أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - مزن النيل - هل انتصرت الثورة السودانية؟















المزيد.....



هل انتصرت الثورة السودانية؟


مزن النيل

الحوار المتمدن-العدد: 6531 - 2020 / 4 / 7 - 20:19
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


الورقة أدناه كُتِبَت في الأصل كمسودة تحضيرية للإجابة على سؤال “هل انتصرت الثورة السودانية؟” لتقديمها في مناقشة مغلقة جمعت عدد من الرفاق من خارج السودان والمهتمين باستيعاب الوضع في السودان والحادبين على قضايا الثورات والعدالة الاجتماعية في الإقليم و العالم. قُدِمَت هذه الورقة في نهاية نوفمبر الماضي، وفي وضع التقت فيه بشائر تشكل الحكومة “المدنية” وبواكير الأحلام والوعود عن سودان “ما بعد الثورة” مع اضطرابات الواقع و تناقضاته، مما جعل من المنطقي توجيه معظم، أن لم يكن جل، محتوى الإجابة لتفكيك مكونات السؤال وتنزيله على الوقائع. قمت بإعادة صياغة بعض أجزاء الورقة لغوياً لأغراض النشر المكتوب -و الذي يختلف عن نص مجهز للتقديم المقروء، غرض المسودة الأولى- وقمت بأضافة بعض الاحداث المهمة التي جرت بعد تاريخ كتابة المسودة الأصلية، إلا أن المحتوى و الإجابة على السؤال ما زالت في الجوهر هي نفس الإجابة، فهل انتصرت الثورة السودانية؟

الإجابة على سؤال “هل انتصرت الثورة السودانية؟” وكما هو متوقع ستكون في معظمها محاولة اتفاق على مكونات السؤال، أي ما هو تعريفنا لنجاح الثورة؟ أي ثورة عامة وفي السودان بالتحديد، ما هو تعريفنا للثورة؟ والفعل الثوري؟ وحتى ما هو تعريفنا للسودان؟ بمجرد اتفاق على هذه التعريفات من المتوقع أن تكون الإجابة واضحة حسب ما نصل إليه من تعريفات، خاصة عندما ننظر أيضا -كما سنفعل في هذه الورقة- إلي أحداث الثورة و تقلباتها و نحللها باستصحاب ما نستنتجه من تعريفات.

أهمية هذه التعريفات، ابتداءً من “ما هو السودان الذي نقصد؟” تأتي من أن الإجابة تختلف تماما باختلاف التعريف، فالرؤية القائمة على أن ارتفاع الـGDP أو جذب الاستثمار كدلالة على تعافي الاقتصاد السوداني تأتي من تعريف لي ماهية السودان يرى أن السودان هو مجموعة المتعاملين بالنظام النقدي –كأبسط نقطة انطلاق- مما يعني أن انتعاش اقتصادهم يعتبر انتعاش اقتصاد السودان، و هذا دون الدخول في تفاصيل ماذا يقيس الـGDP و هل هو مؤشر حقيقي لعافية و قدرة الاقتصاد على تلبية احتياجات الأغلبية الإحصائية و الأغلبية الأحق من السكان.

في سودان اليوم، الحصر على مستخدمي النظام النقدي يعني استبعاد جزء مقدر من السكان، فحتى بداية الألفينات كانت هناك مناطق في كردفان ما زالت تتعامل بنظام المقايضة، و حالياً توجد مناطق في النيل الأزرق و رغم تعاملها بالنظام النقدي إلا أنها خارج النظام المالي للدولة، لدرجة انه و في هذه المناطق المتاخمة لأثيوبيا سعر الجنيه السوداني مقارنة بالبر الأثيوبي يعتمد على المواسم و حركة البضائع بين السكان، نحن نتحدث هنا عن حركة البضائع في الأسواق المشتركة المحلية الصغيرة، ففي خريف 2019 مثلا انخفض سعر البر إلي 1.6 جنيه سوداني لانقطاع الطرق بين البلدين، و بعد نهاية الخريف وصل إلى 2 جنيه سوداني، بينما السعر الرسمي 2.2 جنيه سوداني للبر الأثيوبي. نجد هنا أن سعر العملة يحدده تماما اقتصاد السوق الصغير و غير مرتبط على الإطلاق بالسوق العالمي. يتضح لنا هنا أن الدولة نفسها غير متجانسة في تمدنها، في علاقاتها الاقتصادية، وغيره. من الضروري أن نفهم حالة عدم التجانس في نسيج الدولة السودانية، و حتى أن لم نتمكن من فهم جميع جوانبه وتمظهراته بشكل كامل، علينا أن نستصحبه معنا في قراءتنا للشأن السوداني، وإلا سنجد انفسنا نتحدث عن نجاح أو فشل الثورة السودانية بينما نحنا في الحقيقة نقصد نجاحها أو فشلها بالنسبة لهذا الجزء أو هذه الطبقة من مكونات سكان الدولة السودانية، و ليس جلها أو اغلب مكوناتها.

على مدى الجزء الأكبر من حكم الإنقاذ/الحركة الإسلامية، كانت كلمة السودان في أدبيات وخطابات السلطة تعني وسط السودان، أو ما يعرف بمثلث حمدي، والمصطلح يأتي إلينا من ورقة اقتصادية قدمها أحد وزراء مالية الإنقاذ، الاقتصادي عبد الرحيم حمدي عن رؤيته الاقتصادية للبلاد. تحدث حمدي في هذه الورقة عن ضرورة منح أولوية للتنمية في المنطقة المحدودة بي مدن دنقلا في شمال السودان، سنار في الوسط و كردفان غربا، و كان مبرره أنها المناطق الأكثر ارتباطا بالهوية العروبية الإسلامية و عليه لن تنفصل عن الخرطوم كما طالب الجنوب وقتها أو تنحاز لاستخدام حق تقرير المصير كما هو الحال الآن بجبال النوبة أو غيرها.

ظهر إذاً مصطلح مثلث حمدي كنتاج لهذه الورقة كأول توثيق مكتوب لهذه الفكرة، إلا أنها و قبل توثيقها كانت تظهر جليا في خطابات السلطة و قراراتها.فعندما كانت السلطة تتحدث حتى عن ماهية العادات و التقاليد السودانية و التي فرضت على أساسها الكثير من القوانين القمعية، كانت في الحقيقة تتحدث عن “عادات و تقاليد” المجتمعات داخل المثلث، فعادات سكان الجنوب أو جبال النوبة أو شرق السودان مثلا لم يشملها تعريف العادات السودانية المحمية بقوانين النظام العام، بل كانت فلكلور وتراث قد يتم تجاهله أو استخدامه ديكوريا حسب خطاب الدولة في وقتها وحوجتها له.

هذا التصور لحصر السودان في الشمال النيلي المسلم الناطق بالعربية لم يخترعه حمدي و لم تخترعه السلطة الإسلامية بل هو امتداد طبيعي لشكل الاستعمار في السودان.الاستعمار الإنجليزي أو التركي أو المصري في السودان لم يأتي على هيئة استعمار استيطاني، بل و كان انتشار المستعمر في البلاد محدوداً لأسباب عدة ترتبط بشكل أساسي بهدف المستعمر وغايته التي أراد الوصول إليها من نشاطه الاستعماري، سواء كان هذا الهدف هو الذهب والرجال، أو عندما تطور لاحقًا في عهد المستعمر الإنجليزي إلى مياه النيل والرجال و منتوجات مشاريع المستعمر الزراعية و الصناعية، و التي أقيمت أيضاً في مناطق الشمال النيلي كمشروع الجزيرة الزراعي و غيره. أقام المستعمر جهاز دولة قائم على خدمة هذه المصالح، أفندية متعلمين في مناطق المشاريع عشان ليقوموا بالأدوار الإدارية، وجيش كان يعرف وقتها بوحدة دفاع السودان، يقوم بحماية نفس المصالح، فتركزت خدمات الدولة في أماكن معينة. مما أدى إلى أن لا تصل الدولة كجهاز سيطرة وإدارة إلى مناطق كثيرة من الرقعة الجغرافية التي يفترض نظرياً أنها تحت سيطرتها.

هذه التحولات غير المتوازنة والأولوية الممنوحة للمركز، سمة صاحبت الدولة السودانية الحديثة منذ تكونها وشكلت العلاقات الاقتصادية والسياسية للمجتمع بشكل كبير. واصلت حكومات ما بعد الاستقلال على نفس النهج، وحدة دفاع السودان والتي هي جيش المستعمر لم يحدث لها أي إعادة تأهيل بعد الاستقلال، أُنزِلَت “يافطة” قوة الدفاع و سميت بي قوات الشعب فيما يبدو أنه كان افتراضاً بأن طبيعتها الاستعمارية ستتغير بمجرد تغيير الاسم. نجد في ذلك تفسيراً للطبيعة الاستعمارية لمؤسسة الجيش؛ خادم لمختلف أشكال السلطة وحامٍ للمنشئات بي شكل أساسي، نذكر فيما نذكر أن الدور الكلاسيكي لقوات الجيش في حالة الاحتجاجات الشعبية في السودان هو ارتكازهم لحماية البنوك ومحطات البنزين(!). في الوقت الحالي من المتفق عليه ضمنياً -بل و علنياً في هتافات المحتجين- أن تغيير مسمى جهاز الأمن إلى جهاز المخابرات العامة أو تغيير مسمى الجنجويد إلى الدعم السريع لن يغير طبيعتهم المجرمة، ولكن بالمقابل تبقى حقيقة كون الجيش الحالي وجهاز الدولة السودانية الحالي نتاج لمجرد تغيير اسم من جيش و جهاز المستعمر و كونه في جوهرة لا يمكن له أن يخدم اغلبيه السودانيين، بغض النظر عن نقاء و أخلاق و ثورية الأفراد القائمين عليه، لأنه غير مصمم لذلك وغير قادر على فعل ذلك دون إعادة نظر وتأهيل وهيكلة بشكل جذري، هذه الحقيقة تبدو راديكالية وجنونية للكثيرين فقط لكون هذه المؤسسات قد وجدت وشاخت تحت مسمى “مؤسسات وطنية” لسنين وأجيال عدة منذ الاستقلال، مما جعل مفهوم هدمها لإعادة بنائها غريباً وصعب التخيل بالنسبة للكثيرين. هذه المؤسسات حالياً محمية من النقد إذاً بحكم التعود والثقل التاريخي. عادات و تقاليد.

جهاز الدولة الاستعماري بالتعاون مع النخبة السياسية الناتجة من الامتيازات الممنوحة سابقا من قبل الاستعمار لبعض القيادات الطائفية بالإضافة لأبناء المركز ممن كانوا محظوظين جغرافياً بوجودهم في مناطق وفر فيها الاستعمار التعليم، هذه المجموعة صنعت تاريخ السودان على نفس النهج الاستعماري. ففي سنة 1958 قام رئيس الوزراء في وقتها، عبدالله خليل، وبعد فترة من الاحتجاجات الشعبية والاحتقان السياسي وقبل يوم من جلسة البرلمان المنتظر فيها نقاش نزع الثقة من الحكومة، سلم عبدالله خليل السلطة للجيش، ممهداً لأول تدخل للجيش في الفعل السياسي وأول حكم عسكري في تاريخ السودان، و الذي جاء بتسليم من حكومة مدنية فضلت الحكم العسكري للحفاظ على السلطة على مواجهة الأدوات الديمقراطية على ضعفها. تصرف حكومة عبدالله خليل وقتها يشابه الوضع الحالي من حيث اختيار القيادة السياسية تسليم نصف السلطة للجيش كتصرف ونمط طبيعي في السياسة السودانية.

نجد في تاريخ حكومات ما بعد الاستقلال الكثير من القرارات و الانحيازات المشابهة و التي هي أقرب لانحيازات المستعمر من الحكومة الوطنية. مثال أخر يأخذنا إلى عهد الرئيس نميري في السبعينات، إذ أنه وكجزء من الحرب في جنوب السودان قام بتسليح قبائل اسماها “القبائل الصديقة”. هذا المفهوم “قبائل صديقة و قبائل عدوة” وما يترتب عليه، هو مفهوم لا يتسق مع المواطنة بل مع سلطة مركزية منفصلة عن سكان المكان، تصادقهم و تعاديهم حسب مدى مشابهتهم أو فائدتهم للسلطة الحاكمة، مفهوم استعماري ببساطة.

السودان إذاً و منذ استقلاله عن الاستعمارات الأجنبية و حتى الآن دائمًا ما كانت فيه سلطة داخلية استعمارية، بمصالحها المضادة لمصالح السكان المستعَمرين، ومركز مقرب للسلطة مصالحه مضادة لمصالح أغلبية المواطنين المتمثلة في توزيع عادل للثروات و التنمية بالضرورة سينزع امتيازات المركز. وبشكل أشمل نجد أن السودان به مناطق ليس لها أي ارتباط بجهاز الدولة لأنه ومن حسن أو سوء حظها؛ لم يكتشف فيها حتى الآن موارد يمكن استغلالها بسهولة كالذهب أو البترول، فعلاقات السلطة بالمواطن و كما ذكرنا قائمة على ما يمكن استغلاله من ثروات و ليس على من يجب حمايته وتوصيل الخدمات لهم من بشر.

مصالح هذه المكونات المختلفة لا يمكن جمعها تحت مسمى واحد يُطلَق عليه مصالح السودان و كذلك نجاح أو فشل الثورة كذلك لا يمكن أن يكون واحداً بالنسبة لهم جميعاً. علينا أن نختار إذاً ونحن نطرح هذا السؤال و نوضح عن أي نجاح نسأل، و أي “سودان” أو مكون سوداني يمثل مرجعيتنا في حساب النجاح و الفشل.

أرى أن أبسط تعريف عادل للسودان يمكن أن نعمل عليه الآن هو (الأغلبية الإحصائية للسودانيين ابتداء من الأقل حظاً من ناحية الامتيازات والثروة)، و عليه سنقيس نجاح و تأثير و فشل الثورة السودانية بمدى ونوعية التغيير في العلاقة بين جهاز الدولة وأغلبية هؤلاء السودانيين.

نقفز الآن من السرد التاريخي إلي الأحداث الراهنة في محاولة لتحليل الثورة السودانية و تفاعلات العملية السياسية خلالها. علينا أن نستصحب في هذا التحليل ما ذكرناه سابقاً عن تركيبة النخبة المجتمعية والتي تشمل عوامل جغرافية تؤدي إلى توفر التعليم أو عدمه، وعوامل إثنية وطائفية ترتبط بتركة التفضيل الاستعماري و غيره مما سلف ذكره.
كان من الطبيعي و المنطقي نتيجة لاستمرار العلاقات الاستعمارية أن تتكون الطبقة السياسية الحاكمة من نفس هذه النخبة المجتمعية، و ذلك مع وجود استثناءات و اختراقات بالطبع، كما في حالة حميدتي مثلا -قائد قوات الدعم السريع-. يعتبر حميدتي حقيقة أول تمثيل لمجتمعات الرعاة في السياسة السودانية على هذا المستوى من الدولة، و بهذا الحجم. تمثيل هذه المجموعات في الحقيقة نادر في جميع مستويات الدولة، و في ذلك نتيجة طبيعية لكونها -أي الدولة- لا تصل الى هذه المجتمعات بتوفير تعليم أو خدمات من أي نوع مما يجعل تأهيل أفراد هذا المجتمع بالشكل الذي يؤدي لإخراج ممثلين للمجتمع من داخله أمر غاية في الصعوبة عبر القنوات الكلاسيكية لتصعيد موظفي الدولي وممثلي مجتمعاتها. نذكر هنا مفارقة أن الحكومات السودانية المتتالية عندما تتحدث عن الاقتصاد السوداني دائماً ما كانت تذكر الثروة الحيوانية في مقدمة موارده، فهذه الدولة بها 100 مليون رأس من الماشية، وقد كان وزير مالية الحكومة الحالية قد طرح في خطته الاقتصادية الثروة الحيوانية كـ low hanging fruit حسب تعبيره أو ثمرة دانية يسهل قطافها. حديث كثير عن الثروة الحيوانية و لكن لا وجود للرعاة في الدولة، لا خدمات لهم، و هذه هي تركة العقلية الاستعمارية تُخرِج لنا لسانها مرة أخرى. أنها عقلية تُقدِم للمواطن من التعليم و الخدمات ما يمكنه من أن يقوم بدوره كمصدر دخل فقط لا غير. فنفس السبب الذي جعل من تعليم أبناء مناطق الوسط أولوية بالنسبة للمستعمر لتغطية حوجته لمحاسبين وموظفين، هو ذات السبب الذي أخرج تعليم أبناء الرعاة من أولويات “الحكومات الوطنية” المتعاقبة، الراعي لا يحتاج للتعليم مدرسي ليعتني بالمواشي و يورد لخزينة الدولة من حاصل تصديرها، والسلطة الاستعمارية لا حوجة لها بتطويره ما زالت “النقاطة” مستمرة و ثمارها دانية. الرعاة من هذا المنظور ليسو بحالة نادرة، ففي شرق السودان أو جبال النوبة أو غيره الكثير من المجتمعات التي تربطها مع الدولة علاقة استعمارية بحتة والمحظوظ فيهم من لم تكتشف الدولة ثروة سريعة تمتصها من منطقته، -ذهب أو بترول أو ماشية أو غيره-، فتركته في حاله وأصبح في دولة و اقتصاد مغلق على نفسه كما في حالة سكان المناطق الحدودية مع أثيوبيا ممن ذكرناهم سابقا. حميدتي اخترق النخبة السياسية بالعنف، و هنا يقبع دائما الخطر الأساسي في عدم توفر أدوات ديمقراطية للمجتمعات تتمكن من خلالها من المشاركة الصحية في اتخاذ القرار وتنفيذه، هذا الوضع يدفعها لابتداع أدوات جديدة وبناء مراكز قوى تجبر الدولة على التعامل معها. في حالة مليشيات الجنجويد مثلاً، سلحتهم الدولة للقيام بحربها ضد قبائل أخرى في دارفور، فكبرت المليشيات واستخدمت سلاحها كأداة لاختراق النظام الحاكم على مراحل منذ صعود نجم حميدتي تحت البشير حتى انقلابه عليه ووجوده كعضو مجلس سيادة حالياً و تمدد سلطاته داخل المجلس وما سيتبع ذلك.

تمظهرات تفكير النخبة في الطبقة السياسية السودانية كثيرة و كارثية، فعندما ننظر للحزب الشيوعي مثلا نجد انه كان لديه نشاط جيد جدا في وسط مزارعي مشروع الجزيرة تاريخياً و منذ الاستعمار، وما زال حتى الآن و بعد إفقار المشروع و انهياره، ما زال الحزب الشيوعي السوداني يقدم عمل جيدًا جدًا في التنظيم بين المزارعين ولدعم قضايا المزارعين و تمثيلهم، وكل هذا يبدو جميلًا خارج سياق الظرف المحيط.
فلننظر للظرف المحيط. الناظر إلى تفاصيل مشروع الجزيرة يجد انه تكون من مزارعين، يملكون 5 أو 10 فدانات لكل منهم و عبر الحكومات المتعددة منذ الاستعمار وبعد الاستقلال كان هناك دائماً شكل “شراكة” بين الحكومة و المزارعين، توفر من خلاله الحكومة خدمات للمزارعين و تأخذ رسوم بشكل أو آخر. دائما أيضاً ما كان يتم استغلال المزارعين سواء من قبل الحكومة أو الدائنين الأجانب أو البنوك أو غيره. و لكن يوجد بالمشروع أيضاً عمال زراعيين، وفي دراسة جيدة جدًا لواقع هؤلاء العمال صدرت في الستينات في كتاب “أُجراء الريف” لكاتبه يوسف عبدالمجيد، تم توضيح أن النسبة الأعلى والتي تصل في بعض الأحيان لدرجة 70% من ساعات العمل يقوم بها العامل الزراعي، ويعود له رغم ذلك أقل من نصف ما يعود على المزارع. المزارع إذاً ورغم أنه مُستَغَل من قبل الدولة والبنوك إلا أنه أيضا شريك في استغلال أكبر للعامل الزراعي. في الوقت الذي كان العمال الزراعيين يشكلون فيه أكثر من 70% من تعداد سكان المشروع لم توجد مدرسة واحدة في “الكنابي” – و هو جمع كمبو المشتقة غالباً من camp ، وهي مناطق سكن العمال الزراعيين-، مما يوضح التمييز المؤسسي الذي تقوم به الدولة ضد العمال وسكان الكنابي. ولكننا لم نرى الشيوعي يعمل على تنظيم العمال الزراعيين ولا دعم قضاياهم، وهي -أي قضايا العمال- بطبيعتها و تعريفها تهدد فيما تهدد، مصالح المزارعين. الحزب الشيوعي في الحقيقة رفض التنظيم في وسط العمال الزراعيين في الستينات تحت قيادة عبدالخالق محجوب السكرتير العام وقتها بحجة -فيما معناه- انه يهدد النسيج الاجتماعي، والمقصود هنا بالطبع لا يمكن أن يكون النسيج الاجتماعي للعمال أنفسهم، بل هو مجرد لفظ مخفف لتهديد مصالح المزارعين. هناك عوامل أخرى ساهمت في تفضيل المزارعين على العمال في هذا السياق، العمال ليسوا من المركز، هم مهاجرون من قبائل الغرب و الجنوب المضطهدة تاريخيًا، وكما ذكر يوسف عبد المجيد مازحًا أو غير مازح، أن من الطبيعي أن يفضل عبد الخالق ورفاقه من أفندية المركز المتعلمين أن يعقدوا اجتماعاتهم في بيوت المزارعين مالكي الأراضي الميسورين المتحدثين بلغة عربية تشابه عربيهم، ويمتلكون حمامات داخلية، من أن يدخلوا كنابي العمال المتسخة.

إذا حتى اليسار السوداني -إذا افترضنا الحزب الشيوعي ممثلا له-، هو في الحقيقة على يسار النظرة النخبوية فقط لا غير. اللاعبين الأساسين والمكونات الأساسية للطبقة الحاكمة السودانية بشكل عام هي مكونات وفية لطبيعتها وأصلها النخبوي الرجعي بدرجات و نكهات مختلفة متفاوتة. توجد بالطبع استثناءات تؤكد القاعدة من جهة، وتعبر من جهة أخرى عن تمظهرات مشوهة وهزلية. نذكر في هذا السياق ما قلناه عن تمثيل الشيوعيين لقضايا المزارعين المشوه بإنكارهم لقضايا العمال، أو حزب المؤتمر السوداني الذي يطرح جدلية مركز وهامش بدلًا عن الجدلية الطبقية مشوهة في منطقها الذي يقتطع المركز والهامش من علاقاتهم الاقتصادية فلا نجد طرحاً للمؤتمر السوداني عن قضايا المهمشين في الزراعة أو الرعي أو مصالحهم الاقتصادية أو كيفية توجيه موارد الدولة نحو دعمهم، فيردد المؤتمر السوداني مفردات المركز بينما هو يمضي في دعم سياسات اقتصادية نيوليبرالية ليست في مصالح تنمية الهامش في شي. هناك ايضاً استثناءات أخرى عبارة عن هزل محض، كحالة ممثل جبال النوبة في المجلس السيادي الحالي (صديق تاور)، فجبال النوبة التي هي منطقة تقع حاليا تحت سيطرة قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان جناح عبدالعزيز الحلو، حيث استطاعت تحريرها من حكم الجبهة الإسلامية منذ أعوام، منطقة عانت تاريخياً من التهميش الإثني و الديني وتطالب حاليا بالعلمانية أو تقرير المصير كشرط للسلام، ممثل هذه المنطقة الذي اختارته قوى الحرية والتغيير هو مرشح قادم من حزب البعث العربي الاشتراكي(!)، عروبي الفكر يمثل أكثر المناطق تضرراً من المركزية العروبية الإسلامية! جميعها استثناءات غريبة و مضحكة، و لكن هذه هي نخبتنا السياسية و منهم كأفراد و أجسام جاءت الأجسام التي كونت قوى الحرية والتغيير.

فلنسرد ما حدث منذ ديسمبر 2018 بشكل سريع و مختصر قدر الإمكان: الوضع الاقتصادي الخانق أوصل الناس المقهورة إلى مرحلة الخروج إلى الشوارع، و كان ذلك قد حدث سابقاً في 2012 و2013 و2016 مع موجات رفع الدعم عن الدقيق والمحروقات. كان الوضع في هذه المرة أسوأ بدرجات. انعدم عيش، انعدم بنزين، مستويات مخيفة وغير مسبوقة من التضخم، و من ثم انعدم حتى النقد (الكاش). بدأت مظاهرات في بدايات ديسمبر من يوم 6 في مدن متفرقة وتصاعد الغضب، وفي عطبرة تم حرق دار الحزب الحاكم و كان حدث جلل شرخ أسطورة قوة النظام و أجهزته الأمنية. تجمع المهنيين السودانيين كان جسم نقابي أعلن نفسه في يوليو 2018 وهو موجود منذ 2016 كتحالف نقابات موازية نشأ بهدف دعم إضراب الأطباء في 2016، نذكر هنا أن النقابات المكونة للتجمع هي نقابات أطباء ومهندسين وصحفيين ومحاميين، وهي وظائف ومواقع عمل الطبقة الوسطى-العليا، أي أنها كانت نقابات النخبة إلي حد بعيد، و في ذلك نتيجة طبيعية لكون موظفي هذه القطاعات هم من لهم التعليم والأدوات والأمان النسبي من بطش النظام مقارنة بغيرهم ما يمكنهم من أن يقوموا بتنظيم أنفسهم، فعنف الدولة تجاه تنظيم أطباء مثلا أقل بكثير من عنفها تجاه تنظيم عمال بناء فقراء.

في أكتوبر 2018 أصدر التجمع أول ورقة له عن الحد الأدنى للأجور و طالب برفعه من حوالي 400 جنيه -والتي كانت تساوي حوالي 5 دولار أمريكي وقتها- إلي حوالي 8000 جنيه. أعلن التجمع انه سيُسيِر موكب لتسليم الورقة إلى البرلمان في 25 ديسمبر. بحلول ديسمبر كان وضع الاحتجاجات كما ذكرنا في أيام 6 و13 و19 في مدن القضارف والدمازين ويوم 22 ديسمبر في الخرطوم، كان المزاج السياسي العام أعلى من اقتصار المطالب على رفع الحد الأدنى للأجور. أعلن التجمع يوم 23 ديسمبر تغيير وجهة موكبه إلى القصر بدلاً عن البرلمان، وارتفع المطلب من رفع الحد الأدنى للأجور إلى المطالبة بإسقاط النظام. كان موكب 25 ديسمبر مهولاً في حجمه بالمقارنة بي حجم التظاهرات في الـ30 سنة السابقة له. أذكر هنا أن آخر مظاهرة شاركت بها قبل 25 ديسمبر كانت في يناير 2018 و كان قد دعا لها الحزب الشيوعي ضد ميزانية 2018 أو ما سماها “بميزانية الجوع”. يُحسب للحزب الشيوعي هنا أنه و في وسط من اللاعبين السياسيين المعتمدين على ردة الفعل، كان الشيوعي قادر على قراءة و استطلاع الأوضاع الاقتصادية بشكل جعله يدعو في يناير إلى رفض القرارات التي صنعت الأزمة بحلول ديسمبر. في تلك المظاهرة لم كنا حوالي 500 متظاهرة ومتظاهرة، 5 دقائق في شارع القصر وساعتين من الجري و التخفي من الأمنجية، وفي ذلك حادثة ممثلة لمعظم التظاهرات بالخرطوم. لذا وعندما وجدنا أنفسنا في 25 ديسمبر وفي وسط سيل يشكله أكثر من 6000 متظاهر أغلقوا شوارع العاصمة الرئيسية لساعات يومها، من الطبيعي أن نقراء هذا اليوم و نسجله في ذاكرتنا كحدث مهول.

ما حدث من تضاعف في حجم التظاهرات يمثل ظاهرة كانت قد تكررت في الاحتجاجات السابقة، إذ دائماً ما شهدنا نقلات نوعية في حجم الاحتجاجات مع ظهور أجسام “لا حزبية”، رأينا ذلك مع ما سمي بالحركات الشبابية في احتجاجات 2012 يونيو-يوليو، مما يوضح رفضاً جماهيرياً للطبقة السياسية الحالية. يمتزج هذا الرفض مع غياب التنظير السليم عن أسباب و مبررات الشقاق مع النخبة الحاكمة و انفصال مصالحها بل وتضادها مع مصالح الجماهير، فيتحول رفض الطبقة الحاكمة إلى أهزوجة اللا-حزبية التي انتشرت وما زالت تهيمن على الساحة السياسية. لسان حال الجماهير كان يردد “الأحزاب فاسدة و نبحث عن أجسام لا حزبية نناضل تحت قيادتها”، في هذه المرة، الوضع الاقتصادي في أسوأ أحواله، أعداد الغاضبين في أقصاها، ظهر تجمع المهنيين وأعلن الموكب في الوقت المناسب ووجد نفسه في قيادة حراك كبير.

واصل التجمع إعلان المواكب وفي يوم 1/1/2019، ذكرى الاستقلال، نشر التجمع إعلان الحرية و التغيير، و الذي يطالب بالتنحي التام للبشير و نظامه دون قيد أو شرط و حكومة انتقالية لمدة 4 سنوات تقوم ب 9 مهام، …الخ. ظهر الإعلان موقع من قبل 4 جهات هي: 1: تجمع المهنيين، 2. نداء السودان و هو تحالف يضم حزب الأمة، الحزب الطائفي بقيادة الصادق المهدي، رئيس الوزراء قبل انقلاب 89، حزب المؤتمر السوداني، و الجبهة الثورية التي تضم عدد من حركات الكفاح المسلح، 3. الإجماع الوطني و هو تحالف يضم الشيوعي والبعث و غيرهم. و نداء السودان والإجماع الوطني كما ذكرنا سابقا هم أبناء نفس النخبة المحافظة بدرجات مختلفة، و لكن بشكل عام نُمايز بين نداء السودان و الإجماع الوطني مؤخراً بموقفهم من الهبوط الناعم أو مشاركة و إصلاح النظام بدل إسقاطه. مفردة الهبوط الناعم تعود في السياق السوداني إلى خطة “الطريق إلى الحوار الوطني” التي قدمها المبعوث الأمريكي إلى السودان برينستون ليمان في العام 2013 طارحاً شراكة بين النظام الحاكم و المعارضة عبر حوارات و محادثات برعاية المجتمع الدولي بدلاً عن إسقاط النظام. أحزاب نداء السودان وحتى نوفمبر 2018 كانت قد دعمت المشاركة في انتخابات 2020 ضد البشير بينما طرح الإجماع الوطني إسقاط النظام بالانتفاضة الشعبية ورفض المشاركة. نرى هنا الفروقات الأساسية بين الجانبين، و نُذكِر انها في الحقيقة ليست فروقات مبدئية بينهم، فها نحن نرى قيادات الإجماع “الرافضة للهبوط الناعم” تجلس للتفاوض واقتسام السلطة مع المجلس العسكري، كما نرى قيادة المؤتمر السوداني من نداء السودان وقد تقمصت طيلة فترة التظاهر قيادتها للاحتجاجات والاعتصام رغم أنها قبل أشهر كانت تحاجج بعدم وجود مكون يسمى الجماهير و باستحالة الثورة ومنطقية المشاركة في الانتخابات!

المكون الرابع كان الحزب الاتحادي المعارض، والاتحادي هو الحزب الطائفي الموازي والمضاد لطائفة حزب الأمة وقد كان الاتحادي ذلك الوقت في تحالف مع حكومة البشير بينما الاتحادي المعارض على الجانب الآخر موقعاً على إعلان الحرية والتغيير.
ظهر الإعلان بهذه التوقيعات الأربع مفتوح للتوقيع، فوقعت عليه عشرات الأجسام المطلبية والفئوية والنقابات الموازية وطلبة الجامعات في أول أسبوع.

وظهر مسمى قوى الحرية و التغيير مدللاً على الموقعين على إعلان الحرية و التغيير و قادوا الحراك مع تجمع المهنيين بالتبادل و التوازي و الابتلاع الأميبي أحياناً. هنا أخطأنا في رأيي خطأنا الأول لأننا أغفلنا تحليل اللحظة!

رغم توقيع أكثر من 20 جسم على الإعلان في نفس يوم صدوره و اكتر من 100 جسم حتى الآن إلا أن القرار داخل قوى الإعلان بقي محصورا في الـ4 الأوائل، كان علينا أن نتوقف في لحظة ظهور هذا الوضع غير الديمقراطي و تداركه قبل أن نصل بعد شهور قليلة في أغسطس 2018 إلى وضع نجد فيه أن الغالبية حتى من الموقعين على الإعلان تعترض على تفاصيل -إن لم يكن مبدأ- الاتفاق السياسي مع المجلس العسكري ولكن الاتفاق يمر و يتم توقيعه لان القرار في الحقيقة بيد الـ4 الأوائل، كان علينا أن ننظر إلى ذلك الوضع المختل بما يستحق من نقد و تحليل وعمل. كان علينا أن ننظر أيضا إلى ماهية هؤلاء الـ4 و حقيقة انهم ممثلي ذات النخبة الاقتصادية و التاريخية الرجعية اليمينية الفاشلة. هذه النخبة الواضحة في تحالفاتها أعادت تأكيدها عندما وسعت طاولة القيادة لتضم إليها قوى المجتمع المدني و الحزب الجمهوري، لم تضم تفسح مكاناً إذاً لأجسام النازحين الأكثر هماً بقضية السلام أو ممثلي الأجسام المطلبية الأكثر تأثراً بمظالم الإنقاذ، ولكنها وجدت مساحة للقوى المدنية الحضرية الخرطومية ممثلي المنظمات وأحزاب البرجوازية الصغيرة.

وكان من الممكن إن ننظر أيضاّ إلى إعلان الحرية و التغيير لنجد أنه في أول مهام الحكومة الانتقالية يضع مهمة وقف الحرب بمعالجة جذور المشكلة السودانية ومعالجة أثآرها وإعادة النازحين وتعويض المتضررين أيضاً، وفي ذلك نقاط مهمة ومتقدمة فيما يخص تحقيق العدالة الانتقالية. ولكن يختم الإعلان هذه النقطة بعبارة “مع المحافظة على الحواكير التاريخية” و الحواكير، جمع حاكورة وهي قطع الأراضي المحكورة و المخصصة للقبائل. هذه الجملة اذاً تعني أن ننهي الحرب و نعوض الناس و كل الحاجات الكويسة ولكن مع المحافظة على الإقطاعيات القبلية، و التي تشكل جزء كبير من السبب في الصراع في دارفور كصراع حول ملكية الأرض و الموارد.تمسك كتبة الإعلان بالمصالح الاقتصادية التاريخية و الإقطاعية تكشف انحيازاتهم الاقتصادية للنخبة المالكة لوسائل الإنتاج أو المسيطرة. هذا الانحياز مبرر كالكثير غيره من انحيازات السلطة في السودان بما ذكرناه سابقاً عن تركة الاستعمار و الطبيعة النخبوية البرجوازية للفاعلين السياسيين فيه.

كان علينا أن نحلل وقتها هذه المشاكل الواضحة في إعلان و مكونات قوى الإعلان حتى نتفادى ما وصلنا له الآن، لكننا لم نفعل، وعليه فإن لتجويد التحليل السياسي وفتح النقاش حوله أهمية لا يمكن تجاهلها، يثبت جوهريتها واقع ما وصلنا له نتيجة هجر هذا النوع من التحليل.

قراءة الواقع السياسي بهذه الطريقة أيضاً توضح لنا كيف وصلنا إلى ما نحن فيه الآن، حتى في القضايا الصغيرة نسبياً كمسألة منطقة كولومبيا، و هي منطقة ضمن الاعتصام كانت قبله مكان لبيع الخمور البلدية و البنقو و المخدرات واستمرت كذلك أثناء الاعتصام، و كبرت وازداد عدد روادها مع مع زيادة رواد الاعتصام. كانت معظم محاولات الفض تأتي من جهتها ومعظم الإصابات تحملها الموجودين في هذه المنطقة. استخدم المجلس العسكري في مواجهة كولومبيا دوماً الأسطوانة المشروخة المعهودة و المزينة بكلمات الرذيلة و العادات الضارة و الإجرام و “تنظيف” منطقة كولومبيا، فلنتوقف عند الكلمة المستخدمة هنا “تنظيف”، النخبة ترى في المواطنين وسخ يجب تنظيفه! ساندت قوى الحرية والتغيير خطاب تنظيف كولومبيا فأصدرت خريطة لمنطقة الاعتصام توضح أن كولومبيا “خارج حدود الاعتصام” حسب تعبيرهم. تنظيف كولومبيا ما زال الذريعة التي يستخدمها المجلس العسكري لتبرير فضه اعتصامات القيادات العامة في 13 مدينة في السودان في وقت واحد، فالاعتصام لم يكن في الخرطوم فقط. و من هنا نرى خطورة هذا الخطاب المعبر عن انحياز القيادة السياسية لأخلاق البرجوازية و استعدادهم لسحق حق إنسان في الوجود لكونه وسخ يجب إزالته. كولومبيا بالنسبة للقيادة السياسية ليست أولوية فهم مستعدون للتخلي عنها -رغم كونهم لم يمتلكوها يوماً- مقابل مكاسب تفاوضية مع العسكر. في تتالٍ سيريالي للأحداث و بعد أن سوقت قوى الإعلان لخطاب “كولومبيا خارج حدود الاعتصام” و “كولومبيا لا تمثل الثورة”، استخدم العسكر نفس الخطاب لفض كولومبيا (وهي مساحة لا تزيد 500 متر مربع أسفل كوبري النيل الأزرق) ليفض اعتصامات السودان في 13 مدينة يوم مجزرة 29 رمضان بناء على ذات الخطاب.

نذكر هنا ايضاً ان اعتصامات المدن خارج الخرطوم و تظاهرات النازحين و الاعتصامات المطلبية في مناطق التعدين و المناطق الزراعية لم تحظى بأي قدر من التغطية إذا ما قورنت بتغطية اعتصام الخرطوم عبر صفحات التجمع و قوى الإعلان في وسائل التواصل الاجتماعي. حتى ان الناظر من الخارج قد يظن أن اعتصام الخرطوم هو الاعتصام الوحيد ونضال الخرطوم لا يوجد ما يشابهه في بقية البلاد. في هذه المفارقة تظهر مرة اخرى خيارات القيادة السياسية في الانحياز للمركز و أحداثه دون غيرها.

بالعودة لفترة التظاهر قبل الاعتصام و التي استمرت منذ ديسمبر و حتى السادس من أبريل، وقعت الكثير من الأحداث المهمة نذكر منها تكوين لجان الأحياء وإضراب اليوم الواحد وتكتيكات العمل الميداني و غيرها و لكن -وحتى بالنظر للكتابات و التقارير الإخبارية في هذه الفترة- كان العنوان الأكبر هو أن الثورة السودانية ثورة نسائية بامتياز. صور مبهرة لأفواج من النساء في الشوارع قدن التظاهرات والهتافات ومن ثم جاء الاعتصام و فترة ما بعد المجزرة وتراجعت الثورة النسائية إلى عدد من المناصب الوزارية والسيادية مخصصة للنساء، توجد هنا علامة استفهام كبرى عن الكيفية التي فقدت بها المرأة السودانية ثورتها(؟). فلنتذكر هنا تحليلنا السابقة لحالة التوجه نحو فكرة اللاحزبية كمجرد عرض لغياب تنظير وتحليل جيد يملك للجماهير أسباب تضاد المصالح بين الجماهير والقيادة السياسية، مما خلق بيئة خصبة لفكرة العداء القائم على قسمة (احزاب) مقابل (لا حزبيين)، فأصبح من يريد أن ينضم للفعل الثوري يبحث أول ما يبحث عن جسم “لا حزبي” يعمل معه أو تحت قيادته دون أي تحديد لي ماهية برنامج هذا الجسم أو توجهاته منتجاً كلمات ومفاهيم هلامية فضفاضة (مثل حركات شبابية). أرى أن مشكلة انعدام التحليل و التنظير السليم تبرز هنا مرة أخرى، فالمرأة السودانية خرجت ثائرة على وضع قاهر، هي مقهورة من قبل الدولة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وعندما خرجت لم تجد تنظير نسوي لقضاياها فاختفت وأصبحت مجرد أيقونة صورية وصور جميلة، نتيجة كارثية أخرى للكسل عن التحليل و التنظير في العمل السياسي والعام. من جهة ميدانية، كان الاعتصام نفسه قد تحول في وقت ما إلى مساحة غير مرحبة بالنساء، بدءً من تخصيص مداخل اصغر للثائرات إلى التساهل مع التحرش اللفظي، فعلياً تناقصت أعداد النساء في الاعتصام وفي ذلك مؤشر خطير، فالمساحات غير المرحبة بالنساء مساحات لا يمكن أن تنتج وضع ديمقراطي. بشكل شخصي و منذ أن اختبرت هذه التجربة وجدت نفسي قد طورت رفض و توتر “لا إرادي” من صور التظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات الخالية من النساء. ميدانياً علينا دوماً الانتباه لكيفية تعامل مساحات الاحتجاج والعمل السياسي مع النساء والفئات المقهورة عموماً كمؤشر لصحة وديمقراطية المساحة. خسرت المرأة السودانية مساحة مهولة اقتلعتها في هذه الثورة نتيجة لغياب التنظير ونتيجة للمناخات غير الصحية، فتحولت قضايا النساء إلى نسب تمثيل في البرلمان. وما علينا تذكره بالعودة مرة أخرى إلى مركزية الدولة الاستعمارية النخبوية وشكل توزيع الخدمات أنه لو أتي السودان ببرلمان 90% من نوابه نساء في هذا الوضع الحالي سيكن أيضاً من نساء نخبة مناطقهم اثنياً و اقتصادياً و تاريخياً. فهن في نهاية الأمر وفي أبسط تحليل من حظين بالتعليم و الامتيازات التي تمكنهن من ملء كراسي البرلمان. إذاً نسبة تمثيل المرأة زادت أو نقصت لن تعني تمثيل النساء المقهورات، فذلك غير ممكن علمياً ولا منطقياً، الممكن بالمقابل هو وضع سياسات تمثل مصالح النساء المقهورات (أو ما أسميناه سابقا التحليل النسوي لقضاياهم) و أن يتم الدفع بهذه القضايا حتى نصل إلى مرحلة من توفير الفرص و الحياة الكريمة للنساء تعني انه عندما نتحدث عن تمثيل نسوي لن يكون محصوراً في نساء الطبقة المتوسطة والعليا و النخبة التاريخية. من سيقوم بدفع هذه القضايا و البرامج؟، لابد من أن تدفعها مكونات النخبة نفسها، فهم من يمتلكون الأدوات، وعليه يجب عليهم ممارسة الانتحار الطبقي بدعم قضايا تنتقص من امتيازاتهم التاريخية لمصلحة المجتمعات المقهورة وفي هذه الحالة النساء المقهورات بالتحديد، وعلينا أن نكون واعين لأهمية هذا الدور، لأن علينا الآن استخدام امتيازاتنا لتحطيم امتيازاتنا وهي مهمة تحتاج لدرجة عالية من الوعي النقدي والعمل الفكري المستمر.

كما اختبرنا و رأينا، يؤدي انعدام الرؤية و البرنامج إلى تحول القضية النسوية لهزل على مذهب وكالات الأمم المتحدة، يحصر الأمر في عملية تصحيح أرقام: عدد 2 نساء في السيادي، عدد أربع وزيرات، حتى أصبحت نقطة النقاش في لقاءات المنظمات العالمية العاملة في السودان: 4 رقم بسيط و كنا نتمنى زيادة عدد الوزيرات(!). و كأنما العدد ده هو الهدف وليس السياسيات ولا نسبة توزيع الميزانية بين الخدمات المقدمة للرجال و النساء مثلا ولا غيره مما سيؤثر على حياة أغلبية السودانيات و السودانيين. هذا اذاً ما حدث لثورة المرأة السودانية في شهور من البطولات في الشوارع و من ثم التحول إلى عدد وزيرات في الحكومة.

تحدثنا إذاً عن بدايات التظاهر، عن بعض اللحظات المفصلية في انحيازات القوى السياسية، من فترة التظاهر وحتى الاعتصام كقصة كولومبيا وغيرها مما أوصلنا إلى يوم الفض، ولكن قبل مجزرة فض الاعتصام مررنا بحدث مهم جدا ألا وهو الإضراب السياسي العام في 28 و29 مايو قبل 5 أيام من المجزرة.

أغلق الإضراب البلد بشكل كامل، الميناء، المجال الجوي، المدارس، البنك المركزي، المعدنين الأهليين في الصحراء، المحلات التجارية، حتى أن الهندي عز الدين، رئيس مجلس إدارة صحيفة المجهر و الموالي لنظام الإنقاذ كتب مقالا عن فشل الإضراب و لكن مقاله لم ينشر نتيجة للمشاركة الواسعة لعمال المطابع في الإضراب، حيث لم تصدر أي صحيفة في ذلك اليوم.

أضرب عمال الكهرباء واعتقلت قوات الأمن والدعم السريع عدد منهم فهددوا بقطع الكهرباء من كل المرافق الأمنية إن لم يتم إطلاق سراح زملائهم فوراً، و قد كان. انتصر عمال الكهرباء يومها على كافة أجهزة الدفاع و الأمن السودانية. كان الإضراب عظيم و كان المطلب سلطة مدنية كاملة و تسليم سلطة فقط لا شراكة.

ولكن الوصل إلى إعلان هذا الإضراب تطلب جهاداً ضد القيادة السياسية التي امتلكت لسان الثورة في وقتها وحق اتخاذ القرار الذي منحناه لها نحن كجماهير بعدم نقدنا لتركيبة قوى الإعلان وحصرها لاتخاذ القرار في الـ4 الكبار كما ذكرنا سابقاً. في ذات الوقت سيطر خطاب التمسك بوحدة المقاومة على الساحة، وعليه فإن أي محاولة لإعلان عمل احتجاجي من منفَذ غير عبر قوى الإعلان و صفحة تجمع المهنيين كانت تقابل باتهامات التخوين ومحاولات “شق الصف”. كتمت إذاً، لقد خلقنا هذا الوحش المسمى بقوى الإعلان عندما انسحبنا عن نقده، فلم يكن أمامنا سوى أن “نطبطب عليه ونداديه” و نترجاه ليعلن لنا إضرابنا. وصل الأمر في الأسبوع الثاني و الثالث من مايو 2019 لدرجة إصدار جهات و نقابات موازية لبيانات تعلن فيها استعدادها للإضراب “في حال أعلنه تجمع المهنيين”، كانت هذه الأجسام إذاً ما زالت متمسكة بوحدة قوى المقاومة و كانت إعلاناتها هذه تعبر عن أقصى ما يمكن فعله من داخل هذا المفهوم الجامد للوحدة بهدف دفع التجمع لإعلان الإضراب.

بعد جهد جهيد اعلن التجمع فتح باب التوقيع على دفتر الحضور الثوري للإضراب، أي أنه يطلب من الكيانات المهنية والنقابات إعلان حضورها أو التزامها بالحضور و المشاركة في الإضراب. و لكن الإعلان جاء خاليا من ذكر تواريخ الإضراب الموعود. نستنتج من ذلك أن هذا الإعلان عن فتح دفتر الحضور الثوري هو ليس إعلان هدفه الأول أن تقوم الكيانات المهنية بتجهيز نفسها وعضويتها لإنجاح الإضراب بقدر ما هو إعلان ربما لتخويف العسكر. الإضراب هنا و في عقيدة من أعلنوه هو إذاً مجرد كرت تفاوض و ليس وسيلة مبدئية للطبقة العاملة.

تباينت المواقف من إعلان الإضراب، حزب الأمة رفض الإضراب في البدء بحجة انه لن ينجح و عندما نجح في اليوم الأول أصر على رفضه دون أسباب أذكرها. و في ذلك موقف منطقي لحزب طائفي قيادته تعتمد في ثروتها و امتيازاتها التاريخية على وضع شبه إقطاعي من علاقات الإنتاج. من الطبيعي أن يرفضوا إضراب عمالي يقلب موازين القوى بين العاملين و أصحاب العمل إذاَ.

الحزب الشيوعي كان متحمسا جدا للإضراب حتى طاله اللوم لاحقاً من بعض القيادات السياسية، بحجة انه كان “يعمل من أجل إنجاح الإضراب أكثر من عمله لإنجاح التفاوض”. و كأن في ذلك ما يلام عليه أو ما يسيء!، فحتى براغماتيا و ما زال الإضراب وسيلة لترجيح كفة الجماهير و تحسين موقفها التفاوضي فما المبرر لمحاولة إنجاح التفاوض قبل الإضراب والوصول إلى مكاسب أقل اذاً؟

المبرر هنا موجود داخل طبيعة هذه القيادات اليمينية الرجعية، والتي تجعل من المنطقي أن يتفادوا تفعيل أدوات تُكسِب الجماهير قوة مستقلة تستخدمها لمصلحتها، وعليه ستستخدمها ضدهم ولو بعد حين. أما الحزب الشيوعي فهو على يسارهم قليلاً، يدعم الإضراب ولكن إضراب محدد بزمن، يومين، يخيف العسكر قليلاً دون أن يكون إضراباً مفتوحاً يُظهِر للطبقة العاملة قوتها الحقيقية (أو ما يسمونه بالفوضى).

بالنظر لهذا الوضع نستنتج أن رفض القيادة السياسة التوجه نحو إضراب مفتوح بعد نجاح إضراب يومي 28 و29 مايو، وكذلك رفضها للاستمرار في العصيان المفتوح بعد مجزرة الفض، إذ أنجح الشعب السوداني عصيان عام لـ3 أيام و كان يمكن أن يتحول إلى إضراب مفتوح و كان العالم بأجمعه يدين المجلس العسكري بعد المجزرة، و كان هناك مساحات كبيرة جدا يمكن أن تكسبها القيادة السياسية لنفسها إلا أنها آثرت أن تتقاسمها مع العسكر، نستنتج أن هذا الرفض منطقي جداً بل ولا يمكننا توقع أي تصرف مخالف من هذه القيادة. فتفضيل القيادة السياسية “المعارضة” التفاوض والتحالف مع جنرالات البشير للحفاظ على النظام القائم، تفضيلهم لذلك على التحالف والعمل على عصيان صغار الجنود، هذا التفضيل ليس نابع من كسل فكري وعملي فقط بل أيضا من اختيار مبدئي قائم على توجهات نخبوية برجوازية تسعى إلى الحفاظ على وضع امتيازات طبقتها. لا يمكن تبرير ذلك بموازنة قوة السلاح لدى العسكر إلا أن تناسينا أن بين القوى العسكرية من أنفت قوى إعلان الحرية و التغيير التحالف أو التضامن معهم، نذكر ضمن ذلك و بعد اشهر من أيام الإضراب و عقب تشكيل الحكومة، ما حدث من تسريح الجيش لصغار الضباط و الجنود ممن تضامنوا مع الثوار. كان أن وقفت الجماهير تضامناً مع جنودهم المخالفين لأوامر أصحاب السعادة فخرجت المواكب “لرد الجميل” و بقيت قوى إعلان الحرية والتغيير بجانب الجنرالات. هنا ظهر تحالف القيادة السياسية مع القيادة العسكرية جلياً كما ظهر تحالف الجماهير وصغار الضباط والجنود في مشهد تضامن طبقي لا يمكن إنكاره.

عقب مجزرة الفض انتشار لأحداث العنف في الشوارع و إرهاب للمواطنين استمر لأيام بعدها في الكثير من مدن السودان وانقطع الإنترنت وانتشرت المظاهر الأمنية. كانت هناك دعوات قبل الفض إلى تسيير مواكب مليونية يوم 30 يونيو أي في ذكرى انقلاب الجبهة الإسلامية الذي أتي بعمر البشير. كانت الدعوة قد صدرت من أفراد من المعتصمين وقد كان المقترح بتسيير المواكب من ساحة الاعتصام نحو القصر الجمهوري للمطالبة بالسلطة المدنية الكاملة. تواصلت الدعوة بعد انقطاع الإنترنت، فكبرت و نمت بفعل عمل ونضال لجان المقاومة في أقسى أوقات بطش النظام. نذكر هنا أن حزب الأمة رفض قيام هذه المليونية بحدة وصلت إلى مرحلة التهديد بجلوس الأمة مع العسكر والاتفاق معهم منفرداً إذا ما تبنت قوى الإعلان الدعوة للمليونية، هذا الموقف الحاد من حزب الأمة يأتي كنتيجة طبيعية لوصول الشقاق بين الجماهير والسلطة إلى مرحلة لا يستطيع معها حزب الأمة الحفاظ على وجوده سوى بالتحالف المفضوح مع السلطة ضد رغبة الجماهير وقراراها. لم يستطيع حزب الأمة رغم ذلك كبح إرادة الجماهير. ورغم تأخر قوى الإعلان عن تبني المليونية والدعوة إليها إلا أن إرادة الجماهير كانت أقوي. كان التواصل والإعلان للمليونية يتم بالكتابة في الجدران و القصاصات و المنشورات و الرسائل النصية. أذكر فيما أذكر في 29 يونيو والذي كان أخر يوم عمل لشركة “كريم” في السودان حيث كان قد تم شراؤها من قبل شركة أوبر الأمريكية و التي لا تعمل في السودان نتيجة للعقوبات الأمريكية، في هذا اليوم وصلت رسالة نصية من شركة كريم لكل عملائها تدعوهم للمشاركة في مليونية 30 يونيو “لإسقاط المجلس العسكري الانقلابي”. كانت هذه الرسالة في الأغلب مخاطرة من موظف أرسلها و اغلق المكتب، لكن بعد المرور بـ”مجزرة” تتغير نظرة الناس للمخاطر وتعريفهم لها. بطولات وتكتيكات كثيرة أدت إلى نجاح مليونية 30 يونيو تحت قمع حكم المليشيات المباشر لمعظم المدن، فكانت مليونية مهولة من صنع 7 مليون متظاهرة و متظاهر في شوارع السودان المختلفة من العاصمة إلى مخيمات النازحين.

و لكن وكما هو متوقع ومكرر ومفهوم آثرت القيادة السياسية العودة للتفاوض بدرجات مختلفة، تفاوض مباشر أو غير مباشر، وضع شروط ثم العودة للتفاوض دون تحقق الشروط. في تكرار ممل للفشل و نتيجة لأولوية الحفاظ على الوضع الحالي والإصلاح من داخله في أكثر الأفكار راديكالية بالنسبة لهذه القيادة السياسية، لم يستطيعوا تخيل طريق غير التفاوض مع العسكر ومقاسمتهم السلطة. و هو نفس الطريق الذي سلكوه في انتفاضة 1985 ضد نميري و انتج لنا ثورة بلا مكتسبات، فالتغييرات كانت لحظية واستثنائية دون تغييرات حقيقة في النظام تؤدي إلى بقاء الحقوق المكتسبة من نتاج الثورة بعد زوال الوضع الاستثنائي. لقد اختبرنا ذلك في التاريخ القريب وقبل حوالي 15 سنة بعد توقيع اتفاق السلام بين حكومة البشير والحركة الشعبية لتحرير السودان وقبل الاستفتاء على استقلال الجنوب. أتي ذلك الاتفاق بفترة انتقالية شملت بعض من الازدهار الاقتصادي للطبقات الوسطى والعليا والقليل من الحريات الليبرالية ومساحات تعبير نتيجة لوضع انتقالي استثنائي، وبمجرد نهايته وما عقبه من استفتاء واستقلال الجنوب، صرح البشير وقتها أن السودان اصبح بهذا بلداً مسلماً خالصاً لا حوجة فيه لحديث العلمانية والتعددية. فترة انتقالية و بانتهائها انتهى الظرف الاستثنائي وعدنا أسوأ مما كنا. و كذلك كانت 1985 وكذلك ستكون 2019 وأي حراك أن لم يُحدِث تغييرات في أشكال التنظيم في المجتمع بحيث تُغيير شكل العلاقة بين الجماهير والسلطة بشكل مستدام وليس استثنائي. عندما ننظر إلى الكيانات التي فككتها الإنقاذ في فترة حكمها من نقابات و اتحادات طلبة و أحزاب نجد أنها قد فككتها بسهولة نسبية في أول سنينها. على الجانب المقابل بقيت بعض التعاونيات الزراعية التي أُقيمت في زمن نميري في السبعينات موجودة وفاعلة حتى بداية الألفينات. تأتي قدرة هذه التعاونيات على البقاء من كونها مبنية على شكل تنظيم مجتمعي اقتصادي قوي لا يتفكك بقرار أو تغيير قانون. إذا لم نغير نهج التغيرات الاستثنائية سننتج لا محالة للمرة الثالثة في تاريخ السودان ثورة دون أي مكتسبات. فحكومة الصادق المهدي حين انقلاب الجبهة الإسلامية في 1989 عليها لم تجد حتى سند جماهيري يرفض الانقلاب العسكري، ومن الممكن جدا أن يتكرر نفس الأمر مع الحكومة الحالية، فالجماهير إن لم ترى مصالحها تتحقق من خلال الحكومة لن ترى فيها حكومة تستحق الدفاع عنها.

بعد مليونية الـ30 من يونيو دخلنا مرحلة العودة للتفاوض وما تخللها من تجاذبات و لقاءات و توقيعات خرجت بنتائج لا يمكن تحليلها دون استصحاب -كما كررنا مراراً- بنية الدولة الاستعمارية في الجهتين، الجيش كامتداد لقوة دفاع السودان الاستعمارية و القيادة السياسية كنتيجة وسليلة امتيازات الاستعمار وما بعد استعمار والمتبنية لوجهة نظر نخبوية مشابهة للنظرة الاستعمارية.

من النقاط المهمة في هذه التجربة عامل التدخل الخارجي وأثره. نلاحظ في كل ثورات المنطقة أن لحظات التدخلات الخارجية لحظات فارقة، سواء جاءت هذه التدخلات على شاكلة بيان من الخارجية الأمريكية أو رعاية تفاوض أو حتى تدخل عسكري، وهذا أمر واضح للجميع. بالمقابل ورغم علمنا بأن لحظة التدخل الخارجي تعتبر لحظة تصعيد في الحراك لم نخلق أو نكتسب كجماهير أدوات مقابِلة لمواجهة هذا التغيير و التصعيد.
في اللحظة التي يتحول الحراك فيها من مرحلة جماهير تلتقي بمليشيات الدولة في الشوارع إلى مرحلة دول تلتقي بدول لتحديد مستقبل دول -ربما أخرى-، كيف يمكننا كجماهير أن نحافظ على كرسي في طاولة القرار؟ كيف نحافظ على أهميتنا في الحراك؟ أرى في هذه الأسئلة نقاط مهمة علينا التفكير فيها على مستوى العمل الميداني والاستراتيجي واختراع الأدوات. وعلينا هنا أن لا نقيد أو نحصر تفكيرنا، و يشمل ذلك كل الأفكار “الحالمة” على شاكلة ما افكر فيه أحيانا من إضرابات إقليمية عابرة للحدود؛ فكرة حالمة نعم، ولكن منطقيا إذا كانت الدول تتهافت لإنقاذ أنظمة بعضها فكيف لنا أن نتخيل أن يهزم شعب واحد حكومات عدة؟ علينا إذاً السعي لأن نكون شعوب عدة في مواجهة الحكومات العديدة و إن كانوا قادرين على نقل التفاوضات والترتيبات السياسية عبر الحدود فنحن كذلك قادرون على نقل الاحتجاج والثورة عبر الحدود. ربما نرى يومًا ما إضراب موحد بمطالب موحدة عبر دول القرن الأفريقي، ومطالب موحدة لإضراب عام في حوض البحر الأبيض المتوسط، ربما(!)، المؤكد هنا أنه علينا اختلاق تكتيكات جديدة لمواجهة لحظات التدخل الخارجي هذه.

حدث ما حدث من تفاوض اذاً، بتدخلاته الخارجية والضغوط و العمالة وإخفاء الحقائق وغيره. وخلصنا في النهاية إلى الوضع الحالي، مجلس سيادي من 6 مدنيين و5 عساكر (هم المجلس العسكري نفسه)، مجلس وزراء يعين وزير دفاعه وداخليته العساكر والبقية اختارتهم قوى الحرية والتغيير ومجلس تشريعي مؤجل حتى الآن وكان قد قيل أن الإعلان عنه سيتم في 31 ديسمبر 2019، و ها نحن في بدايات ابريل من العام 2020 ولم نرى أو نسمع عنه شيئاً. نذكر ايضاً هذا الوضع والحكومة التنفيذية الناتجة عنه لم يجدوا رفضاً من ممثلي النظام السابق، بل ووجد رئيس الوزراء عبدالله حمدوك و حكومته الإشادة من غندور، و لم يتغير موقف الإسلاميين من الحكومة الحالية الا بعد صدور قانون تفكيك التمكين، فكانت اول تظاهرة دعوا لها ضد الحكومة بتاريخ 14 ديسمبر، أي بعد أسبوعين من إجازة القانون. يتضح من ذلك أن تشكيلة الحكومة وطبيعتها لم تشكل تهديداً يذكر للإسلاميين فلم يضطروا لرفضها إلا بعد ظهور التهديد المباشر لمصالحهم الاقتصادية و مؤسساتهم و مواقعهم فيها كأفراد.

الآن و بعد أن فككنا ما نعنيه بالسودان ممثلاً في الغالبية الأقل حظاً من مكوناته و ساكنيه، وعرّفنا نجاح الثورة بإعادة صياغة العلاقة بين هذه المكونات والسلطة بشكل يمنع استمرار استغلالها وقهرها مؤسسياً، ونظرنا إلى أحداث الثورة والفاعلين السياسيين فيها ومواقفهم وانحيازاتهم المختلفة من هذا المنظور، تبقّى إذاً أن ندلف إلى موازنة المكاسب والخسائر في ميزان هذه التعريفات لنجيب على سؤال انتصار الثورة السودانية أو هزيمتها.

تفاصيل كثيرة يمكن أن توضح ميزان القوى في هذه الحكومة، يمكننا النظر إلى الوثيقة الدستورية مثلا لنرى أن إصلاح المؤسسة العسكرية متروك للمؤسسة العسكرية وهو ما لا يمكن وصفه سوى بكونه نكتة بايخة، فلو كانوا منطقيا قادرين أو راغبين في إصلاح مؤسستهم لفعلوا ذلك في 30 عام من حكم الإنقاذ أو حتى في 70 عام منذ الاستقلال. و نتذكر هنا عزوف القيادة السياسية عن التحالف مع صغار الضباط والجنود المنحازين للثورة والذين يمثلون مفتاح الإصلاح الحقيقي للمؤسسة، القيادة السياسية اختارت التحالف مع قيادات الجيش التي تكمن مصالحها في إبقاء شكله الحالي و رفض الإصلاحات الجذرية. يمكننا النظر أيضاً إلى قيادة حميدتي قائد قوات الدعم السريع لمفاوضات السلام، أو إلى الوثيقة الدستورية التي أعطت العساكر سلطة اختيار أعضاء مفوضيات السلام و الانتخابات و الحدود و الدستور، مما يوضح أن أدوات عنف الدولة في الجيش و الشرطة ما زالت في يد العسكر و كذلك أهم القرارات المتعلقة بصنع السلام والدستور وغيره.

تفاصيل عدة يمكننا التطرق إليها لقياس و موازنة مكاسب وخسارات الثورة السودانية، فالبشير مثلاً سقط ونظامه ما يزال قائما، فهل انتصرنا أم انهزمنا؟، الإسلاميين خارج الحكم ومصالحهم الاقتصادية ما زالت مستمرة، وسؤال النصر أم الهزيمة يعود الينا، إلا أنني أرغب بتوجيه النظر إلى حدث معين نجري من خلاله هذه الموازنة لقراءة وضعنا الحالي. فلننظر إلى ما حدث في منطقة تالودي الغنية بالذهب في جنوب غرب السودان، و في هذه المنطقة نظم السكان اعتصام لرفض عمل شركات الذهب في منطقتهم لكونها تلقي بمخلفات السيانيد غير المعالجة في مناطقهم مما يؤدي إلى أضرار صحية و أمراض تصيب الإنسان والحيوان والزرع والبيئة بشكل عام. نتيجة لاعتصام استمر 4 أسابيع و تظاهرات وأعمال احتجاجية كثيرة تمكن مواطني تالودي من الحصول على أمر بإغلاق شركات الذهب، و لكن رفضت شركات الجنيد والسنط وابرسي الامتثال للقرار، و يجدر بالذكر هنا أن شركة الجنيد مملوكة لقوات الدعم السريع وقائدها حميدتي. رفضت الشركات إغلاق مصنعها فتحرك السكان في موكب نحو المصانع -بعد تقديم مذكرة للجيش و إمهاله 48 ساعة لتطبيق القرار و إغلاق المصنع-، و هناك أمام مصنع الجنيد تعرض لهم جنود الدعم السريع بالذخيرة الحية. كان ذلك في 3 أكتوبر 2019، أي بعد أقل من شهرين من توقيع الوثيقة الدستورية وتشكل الحكومة “المدنية”. في مساء نفس اليوم أصدر المجلس السيادي بيان قرأه ناطق عسكري باسم المجلس في شاشة التلفزيون القومي قبل منتصف الليل بدقائق. أدان البيان الاعتداء على المصنع وعدد ممتلكات المصنع التي تم حرقها وتخريبها من قبل “مجموعات مسلحة” حسب بيان المجلس. هنا إذاً و في قضية واضحة جدًا وضعت صحة الناس مقابل ذهب حميدتي، كان خيار الحكومة ممثلةً في مجلسها السيادي الاصطفاف مع مصالح حامل المال والسلاح مقابل هدر فرص العدالة للأغلبية المتضررة والمسحوقة من أجل مراكمة أموال آخرين. أدان المجلس السيادي اعتداء المواطنين على شركات الذهب دون أي ذكر لسنوات من اعتداءات وانتهاكات هذه الشركات لحقوق المواطنين وصحتهم.

لا يوجد تغيير في العلاقات بين الجماهير و السلطة إذاً، ما زالت السلطة في حماية ذات الجهات المسيطرة بامتيازاتها وثرواتها في عهد النظام السابق على حساب مصالح ذات الجهات المقهورة منذ عهد النظام السابق.

في مناطق مجاورة استطاع المعدنيين الأهليين باحتجاجهم إلغاء إتاوات و رسوم غير منطقية تفرضها عليهم الدولة دون خدمات، وهذا كما أثبتنا سابقاً انتصار استثنائي، ولكننا لم نوجد شكل علاقة جديدة لملكية الناس للأرض والثروات القومية قادرة على حل أنظمة الإتاوة ولم نوجد علاقة و أداة جديدة بين المعدنيين الأهليين وأصحاب الأرض والسلطة تضمن قدرتهم على مواجهة عنف الدولة الاقتصادي أو حتى المسلح وتمنحهم مساحة للمشاركة في اتخاذ القرار. لم نخلق علاقات و أشكال تنظيم تدعم استدامة المكتسبات الاستثنائية. وما زالت المكتسبات استثنائية لا يمكننا عدها في قائمة الانتصارات، و لكننا نرى في كل ما لم نحقق (بعد) مجموع الخطوات وخطة العمل لنضالنا القادم و المتواصل.

فعلى صعيد آخر ما زالت الكيانات المقاومة قادرة على التأثير على القرار السياسي وإجبار مراكز السلطة على مراجعة الميزانية، أو إصدار التوضيحات، أو التراجع عن التعيينات المعيبة. بالمقابل تتواصل محاولات تدجين هذه الكيانات بوضع قانون يحكم عمل لجان المقاومة ويحصره في العمل الخدمي، أو تعطيل قيام الجمعيات العمومية للنقابات المهنية واستبدالها بلجان تسيير مُعينة. هذا التأرجح بين اكتساب أجسام المقاومة لمساحات جديدة وبين محاولات السلطة تدجينها هو في الحقيقة ديدن العمل الثوري المستمر، فالثورة السودانية وإن كانت لم تنتصر بعد، إلا أنها ما زالت قادرة الخروج من دائرة العودة من كل ثورة دون أية مكتسبات. أجسام المقاومة السودانية قادرة في هذا الظرف الاستثنائي على العمل لبناء أشكال من التنظيم تتمسك بمكتسبات الجماهير وتبني العلاقة بينها على مستوى أعلي من حيث تشابك المصالح وتحليلها؛ مما سيؤدي لخلق جبهات مقاومة أقوي تمكننا أن نواصل المسيرة لنبدأ في قفزتنا التالية من خطوة اكثر تقدماً وبتحالفات اكثر جذرية و مبدئية.



#مزن_النيل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- بالأسماء.. 48 دول توقع على بيان إدانة هجوم إيران على إسرائيل ...
- عم بايدن وأكلة لحوم البشر.. تصريح للرئيس الأمريكي يثير تفاعل ...
- افتتاح مخبأ موسوليني من زمن الحرب الثانية أمام الجمهور في رو ...
- حاولت الاحتيال على بنك.. برازيلية تصطحب عمها المتوفى إلى مصر ...
- قمة الاتحاد الأوروبي: قادة التكتل يتوعدون طهران بمزيد من الع ...
- الحرب في غزة| قصف مستمر على القطاع وانسحاب من النصيرات وتصعي ...
- قبل أيام فقط كانت الأجواء صيفية... والآن عادت الثلوج لتغطي أ ...
- النزاع بين إيران وإسرائيل - من الذي يمكنه أن يؤثر على موقف ط ...
- وزير الخارجية الإسرائيلي يشيد بقرار الاتحاد الأوروبي فرض عقو ...
- فيضانات روسيا تغمر المزيد من الأراضي والمنازل (فيديو)


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - مزن النيل - هل انتصرت الثورة السودانية؟