أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جواد بشارة - الأسلوبية في السينما الغربية















المزيد.....



الأسلوبية في السينما الغربية


جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي

(Bashara Jawad)


الحوار المتمدن-العدد: 6512 - 2020 / 3 / 12 - 17:49
المحور: الادب والفن
    


مقدمة لدراسة سوسيولوجية كتبت سنة 1988 ونشرت في فصلية الثقافة الجديدة اليمنية الديموقراطية في العدد 2 يناير- فبراير-مارس 1989
https://vimeo.com/81983482
رابط فيلم " على آخر نفس" لجان لوك غودار
د. جواد بشارة

السينما فن مثير ومقلق وينطوي على مخاطر ومتعة في آن واحد. فطالما تعرف المشاهدون على شخصيات عاشت في ذكرياتهم وأحلامهم. أبطال ساحرون وبطلات فاتنات. الجميع يتميز بالجمال الاستثنائي الفريد والصفات الفيزيائية الخارقة. يعيشون مغامرات وأحداث وقصص ورحلات لا تحدث لأي متفرج في حياته العادية الفقيرة إلا نادراً. كرست هذه السينما التجارية الوهمية والتخديرية أسماءً لامعة جعلت منها نجوماً يتقمصها ويقلدها ويتماهى معها المتفرجون والمشاهدون في جميع أنحاء العالم.... كلارك غيبل وكاري كوبر وجون واين وجيرار فيليب وجيمس دين وداستن هوفمان وروبيرت دونيرو وآل باتشينو ومارلون براندو وغيرهم مئات من الرجال ، وهناك ريتا هوارث وبيتي ديفز وآفا غاردنر وآنا مانياني وصوفيا لورين وكلوديا كاردينالي وكاترين دونوف وبريجيت باردو وجين فوندا وغيرهن مئات من النساء ، وهذه مجرد عينات من أسماء خطرت على الذهن والذاكرة على عجالة على سبيل المثال لا الحصر وكلهم نجوم وذلك طيلة أكثر من قرن من عمر السينما.
ولكن بعد أن عانى العالم من حربين عالميتين مدمرتين ومر بأزمات اجتماعية واقتصادية وبكثير من الثورات الوطنية والاستقلالية والحروب التحريرية الوطنية وظهور الوعي الطبقي وتبلوره إثر انتشار الفكر التقدمي متجسداً بالنظرية الماركسية ومتأثراً بها، وتناولها لكافة قضايا الإنسان المعاصر، مقدمة للحلول الناجعة لأعقد قضايا الحضارة الحديثة ، وبعد حدوث أول ثورة اشتراكية في العالم وهي ثورة أكتوبر عام 1917 ، تغير وجه العالم وتخلخلت موازينه المادية والمعنوية والأخلاقية والفكرية والأيديولوجية ... هذا إلى جانب ظهور الثورة التقنية – التكنولوجية – وتطورها طيلة القرن العشرين والربع الأول من القرن الواحد والعشرين وعلى الأخص في مجال الصناعات الالكترونية وصناعات الأسلحة الفتاكة مما قلب المفاهيم السائدة ووضع الإنسان المعاصر أمام امتحان عسير واختيارات صعبة.
لم تكن السينما بعيدة عن هذه التطورات وهي ابنة الثورة العلمية ووسيلة التعبير الأخطر في القرن العشرين وما بعده. فكان أن جسدت السينما المعاصرة حالة الاغتراب في المجتمعات الغربية وعكست استلاب الإنسان الغربي أمام عبثية الحياة وفراغها في مجتمعاته المادية الرأسمالية وقدمت لنا أبطالاً عاديين لا يشبهون النجوم الأسطوريين في الماضي ولا يعيشون مغامرات خارقة وحياة مرفهة ولا يتمتعون بجمال آسر ولا يتميزون بصفات خارقة. قدمت أفلام الحقبة المعاصرة أشخاصاُ يشبهون رجل الشارع العادي أو ربة البيت أو الطالب والطالبة والعامل والعاملة والموظف والموظفة ورجل الشرطة والقانون والقضاء الخ.. يعيشون نفس المشاكل ويواجهون نفس الصعوبات ويشعرون بنفس القلق الذي يعيشه ويعاني منه المواطن الغربي العادي.
منذ نهاية سنوات الخمسينات أصبح البطل الصعلوك المتشرد أو المتسكع إحدى السمات الرئيسية للسينما الغربية، وصرنا نشاهد ، بزخم كبير في عدد من الأفلام، هذه الشخصية المستلبة التي تعيش غربة قاتلة ووحدة مفزعة باعتبارها عنصراً مركزياً وقاسماً مشتركاً لمجمل الانتاج السينمائي الغربي الموازي ، أي غير التجاري – الاستهلاكي... سنحلل بعض النماذج لهذه الشخصيات اللانمطية التي برزت في عدد من الأفلام الأوروبية الغربية والأمريكية مثل " اللاهث أو على آخر نفس من إخراج المخرج الفرنسي جان لوك غودار و " إيزي رايدير سائق أو فارس الدراجة النارية " إخراج دنيس هوبر، و " حركة خاطئة ، و " على مر الزمن" و " باريس – تكساس" وهي من إخراج الألماني فيم فندرز و " غرباء في الجنة" إخراج جيم جارموش، وهذه بضعة نماذج فيلمية اختيرت عشوائياً ولم يكن اختياراً نوعياً أو تحيزياً إنما أملته ظروف الموضوع المطروح والمعالج هنا ولتوفر هذه الأفلام بين أيدينا آنذاك مما أتاح لنا إمكانية دراستها وتحليلها بشكل دقيق من خلال مشاهدتها مرات عديدة.
بالطبع يمكن أن تضاف إليها أفلام وعناوين كثيرة أخرى تنطبق عليها نفس الملاحظات والخطوط العامة للمضامين المستخلصة من هذه الأمثلة فيما يخص الموضوع الأساسي الذي سنعالجه ألا وهو التسكع والغربة أو الاغتراب في السينما الغربية والذي هو نتيجة وانعكاس لحالة الاستلاب التي يعيشها الإنسان الغربي في الوقت الحاضر.
أول متشرد في تاريخ السينما كان بالطبع " شارلو" الشخصية التي اختلقها الممثل العظيم والفنان المخرج شارلي شابلن. لكن حالة التشرد والتسكع في سنوات الستينات والسبعينات والثمانينات تختلف جوهرياً عن صعلكة " شارلو" في سنوات العشرينات وفي بدايات السينما، وذلك في كثير من النقاط: فالعالم الذي كان يعيش فيه شارلو عالم ذو معنى وهدف ومليء بالمكائد والفخاخ والكمائن، ومزدحم بالأفراد الأنانيون والعدوانيون الذين تحميهم المؤسسات والمنظمات الرسمية والقوانين الشرعية وأجهزة القضاء والبوليس. يقوم " شارلو" بمواجهتهم بوسيلته الخاصة سواء بالاحتيال عليهم تارة أو تجنبهم تارة اخرى والانصياع المؤقت لهم أحياناً أخرى. إنه عالم حقيقي معاش بكل سلبياته وإيجابياته، بينما نرى عكس ذلك في الأفلام الحديثة التي ذكرنا بعض النماذج منها أعلاه. فالعالم فيها فاقد لواقعيته، ولا تبدو فيه علامات محددة، فلاهو حيادي، ولا هو عدائي أو معارض، ولا هو بالمنفتح والودي. فهو ليس سوى صورة تجسد ملامح هذا الواقع الخارجي، أي هو عالم خال من أي معنى، وما هو سوى مجرد بديهية بسيطة، أي عالم لا يعرف سبب وجوده ولا النهاية التي يجري إليها. من جهة أخرى، نجد " شارلو" كائن متفرد ذو نظرة ذاتية للعالم مشوبة بالحب والحنان والعطف والحزن والشفقة والتضامن والتكافل، وهذا هو الأساس والمقدمة والمثال الساطع لسلوك الكائن البشري الإنسان، وهي صفات يتحلى بها هذا الكائن الاستثنائي الضحية. كتب على " شارلو" أن يناضل ويكافح بكل ما أوتي من قوة ووسيلة ضد الأنانية والشهوة للسلطة وثراء أقرانه الأمر الذي غالباً ما يتم على حساب الآخرين، حتى لو كان يعرف سلفاً أنها معركة خاسرة وصراع بلا نهاية لكنه مع ذلك يخوضها بكل كيانه وبكبرياء يستحق الاحترام. على النقيض من ذلك يتصرف أبطال غودار وهوبر وفيندرز وجارموش...
فالوعي ليس موضوعاً حياً، فهو مفهوم مفرغ من كل محتوى حقيقي، لم يكن ذو دلالة صدامية وبناءً على ذلك نجدهم غير قادرين على التصرف السليم أو التحرك الملائم ، والعمل للخروج من الطريق المسدودة التي يوجدون فيها ، فتراهم مستسلمين أمام " مأزق الحياة" ، ويترتب على ذلك وجود صلات أو روابط ممكنة بين الموضوع والعالم وغياب العمل الضروري للتأثير على هذا العالم وفيه... وبهذا يذهب هؤلاء السينمائيون – المؤلفون إلى أبعد من ، أو إلى ما وراء، أطروحة انعدام الاتصال والتواصل التي ازدهرت في سنوات الخمسينات والستينات على أيدي مبدعين كبار كأنطونيوني وفلليني وبيرغمان، وبذلك نفوا مفهوم الهيمنة على الأثر الفني . وربما ليس وليد الصدفة أن تظهر تلك الشخصيات المستلبة بطريقة هاجسية مهووسة ومتكررة في السينما الغربية في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين المنصرم، بعد انحطاط وتدني القيم الفكرية والأخلاقية المجتمعية وشيوع الأنانية والفردية.
فالظواهر الثقافية في تلك المرحلة الزمنية كانت متداخلة، ويتيح لنا تاريخ الأفكار والأيديولوجيات، لنفس هذه الفترة، أن نلقي بعض الضوء على بعض ما يحدث في الإبداع السينمائي المنبثق عنها. لقد شهدت نهاية سنوات الستينات في الحقيقة بروز وتطور بعض المدارس الفكرية والمناهج والنظريات والاتجاهات كالبنيوية والسيميائية والسيميولوجية، التي اتضح، مع الوقت، أنها ليست غريبة عن بعض صفات ومميزات الأفلام التي أخرجت في تلك المرحلة. ليس هنا مجال التعرض لمحتوى تلك النظريات المعقدة بل نستخلص منها نقطتين خاصيتين نفيد منها لتحليل خاصية إنكار أو نفي الحكاية أو القصة أو الحبكة المتقنة وكذلك الموضوع الفردي – الذاتي. فالصفة اللازمنية لهذه النظريات الحداثوية ينتج عنها محاولة لإدخال النظام والترتيب على تنوع العالم وذلك بالبحث عن اللاتنوع فيما وراء الحكاية والموضوع والحبكة والحدث الزمني والعلاقة الزمانية في المضمون وذلك بمساعدة نماذج ذات وظائف شكلية تستعيد المضمون وتعزل المحتوى. فالمعنى والجوهر والرسالة والهدف غير متواجدين إلا على مستوى النماذج التجريدية، أو على صعيد البنى الشكلية التي تشكل أو تكون في مجموعها نظام عالمي من العلامات والدالات والسبل التعليمية.
فبالنسبة للسيميائية والسميولوجية الدلالية، الدال وحده، باعتباره نظام شكلي، هو الذي يحتوي المعنى ويتضمنه. أما المدلول المعبر عنه، فلا يؤخذ بعين الاعتبار. ونتيجة لذلك لم يعد النشاط الإنساني عامل يتضمن معنى العالم كما تقول الظاهراتية الفينومونولجيا لأن الإبداع يتمخض عن عقلانية فوق بشرية، أي نظام تعبيري شكلي بحت واسلوبي محض. والموضوع لم يعد هو الفاعل بل العنصر المسلط عليه الفعل، والتأويل الإنساني يجعل من البشر مسؤولين عن معنى العالم وجدواه، وعن أفعالهم في هذا العالم وتأثيرهم فيه، كما يجعلهم المسؤولين عن التاريخ ووقائعه. هذا التعبير، أعتبر فكرة ذات جذر أيديولوجي لا علمي وإنه حان الوقت لرؤية اختفاء واضمحلال الموضوع ذي الأبعاد السيكولوجية . وتبعاً لذلك، اختفاء الشخصية الإيجابية الفاعلة – المركز الجاذب للاهتمام والمحرك للأحداث.
إن تفتت واضمحلال الشخصية التقليدية المحورية ظاهرة عرفت في السابق في الأدب. ويمكننا القول أنها ظاهرة ولدت وبدأت مع ظهور الأثر الأدبي " التربية العاطفية" لفلوبير. وليس صدفة أن يرحل بطل فيلم " حركة خاطئة " لفيم فيندرز حاملاً هذا الكتاب بالذات في حقيبته وهذا مالم يكن ممكناً وجوده كحدث أو تفصيل محدد داخل رواية " غوته" وهي الأصل الذي أعد عنه الفيلم لأن رواية " غوته" مكتوبة قبل كتاب " فلوبير"، ولقد طور الأدب الغربي فيما بعد، بمساعدة الاكتشافات التي تحققت في مجال التحليل النفسي في كثير من الآثار الأدبية المعروفة في القرن العشرين، هذا النوع من الأبطال- الشخصيات المستلبة، الذي يفقد تدريجياً إحساسه بالحياة ليفرغ فيما بعد من الداخل ويعيش حالة من الخواء. فمن كافكا – المسخ والمحاكمة، إلى كامو – الغريب ، مروراً بفرجينيا وولف – السيدة دولي، و مورافيا – اللامبالون والاحتقار، و سارتر- الغثيان ، وضعت الذات الأنا، أكثر فأكثر، موضع المراجعة والاتهام والتساؤل. تفككت الأنا وتفتت الذات الفردية وفقدت مصداقيتها وأصيبت بالاهتزاز وخسرت كافة الضمانات العينية الإقناعية. وبذلك أصيبت في الصميم وحرمت من الطاقة الضرورية ، ولم يعد في وسعها ، لا مواجهة العالم، الذي أصبح بدوره إشكالية وجودية، و لا الانسحاب محتمية بالظلال الحامية للنظرة الذاتية. وعندها تصبح الأنا – الفرد مجرد نظرة بسيطة كما في روايات " آلان روب غرييه " البصاص أو المتلصص، الغيرة الخ.." نظرة تكتفي بالتسجيل الواقعي كما يظهر أو يبدو للعيان، حيث تصبح الأشياء هي وحدها المؤشرات الدالة على المعنى الظاهر. وعلى أية حال يبقى الخيال يعمل عند هذا الكاتب والروائي والسيناريست والمخرج السينمائي التجريبي، ويأخذ على عاتقه ربط ومواصلة العمل والتأثير على العالم كما رأينا في نصه الذي أخرجه آلان رينيه " العام الماضي في مارينباد". لكن هذا الخيال أو هذا التصور الخيالي هو بذاته جماعياً وليس خلقاً أو إبداعاً فردياً أو ذاتياً. وسوف نلمس لاحقاً أن ما يميز الأفلام – النماذج المختارة للتحليل في هذه الدراسة هو غياب القصة والحبكة أو الحكاية التقليدية ذات الوحدات الفنية الثلاث والتسلسل المنطقي والسرد الكلاسيكي للحدث. بل إنها ذهبت إلى أبعد من ذلك. فليس فقط أن الحكاية قي أزيحت منها، وليس فقط أن الموضوع لم يعد هو مركز الجاذبية والاهتمام، والمهيمن على الأثر الفني، فحسب، بل أن العالم فيها لا يتبع ولا يطيع وظيفة عقلانية. ونرى في العالم المطروح فيها أنه غير قابل للعقلانية، وإنما أصبح خالياً من أي معنى، بل حتى أن مجرد البحث عن معنى فيه لم يعد منطقياً أو يحظ بأية أهمية كما لو أن تراكم النظريات حول المعنى أدى إلى حدوث رفض أية محاولة لإيجاد مضمون واقعي من خلال الأشكال المطروحة.
النموذج اللاهث في المجتمع الغربي:
بملامح جامدة وقبعة أمريكية وبسمات تعلوها الوقاحة والغطرسة والصلافة، وبهيئة مدروسة، بدت شخصية " جان بول بلموندو ، سنة 1960، في فيلم " على آخر نفس – أو النفس الأخير" ، وهو أول فيلم روائي طويل للمخرج الفرنسي – السويسري الأصل، الذي لم يكن معروفاً آنذاك، جان لوك غودار، وبطل فيلمه ميشيل بواكار، الذي مثله بلموندو، يجسد شخصية تختلف كلياً وبشكل قاطع عن أبطال السينما التقليدية في ذلك الوقت، بل كان على الأخص تجسيداً لنموذج من الأبطال السينمائيين سيصبح فيما بعد خلال العقود التي تلت تاريخ انتاج الفيلم، وأعقبت بداية ظهوره في هذا الفيلم، النموذج الحقيقي والمثال المتبع المعياري والمقلد في كثير من الأفلام الأخرى.
ففي فيلم" على آخر نفس" ظهرت شخصية رجالية سينمائية جديدة سوف تتضاعف بصورة أصلية تماماً أو تتطور أبعادها خلال سنوات ابتداءً من شخصية " بيتر فوندا" في فيلم " سائق الدراسة النارية" ومروراً بأبطال أفلام " فيم فيندرز وجيم جامروش وباربارة لودين وشانتال آكرمان ، وانتهاءً بمارغريت دوراس. إنها شخصية المارجينال الهامشي، أو المنفصل عن الواقع أو المقلوع عن الواقع والمحيط الاجتماعي والعائلي، كما سبق أن شهدنا مثل هذه الشخصيات إبان سنوات السبعينات، أناس بلا سقف ولا مأوى ولا بيت ولا عمل ولا أية روابط، وذلك عن اختيار متعمد ورفض منتظم ودائم وبوضوح ورؤية وبصيرة، لكن مثال هذه الشخصيات الهامشية سيتطور من غودار إلى جامروش. تعزز أو تعمق غربتها واستلابها إزاء العالم وبعدها عن تيار الحياة الجارف، وستعمل على تغذية وتمتين الحواجز اللامرئية التي تفصلها عن الآخرين. سوف تتسكع من مكان إلى مكان، في المدن وفي الطبيعة، تأخذ القطار وتستقل الطائرة أو تركب السيارة والميترو وتقيم لقاءات وعلاقات عابرة دون أن تعيش أي حدث يدفع أو يطبع أو يوسم وجودها فعلاً وتصبح لامبالاتها متطرفة وحساسيتها مقنعة ومخفية أكثر فأكثر. وفي نفس الوقت، صارت تذوب قبولها لمصيرها دون أي اهتمام يذكر وبلا مبالاة تامة. هذه الشخصية في فيلم غودار، ومثيلاتها في بقية الأفلام المشار إليها آنفاً، شكلت فئة من المتشردين والمتسكعين الوجدانيين المنعزلين والمسافرين بلا هدى، الذين لا يعتقدون بشيء، لا بالنجاح الاجتماعي ولا بالخلق والإبداع، ولا بالعلاقات والروابط الإنسانية. حياتهم عبارة عن تسكع وتشرد وصعلكة، وهمهم الأساسي هو تفادي أي اتصال مع الآخرين من شأنه أن يحيدهم عن الطريق التي يسلكونها. لكنهم بلا أيديولوجية معارضة وبلا أمل ولا يمنون أنفسهم بالخلاص . يتمتعون بهدوء البال وطمأنينة من أنهى الطريق قبل أن يبدأه. داخله فارغ أو بالأحرى مفرغ من أي عمق أو إحساس داخلي بأي نوع من أنواع المسؤولية، وقوة حضورهم على الشاشة آت أو نابع من اختفاء أو غياب الوعي. إنه فراغ يتحملون مسؤولية العيش فيه ببطولة مثيرة أحياناً، لأنه فراغ، إما أنه يقود إلى الموت أو إلى الوحدة والعزلة المطلقة. شخصيات وحيدة انعزالية ومرتابة وذات مواقف سلبية تعبر المدن وتجتاز القارات وتسير في الطرق بلا اتجاه محدد، نجدها في فرنسا وأمريكا وألمانيا الغربية وبريطانيا، عديمة البصيرة وعمياء عن رؤية الأراضي والمناظر الطبيعية والتمتع بها يصمون آذانهم عن سماع الضوضاء البشرية. وبالنسبة لهم " كل شيء فارغ وإنساني عادي لكن البشرية والإنسانية لم تعد تعنيهم بشيء" كما قال معلمهم ومنظرهم الأول كيرواك.
وعلى النقيض من شخصية شابلن " شارلو"، لا يعيش ميشيل بواكار بطل فيلم " النفس الأخير أو على آخر نفس " لغودار وأمثاله من الشخصيات، في مجتمع فقير، بل بالعكس كان غودار من أوائل المخرجين المعاصرين قد وصف بدقة في أفلامه الأولى في بداية الستينات، ترف المجتمع الاستهلاكي، وعرض بسخرة وتهكم وإدانة غير مباشرة بذخه وثرواته المسروقة من المجتمعات الفقيرة، وذلك في أفلامه " إمرأة متزوجة، مذكر مؤنث، شيئين أو ثلاثة أعرفها عنها، عطلة نهاية الأسبوع، رقم إثنين، كل شيء على ما يرام الخ.." وكذلك الحال مع المخرج الألماني الشاب آنذاك فيم فيندرز، والمخرجة البلجيكية الطليعية شنتال أكرمان، الذين صنعوا أفلامهم وعرضوا من خلالها أحوال أوروبا المترفة، ونقلوا الجوانب السلبية في حياتها الاجتماعية، وقدموا وجهاً آخر لأوروبا الغربية ذات الرخاء البرجوازي والرفاهية الظاهرة، ونفس الشيء مع بربارة لودين في فيلم " ونده"، وجيم جامروش مع فيلم " غرباء في الجنة" واللذين صورا فيلميهما في أغنى بلد في العالم وهو الولايات المتحدة الأمريكية.
ومع ذلك نرى الأبطال في هذه الأفلام غير مبالين و ذوي نزعة عدمية فهم، لا يهتمون بشيء و لا يقيمون أي اعتبار للامتيازات المادية المتوفرة لهم في مجتمعاتهم و لا يبدون أية رغبة في امتلاك شيء و لا اشتهاء لأي مظهر من مظاهر المجتمع الاستهلاكي لأن لا مبالاتهم تستمد جذورها من حالة النفور ومن استياء وامتعاض شامل يبلغ حد الحالة المرضية لهذا يتوجب تميزهم وفصلهم عن الهامشيين العنيفين ورجال العصابات الكبار والصغار منهم الذين يملؤون تاريخ السينما بنماذجهم " فهؤلاء الآخرين حرموا من اقتسام الثروات في مجتمعاتهم ويريدون أخذ حصصهم ولو بالقوة إذ أن ظروف ولادتهم ونشأتهم وظروفهم الحياتية والمعيشية والطبقية ، وأسباب أخرى ، منعتهم من الاستئثار بالثروات ، لذلك أصبحوا هامشيين رغماً عنهم ويحاولون بشتى الطرق الولوج إلى داخل المجتمع واحتلال أمكنتهم فيه بأشكال وأساليب متنوعة . فمنهم الشقي الذي يتبوأ مركز اجتماعي مرموق فيلم " سكارفيس" أو منصب سياسي حساس، أو تأكيد سلطاتهم في المجتمعات أو الأوساط الاجتماعية الموازية (مجتمع الجريمة المافيوي الذي يمكن تمييزه غالباً عن مجتمع الوسط السياسي والمدني والعسكري في الغرب كما في فيلم " العراب" وغيره. لهذه الأسباب نجد شخصيات مثل " بوني وكلايد" المشابهة ظاهرياً لميشيل بواكار بطل غودرا في " على آخر نفس" تختلف عنه جذرياً في واقع الأمر ولأسباب عديدة أهمها: إن الزوجين الشابين في فيلم " بوني وكلاي" يريدان امتلاك ما لا يملكانه وما هو ليس من حقهما في نظر القانون، وذلك عن طريق القوة والعنف والقتل والترهيب. أما في الحالة الثانية فإن بطل غودار ميشيل بواكار يحتاج للمال فقط ليغادر بعيداً وليرحل دائماً بلا جهة محددة وربما باتجاه الحلم. وفي نفس الوقت، نلاحظ أن هؤلاء الأشخاص ليسوا معارضين أو ثوريين أو مناضلين، ولا يعملون من أجل التغيير أو ينوون قلب النظام الاجتماعي عن طريق العنف أو الكلام الجميل. وإذا كانوا يرفضون أو يعترضون أو يحتجون على الحرب (كحرب فيتنام في فيلم بييرو المجنون لغودار) أو حرب الجزائر في فيلم " الجندي الصغير لغودار" فهم لا يفعلون شيئاً للنضال ضدها. ولا يختلف الأمر مع بيتر فوندا في فيلم " سائق الدراجة النارية"، فهو لا يناضل من أجل الحقوق المدنية للزنوج الأمريكيين وهي القضية المركزية التي رفعها الطلبة الأمريكيون على رأس قائمة المطالب في نضالهم إبان سنوات الستينات. وهذه الشخصيات الهامشية المذكورة أعلاه ليست جزءاً من الجماعات الإرهابية اليسارية التي برزت واشتهرت في سنوات السبعينات وهم مجرد أشخاص فرديين، ونتيجة لهذا الموقف الفردي الهروبي والأناني فهم دائماً خارج إطار المناورات السياسية السائدة في زمنهم ولا يتبنون الكلام والموقف الإنساني الذي يتخذه " شابلن" في أفلامه اللاحقة " أضواء المسرح، الأزمنة الحديثة، الديكتاتور، وأضواء المدينة".
التحولات الداخلية النفسية والعاطفية هي وحدها التي تؤثر فيهم حيث نشاهد أو نشعر بتقلب المشاعر وعدم التحسس والانفعال والتفاعل بما يحيط بهم من مشاكل اجتماعية كأنهم غرباء عن هذا العالم، يعانون من اليأس مما يفقدهم آخر رمق من العواطف الساكنة في أعماقهم كميشيل بواكار، الذي قرر ألا يندمج بحياة المجتمع، وأبعد عن ذهنه كل فكرة في النجاح والاستقرار الاجتماعي. فهو يعتبر كل شيء في الحياة غش وكذب ونفاق خاضع للتلاعب وللمعالجة، والمعالجة المسبقة على أيدي السماسرة والتجار ورجال السياسة وأصحاب القرار، ويشعر باحتقار كبير اتجاه الذين ينصاعون ويخضعون للعبة الاجتماعية، ويحاول ميشيل بواكار أن يقنع باتريسيا التي يحبها بأن تترك باريس حيث تقيم وتعمل في بيع الصحف في الشوارع وتدرس لتصبح صحفية لتخوض معه حياة في عالم الهامشية العبثي. إنه شخص يعيش بلا وهم في هوس أقرب إلى الجنون. ويحوله حادث طاريء إلى جانح حقيقي، ومن ثم إلى مجرم قاتل، وذلك لقتله أحد رجال الشرطة، ومع ذلك عنده نقطة ضعف وحيدة وهي أنه عاشق. أنه مغرم لكنه لا يعتقد في الحب ومع ذلك يتمسك بحبه لباتريسيا مع علمه مسبقاً أنها لن تتبعه في طريقه ونراه يعيش في حالة خطرة دائماً ويعتقد بقناعة بأن النساء تجسيد للتردد وأنصاف القرارات، وإنهن دائماً جبانات، ومع وعيه بهذه الحقيقة الراسخة بذهنه لم يحاول أن بعد المرأة عن طريقه حتى لو كان الثمن الذي يدفعه هو حياته لأن باتريسيا المرأة هي التي تخونه وتبلغ عنه البوليس وتكون المسؤولة عن موته برصاص ممثلي النظام.
ومن الناحية الرسمية والشكلية نرى أن حريته مقيدة لأن الشرطة تبحث عنه في كل مكان، ولكن من الناحية الفلسفية، هي كذلك لأنه لم يتخلص نهائياً من المشاعر البشرية والعواطف الإنسانية، مع أنه لم يعبر عن حبه بشكل مباشر ولم يكيل المديح للمرأة التي يحبها، بل على العكس، فكلامه عبارة عن تهكم وسخرية، خالي من الحنان والمداعبة. ولم يحاول أن يفتن ويجذب باتريسيا بل جعلها تقبله على علاته كما هو بكل حرية وطواعية، وأن تقبل بقيمه وطريقة حياته الهامشية. فكل واحد مسؤول عن حريته وبسبب ذلك تراه معزولاً ومنعزلاً في وحدته. نفس السلوك نجده في فيلم " غرباء في الجنة". ففي أحد مشاهد فيلم " على آخر نفس" الطويلة يحاول العاشقان أن يتبادلان الكلام وأن يوحدا مشاعرهما ولكن لم يكن هناك حوار حقيقي بينهما، وتحول الكلام إلى مجرد تقابل منولوجين (المنولوج كما هو معروف عبارة عن حوار صامت مع الذات كمن يكلم نفسه) حيث يتكلم كل واحد منهما مع نفسه، مع إنه يوجه الكلام للآخر. فباترسيا خائفة ومترددة وهي لا تعرف إذا كانت حزينة لأنها ليست حرة أم إذا كانت حرة لأنها حزينة. وميشيل بواكار يرفض أن يشرح لها ما هي الحرية، لأن الحرية بنظره غش وكذب وليست حرية صافية نقية. الجميع يكذب (يعبر غودار عن ذلك بلقطة للوحة القناع لبيكاسوا المعلقة في غرفة باتريسيا ) إيحاءً لهذا الموقف . إلا أن ميشيل بواكار يرفض أن يكذب ويرغم باتريسيا على أن تفعل مثله وترفض الكذب لأنه يعرف أن حريته تعتمد على هذا الاختيار. فبالنسبة له أن حريته ليست مهددة، لا بالمعاناة ولا بالمؤسسات الاجتماعية، وإنما بالكذب والخوف الذي تلج فيه شيئاً فشيئاً وبلا رجعة. وهذا هو الاختيار الذي تقوم به باتريسيا في النهاية حيث تبلغ عنه البوليس الذي يبحث عنه لارتكابه جريمة قتل شرطي. وبذلك تصبح إنسانة قذرة ومثيرة للتقزز حسب تعبير ميشيل بواكار وهو يوجه كلامه لها قبل موته بثواني وباللغة العامية التي لا تفهمها لأنها ليست فرنسية بل أمريكية الأصل. لذلك تراها تتساءل ماذا يعني بهذه الكلمة التي وصفها بها dégoulasse .
القطيعة الجمالية في الفعل الإخراجي:
أما التجديد الذي أضافة فيلم " على آخر نفس" للغة التعبير الفيلمية، فهو إلى جانب طرحه لثيمة حرية البطل وهامشيته وحالة الاستلاب النفسي والروحي التي يعيشها، وغياب الهدف الحياتي الذي يسير الإنسان عموماً، من ناحية المضمون، فهناك أيضاً حرية الكاميرا الخفيفة المحمولة وحركتها والتي أطلقت حرية التعبير المرئية وحطمت أركان وأسس وقواعد وقوانين السينما التقليدية السائدة في الغرب في ذلك الوقت. فبحركات الترافلنغ البطيئة والحركات البانورامة العريضة أيضاً ، تابع المخرج تحركات وتنقلات بطله ميشيل بواكار الباريسية التي تجسد غربته اليومية بدون الاهتمام أو الإنشغال بعملية التشويق التي يمكن أن تخلق إثر عملية إطباق الحصار البوليسي حول ميشيل بواكار . فالكاميرا تتابعه بكسل في شارع الشانزليزيه وتصوره في لقطات وزوايا تبدو فائضة ولا فائدة منها في عرف السينما الكلاسيكية، كما وتتحرك ببطء حول العاشقين المنعزلين في غرفة باتريسيا مما يتولد عن الفيلم حالة من التهيؤ والتحفز والاستعدادية الاستثنائية حيث كل شيء ممكن أن يحصل وفي أية لحظة، رغم إن ميشيل بواكار لا ينتظر شيء آخر عدا قرار باتريسيا. أما المتفرج فهو في حالة توتر وانتظار لا تحتمل وهو يعيش تفاصيل المطاردة البوليسية لميشيل بواكار والتي تدور أمامه على نحو مأساوي في حين أن هذه المطاردة لا تهم ولا تثير قلق الشخص المعني بها. فهو غير مبالي بما يجري حوله، وهنا تكمن أصالة الفيلم وتجديده في الخروج أو الإفلات من شرك النمطية التي تتحلى بها شخصيات السينما التجارية وطريقة طرحهم من خلال المشاهد الفيلمية المصورة بدقة واتقان وطريقة التعامل مع الممثلين ورؤية المخرج لتعاملهم مع الحدث والكاميرا والديكور ومكان التصوير وزوايا الكاميرا والعدسات المستخدمة وطبيعة الحركة المقترنة بالمشاهد واللقطات وأسلوب تصويرها.
ميشيل بواكار ليس سوى عابر سبيل في باريس ولا يبرر وجوده في هذه المدينة سوى بحثه عن باتريسيا أو بحثه عن النقود والمال الضروري لمغادرته إذ هو كما لحظنا دائم السفر والتجوال والتنقل بين مرسيليا وروما وباريس ومدن أخرى ... لا يهمه ما يحدث في العاصمة حيث كان موجوداً ذلك اليوم وصادف وجود احتفال ما أو مسيرة عسكرية لا نراها بل نسمع بها من خلال الضوضاء والأصوات أو المؤثرات الصوتية التي توحي بذلك الجو. لقد صور غودار مشهد المسيرة وهو مشهد مرتجل بمعزل عن تطور حالة بطله النفسية والدرامية، إذ كانت هناك حقاً في يوم التصوير في هذا الشارع " موقع التصوير" مسيرة أو استعراض عسكري استغله المخرج كخلفية ولم يكن وارداً في السيناريو ولا في صلب الموضوع. وكان هناك أيضاً مشهد مقتل رجل البوليس الذي قدمه غودار بمونتاج سريع وبصورة تكاد تكون غير مفهومة دون أن يكون لهذا الحدث أي تأثير مباشر على نفسية مرتكب جريمة القتل أي ميشيل بواكار. فكما ذكرنا أن علاقته بالعالم لا تهمه فكل ما له صلة بالواقع غريب عنه وليس له أية أهمية في نظره. وفي الواقع كان بإمكان ميشيل بواكار أن يكون حراً تماماً لولا أنه كان عاشقاً مثل شبيهه ونظيره بييرو المجنون في الفيلم الذي يحمل نفس العنوان " بييرو المجنون" ومن إخراج نفس المخرج جون لوك غودار ، والذي يطرح نفس الإشكالية النفسية والأخلاقية السابقة حيث نرى رجلاً يهجر عائلته ووضعه الاجتماعي ليعيش حياته بطريقة هامشية مع المرأة التي يحبها ويحاول الاثنان أن يعيشا خارج الأطر الاجتماعية التقليدية بصورة عبثية ويجسدان أزمتهما ووحدتهما وهدفهما بالسفر والترحال دوما عبر فرنسا والاتجاه نحو البحر. وينتهي بهما الأمر في نقطة اللاعودة فيقتل بييرو المرأة التي يحبها وينتحر يأساً بصورة دراماتيكية. لكن فيلم بييرو المجنون أكثر وضوحاً وعنفاً في طرح إشكالية الاستلاب والغربة الانسانية من فيلم " على آخر نفس" حيث يبدأ من حيث ينتهي «النفس الأخير"، أي من نقطة القطيعة بين البطل والعالم المحيط به أي المجتمع الباريسي البراق الجاهز والمقولب في الصيغة البرجوازية للعيش.
إن العالم الذي يعيشون فيه حزين وكئيب، كالح ومليء بالقتلة والمجرمين والسراق والمعتوهين والمعوقين والأقزام والخارجين عن القانون، أي جمع من الهامشيين المنبوذين. وعند لقاء بييرو بماريان يقرران أن الوقت قد حان لهجر هذا العالم القميء والعفن ، المقزز الذي يعج بالقذارة والغش إلا أن بييرو لم يفلح كلياً بالهروب من مأزق الحياة ولم يتمكن تماماً من التخلص من إحساسه بالذنب حيال حرب فيتنام و لا يدهشه في هذا العالم تمكن البشرية من النزول على سطح القمر طالما كانت النهاية المرسومة هي الفناء، لذا لم يعد يهتم أو يتأثر لنشوب الحروب في كل مكان ، بل ومشاركته في مثل تلك الحروب الإجرامية ومشاطرته مرتكبيها في الجريمة من خلال تورطه بتهريب الأسلحة والتي تجره إليها ماريان- كل ذلك موجود في الفيلم وعلى جوانبه وحواشيه وليس هو ثيمته المركزية – إلى جانب كافة الأعمال والطرق غير المشروعة التي يلجأ إليها الناس لاقتناء المال وتحقيق الأرباح بلا شرف ولا ضمير. كل هذه الأفكار والطروحات معروضة من خلال أسلوب الانتقالات السريعة والمشاهد غير المترابطة منطقياً أو سردياً حيث لا يجمع بينها خط درامي أو سردي واضح. إن كل ما يهدف إليه بييرو هو خلق تلك الوحدة العضوية بينه وبين من يحب لكن هذا الوهم في الواقع لا يتحقق إلا بالموت في مواجهة الشمس كما حلم الشاعر الفرنسي آرثر رامبو ، الذي عثر على الخلود والبحر ، هكذا كانت تصوراته وهكذا قادته قناعته وهو نفس الحال مع بييرو المجنون . فبييرو أكثر رومانتيكية من ميشيل بواكار لأنه يعبر عن ذاته عن طريق وسيلة كلاسيكية وهي كتابة اليوميات الخاصة، وهنا تتشكل الذات الأنا الفردية وتعبر عن نفسها بوضوح. فالأنا هي العنصر الوحيد الثابت والمستقر في هذا العالم المضطرب والمتفكك، والشكل الوحيد السائر بطريقة ميكانيكية أو آلية، إلا أن هذه الذات – الأنا عند بييرو سوف تنفجر بعبوة ناسفة في نهاية الفيلم كناية عن المطالبة بالحرية عن طريق الموت. فاختيار الانتحار هو علامة القوة وليس الجبن لدى هذه الذات الضائعة، وهذا الكائن يتحمل عبثها بوعي تام. أما في الأفلام اللاحقة التي سوف نستشهد بها في هذه الدراسة، أي أفلام فيم فندرز وأكرمان وجامروش، فحتى هذه القوة القاتلة للذات لم يعد الأبطال الهامشيون الضائعون والمتشردون يمتلكونها. فنراهم ينكرون ذواتهم ويتركونها تنساب مع الحياة دون اتخاذ أي قرار أو فعل شيء أو إبداء ردة فعل على الأقل، وينعكس هذا الأمر على طريقة تمثيل وتجسيد الشخصيات وأداء الممثلين بصورة طبيعية غير متكلفة أو متصنعة وبالتعامل مع كاميرا خفيفة متحركة ومترصدة ومونتاج خارج عن كل مألوف سينمائي لتلك الفترة الزمنية.
ولد ليكون حراً:
في فيلم" إيزي رايدر سائقة الدراجة النارية" إخراج دنيس هوبر وبطولته إلى جانب بيتر فوندا الذي شاركه في كتابة سيناريو الفيلم، نجد أن الرحيل المستمر بلا توقف هو الذي يعبر حقاً عن حالة التسكع والبحث الدائم عن الذات الذي يعيشه أبطال الفيلم. يعرض المخرج في فيلمه الجميل هذا ما تقدمه أمريكا المتخمة بمساحاتها الشاسعة ، لشبابها الضائع، لتغذي عطشهم ونهمهم للهروب المتواصل من رتابة الحياة وفراغها، وذلك حين كان المجتمع الأمريكي في ستينات وسبعينات القرن الماضي، يعيش أقسى أزمة في تاريخه المعاصر وهي أزمة تأنيب الضمير ، وعلى الأخص إزاء حرب فيتنام القذرة - وهي نفس الأزمة التي ستتجدد بعد عقود في حربي أفغانستان والعراق ويعبر عنها في العديد من الأفلام - ، وهي الحرب التي استقطبت بصفة خاصة كافة مظاهر الامتعاض والاستياء والسخط والتمرد والشعور بالذنب والضيق والقلق لدى جيل كامل من الشباب الذي لم يعد يجد متعة وإرضاء ذاته واكتفائه بما توفره له ( الحياة على الطريقة الأمريكية والحلم الأمريكي) أو النمط الأمريكي للعيش والذي تبثه بقوة آلة الدعاية الامبريالية بهالات مغلفة من الإغراء والافتتان والأوهام حتى صار كل شباب العالم يقلد نمط العيش هذا وموضاته ويتمنى أن يعيش على غراره. وقد غرزت آلة الدعاية الأمريكية الجهنمية أخلاقيات ومفاهيم خطرة متمثلة بتحقيق النجاح بسرعة وبأي ثمن كان تحت مظلة حرية المنافسة بكل الوسائل والطرق حتى لو كانت غير شرعية أو غير شريفة وغير نظيفة والانتاج بكثرة لغزو الأسواق والهيمنة والاحتكار.
لقد سبق لفيلم" الجائزة" من إخراج ميك نيكولس 1967، أن أنذر الرأي العام بعرض نموذج لطالب جامعي يرفض الاندماج داخل النظام الاجتماعي ويرفض قبول مبدأ البحث عن مهنة. وكان هذا الفيلم أول تظاهرة أو أول لمحة سينمائية جادة عن الثورة والتمرد لدى الشباب الأمريكي البائس واليائس، كما قدم حيرة وانذهال الأهل إزاء موقف أبنائهم، إلى جانب حماس واندفاع المراهقين لهذا النمط والنموذج من الشخصيات السينمائية. لقد وجد الشباب المراهق نفسه في شخصية – البطل (الممثل داستين هوفمان) وتقمصوها فأصبحت انعكاساً لهم والناطق الرسمي باسمهم. ولكن هذا الفيلم ينتهي نهاية غامضة وغير واضحة. صحيح أننا نرى البطل يقطع كل صلة له مع عائلته ومع الأعراف والتقاليد العائلية لكنه لم يشر قط كيف سينفذ ثورته هذه وتمرده ورفضه لكل المفاهيم السائدة. وبهذا يترك الفيلم النهاية مفتوحة لكافة الاحتمالات والتأويلات والافتراضات الممكنة. ولم يكن الفيلم المذكور يهدف سوى التعبير عن حالة اليأس والخيبة والضيق النفسي والكآبة وانحراف المزاج الذي كان يطغي على غالبية الشباب الأمريكي آنذاك. ولقد تمثلت هذه الحالة بالحوادث العنيفة التي تفجرت جراء انعقاد اجتماع شيكاغو سنة 1964 وما أفرزه من شروط كالرفض المتزايد للانخراط في الخدمة العسكرية الإلزامية واقتياد الشباب عنوة للمشاركة في حرب فيتنام العبثية والنضال الضروس من أجل الحقوق المدنية للزنوج الأمريكيين، مما أشاع، ولمدة عشرة أعوام تقريباً، مناخاً ملائماً للثورة على القيم الغربية والتمرد والعنف أحياناً والتحرر من كل القيود في الولايات المتحدة الأمريكية. ولقد تجاوز هذا التمرد فيما بعد، شيئاً فشيئاً، الشكل التقليدي أو الكلاسيكي للصراع بين الأجيال واتخذ بعداً غير متوقع أو منتظر ليتطور إلى عملية إدانة وفضح وانكشاف حالة وحقيقة بلد بكامله ومجتمع برمته يكتشف مرضه وعلته وجراحه ومصدر آلامه وموضع دائه من خلال رؤيته لثورة أبنائه في نهاية حرب فيتنام إذ لم تعد هذه الثورة هجومية ذات ملامح سياسية ومطالب أيديولوجية. ولم يعد المطلوب أو المقصود هو مهاجمة المؤسسات، بل تجاهلها وإدارة الظهر لها والدعوة إلى نمط آخر للحياة مناقض تماماً لما هو سائد ومعروف. عندها انتشرت فلسفة اللاعنف والعيش على شكل مجموعات أو جماعات كما شاهدنا ذلك في فيلم ّ السلام والزهور" عن الهبيين، ومحاولة الهروب من الواقع عن طريق تعاطي المخدرات، وهو الوضع الذي تمكن المخرج التشيكي الأصل المقيم في أمريكا ميلوش فورمان أن يقدم عنه صورة حنونة وساخرة في فيلمه الجميل " خذه بنفسك" وأخيراً ما سوف يتخذه هذا الموقف من شكل هروبي أو الهروب إلى الأمام، ومحاولة التملص من الواقع المر والتخلص من عقدة الذنب.
بدأ الشباب الأمريكي يعيش الغربة والرحيل الدائم هائماً على الطرقات وسكك القطارات والمحطات المهجورة، وتمثل ذلك على نحو خاص بظهور موضة الدراجات النارية المنطلقة بسرعات جنونية في مساحات مفتوحة، يبتعدون قدر ما استطاعوا عن المدن المغلقة ليبقوا منعزلين بعيداً عن تلك المدن، بلا هدف محدد وواضح. وعبر الرحيل والسفر والتنقل يكتشفون ذواتهم ويعارضون – أو هكذا يخيل إليهم - النظام بكل صوره وأشكاله ومظاهره، السياسي والمجتمعي. وبالابتعاد والتسكع يعتقدون أنهم يتمردون على أحلام ومفاهيم ورغبات وطموحات ونموذج عوائلهم التي شكل جيل الأزمة الاقتصادية لسنة 1929 والحرب، جيل المعاناة والحرمان والكفاح المضني من أجل لقمة العيش. وهو الجيل الذي سعى، كردة فعل، إلى تحقيق السعادة والرفاهية والأمن والاستقرار وضمان المستقبل لهم ولأبنائهم، بيد أن جيل الآباء الأمريكي في معركته من أجل حياة أفضل نسي قيمة الفرد وضرورة الحرية. لذا فإن الجيل الشاب، الذي صدمته وأذهلته وأخلت بتوازنه حرب فيتنام، لم يعد مقتنعاً بالقيم القديمة التي أرساها جيل الآباء من أجل ترسيخ ( نمط الحياة الأمريكي أو العيش على الطريقة الأمريكية، وبأن هذه الصيغة كافية وصالحة لكل الأوقات لتضمن له السعادة والازدهار والرخاء الفردي – الذاتي . اقتنع الجيل الجديد بأنه ، على العكس، يجب عليه تحطيم المسلمات القديمة بخصوص النجاح الاجتماعي وتشجيع المنافسة ، وصار يطالب بأشياء جديدة أخرى كالانفتاح على العالم واكتشاف حقيقة الانسان واستيعاب ذواتهم المخنوقة والمكبلة بالطموحات والمطالب والالتزامات الاجتماعية للخروج من دروب التعايش المصطنع المفروضة وضرورات التكيف الاجتماعي والعثور على المشاعر الدفينة ، من هنا جاء انتشار تعاطي المخدرات والسفر على غير هدى وبلا هدف ليحل محل أسلوب الوئام والتألف الاجتماعي والحياة المهنية والعائلية المستقرة.
لقد ترافق، مع ظهور الأزمة النفسية-الأخلاقية لدى الشباب الأمريكي والأوروبي الغربي، وجود نوع من الازدهار المادي والرخاء الاقتصادي الناجم عن الثورة التقنية واحتكار السوق العالمية واستعمار العالم الثالث ونهب خيراته وثرواته، لم يسبقه مثيل، إبان سنوات الخمسينات والستينات وشيوع دولة العناية الإلهية. إن هذا الثراء المتزايد والثروات المتراكمة وتضخم رؤوس الأموال والتخمة والبذخ، قد سمح ببروز ظاهرة الهامشية والشذوذ لأن هناك كثير من الفضلات كان يمكن للشباب الهامشي المتمرد والمستلب أن يقتات منها ويعيش عليها مجاناً دون أن يؤثر ذلك على حركة المجتمع واقتصاده ودورته الانتاجية أو يؤدي إلى خلق عجز في ميزان المصروفات اليومية والقدرة الشرائية أو يقلل من النزعة الاستهلاكية. فكلما ازداد النمو الاقتصادي كلما زادت الفضلات والبقايا للذين لا يشاركون ولا يساهمون مباشرة في عجلة الانتاج والتنمية لهذا النمط الاقتصادي المتضخم، والحال أن المجتمع غني وقادر على تحمل أعباء العاطلين قصداً عن العمل والهامشيين، وبالتالي فهو متمكن من تحمل وقبول هؤلاء الذين أعلنوا تمردهم ورفضهم للاندماج في مجتمعاتهم وهذه الأخيرة لن تتخلى عنهم وتوفر لهم سبل البقاء على قيد الحياة. وفي نفس الوقت كانت بداية ظهور موجة الحريات الفردية المطلقة والمقدسة لدى الشباب ورافقتها موجة التحرر الجنسي ولم تعد لجان الرقابة والمحافظة على الأخلاق العامة وطهارة المجتمع الأمريكي ونقاوته صالحة وفعالة ولها القول الفصل والكلمة النافذة. وهو عكس ما كان عليه الحال إبان سنوات الخمسينات وأثناء الحملة المكارثية الفظيعة والمقيتة سيئة الصيت وتسليطها لشبح أو هوس وهاجس الخوف من الشيوعية الذي تذرعت به القوى اليمنية الرجعية والمحافظة لقمع حرية التعبير ومصادرة الحريات كافة ومطاردة المثقفين والفنانين التقدميين. وكان من نتائج مثل هذا الوضع الأخير وهذا الانفلات والتمرد على القيم والمؤسسات نشوء حالة من التسيب والبحث عن الملذات والمتعة العابرة السريعة ورفض الالتزام العاطفي على المدى البعيد، أي بناء بيت وأسرة وأطفال الخ..،
لذا يعتبر فيلم " فارس أو سائق الدراجة النارية" إيزي رايدر، هو الانتاج السينمائي الأكمل والأكثر تعبيراً أو تجسيداً واصالة لتلك اللحظات التاريخية من تاريخ الأمة الأمريكية. لقد جسد دنيس هوبر وبيتر فوندا في هذا الفيلم حلم وتطلعات ملايين الأمريكيين والذي أصبح فجأة ممكن التحقيق أخيراً. لم تعد السيارة هي أداة ورمز الحرية والانطلاق بل صارت الدراجة النارية. وصار بالإمكان مقارنة هؤلاء الشبان-الفرسان الجدد، برجال الكاوبوي وجيادهم ، وصاروا هم فرسان الزمن الحاضر يحتكون مع الطبيعة ويعيشون فيها ومنها وينامون تحت ضوء النجوم ويقيمون اللقاءات العابرة والمغامرات المؤقتة ويمارسون الحب والجنس بحرية وبلا قيود، سكارى بضوء الشمس والهواء النقي والحرية المطلقة التي يتوهمون أنهم يمتلكونها رغم أنف المجتمع وقيمه وقيوده. يشعرون أنهم ملوك أنفسهم ولا يخضعون لسلطان أحد ولكن غالباً ما تنتهي تجربتهم نهاية مرة أو مأساويه وتراجيدية، وهي نهاية مريعة للبعض منهم لأن المجتمع التقليدي لا يسمح لهم بالتمادي بلا حدود وبدون عقاب، إذا تطلب الأمر، وبوسع هؤلاء الشباب أن يقودوا رفضهم وتمردهم بهدوء وبلا معارضة أو عنف..
يهيم الشابان في فيلم فارس أو سائق الدراجة النارية إيزي رايدر ، في أحضان الطبيعة ويعيشان علاقات وتجارب متنوعة . يحن أحدهما (بيتر فوندا) أحياناً للحياة الهانئة المستقرة حيث السكن المريح والعمل، الأمر الذي يتجسد في صاحب المزرعة الذي آواهما ذات ليلة. أما الآخر (دنيس هوبر) فلا يفكر إلا بالمال لأنه برأيه يحقق له كل ما يريد ويرغب به. الاتصال بينهما شبه معدوم أو قليل جداً فهما يتساءلان دائماً:" ماهي الخطوة التالية؟ ويطرح فوندا على صاحبه في إحدى المرات سؤلاً: " ألم ترغب يوماً أن تكون شخصاً آخر؟ يرد عليه هوبر:" لماذا هذا السؤال؟ ألم يعتقد أن ركوبه الدراجة النارية وهروبه المتواصل قد حقق له ذاته؟ وحصل بهذا الأسلوب على حريته المنشودة وغير المقيدة؟ ولكن حتى يكون المرء حراً من الخارج أو ظاهرياً عليه أولاً أن يبلغ الحرية الحقيقية الداخلية، أي حرية النفس والأعماق، وهذا بالضبط ما لم يحقق بيتر فوندا وهو في بحثه الدائم والمتواصل لمليء خارج روحه أو داخله، إذ أنه إذا كان قد نجح في رفض ونبذ ميكانيزم أو آلية ونمط وقواعد المجتمع التقليدي إلا أنه لم يجد البديل أو ما يحل محل هذا العالم المرفوض ليسد فيه الفراغ الداخلي والقلق المترتب على ذلك. وفي إحدى مراحل ومحطات تنقلهما المستمر يلتقيان بإحدى التعاونيات الزراعية التي انتشرت في الولايات المتحدة الأمريكية وآنذاك إبان سنوات السبعينات لتحقيق حلم الاشتراكية الطوباوية التي برزت جذورها النظرية في القرن التاسع عشر عند كابيه ولوتفستان بخلق الحياة الجماعية المبنية حول العمل واشتغال الأرض واقتناء اللذة المباشرة لثمار الطبيعة وحيث ليس هناك تفرقة أو تقسيم أو تمييز بين الرجال والنساء. الكل يقوم بنفس الأعمال ونفس الواجبات وشيوع الحرية الجنسية بينهم وتناول المخدرات والرقص والغناء والموسيقى والسباحة عرايا وبصورة مختلطة في المسابح والبحيرات الطبيعية. ورغم كل ذلك يبقى بيتر فوندا منعزلاً وغير قادر على الاندماج أو الانخراط في هذه السعادة الظاهرية الموهومة. رغم اعتراض واحتجاج صديقه هوبر لماذا؟ لأن فوندا قد شعر على ما يبدو أن وراء هذا الانحلال أو التحلل والحرية الشكلية يكمن نظام آخر أو نمط اجتماعي آخر ذو قواعد وسلوك وقيم متفق عليها ضمناً وبصورة مسبقة، أي القبول سلفاً بقيود طوعية لتنظيم الحياة الجماعية. لذلك بعد أن وعى هذه الحقيقة أدرك أنها لا تختلف جوهريا عما تمرد ضده وقرر أن يغادر باتجاه الجنوب من صوب نفسه، يغرق في أوهام وهلوسة المخدرات الثقيلة لإزالة الحاجر بين الواقع والخيال، أو بين الحقيقة والوهم، وحيث المحطة الوحيدة التي يشعر فيها بالأمان. وبعد أن يفيقا من حالة الخدر يصرخ دنيس هوبر (لقد نجحنا لقد نجحنا) ويرد عليه بيتر فوندا بأسى (على العكس فقدنا كل شيء لقد فشلنا هكذا وبكل بساطة). وكانت النهاية لهذين الشريدين على يد أحمقين من أغبياء المجتمع المستقر الضائعين هما أيضاً أثناء جولة ترفيهية وليعبرا عن قوتهما وتفوقهما على دعاة الحرية وتنفيساً عن كبتهما الاجتماعي، حيث قال أحدهما للآخر:" أنظر إلى هذين الحمارين الوحشيين، تعال لنرعبهما قليلاً، وفجأة خرجت طلقتان أرديتا الشابين فوندا وهوبر قتيلين بلا حراك حيث تبخرت أحلامهما ورغباتهما في تحقيق حريتهما تحت الشمس الجنوبية الحارقة.
لقد كان الشكل أو الأسلوب الذي طرح وعولج من خلاله هذا المضمون المتشائم مناسباً وملائماً سينمائياً وبلغة سينمائية وإخراجية جريئة وتجديدية مبنية على الحركة والكاميرا الذاتية المحمولة والمتحركة المواكبة للحدث، وكانت الرسالة تقول باختصار أن التسكع أو التشرد والهامشية يقودان إلى الموت إن آجلاً أم عاجلاً ولا توجد هناك إمكانية للمواصلة خارج إطار النظام الاجتماعي المفروض.
ألمانيا الغربية وجيل ما بعد النازية:
السينما الألمانية الغربية لم تكن غائبة عن تجسيد حالة الاستلاب للإنسان الغربي وضياعه وغربته. وأفضل مثال من السينما الألمانية الشابة هو ما نلمسه في عالم المخرج الشاب في ذلك الوقت فيم فيندرز وهو بحق شاعر السينما الجديدة المتجول. فمنذ فيلمه الأول " صيف في المدينة 1971" وضع فيندر مقياس العالم السينمائي الذي سنجده في جميع أفلامه اللاحقة تقريباً لغاية فيلمه الشاعري العميق " أجنحة الرغبة"، مروراً بـ " خطوة خاطئة، و آليس في المدن، والصديق الأمريكي، وعلى مر الزمن، وحالة الأشياء، وهاميت، وباريس-تكساس الخ " في أغلب هذه الأفلام إن لم يكن جميعها، نجد شخصيات وحيدة منعزلة تنطلق في مسار غير محدد واتجاه بلا تعيين، تسير في طريق بلا نهاية، وحياة بلا هدف، لقاءات بلا غد ولا تواصل ، هي أركان العالم السينمائي الذي شيده فيم فيندرز من فيلم لآخر مع بعض التنويعات والمتغيرات حسب الظروف وجهات الانتاج. إنه عالم غريب عن سكانه والواقع فيه ليس سوى ظاهر عياني خادع وفارغ من أي معنى ومزدحم بالبنايات الفارغة والمساحات المهجورة والشوارع الخالية والساحات الواسعة الكئيبة والقطارات الجارية بسرعة جنونية هاربة نحو أماكن غير معروفة والأجهزة الحديثة كالتلفون لم تعد تفيد بشيء ويبقى العالم الصاخب صامتاً.
هناك دائماً الرحيل الذي قد يكون مبرراً كما في فيلم" آليس في المدن 1976" إذ أن القصد من السفر هو إعادة الطفلة الضائعة آليس إلى جدتها. وفي فيلم" على مر الزمن" كان التنقل لدواعي مهنية. وفي " باريس – تكساس" كان الغرض إرجاع الطفل إلى أمه التي تركته أو هجرته قبل عدة سنوات بعد ولادته بقليل. ويأتي السفر أحياناً كحد أو قطيعة مع حالة سابقة كالسجن مثلاً كما في فيلم" آليس في المدن" وقطيعة مع العائلة كما في فيلم" خطوة خاطئة 1975»، والمهم في هذه الحالات ليس هو الهدف من السفر بل السفر بذاته والتنقل من أجل التنقل والترحال لا غير. أحياناً يستمر الأبطال في رحلتهم بلا استراحة ولكن لا شيء يدل على أن هذه التجربة ستحولهم أو تغير فيهم الشيء الكثير بل يبدو أحياناً أنه لا يحدث أي تغيير يذكر في أعماق وعيهم ، والسفر يؤكد ما سبق وأن عرفه الأبطال وعاشوه واعتقدوه ، أي بعبارة أخرى، لا شيء هناك ليفهم ، بل هناك فقط أشياء للنظر وليس في مشاهدتها بطريقة محايدة ومجردة من التعاطف والاسقاط النفسي، أية رغبة في للفهم والاستيعاب ، أو العمل على إبداء أية ردة فعل.. هذه النظرة الملقاة على هذا العالم لا تبغي الذهاب والإيغال بعيداً للوصول إلى أقرب أو أبعد أو إلى ما وراء أو أمام، ما هو منظور وظاهر، إذ ليس هناك غير الفراغ والغياب في كل مكان من العالم. إنه عالم مسطح، مجرد ضغوط ممتدة، تجسيد أو تكوين مجرد، والسفر فيه يعني تجاوز المظاهر والعثور على، أو ملاقاة، نفس الشيء فيه في كل مكان وزاوية، كل شيء متماثل ومتشابه وسوداوي. إن هذا العالم الذي نشاهده يجري من وراء زجاج الشاحنة أو نوافذ القطار، وهو فنياً، ليس سوى تقليد للشاشة السينمائية، كناية على أن كل ما نراه هو وهم كوهم الشاشة. أي لم تعد السينما هي التي تقلد الواقع وتنسخه بل الواقع هو الذي يعيش أزمة وهو الذي أصبح وهماً وخيالاً كالسينما، فانقلبت المعادلة وتغيرت العلاقات. وليس صدفة أن تكون مهنة برونو سائق الشاحنة المتنقل دوماً في فيلم "على مر الزمن"، هي تصليح وصيانة أجهزة عرض الأفلام السينمائية في دور العرض. إن فيلم " حركة خاطئة" هو اقتباس وإعداد حر قام به الكاتب الألماني الغربي المعاصر بيتر هاندكه لرواية غوته الشهيرة" سنوات تعلم فيلهلم ميستر" التي أعتبرت النموذج الأمثل للرواية التعليمية. وتروي بتفصيل، وتتابع وتسرد تجوال وسياحة وترحال شاب عبر أقاليم بلده بحثاً عن هويته وتنتهي بإيجاد الوفاق والمصالحة بين الوجهين أو الجانبين المتضادين والمتنافرين أو المتناقضين للوضع الإنساني، وهما العالم والوعي أو الضمير الفردي، وينتهي تعلم البطل عندما يعي ضرورة قبول الانسان بلا وحدة، الانسان مع العالم وتوافقه معه عندما يصبح هذا الانسان كائناً بالغاً وناضجاً. وليس صدفة أن يختار المبدعان المخرج وكاتب السيناريو، أي فيندر وهاندكه، رواية تعليمية أخلاقية من الأدب الغربي القديم وينقلان أحداثها إلى الزمن الحاضر أي إلى عالمنا المعاصر. يتساءل الفيلم متابعاً البطل فيلهلم ميستر خطوة خطوة عن هذا العالم ومكان الفرد فيه ووعيه به في عام 1975. وذلك يعني تتبع آثار غوته واختيار الزمن أو الوقت الغوتي والتساؤل عن البحث عن معنى لمضمونه ورسالته، أي عن معنى لمحتواه.. لقد اقتبس فيندر وهاندكه الرواية بحرية تامة ونقلا الأحداث إلى ألمانيا المعاصرة اليوم. ففيلهلم، الشخصية الرئيسية في الفيلم، هو كاتب يرنو أو يتوق إلى اكتشاف حقيقة ذاته، وبلا تعمد، يتسكع ويسوح متأملاً على أمل أن يكتشف كيف يصبح كاتباً حقيقياً. وفي رحلته يلتقي بشخصيات مثل المهرج أو البهلوان العجوز برفقة لاعبة الجمباز والأكروبات الصغيرة السن الشابة التي أدت دورها الممثلة تيريزا، والالتقاء بشاعر هو بيرناردو وبأحد ملاك الأراضي، وتسافر هذه المجموعة المتنافرة والمتباينة فيما بينها، معاً لفترة من الوقت ومن ثم تنفصل وتتفكك. يرفض فيلهلم حب تيريزا له ويلجأ وحيداً إلى قمة جبل. وعلى عكس أفلام فيندرز" آليس في المدن، وصيف في المدينة، وعلى مر الزمن" نجد أن إيقاع فيلم " خطوة خاطئة أو ضالة" هو إيقاع متنوع على الرغم من الإصرار على استخدام حركات الترافلنغ المتابعة البطيئة جداً والتي هي من اختصاص فيم فيندرز وخصائص وسمات أسلوبه الإخراجي ، فاللقطات هنا أقل طولاً ومللاً ورتابة وتغيراً في بنيتها مما في افلامه الأخرى. وبالمقابل يأتي البطء في تمثيل الممثلين من حركاتهم، علاوة على ذلك، نجد الحوار في هذا الفيلم كثيف بالمقارنة بأفلامه الأخرى وكذلك غني بالمعلومات وهذا أمر استثنائي جداً لدى فيم فيندرز، هناك أيضاً صوت من خارج الكادر يعلق على جميع الحالات التي يمر بها البطل. إن والدة فيلهلم التي تدفعه في بداية الفيلم إلى الرحيل وتعطيه المال اللازم وكتابين ونصيحة أخيرة: " لا ينبغي أن يمتلكك الشعور بالنقص و لا تخضع لأي تهديد أو تخويف أو ترهيب و لا تدع الاحباط يغزوك لو حدثك أحد عن العمل والنشاط الجاد والمثمر والمفيد لنجار أو طبيب مثلاً، فلا تلم نفسك أو تنتقد حياتك متوهماً عدم فائدتها وأهميتها". فأمه هي التي تتدخل لتحطم كسل ابنها وتدفعه أو تحثه على تغيير حياته والبحث عن حقيقته في أماكن أخرى، وبعبارة أخرى تريه كيف عليه أن يثبت موهبته واختياره وقناعته وميله أو نزوعه للكتابة. إنها الشخصية الإنثوية الوحيدة الإيجابية في أعمال فيندرز إذ لا أهمية تذكر للنساء في أفلامه، وليس مصادفة أن تكون الشخصية الأنثوية أو النسوية الوحيدة ذات الأهمية هي شخصية أم وليس زوجة أو حبيبة أو عشيقة. وقبل مغادرة البطل في رحلة البحث عن الذات أعقبته أمه بنصيحة أخرى قائلة له:" لا تفقد روحيتك الحزينة فقد تحتاج لها للكتابة". ومنذ بداية الفيلم طرح المخرج صلب الموضوع وهو ضيق وعدم ارتياح فيلهلم الحياتي وعدم قدرته على التكيف مع العالم وهو الثمن الذي ربما عليه أن يدفعه ليصبح كاتباً ذا شأن.
وتعود الأطروحة الدائمة لفيم فيندرز وهي كيفية المصالحة بين العالم وضمير أو وعي الفرد. لم يكن وارداً هذا النوع من المصالحة والتهادن أو التسوية في فيلم" على مر الزمن" حيث يبدو بطل الفيلم كانه قد قبل بهذا الطلاق بين العالم والفرد.
تبدأ رحلة فيلهلم بما يرافقها من لقاءات متنوعة وغير منتظرو أو متوقعة برحالة غريبي الأطوار، وكانت اللقاءات متنوعة لأنها تشارك في تعميق وإبراز هذا التنافر والتباين في العالم. فهناك رجل عجوز نازي قديم، وشاعر فاشل، وممثلة يائسة تعاني من صعوبات وجودية، وصاحب أراضي ريفي وحيد ويائس هو الآخر لأن المال ليس قرين السعادة... الجميع قلقون وكل واحد يحمل قلقه في رأسه ويعاني من صعوبة العيش والتأقلم ومن الاخفاق القاتل، وكل واحد منهم معزول في وحدته وسجين عزلته، يرفض مساعدة الآخرين ويرفض حتى العمل على تحسين حياته القادمة. وما يحدث من عنف أحياناً عائد ، ليس فقط إلى الأوضاع الذاتية-الشخصية والأنانية لكل واحد منهم فحسب بل وأيضاً إلى التاريخ الجماعي ، تاريخ ألمانيا الدموي الذي لمح إليه المخرج بالنزيف الغريب والمستمر للعجوز بعد انتحاره وهو بمثابة ( النزف دماً بسبب الذكريات) والفعل العنيف الذي يندم به فيلهلم بكسره لوح زجاجي ، أو صاحب الأرض الذي يجرح نفسه بقلم - القلم الذي يكتب به فيلهلم - ، أو الأزمة العصبية التي ترافق هياج وغضب تريزا في وجه فيلهلم لحمله على الخروج من لامبالاته تجاهها وتنفجر في وجهه عندما يفشي العجوز سره الذي هو سر ألمانيا بأسرها وكان قد شارك في الألعاب الأولمبية في نرومبيرغ عام 1936 واعترف بانه كان يمكن مثل هتلر أن يرفض مصافحة الفائز الأسود عندما كان في فيينا إبان الحرب ويتحرق ليروي ما أنجزه وارتكبه من جرم وإثم كبير لا للتبرير أو لطلب العفو بل ليفرغ أعماقه وينزع عنه هذا السر المعذب وليتخلص من جريمته ويلقيها على عاتق الجيل الجديد في ألمانيا الغربية. ومع ذلك، وعلى الرغم من تقزز فيلهلم منه إلا أنه يفلته من قبضته ويتخلى عن فكرة قتله عقاباً له. ويترك العجوز النازي يهرب وبذلك يكون قد برأ نفسه من التاريخ الألماني الذي يرفض أن يكون تاريخه الشخصي وعلى الرغم من جهده الشخصي إلا أن هذه القصة تترك بصماتها عليه وتطبع حاضره.
الذات والآخرون:
القطيعة بين العالم والفرد لا يمكن تلافيها وهي مصير كل شخصيات الفيلم عدا فتاة الأكروبات الصغيرة ربما لأنها مازالت صغيرة السن. ويتساءل الشاعر شاكياً «(لماذا هناك اختلاف بين العالم وبيني؟) وترغب تيريزا بفلهلم (لأن هناك أشياء كثيرة غريبة فيه وإلا فسوف لن يكون قادراً على أن يكتب). لكن فيلهلم ليس متيقناً أن التغريب أو التبعيد – وهو مفهوم مستوحى من بريشت – إزاء العالم يشجع على الخلق والإبداع. ويعتقد أنه (من أجل أن أكتب فمن الأفضل أن أراقب بدقة ويتعين على أيضاً أن أخلق وأبتكر أي شيء). ولا يعتقد فيلهلم أن (اللجوء إلى الأعماق الداخلية الصافية هو الطريق الوحيدة للكتابة). إن افتقاد إمكانية استلهام الواقع لتحقيق فعل الكتابة يدفع البطل إلى الاستسلام للحلم، ففي صباح كل يوم يحكي أحد أفراد هذه المجموعة غير المتجانسة حلمه للآخرين ويعلق فيلهلم ( أريد التحدث عن موضوعات سياسية لكني لا أجد الكلمات الملائة .. آه لو تمكن الشعر والسياسة من تحقيق وحدة بينهما)، إن التسوية بين السياسة – النزعة العامة ، أي العالم -والشعر ، أي النزعة الذاتية أو الفردية – هو حلم فيلهلم المستحيل التحقيق، وذلك نابع من تعقيد هذا العالم ومن كونه غير قابل للفهم . يقول فيلهلم معلقاً ( لا أفهم كيف يمكن لجميع سكان هذا البلد تحمل الحياة فيه؟)، أما تيرزا فهي ممثلة يائسة بلغت درجة من الجفاف الروحي منعتها من مزاولة مهنتها فتقول( أمثل أدواري كالآلة وفي العرض الأخير أحسست فجأة بأني لا أستطيع شيئاً أمام عجزي مع إني أعرف دوري عن ظهر قلب)، وملاك الأراضي يشعر بالوحدة تنهشه لدرجة أنه يفضل الانتحار حتى يتغلب عليها لكن الوحدة ليست حالته هو وحده فقط بل هي مصير جميع سكان هذا البلد على حد تعبير فيلهم.
وعلى الصعيد الشكلي والأسلوبي فإن فيلم " حركة ضالة أو خاطئة" هو عبارة عن سلسلة من الوصلات ( الراكورات حسب التعبير السينمائي ) الخاطئة والتغيير المستمر لمنظور وتكوين اللقطات ومحاورها وتغيير زوايا الكاميرا وتغيير العدسات والخروج من مجال وضوح الرؤية ، وهو الأسلوب الأفضل والأنجع للتعبير عن اللاإستمرارية المنطقية واللاإتصال ، وإن إيقاع الفيلم لا يترجم تواصلاً هارمونياً منسجماً بل مجرد تتابع مشاهد ولقطات متفرقة تعكس قلق واضطراب الشخصيات وعدم تكيفهم أو عدم تلائمهم مع العالم المحيط بهم وهو بيت القصيد في الفيلم.


التواصل والتكرار:
يبقى فيم فيندر أمينا لعالمه وطروحاته الجمالية وأسلوبه الفيلمي ولغته الإخراجية، في كافة أعماله اللاحقة. وأكثر أفلامه أصالة واتقاناً، من ناحية الشكل والمضمون، هو فيلم" على مر الزمن". تلتقي في هذا الفيلم عن طريق الصدفة شخصيتان يقطعان معاً شوطاً من الطريق ( طريق التسكع والسفر) – وهو نوع من الأفلام الذي صار يعرف بأفلام الطريق - ، الأول برونو الذي يسافر باستمرار لدواعي حرفية مهنية تتطلبها مهنته فهو يجوب ألمانيا طولاً وعرضاً ، شمالاً وجنوباً ، شرقاً وغرباً، لتصليح وصيانة أجهزة العرض السينمائي الموجودة في المدن الصغيرة حيث مازالت هناك بعض دور العرض الصغيرة المستقلة غير الخاضعة لأخطبوط شركات التوزيع والاستثمار السينمائي الاحتكارية العملاقة... ويمضي حياته في شاحنته التي حولها إلى مكان عمل وسكن متنقل وجهزها أو زودها بكل ما تحتاجه الحياة اليومية وصار يقوم بجولة منتظمة ومتكررة خلال السنة في كل عام . الشخصية الثانية هي روبير حيث يتقاطع طريقه بالشخصية الأولى ويلتقي ببرونو إثر خروجه من أزمة شخصية وعائلية خطيرة حين قرر أن يجمد حياته اليومية والمهنية لفترة من الوقت وهام على وجهه.
إن شخصية برونو هي امتداد لشخصية فيلهلم في الفيلم السابق لفيندرز" حركة خاطئة أو ضالة". لم يعد برونو يتساءل حول معنى وجوده وحول العالم المحيط به، ولم يعد يبحث عن شيء، فهو يقبل بكل بساطة وضعه الذي وجد نفسه فيه وبات يلقي نظرة لامبالية للعالم وأصبحت حياته المتجولة منظمة ومريحة بحدودها المرسومة ، ولا ينتظر حدوث شيء خارق أو وقوع حدث جوهري يقلب على عقب نظام حياته . لقد بلغ حالة قصوى من الاغتراب بينه وبين كل ما يحيط به إلى درجة أفقدته أي تعاطف أو مشاركة شعورية وحسية أو وجدانية بما يحدث حوله، فيكتفي بإلقاء نظرة حيادية لاأبالية أو لامبالية ، واصبح قادراً على المزاح والسخرية من نفسه ومن الآخرين في آن واحد. وهو لا يريد أن يعرف شيئاً عن ماضيه وقد بلغ حداً مدهشاً من الهدوء. وتقبل بكل هدوء وبساطة مرافقة روبير له. لا يهمه معرفة ماضي هذا الرجل بل حاضره وسلوكه الآني. لقد قال له منذ بداية المشوار الشخصي أنه نسي كل شيء حتى تاريخ حياته ويوم مولده الاستثناء الوحيد كان عندما قام بزيارة لبيتهم القديم حيث مسقط رأسه، أي بيت الطفولة، وبذلك فرضت عليه ذكريات مرة سوداوية كئيبة وحزينة دفعته مؤقتاً ولفترة وجيزة من الزمن ليعيد الصلة بالماضي وبالزمن الواقعي وعلق على ذلك قائلاً إنها المرة الأولى التي أرى فيها نفسي كشخص عاش لفترة معينة من الوقت وصار الوقت المعني تاريخاً لي). وسرعان ما استأنف رحلته الأبدية وحيداً بعد أن افترق عنه روبير مستقلاً القطار، دون أن يلقي حتى نظرة خاطفة على هذا القطار الذي كان يسير بخط موازي لخط سير شاحنته. أما الصدفة التي حكمت هذا اللقاء بين برونو وروبير فهي سقوط سيارة روبير في نهر كان برونو يخيم بالقرب منه، وهو ذات النهر الذي يفصل بين الألمانيتين والذي لم تكن مياهه عميقة لذلك لم يغرق روبير. إن الطريق المحاذي للنهر محاط بالأسلاك الشائكة والحواجز على الشرفة البارزة وبذلك يخلق النهر وما حوله منطقة عازلة وحيادية بين شطري ألمانيا المقسمة ويشكل حيزاً ذهنياً ومعنوياً يفصل بين الألمانيتين الشرقية والغربية، وهي المنطقة التي تدور فيها أحداث الفيلم. وتنشأ بين الشخصيتين علاقة مبهمة فيها الكثير من الغموض ويشوبها الكثير من الحذر. وإذا لم ترد المرأة في حوارهما، لكنها كانت حاضرة، وعلى الأخص زوجة روبير التي هجرها بإرادته ولكنه يحاول بلا كلل وبلا طائل أيضاً الاتصال بها هاتفياً كلما سنحت له الفرصة بذلك. إن هذه الأزمة العائلية تدفع روبير للالتجاء إلى ماضيه والتمعن في مشكلته العائلية السابقة عند أهله، أي الصراع الدائم والخفي الذي كان يعيشه والديه. وحين يزور أبيه صاحب المطبعة العجوز في إحدى القرى الصغيرة حيث تتوفر له مناسبة لتصفية الحسابات القديمة بينهما ، وفرصة ليعبر فيها روبير عن إحساسه إزاء سطوة أبيه وسيطرته عليه ( خلال عشرة أعوام، منذ غادرت، وفي كل مرة أفكر فيها بشيء أراه مطبوعاً من قبلك ومدموغاً بطابعك.. في كل مرة أردت أن أتكلم لكني لم أستطع، كنت أستمع لك طيلة الوقت ولا أنبس بكلمة اعتراض لكني أمتاز عليك بميزة واحد وامتلك امتياز وحيد وخاصية اتفرد بها عنك وهي أنني انفصلت عن زوجتي فلماذا لم تفعل أنت نفس الشيء مع أمي ؟ فهي لم تتوصل معك إلى شيء ذا قيمة تذكر ولم تحقق أي هدف في الحياة معك). ومن هذه الحادثة نلتقي مبكراً بعنصر ورأي مهم سيكون جوهر ومركز استقطاب في فيلم لاحق لنفس المخرج وهو فيلم " باريس – تكساس)، ألا وهو تدمير وتحطيم العالم العائلي، أي المصدر والجذر والسبب الأساسي لفقدان التوازن وتمهيد الأرضية للاغتراب النفسي، والأساس لحال الاجتثاث والانقلاع من قاعدة الاستقرار. عندما عاد برونو لزيارة بيت العائلة القديم لم يجد سوى الرماد، وإذا كان روبير قد وجد والده إلا أن رجوعه لم يكن مبهجاً أو مدعاة للاحتفال والفرح والبهجة، بل كان مناسبة لكشف السر العائلي والمعاتبة وفضح السعادة الزوجية العائلية المزيفة. والتي كانت هي الأسس والسبب في فشل تجربته الزوجية، وحتى لو قال أو أدعى أنه هجر زوجته طوعاً بمحض إرادته إلا أن هذه القطيعة والفراق أغرقاه في وضع حزين وفي وضع طالب الاستغاثة من المجهول وقد أٍرغم على العودة لاستذكار إخفاق الحياة الزوجية لوالديه مرمياً على قارعة الطريق خارج العالم الاجتماعي المنسجم. كما لو أن العائلة هي وحدها القادرة على إبقاء الانسجام بين الفرد والعالم. وهنا يكمن أحد مفاتيح الفيلم الرئيسية. وفي خلفية الحدث هناك لقاء آخر مع شخصية ثانوية تسير بنفس الاتجاه في إحدى الليالي بعد أن فقد الشخص المقصود العابر زوجته في حادث سيارة، وليس موتها فقط هو الذي أثر فيه وزعزع كيانه بل حقيقة كون الزوجة هي التي تسببت عمداً في وقوع الحادث بعد حصول مشادة عائلية عنيفة بينهما. إذن فالتهديد ضد تماسك واستقرار العائلة يقود إلى التدمير النفسي وربما إلى الموت في أحيان كثيرة. وعند فيندرز، المرأة ليست سوى إحدى أعمدة البناء، والهيكل العائلي جزء أساسي في الخلية العائلية. فزوجة روبير الغائبة فيزيائياً أو جسدياً في الفيلم حاضرة معنوياً فهي ضائعة أو حائرة بين رجلين زوجها وعشيقها وهي نفس المشكلة التي عالجها غودار بحذاقة وذكاء ومهارة فائقة في فيلمه الجميل" المرأة المتزوجة" والذي أٍرغم على تغيير عنوانه بعد احتجاجات نسوية كبيرة، إلى " إمرأة متزوجة" بدون ألف التعريف لأن الفرق يكون بين التعميم ومجرد حالة خاصة لإمرأة متزوجة. ويعلق روبير عند ذكر زوجته قائلاً (لهذا السبب لا أشعر بنفس وأنا بقربها)..
أزمة ضمير:
التاريخ موجود وغالباً ما يتحدث عنه الشيوخ والعجائز وكبار السن كصاحب إحدى دور العرض الذي يقص على برونو الأفلام الناجحة جماهيرياً والتي عرضها في صالته في الماضي وأيضاً المنغصات والازعاجات التي تعرض لها بعد الحرب لكونه كان عضواً في الحزب النازي وما بذله من جهد لاسترجاع صالته. صور الفيلم كالمعتاد بحركات ترافلنغ، متابعة، بطيئة، والتي تمسح الفضاء السينمائي سواء من وجهة المخرج السينمائي أو وجهة نظر الشخصيات. الحوار قليل وتنكشف عبره مجموعة من الحركات الروتينية وبلا تطور درامي تشويقي يشهده المشاهد ولا تغيرات حدثية زمانية ومكانية رغم تنقل الشخصيات الكثير. وبما أن برونو يمر كل عام وفي نفس الوقت في نفس الأماكن، في دورة مغلقة من الزمن الحياتي، فإن الرحلة الداخلية تقود إلى نفس الردب أو المأزق النفسي وإلى نفس الطريق المسدودة سيكولوجياً، أي الوحدة المطلقة والفرغ الرهيب وغياب المعنى لمثل هذا الوجود الفردي الانساني الشبحي، أي باختصار إلى حالة الاستلاب القصوى..
قيل وكتب الكثير عن فيلم فيم فيندر الشهير( باريس-تكساس) وهلل النقاد التقليديون قائلين ( أخيراً هاهو فيندرز يروي لنا حكاية ، قصة واضحة في فيلم - وقد حاز الفيلم على الجائزة الأولى في مهرجان كان الدولي – وتتلخص هذه " القصة" بأب يبحث عن ابنه وزوجته السابقة التي هجرتهما هو وابنهما ، أو التي ضيعها منذ أربعة أعوام كما يحب أن يعتقد ويقول. النظرة التحليلية للفيلم تقول أن الفيلم لا يروي هذه الحكاية وإن كان هذا هو ظاهر الأمر. وإن هناك قصة أخرى خفية لهذه ولاحقة لها.. البحث عنها وكشفها هو موضوع الفيلم الحقيقي، وإن " ترافيس" بطل الفيلم، هو تجسيد لمقولة روبير في فيلم " على مر الزمن" حين يقول " أنا هو قصتي". فترافيس يحاول أن يعيد تشكيل وترميم وجوده. وحكاية دارت وتدور خارج الحدث المعروض (أي خارج ميدان الأحداث الفيلمية المباشرة والمرئية على الشاشة) . ويمكن للمشاهد، الذي لم يشعر أو يكشف هذه الحكاية الموازية لــ اللاقصة في واقع الأمر لترافيس ، أن يتساءل عن هذا المستوى من الانحطاط المعنوي والانهيار النفسي وهذه الدرجة من التدني الروحي والسيكولوجي وهذه الوضعية المتجمدة والحالة المتخشبة لمجرد وقوع حادث طلاق بسيط مبتذل وعادي يحدث يومياً آلاف المرات دون هزات نفسية أو كوارث؟ وبعد هذا اللغو والغموض والانتظار من قبل المتفرج لمجموعة من الأحداث والتعقيدات التي تأخذاً منعطفاً استثنائياً في مسارها ليتكشف للمشاهد في النهاية ان السبب هو مجرد عملية افتراق أو انفصال زوجين بينهما طفل- حكاية كل يوم - ليس إلا؟؟؟... ومن دراسة وتحليل عالم فيندرز الجمالي والفلسفي والنفسي نستشف أن ترافيس يعيش هذا الواقع ويغوص في هذه الحالة التي تطوقه ليس فقط أثناء أحداث الفيلم بل وقبلها، فهو ضائع في الحياة حتى قبل أن نراه في الفيلم إبان سعيه لاستعادة ابنه والبحث عن زوجته وتعريف الطفل بأمه، فذلك ليس إلا جزءاً من مسيرة حياة طويلة يواصل بعدها كما عاش قبلها، استلابه وجولته كتائه أبدي في الحياة التي لم يكن لها معنى من قبل ولن يكون لها معنى بعد ذلك بالنسبة له، وما الزوجة والطفل سوى حادث عرضي في حياته. إذ نراه يستأنف تشرده وتسكعه في دروب الحياة الوعرة. في أثناء فترة العرض التي يستغرقها وقت الفيلم نرى قطعة مختارة ومنتقاة عمداً من حياة كاملة تحل فيها مشكلة ما وليست المشكلة الأساسية، وهي مشكلة الانفصال عن العالم الواقعي وعدم التكيف معه كما سبق وتجسد في مضامين أفلام المخرج الأخرى السابق وكذلك في أفلامه اللاحقة. فعند بداية الفيلم، بعد أن جمع بين الأم والابن يغادر وحيداً ليواصل رحيله بلا هدف محدد كبقية أبطال فيندرز التراجيديين، الشعراء الصعاليك الهائمين على وجوههم بلا هدى. وحتى الانعطافة التي تكون نسيج الفيلم سوف تتيح له أن يرجع إلى أصول وجذور مأساته الشخصية ولأجل ذلك عليه أن يعود طفلاً حتى يعيش هذه الطفولة الضائعة ويتحسس ويشعر برعاية الآخرين له واعتماده عليهم – مازالت هذه الحالة عالقة به كخوفه من ركوب الطائرة – وإصراره على ركوب نفس السيارة لمواصلة السفر. وعندما يتقبله ابنه الطفل ، الذي لم يربيه بنفسه، كأب، يتوقف عن أن يكون ابنه طفلاً وصار لزاماً عليه أن يتحمل مسؤولية، ولو مؤقتة... وبما أنه فقد الوحدة العائلية عند أبويه، أراد بنائها، أو بالأحرى إعادة بنائها بين زوجته السابقة وابنه الذي لم يربيه وينشئه بنفسه. وحين تمزقت خليته العائلية وهجرته زوجته كان أخوه " والت" موجوداً وهو الذي تبنى الطفل الرضيع ورباه مع زوجته لأنهما كانا بحاجة إلى عامل آخر لحماية عائلتهما من التفكك وكان هذا العامل هو الطفل إبن ترافيس. وأصبح على الطفل" بينتر" أن يكون ناضجاً وبالغاً في سن مبكرة جداً ليلقي على هذا العالم نظرة حاسمة ويأخذ هو نفسه قيادة الدفة، أي عملية البحث عن أمه ودفع والده للالتقاء بها مرة ثانية ويكون الند لأبيه، يستمع لشكواه وهو ثمل، ومن ثم يعود طفلاً عند لقائه بأمه لأول مرة ، ومرة أخرى ليست المرأة هنا سوى أم. ونرى هنا أن لامبالاة ترافيس تجاه العالم أعمق من لامبالاة برونو وفيلهلم، فهو يتسكع كأنه داخل ديكور مسرحي - نظراً لقلة اللقطات الخارجية للفيلم – بضعة حركات تتابعية ترافلنغ للصحراء ولقطات كبيرة لبنايات حديثة وعصرية وبعض القطارات..
بدأ ترافيس كأنه فنان مقطوع عن العالم الخارجي وعن الآخرين وإن المشاهد التي تجمعه مع شخصيات أخرى مشاهد صامتة. فما هو السبب لهذه الحالة الغريبة التي يعيشها ترافيس؟ ماهو الحدث المفزع والرهيب في ذكرياته الدفينة التي لايتجرأ على الحديث عنها؟ ( أخاف مما سأكتشفه) هذه الجملة هي التي تلخص حقيقة عالم فيلم " باريس – تكساس" وليس ما نراه من أحداث وتفاصيل يومية مبتذلة وعادية .
رحلة بين الجنة الوهمية والجحيم الواقعي:
يقدم فيلم جيم جارموش" غريب في الجنة"، في هذا السياق، موضوعاً حساساً يطرح المخرج من خلاله رؤيته (للجنة الرأسمالية) التي تعرضها الامبريالية الغربية من خلال بطلته التي غادرت بودابست إلى نيويورك، أي انتقلت من بلد اشتراكي متواضع إلى بلد رأسمالي متقدم يعتبر من أقوى وأعتى بلدان العالم. وهذا الانتقال يعني في ذهن الأبطال أن الجنة هي التي ستدخلها بطلة الفيلم إيفا الهنغارية ذات الستة عشر عاماً. لا يعرض لنا الفيلم الحركة الدائبة لمطار كندي وفخامته بل يبدأ بلقطة كبيرة لمدرج الهبوط وحواشيه الرمادية الكالحة التي تلتهمها الرياح. ثم تتابع الكاميرا البطلة لإيفا بحركات ترافلنغ متابعة بطيئة في مدينة نيويورك وداخل شوارعها القذرة الكئيبة وأحيائها الفارغة الحزينة.. شوارع مليئة بصناديق القمامة والأوراق الوسخة المتناثرة. هكذا يبدو العالم الجديد الذي تلجه إيفا من أول مشهد بعد أن كان حلماً براقاً في عيني إيفا الباردة، العازمة على المضي في التجربة، والتي جاءت لتمضي عشرة أيام عابرة (كمحطة استراحة) عند ويلي ابن عمها الذي لا تعرفه، قبل الالتحاق بعمتها المهاجرة المقيمة في كليفلاند. يستقبلها ويلي ببرود وتردد ظاهر وملحوظ ويعاملها بفضاضة وقسوة، ويلف نفسه بصمت عدائي تجاهها ويترك الفتاة الشابة الزائرة الغريبة القادمة من بلده الأصلي وحيدة في غرفتها الكئيبة، وكانت الغرفة غارقة في الفوضى وغير مرتبة و لا نظيفة وليس فيها أية مسحة جمالية.
فويلي هو إبن مهاجر هنغاري ( عم الفتاة إيفا) واسمه الحقيقي هو ربيلا لكنه يرفض حمله والجهر به واستخدامه ويختار اسماً أمريكياً امعاناً في الاندماج لأن اسم ويلي يتناسب مع صورة البلد الذي يعيش فيه. بل نراه يخفي أصله الحقيقي عن صديقه الأمريكي القح إيدي.. ويرفض أن يتحدث باللغة الهنغارية مع ضيفته وابنة عمه ولا يريد أن يسمع أخبار بلده الأصلي وبلد والده وعائلته وأجداده، ولا شيئاً عن أخبار هذه العائلة التي منحته الوجود والانتماء.. لقد قرر أن ينسى هنغاريا ويتنكر لها وأن يصبح مثل إيدي قلباً وقالباً لا يفرقه أو يميزه شيء عنه. أمريكياً قحاً لكنه في الواقع لا يستطيع ذلك وهذه هي عقدته. فهو في الحقيقة يعيش على هامش المجتمع الأمريكي (يمضي أوقاته بلعب القمار والورق وسباق الخيل خارج ما يعرف بالحياة على الطريقة الأمريكية، بعيداً عن أية بوادر نجاح اجتماعي أو مهني أو حتى عن أية إمكانية للاندماج الحقيقي في هذا المجتمع القاسي الذي لا يرحم. فهو بلا عمل و لا علاقات اجتماعية حقيقية مثمرة، فهو أمريكي فقط بأوراقه وعلى جواز سفره لكنه في حقيقة الأمر فاقد الجذور والهوية، أولاً باغترابه عن بلده الأصلي الذي قطع كل صلاته به، وثانياً عن المجتمع الجديد الذي يرفضه ويعامله كغريب أجنبي و لا يعترف به كمواطن أصلي، والحال أنه لا يوجد مواطنون أصليون في هذا البلد الهجين. وهو لا يمكنه بدوره التكيف والتأقلم حقاً مع طبيعة الحياة في هذا المجتمع الأمريكي العنصري. كما أنه لا يملك أي تصور أو مشروع مستقبلي ولا ذكريات تسنده في ساعات المحنة والاختبار الصعب. أفرغ رأسه كلياً من كل شيء، وإن تجاهله ولامبالاته بالذين يحيطون به، ما هو إلا صورة لخواء حياته الضائعة بين عالمين. إن وصول إيفا أثار حفيظته وانزعاجه لأنه خاف أن يرغم على إعادة علاقاته بماضيه المنسي عنوة والذي يحاول أن يهرب منه، وهو يخشى الكلمات وبذلك فقد وسيلة الاتصال والتواصل مع الآخرين عبر اللغة. فهو لا يعبر عن أحاسيسه ومشاعره ويعطي وجهاً جامداً بلا تعبير وذو نظرة باردة حيادية وحركات آلية كسولة. وعندما يقدم فستان كهدية لإيفا تعلن له وبلا مواربة أو مجاملة وبصراحة واضحة أنه لا يعجبها، يظهر عليه القنوط بعد مغادرة إيفا للالتحاق بعمتها، حيث يبقى جالساً في مقعده فترة طويلة من الزمن غارقاً في صمته وأفكاره. هل يتأسف على ما مر به ؟ لا أحد يدري. أما إيفا فهي أكثر عملية وعقلانية من ابن عمها فهي قوية ومصممة على النجاح فنراها تعثر على عمل في إحدى البارات في كليفلاند وتتعرف على صديق أمريكي ولكن ويلي لم يعد يحتمل فشله. وفي لحظة يقرر فجأة الذهاب لزيارتها برفقة صديقه إيدي، بعد سنة من وصولها، عندها يجبر على العيش في مناخ هنغاري لأن العمة العجوزة التي تأوي عندها إيفا لا تتكلم سوى اللغة الهنغارية ولا تعد سوى الوجبات الهنغارية وتراقب إيفا بشدة. ويقبل ويلي بهذا الإيقاع وجلسات لعب الورق المملة والثرثرة باللغة الهنغارية التي لا يطيقها ولا يحتملها حيث يجتمع الثلاثة في إحدى الضواحي المقفرة النائية والفقيرة والحزينة في آن. وهي ليست أحسن حالاً من أصغر قرية هنغارية على حد قول العمة حيث يعيش الجميع في بيت مسبق الصنع كعلبة الكبريت. ولم ينشأ حوار بين العمة وويلي وصديقه إيدي فلا أسئلة ولا أجوبة. تقرر إيفا مرافقة ويلي وإيدي إلى فلوريدا لكن مدينة فلوريدا لا تختلف عن نيوويورك ولا عن كليفلاند (عكس ما يتوقع المشاهد وينتظر رؤية مناظر الشواطيء الساحرة والحسناوات بالبكيني التي تبثها السينما الأمريكية ووسائل الإعلام السياحية الدعائية، فهي الصورة الشائعة عن بلاجات فلوريدا الأسطورية. لكن المخرج قدم الصورة الصادقة وبلارتوش عن هذه المدينة وعرض شواطيء مقفرة تغزوها الأعشاب البرية، وفندق من الدرجة العاشرة. عاش الثلاثة حياة السياحة الساذجة، مع عدم ظهور الشمس والجو الغائم. وبذلك وبلا مبالغة ولا تعليق يعرف المشاهد أن فلوريدا ليست جنة على الأرض هي الأخرى وهي كاذبة وخادعة ووهمية شأنها شأن بقية المناطق والمدن والولايات الأمريكية القذرة والفارغة والفقيرة. وعندما وفرت الصدفة مبلغاً من المال بين يدي إيفا كان أول ما فكرت به هو العودة إلى هنغاريا لأنها هناك تمتلك الكرامة والواصل مع المحيط. وتكمن قوة الفيلم بإيقاعه حيث اللقطات ثابتة تقريباً، ومشاهده واضحة ومحددة، مأخوذة من زوايا متعمدة ومقصودة ومدروسة بعناية لتعبر عن فكرة الفراغ والجنة الموهومة أو غير الموجودة في الواقع بل في خيال بعض الناس المخدوعين. كان المخرج يلحق كل مشهد بلقطة مظلمة حيث يسود السواد والظلمة الشاشة لبضع ثواني، وهي وسيلة لخلق حالة من التبعيد والتغريب البريشتي بين المشاهد وعالم الفيلم المعروض أمامه وكنس إمكانية التقمص واختار تصوير ذلك بالأبيض والأسود وذلك لأنه أفضل من الألوان لعكس المضمون والمحتوى الفكري للفيلم ورسالته كما صرح المخرج.
وهكذا عبر هذه النماذج الفيليمة المنتقاة من بين مئات غيرها تحدثنا عن الاستلاب والغربة لدى الانسان الغربي، والتي هي انعكاس لواقع حقيقي تعيشه تلك المجتمعات.



#جواد_بشارة (هاشتاغ)       Bashara_Jawad#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وودي ألن إله الكوميديا الغامض
- مفهوم الزمن في السينما
- لعبة توزيع جوائز الأوسكار وفيلم الطفيلي الذي حصد ستة منها
- الكون المضيء والكون المظلم
- المتاهة العراقية اليوم
- مقدمة كتاب الثالوث المحير: الله الدين العلم
- العراق : الطوفان القادم
- معضلة الزمن بين حياة وموت كوننا المرئي: -2-
- معضلة الزمن بين حياة وموت كوننا المرئي
- مصير العراق في منعطف خطير
- مقابلة مع المخرج الكوردي التركي الراحل يلماز غوناي
- العراق : ماذا بعد استقالة عادل عبد المهدي؟
- هل ما تزال المرجعية الدينية العليا في النجف مصرة على إبقاء ا ...
- الحقيقية الكونية و ألغاز الكون العصية
- من مهازل العملية السياسية في العراق
- العراق السيناريو الكارثي
- العراق ذلك اللغز العابر للأزمان، هل سيتجه نحو الحل أم نحو ال ...
- آه ياعراق لماذا كل هذه القسوة على الأبناء مرة أخرى بعد إثني ...
- الزمن الكوني والزمن البشري
- صورة الكون المرئي العلمية والثيولوجية


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جواد بشارة - الأسلوبية في السينما الغربية