أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - حديث عن عائشة: مستهل الفصل الحادي عشر















المزيد.....

حديث عن عائشة: مستهل الفصل الحادي عشر


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 6506 - 2020 / 3 / 4 - 20:32
المحور: الادب والفن
    


1
العام التالي لوطء الفرنسيين أرضَ الشام، فاضَ بالأحداث الداهمة والتطورات المستطيرة. لكن العام بدأ، على غير المتوقع، بعاصفة ثلجية جللت المدينة حتى قمة رأسها، ثمة في قاسيون. قلة من السكان، جرأت على القول أنها " سنة بيضاء "؛ مستبشرة بتساقط الثلوج. لو استثنينا بعض الوجهاء وشيوخ البدو، يُمكن التأكيد أن رفض التعامل مع الغزاة كان شبه رأي عام بين الغالبية المسلمة. هذا مع أن الفرنسيين أكدوا، في المقابل، أنهم حرروا سورية من أغلال الاستعباد التركيّ ومهمتهم الآنَ تنحصر في بسط الحماية عليها تمهيداً لمنحها الاستقلال التام بعد تهيئة دستور جديد يضمن حقوق الأقليات. في واقع الحال، أن هامشاً كبيراً من الحرية بدأ في الظهور إن كان في الصحافة أو الحياة السياسية بشكل عام. حتى لقد تعالت دونَ خشيَة، الأصواتُ المنددة بالاحتلال سواءً على صفحات الجرائد أو على لسان بعض السياسيين.
الصحيفة، المؤسسة من لدُن أحمد ملا، كانت من تلك الأصوات العالية، ما جعل لها شعبية ملحوظة، خصوصاً بين الفئة المثقفة. كون عمل خلّو في البساتين يبدأ مساءً، فإنه اعتاد عقبَ الغداء المرورَ على مقر الصحيفة كي يستعلم عن آخر الأخبار ولم يكن يخرج منها إلا وتحت إبطه رزمة من نسخ العدد الجديد كي يوزعها على معارفه ممن يجيدون القراءة. ذات ظهيرة، التقى في مكتب صديقه المحرر برجل من أبناء جلدته؛ هو " محمد كرد علي ". كانت له شهرة في عموم البلد على خلفية تأسيسه مع شقيقه صحيفة " المقتبس " ذات الآراء الدستورية، المناهضة للاستبداد الحميديّ. أعتقله جمال باشا في خلال فترة الحرب، بعيد عودته من مصر؛ وكان قد تابع هناك نشاط صحيفته. وكاد الحاكم العسكريّ التركيّ أن يعلقه على المشنقة، مثلما فعل بكوكبة من الوطنيين السوريين واللبنانيين، لولا أن مستشاريه أكدوا له أن الرجل من أكبر المناهضين لدول الحلفاء.
" علينا أن نمنح الفرنسيين فرصةً، ليثبتوا صدق دعواهم بشأن منح سورية استقلالها. وإلا فإن الأتراك يتربصون بنا من الشمال كي يعيدونا إلى حظيرتهم، والانكليز من الجنوب يسعون إلى ضمنا إلى اتحاد هاشمي يفقدنا حريتنا "، كذلك انتهى رأيُ الصحفيّ الشهير. هذا الرأي، فاجأ خلّو بالأخص لما كان يعلمه عن سيرة صاحبه وعدائه الشديد للمستعمرين الجدد. عندما عبّر عن استغرابه بالكلمات، ابتسمَ كرد علي وهوَ يتمعن فيه من وراء زجاج نظارته الطبية. عاد ليقول: " السياسة فن الممكن، والسوريون لم يألفوا بعدُ التعامل مع هذا الفن. فرنسا دول كبرى، لديها جيش حديث. جربنا مواجهتها في ميسلون، وماذا كانت النتيجة؟ "
" على فكرة، أستاذ محمد، صديقنا خلّو كان من المشاركين في تلك المعركة "، تدخل أحمد ملا بالحديث. أبدى الأستاذ سروره بالمعلومة، قائلاً أن هذا يدل على وطنية السوريين على اختلاف جذورهم القومية. هز خلّو رأسه موافقاً، ثم آبَ إلى موضوع المجادلة: " حقاً إننا غير قادرين على إلحاق الهزيمة بالفرنسيين في مواجهة عسكرية، لكننا نستطيع جعل إقامتهم في البلد غالية الثمن بشن حرب عصابات في مناطق متعددة وفي آنٍ معاً "
" كانت ثمة عصابات كثيرة في سني الحرب، غير أنها جيوشُ الحلفاء من تمكنت من إخراج الأتراك من سورية. أليسَ صحيحاً؟ "، تساءل الأستاذ ثم أسرع إلى الإجابة بنفسه: " هذه حقيقة، أنتَ خبرتها بنفسك على ما أظن ". آبَ محررُ الجريدة إلى دخول النقاش، وهذه المرة لتذكير الأستاذ بمعلومة أخرى: " خلّو كان هوَ قائد العصابة، التي عملتُ في صفوفها في سنوات الحرب ". خجل خلّو من الإطراء، كما من نظرات الإعجاب المرتسمة على وجه الضيف عالي المقام. تمتم خافض الرأس: " كلٌ منا عملَ في مجاله، وأتمنى الآنَ أن يستمر النضال ضد المستعمرين الجدد "
" مثلما قلتُ، سنعطيهم مهلة من الوقت كي ينفذوا وعودهم. فإن تبين أنها مجرد كلام، نعود إلى حمل السلاح هذه المرة "، خلص الأستاذ إلى نهاية حديثه قبل أن ينهض ويستأذن في الانصراف.

***
في مستهل ذلك العام، كان الحاج حسن ما ينفك محتفظاً بوظيفته كزعيم للحي. لكنه أحيط علماً بقبول طلبه الإحالة على التقاعد، وأنها مسألة وقت. من خلال معارفه في الحكومة، علم أيضاً أن ثمة فكرة لتقسيم الحي إلى مركزين، يكون على رأسه زعيمٌ تحت اسم العمدة أو المختار. السبب، أن الحي أضحى كبيراً ولم يعُد بمقدور زعيم واحد الإحاطة بمشاكله ومتابعة معاملاته الرسمية وغير ذلك من أمور. الزعيم، كان يود السفر مرة أخرى للحج بمجرد حصوله على التقاعد؛ بما أن الأحوال العامة غدت مستقرة. هذه الفكرة، جعلته يتمنى لو يحظى برؤية أحد أقاربه، المقيمين في مازيداغ، ممن اعتادوا على المرور بالشام في طريقهم إلى أرض الحجاز.
لكنها " رفاعية "، الأخت غير الشقيقة لخلّو وحسّو، مَن قدمت على الأثر من موطن الأسلاف. كانت والدتها من آل لحّو، بينما زوجها من عشيرة أبيها؛ الايزولان. أقاما في مدينة أورفة في خلال الحرب، ثم آثرا الهجرة إلى الشام عقبَ اشتداد الفوضى في الإقليم على خلفية هزيمة الأتراك واجتياحه من قبل قوات الحلفاء والمتطوعين الأرمن واليونان. رحبت بها امرأة الأب، قائلة أن هذه دار والدها وفي وسعها الإقامة فيها. علمت من ثم، مغتمةً، أن أخاها حسّو ( حمو جمّو ) ينتظرُ تنفيذَ حكم الإعدام وأنه لم تنفع التوسلات للحكومة الجديدة بشأن تخفيف الحكم.

2
عقبَ حلول رفاعية في منزل أبيها بحوالي أسبوع، صارت لها حجرة خاصة تم تشييدها إلى يسار باب الدار. وقد فُتحَ بابٌ للحجرة إلى الجادة، فضلاً عن باب داخليّ يُفضي إلى المطبخ والحمّام. الزوج، " إبراهيم "، وسيُعرف في الحارة بلقبه " برو طنبورفان "، كان يتعيّش في الوطن على صوته الجميل وعزفه على آلة الطنبور. لم يرزقا بأولاد، مع أنّ عُمر كل منهما تجاوزَ الثلاثين. آخر منشد كان يُحيي أمسية النيروز في إيوان زعيم الحي، توفيَ قبل نشوب الحرب. مع اقتراب المناسبة، كان يُمكن للحاج حسن أن يفكّر بإعادة ذلك التقليد مع المغني الجديد؛ لولا موضوع الحكم بالإعدام على أخي زوجة الرجل. هوَ ذا الرجلُ الغريبُ في ضيافة الحاج، مع غيره من مرتادي المضافة، وكان الوقتُ بعدَ الإفطار. كون الإشاعات حول مصير حمو جمّو مشتعلة في الحي، لم يجد الحضورُ حديثاً آخر يشغلون به أمسيتهم.
" يُقال أن الفرنسيين نقلوه إلى قلعة المزة، خشية أن يقوم عناصرٌ من الدرك بتهريبه "، قال عبده خالد. اتجهت أنظارُ الحضور عندئذٍ إلى عمر كرّي عيشة، وكان جالساً وعليه قيافة سلاح الفرسان. وقد أعطى رأيه بعد مهلة تفكير قصيرة، بالقول: " نعم، نصف عناصر الدرك في القلعة من أبناء جلدتنا ". لكنه لم يعلّق بشيء على جوهر الموضوع، ولاحَ أنه غير متحمس له. إنّ حمو جمّو، بنظر كثيرين من عقلاء الحي، كان نموذجاً سيئاً لقاطع الطريق، الخالي من الإيمان بأيّ قضية سوى السلب وسفك الدم. مع ذلك، اكتسبَ تعاطفاً شعبياً كبيراً على خلفية دخول الفرنسيين إلى دمشق بصفة أخلاف للصليبيين: أُعيدَ هنا ذكرُ حقيقة إصرار هؤلاء الأخيرين على تنفيذ الحكم القضائيّ بحق قاطع الطريق، وذلك بسبب هجماته ضد قواتهم في جبل لبنان علاوة على اعتداءاته على القرى المسيحية.

***
في مستهل نيسان من ذلك العام، وبعد العيد الصغير مباشرةً، تسلمَ عمر كريّ عيشة أمراً من قيادة الدرك بنشر عناصره في أماكن معينة من الحي. في بادئ الأمر، أعتقد أن المسألة تتعلق بتحركات عصاباتٍ كردية، معادية للوجود الفرنسيّ، تنشط في الغوطة والريف. لكنه فهم طبيعة المسألة حينَ استلم أمراً آخر، وكان يقضي بإحضار الابن الوحيد لحمو جمّو إلى مقر آمرية الدرك، الكائن بالقرب من السرايا. حُدد صباح اليوم التالي موعداً لجلب الصبيّ البالغ أربعة أعوام، شرط أن يرافقه شخصٌ واحد من أقاربه. وكان الأمرُ يشدد على السرية، وألا يُحاط به أهلُ المحكوم بالإعدام إلا لحظة جلب الصبيّ ومرافقه إلى المقر. غبَّ إيابه إلى البيت، بقيَ عُمر نهباً لأفكار متضاربة، جعلته مستسلماً للأرق: كان صديقاً مقرباً لخلّو، يُقدّره كثيراً كرجل مبادئ كاد أن يفقد حياته في سبيلها. لو أنه بلّغه اليومَ بالأمر السريّ، فكّرَ عُمر مهموماً، ربما يُقدم هذا على عمل متهور؛ كأن يتصل برجال العصابات، وبعضهم عمل تحت أمرته في زمن الحرب أو شاركه معركة ميسلون، كي يُحاولوا إنقاذ حمو جمّو ولو بعمل جنونيّ ـ كاقتحام مقر آمرية الدرك، على فرض أن شقيقه محتجزٌ فيه لحين وقت تنفيذ حكم الإعدام.
صباحاً، صادفَ أن جدّة الصبي هيَ من فتحت البابَ لدورية الدرك. كانت أم حسين تعرفُ الآمرَ، وتحمل له في داخلها تقديراً كبيراً مذ يوم اقتحامه لبيتها للقبض على ابنها الكبير قبل حوالي ست سنوات. دهشت لوجود سيارة عسكرية على ناصية الجادة، وظنت أنّ الأمرَ متعلقٌ بابنها خلّو.
خاطبها عمر بالكردية، بنبرةٍ حاول أن تكون طبيعية: " حسّو يرغبُ برؤية ابنه. لا مانعَ، لو شئتِ، القدوم مع الغلام أو ربما والدته ". ردة فعل المرأة، كانت عنيفة ومؤثرة. تهالكت على قدميها إلى الأرض، ثم جلست وهيَ تلطم وجهها وتشد شعر رأسها. لكن الغريب أنها لم ترفع صوتها بعويل أو صراخ، مكتفية بنهنهة بكاء مريرة. في الأثناء، ركضت عيشو كي تستفهم جليّة الأمر وما لبثت أن راحت تهدئ حماتها وقد ظنّت أن الدرك جاؤوا بخبر إعدام حسّو. هنا، بادرَ آمرُ الدرك إلى شرح الأمر باقتضاب. بعدئذٍ خاطبَ عيشو، وكأنه تذكّرَ وجودَ زوجها في المنزل: " إذا كان في الوسع إيقاظ خلّو، لعله يرغبُ هوَ بمرافقة الغلام؟ "
" لا يا بني، أنا مَن سيرافق الغلام "، تعهّدت الحماةُ الرد. وما عتمت أن انتصبت على قدميها بمساعدة كنّتها. ثم خاطبت هذه الأخيرة، طالبةً منها أن توقظ الصبيّ. على الأثر، ظهر خلّو وراحَ يُحملق بعناصر الدرك إلى أن حط بصره على آمرهم: " خير ياو؟ ما الأمر؟ "، سألَ صديقه. أجابَ عمر باختصار، ذاكراً مضمونَ الأمر الصادر عن القيادة، مؤكداً أنه لا علم له بشيء عداه. أدرك خلّو أنها رغبة شقيقه الأخيرة قبل تنفيذ الحُكم، وما أسرع أن تمالك زمام نفسه: " سأمضي معكم. إذا منعتُ من رؤية شقيقي، فعلى الأقل أعود برفقة الغلام وجدته "، قال ذلك بكرب. وكانت عيشو قد أخبرته، سلفاً، ببعض تفاصيل ما جدّ قبل قليل بين والدته والآمر.
بعد دقائق، ظهرَ الصبيّ وعلى عينيه بقايا النوم وكان محمولاً بين يديّ والدته. قبلته هذه باكيةً، ما فاقمَ من جزعه. ثم خاطبت حماتها، قائلة وهيَ تشرق بدمعها: " سلّمي على حسّو، يا خالة، وسنلتقي معه في جنة الخلد إن شاء الله! ".
رمقتها الحماة بنظرة صارمة، ثم انتزعت منها الصبيّ بطريقة فظة فيما كانت تغمغم كلاماً مبهماً. لعلها تذكّرت مسألة زواج ابنها بشقيقتين، وأنه لولا ذلك كان قد حظيَ منذ العام المنصرم بعفو الملك السابق.

3
ظهرَ أن السلطات كان لديها نفسُ مخاوف آمر الدرك، عمر، في شأن إمكانية لجوء عصابة ما إلى محاولة تهريب قاطع الطريق، المعتقل. هذا الأخير، تم نقله أكثر من مرة بين أماكن حجز مختلفة إلى أن استقر في سجن صغير داخل المدينة القديمة، يُعرف على لسان العامّة على اسم صاحب مقام بالقرب منه؛ " الشيخ حسن ". السيارة العسكرية، التي نقلت أسرة حمو جمّو إلى مقر آمرية الدرك، عليها كان أن تكمل طريقها إلى ذلك السجن بعدَ توقفٍ قصير للتأكد من هوية أفراد الأسرة. لكن كما كان المتوقع، رُفض التماس خلّو لرؤية شقيقه، وكان قد نقله على لسان صديقه عمر. هكذا بقيا ينتظران عند بوابة السجن، فيما تم اصطحاب الغلام وجدّته إلى الداخل. ما جرى لاحقاً في المقابلة، نُقش تفاصيله في ذاكرة الغلام برغم أعوام عُمره اليافعة: والأرجح أنه تكرارُ الجدّة ذكرَ التفاصيل، عاماً بعد الآخر، لعبَ دوراً أساساً في ترسخها بذاكرة الحفيد .
" أردتُ أن أجعل منكِ سيّدة الحارة، مثقلة اليدين بالذهب، تقيمين في منزل كالقصر "، بادرَ حمو جمّو لمخاطبة والدته بعدما قبّل ابنه الوحيد. وكانت الأم بالكاد قد تعرفت على هذا الشخص، الذي سيقَ قبل برهة في حراسة عدد من أفراد الدرك؛ بشعر رأسه ولحيته، المنفوش المشعث، وأسماله الخَلِقة التي أعطته هيئةَ متسوّل متشرّد. لكنها عرفته، ولا شك، بمجرد أن التقت أعينهما.
ثم أردفَ قاطعُ الطريق، قائلاً: " لم يكن ذلك ممكناً بحراسة بساتين الفلاحين الصوالحة، ولا بقصم الظهر في كسّارة الصخور بالجبل. عليّ كان انتزاع المال والذهب بقوة ساعدي وفوهة بندقيتي، طالما أن الأغنياء يحصلون عليهما أيضاً بطرق غير شرعية ". الجملة الأخيرة، كانت على الأغلب منقولة دونَ وعي عن أحد آراء شقيقه خلّو.
" أفهمُ كل هذا، يا ولدي، لأنني أنا من شجعتك على هذا الضرب من العيش. وأنا فخورة بك جداً، لأن الناسَ أينما لاقوني يقولون أنك مجاهدٌ حاربَ الكفار في بر الشام وجبل لبنان! "
" أهذا ما يقولونه عني، فعلاً؟ "، تساءل قاطعُ الطريق مطلقاً ضحكة ساخرة. قبل أن ترد الأم، تدخلَ ضابطُ الدرك ليخاطبها بالعربية: " كفى أرجوكِ، يا خالة. وقت المقابلة انتهى، ويمكنك الآنَ توديعَ ابنك ". بدا الرجلُ متأثراً حينَ كلمها باحترام، كونه فهمَ حديثها مع ولدها والذي جرى باللغة الكردية. هذا الضابط، وكان من منطقة جسر النحّاس في الحي، سيُنقل على لسانه تفاصيلٌ سبقت إجراءات تنفيذ حكم الإعدام بقاطع الطريق الأشهر في الشام.

***
الصورة الوحيدة، المأخوذة لحمو جمّو قبيل إعدامه، نشرتها في حينه جميعُ الصحف السورية واللبنانية ثم انتقلت فيما بعد إلى الصحافة الفرنسية والمصرية. يبدو في الصورة بهيئته الوحشية، المذكورة آنفاً، وكان مكتسٍ برداء المحكومين بالإعدام ذي اللون الأبيض، المُذكّر بالكفن. عددٌ من عناصر الحكومة، المكلفين بتنفيذ الحُكم، كانوا يحيطون بالرجل فيما أحدهم يبدو وكأنه يساعده في ارتداء الكفن. جمعٌ من المتفرجين، لاحَ في خلفية الصورة بالقرب من مبنى ذي دورين، مظلل بأشجار باسقة. خط عربة الترام، الذي يقطع ساحة المرجة، كان يهيمن عليه ظلُ عامود المشنقة.
فجراً، وكان بدرٌ لامع يطل من بين قضبان نافذة الزنزانة، المطلة على مساكن المدينة القديمة، بدا حمو جمّو مستعداً لاستقبال يومه الأخير في الحياة. لم يُغمض له جفنٌ طوال الليل، كذلك لم يتناول العشاءَ المُعتَبَر، المقدّم من إدارة السجن؛ مثلما جرت العادة في هكذا مناسبة. بعد بضع ساعات حضرَ نفسُ ذلك الضابط برفقة عدد من أفراد الدرك، وما لبثَ أن سأل المحكوم لو كان يرغب بتناول الفطور. بامتناع المحكوم عن الجواب، أعطى الضابطُ أمراً بتقييد يديه إلى الخلف بوساطة أغلال حديدية. ثم ساروا على وقع قعقعة الحديد، إلى حيث تنتظرهم في خارج السجن سيارة عسكرية، مخصصة لنقل المحكومين. فيما سيارة أخرى، وقفت وراء الأولى كي ترافقها في خلال الطريق إلى ساحة المرجة.
لتكتمل أسطورة قاطع الطريق الأكثر شهرة في تاريخ الشام، فإنه لم يُسلم الروح إلا بعدما جعل تنفيذ الحُكم أشبه بمشهد مسرحية مثيرة، عُرضت على أنظار عدد كبير من الناس. ثلاث مرات، قطع حمو جمّو حبلَ المشنقة من خلال حركاته العنيفة وعناده العجيب، المتشبث بالحياة. عادةً، تتوقف إجراءاتُ تنفيذ الحكم بمجرد أن يقطع المحكومُ حبلَ المشنقة؛ ليصدر عليه من ثم قرار العفو أو يُستبدل بالسجن. لكن ممثل الحكومة، وكان قاضياً يرتدي ملابس رسمية مع طربوش أحمر، كان في كل مرةٍ يأمر بإعادة تنفيذ الحكم. صراخُ الجمهور المحتشد، المستنكرُ تعذيبَ الرجل بهذه الطريقة غير الإنسانية، ما عتمَ أن تحولَ إلى همهمة شاملة من كلمات الترحم عليه.
خلّو، كان يومئذٍ بين الجمهور المحتشد في ساحة المرجة. برغم عدم قبوله طريقة حياة شقيقه، فإنه أقسمَ على الانتقام له. بعد نحو شهرين، حينما أطلقت عصابةٌ من الثوار الكرد النارَ على الجنرال غورو، أعتقد كثيرٌ من أهالي الشام أنه ثأرٌ لحمو جمّو.

* مستهل الفصل الحادي عشر/ الكتاب الرابع، من سيرة سلالية ـ روائية، بعنوان " أسكي شام "



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جريمة مجانية
- حديث عن عائشة: بقية الفصل العاشر
- حديث عن عائشة: الفصل العاشر/ 2
- حديث عن عائشة: الفصل العاشر/ 1
- حديث عن عائشة: بقية الفصل التاسع
- حديث عن عائشة: الفصل التاسع/ 3
- صراع على العيش
- حديث عن عائشة: مستهل الفصل التاسع
- حديث عن عائشة: بقية الفصل الثامن
- حديث عن عائشة: الفصل الثامن/ 2
- حديث عن عائشة: الفصل الثامن/ 1
- مزحة، جريمة مزدوجة ومتورطون ثلاثة
- نادية لطفي؛ الوجه الجميل للفن/ 2
- نادية لطفي؛ الوجه الجميل للفن
- عصير الحصرم 77
- المنزل المنحوس
- حديث عن عائشة: الفصل السابع
- حديث عن عائشة: بقية الفصل السادس
- حديث عن عائشة: مستهل الفصل السادس
- حديث عن عائشة: بقية الفصل الخامس


المزيد.....




- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - حديث عن عائشة: مستهل الفصل الحادي عشر