآن مع الأنبياء والأولياء؟ لم يسعدها ذلك القول فأجابت مستنكرة: تلك هي مشيئة الله؟، ألا بئسها من مشيئة. هل يستحق طعمُ طعام السماء أن يفارقني ابني مدى الدهر؟ ومن أدراكَ أنهم يعرفون ما يفضّله ولدي من طعام؟. هل ذهاب فؤاد إلى أرض أخرى حتى لو كانت وضعت تحت تصرّفه قطعة من فردوس تعوّضه عن عيشة في محلة الجباويين مهما توعّرت دروبها؟، أن ينفرد بنفسه في السير في أزقتها ولا يوجد أشكنازي واحد بشعره الملفوف يمر أمامه ويضخّم غربته؟. يسير في شوارع غريبة يعاني من حرقة من يشاهد أمامه غريبا في وضع الانقضاض عليه. راكم حزنا من نوع مُعدي، ينتظر فرصة للإنعتاق. ذلكم هو الحزن الذي قرض أحشاء فؤاد مثل ذلك الفأر الذي ظل يقرض بأسنانه المنشارية سد مأرب فهدمه، مطلقا موجا طوفانيا أمات الفأر فلم يعد يشعر بحزن. كذلك هو فؤاد أبو ليلى الذي أصبح من شدة اشتعاله شمعا ذائبا.
وقع كلٌ من اليتيم وفؤاد في قبضة أشد أنواع العشق أذى: تحب شخصا وتتمنى وجوده وهو يمارس الهجر عليك، تطلب منه أن يرأف بحالك وهو يمارس العنت عليك. تصبح العلاقة معه مجموعة انتهاكات متلاحقة: يلاحقك ويطالبك بنسيانه، وهو يعرف وأنت تعرف أنها حالة تقصر عنها قدراتك. فخٌ منصوب، كلما تبتعد عنه كلما يجلب لك ترويجا كي تقترب منه، حتى تصبح حياتك هروبا من فوهة الفخ. تبتعد وتزداد تعلّقا. هل يمكنك ابرام معاهدة سلام مع شدق الفخ المفتوح؟..
أحدثكم عن الصعوبات التي واجهتني وأنا أبحث عن أسباب خروجه المتوالي من بيته وعدم التحلّي بالصبر، جاعلا من نفسه غير مدركة لما سيحصل لها. لذلك فأنا أرتاب بشدة من كذبة الموت الطبيعي. ألم يقل باسكال أن مصائب البشر تأتي لأنهم لا يجلسون مرتاحين في غرفهم؟. من يجلس في بيته يكون معفى من أخطار مرور كثيف لذكريات متزاحمة، لأن العكوف في البيت يجعله قريبا من أشباح الماضي. امرأة الشهيد، على سبيل المثال، لا يمكنها أن تجلس في البيت لأن ذكرى الغائب تتركها لاتساعات الرغبة، حتى النسيم الذي يندفع عبر الشباك محركا ستائر التول يقرّبها من ذكرى زوجها الشهيد.
سألتُه مرة: ما لي أراك ساكتا لا تتحدث عن بلواك؟ صمت بطريقة من ينتظر أن تهدأ آلامه وقال: لأن مأساتي أكبر من أن أقرّ بها علنا. قلت له: حاول يا فؤاد، أجاب: ليست لدي قدرات شاعر كي أجعل كلامي مؤثّرا. ثم أضاف حياتي مسلكٌ غمرته مياه النفي، ثم أضاف: مياه النفي لونها بلون الصدأ. سأل نفسه أمامي: كيف؟. ليجيب بنفسه عن سؤاله: الحل ينأى عني بمرور الزمن لأنني أعرف أن الأحوال لن تتبدل أبدا. مازالت كلمة النفي لديه مصطلحا يقوله العراقي فقط برفع الشفة العليا وإطلاق حرف صائت من بين الأسنان العليا: تسء.



#رياض_رمزي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فائز الزبيدي مقاتل أجبر على هدنة أبدية
- الميليشيات والاغتيالات
- بعض ما يحدث في جمهورية الإسلام السياسي
- صادق الصائغ لا بر إلا ساعداك
- تصفيق لأول من قال عبارة: الدولة أهم من دماء مواطنيها
- إلى نور مروان. وجهٌ جميل لا تليق به غير البسمة.
- يا وطن سائقي التك تك احبك الان اكثر
- محدثو النعمة-العراق نموذجاً
- بديهية كجملة - يطوف البط على الماء-
- فتوى صادقة
- رسالة مفتوحة إلى لجنة البوكرز العربية


المزيد.....




- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض رمزي - موت مواطن لا ينتمي إلى وطنه. رياض رمزي