أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - علا شيب الدين - الحاسة اللغوية السادسة















المزيد.....

الحاسة اللغوية السادسة


علا شيب الدين

الحوار المتمدن-العدد: 6530 - 2020 / 4 / 6 - 17:15
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


منذ مدة، كتبتُ في عجالة، عن حزب يمينيّ عنصريّ ومتطرّف في ألمانيا، مستخدمةً كلمة "صعود"، متأثرةً بشكل لا شعوري بالطريقة الشائعة التي يُعبَّر بها عادةً عن ظهور ذلك الحزب. عدتُ وحذفتُ ما كتبت، متسائلة: كيف للعنصرية أن "تصعد" أو أن تكون "صاعدة"؟! ذلك أنها السقوط المدوّي في هاوية مسدودة.
هَب أنك تتصفح في جريدة تتبنّى موقفاً معارضاً لنظام الأسد، وتقرأ فيها على سبيل المثال، عنواناً عريضاً كالآتي: "دمشق تنفي وجود محرقةِ جثث بالقرب من سجن صيدنايا". تُرى ما السؤال التي يراودك مباشرة أثناء قراءة هذا العنوان؟ أعتقد أنه سؤال من شأنه أن يصنع صخبَ الكائن وسخطه، كالآتي: دمشق مَن ينفي، أَم السلطة التي تسيطر على هذه المدينة العظيمة؟!. هذا السؤال هو ما راودني فعلاً، يوم قرأتُ العنوان إياه، وهو الذي يقع خلف هذه المقالة.
قد لا يكون مقصوداً هنا ذِكر دمشق بوصفها تنفي الجريمة عن سلطة معروفة بارتكابها الجريمة المنظَّمة، وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، لكن ثمة حاسة لغوية ضعيفة هنا أو معدومة يغيب مع غيابها الحس النقدي السليم الذي لا بد له وأن يرافق اللغة دوماً قولاً وكتابةً، ذلك أن على الكلمة هنا ألا تنفصل عن معناها، لأن ثمة صلة روحية بين الدال والمدلول، بين المعنى والمبنى، ينعكس الواحد في الآخر ويتغذّى منه.
ربما اعتقد مَن صاغ ذلك العنوان، أنه إذ يكتب "دمشق تنفي...."، فإنه يكون بذلك صاحب خطاب رسميّ وجدّي رصين! شأنه في ذلك شأن صاحب كل خطابٍ مشابِه، لا يسعفه حسّه اللغويّ والنقديّ من أجل الفصل بين المدائن والبلاد وبين الأشخاص والسلطات التي تحكمها أو تسيطر عليها بالقوة. إنه خطاب لا يختلف عن خطاب "سورية الأسد" ويفرض "ماصَدَقاً" ما على كلمة ما أو مفهومٍ ما فرْضاً. ينسحب هذا الكلام على الكثير من التعبيرات التي تقسر اللغة وترغمها على ألا تشبه معناها، كأن يُقال عن وفد خاص بالنظام: "زار وفد رفيع المستوى هذه الدولة أو تلك"، في حين يكون هذا الوفد هو وفد من مجرمين وقتلة، فأين الحاسة اللغوية النقدية السليمة هنا حين يُوصَف بـ"المستوى الرفيع" ما هو وضيع وشنيع؟! وأين الحاسة اللغوية النقدية السليمة حين يجري الحديث عن مسؤولٍ ما عن زعزعةِ الأمن وتخريبه بوصفه "مسؤولاً أمنيّاً"، أو حين يجري الحديث عن ديكتاتور ميّت، اغتصبَ السلطة وحكم البلاد وطوّقها بالحديد والنار، بوصفه "الرئيس الراحل"، أو حين يُقال عن امرأة نائبة في برلمان ما:"نائب"، كأنَّ المرأة لا يمكن أن تمثّل شريحة من الناس في برلمان إلا بوصفها رجلاً!.
****
مرَّ معي في كتابٍ يتحدث عن تاريخ أوروبا، في أكثر من موقع عبارة "الحرب العظمى الأولى"، والمقصود بها الحرب العالمية الأولى!. في الحقيقة، يمكن لعملٍ أدبي خالد أن يكون عظيماً، ويمكن لمدينة أن تكون عظيمة، ويمكن لثورة حرية وكرامة أن تكون عظيمة...إلخ (ولا آخِر)، لكن أين "العظَمة" في حربٍ قذرة؟! أين الحاسة اللغوية أو الحس النقدي هنا؟!. على سيرة الحرب العالمية الأولى، يمكن الحديث هنا عن واحدة مما تمخَّضت عنها تلك الحرب، أي "عصبة الأمم المتحدة"، لنلقي الضوء على مفردات من قبيل: "عصبة، عصابة، عُصاب". تلك "العصبة" التي لم تستطع منْعَ اندلاع حربٍ عالمية ثانية شكلت هزيمة كبرى للإنسانية والأخلاق. حربٌ عالمية ثانية تمخضت عنها "أممٌ متحدة" و"مجلسُ أمن"، لم يستطيعا بدورهما منْعَ كوارث بشرية في الأصقاع. وانطلاقاً من تسمية "مجلس الأمن"، نسأل: أين الأمن والأمان في عالمنا اليوم، خصوصاً مع استمرار المجزرة في سوريا؟!.
يحدث كثيراً أن نقلّب صفحات معفَّرة بغبار كلمات جرى تشويه مدلولاتها، فنغلقُها منطفئي الملامح، كأن يُوصف أيضاً ومثلاً، ما يجري في غوطة دمشق الشرقية مؤخَّراً بـ"أسوأ أنواع العنف" لا بالإبادة الجماعية الحقيقية. أما ما يُكرَّر على نحو آليّ ومقولَب، كمِثل "أصدقاء الشعب السوري" أو "استخدام السلاح الكيميائي، خط أحمر" وغير ذلك، فلا يندرج تحت الحاسة اللغوية النقدية الضعيفة أو المعدومة، إنما هو كذب فاضح وخداع وتضليل لغوي يقنّع الكلمات. لعلَّ المثال الأوضح هنا هو قول الرئيس الفرنسي ماكرون:" الأسد عدوّ الشعب السوري، وليس عدوّاً لفرنسا". ما يعني زعزعة "الصداقة" المزعومة، من أساسها مع هذا الشعب، عبر التخلّي عنه ليواجه وحده مصيراً مفجِعاً وأعمى!.
****
الحاسة السادسة هي قدرة خفيّة وعالية، مثلما هي فَهمٌ أبعد واستبصار الهاجس. إنها حدْس يتجاوز المحسوس. هكذا، فإن الحاسة اللغوية النقدية السادسة مطلوبة قولاً وكتابةً وفي أعلى حد من الرهافة، خصوصاً فيما يتصل باللغة الأم، إذ تشويه الابن للغته الأم يعني تشويه الوجوه في مرآةِ لغةٍ كهذه. إن زجَّ اللغة في معمعة التشوُّه، يحيلها لغة منكوبة ومكلومة وثكلى.
حين كنتُ في أحد مراكز اللجوء في ألمانيا؛ حدثتني امرأة من دير الزور، عن واقعة قالت لي إنها شاعت في أرجاء المحافظة، إذ سمعَ أحد عناصر تنظيم "داعش" الإرهابي أُمّاً تقول لابنها "والله لإدْبحَكْ"، فقال لها: "أتحلفين بالله كذباً؟ الآن يجب أن تنفّذي ما قلتِه"؛ فراحت ترجوه أن يعفو عنها وعن ابنها، وتقول له إنها لم تكن لتقصد. وبعد صدٍّ وردٍّ عفى العنصر عنها وانصرف. بصرف النظر عن صحة أو عدم صحة تلك الواقعة، نحن هنا في صدد إرهابٍ لغويّ استدعى إرهاباً واقعياً.
ربما ينبغي أن نتكلم ونكتب عند حافة المعرفة. عند الحافة القصوى التي تفصل ما بين الجهل والمعرفة. وأن نردم الجهل؛ يعني في معنى ما، أن نؤجّل القول والكتابة إلى الغد، أو أن نجعلهما ربما مستحيلَين، لنبدأ مجدَّداً، بعدما يكون كل شيء قد قيل أو كُتِب. للّغة قدرة التحليل والتدمير بقدر قدرتها على التكوين ولعب دور سريّ في القلب والعقل.
إن القول والكتابة ليسا موضوعيَّيْن ولا حياديَّيْن بالمطلق، ومهما حاول المتكلم أو الكاتب أن يكون موضوعياً وحيادياً حيال كلامه أو نَصِّه، لا بد وأن تحمل كلماته روحَه في هذا المعنى أو ذاك. لذا فإن اختيار مفردات معينة لتوصيف أو تفسير هذه الواقعة أو تلك، أو للتعبير عن الأحداث، لا بد وأن يتأثر بروح القائل أو الكاتب وبفكره ودرجة حسه النقدي واللغوي والشِّعريّ.
****
للّغة بوصفها كائناً حيّاً، قدرة عظيمة على الإنتاج كونها معبِّرة ومشيرة. إنها "فعل" إرادة وحرية. غير أن الإنتاج لا يعني التشويه ولا مسخ المعنى المعبَّر عنه، لتمسي اللغة جلموداً، أو كالحة وعديمة المعنى.
منذ فترة أيضاً، كنتُ مع امرأة ألمانية موظَّفة في مكتب، وكانت تحدثني عن امرأة عاملة في المجال الاجتماعي، سوف تساعدني فيما يخص حياتي الجديدة في ألمانيا، وبعد أن قرأتْ في عينيّ قلقاً؛ استلَّتْ قاموساً ألمانياً - عربياً، كنتُ أحمله في يدي، وراحت تقلّب في صفحاته. أشارتْ إلى أربع كلمات، وقالت لي إنه لا ضير في الانتباه إليها من أجل بناء تواصلٍ جيّد مع المرأة العاملة في الميدان الاجتماعيّ:(علاقة - شخصيّ- ثقة - كيمياء). أعتقد أنه ما كان لتلك المرأة أن تستعمل هذا الأسلوب الرشيق في العمل، لولا معرفتها العميقة ربما، بقدرة الكلمات وعبقها وإلهام اللغة وإنارتها.



#علا_شيب_الدين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأم العظيمة
- الشر إذ يتديَّن
- هكذا صرتُ سائحة حقاً!
- ومضتان عُشبيّتان
- الثورة والكتابة وحرية التعبير*
- ملفٌّ أُغلقَ ويُعاد فتحُه
- لن نبتسم في وجه الجريمة
- مفارَقتان
- الثورة السورية و - المجتمع المدني -
- النظام السوري.. من -العصابات المسلحة- إلى -القاعدة-..!
- السلطة السورية: بين خطّين متوازيين
- انتفاضة اللّغة..أم لغة الانتفاضة؟!
- الأصنام..إذ يحطّمها الوعي


المزيد.....




- لماذا تهدد الضربة الإسرائيلية داخل إيران بدفع الشرق الأوسط إ ...
- تحديث مباشر.. إسرائيل تنفذ ضربة ضد إيران
- السعودية.. مدير الهيئة السابق في مكة يذكّر بحديث -لا يصح مرف ...
- توقيت الضربة الإسرائيلية ضد إيران بعد ساعات على تصريحات وزير ...
- بلدات شمال شرق نيجيريا تشكل وحدات حماية من الأهالي ضد العصاب ...
- أنباء عن -هجوم إسرائيلي محدود- على أهداف في العمق الإيراني و ...
- قنوات تلفزيونية تتحدث عن طبيعة دور الولايات المتحدة بالهجوم ...
- مقطع فيديو يوثق حال القاعدة الجوية والمنشأة النووية في أصفها ...
- الدفاع الروسية: تدمير 3 صواريخ ATACMS وعدد من القذائف والمسي ...
- ممثل البيت الأبيض يناقش مع شميغال ضرورة الإصلاحات في أوكراني ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - علا شيب الدين - الحاسة اللغوية السادسة