أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فرج بيرقدار - “إلى الشرق”















المزيد.....

“إلى الشرق”


فرج بيرقدار
(Faraj Bayrakdar)


الحوار المتمدن-العدد: 1571 - 2006 / 6 / 4 - 09:34
المحور: الادب والفن
    


فصل من مخطوط "خيانات اللغة والصمت"
أنهى المساعد قراءة الأسماء، وطوى الورقة، ليضيف بصوت أنثوي حادّ وموقَّع:
ـ كل من ورد اسمه في اللائحة، يضبّ أغراضه.
تهلّلت أسارير بعضنا رغم ملامح الخيبة والحزن والقلق، التي ارتسمت على وجوه الآخرين، ولا سيما أولئك الذين لم ترد أسماؤهم في اللائحة.
إذن رُفعت الملفات، وجفّت الدماء بعد أحد عشر شهراً من التحقيقات، كان الله خلالها، ينظر إلى جهنمه بازدراء.
ـ لن تفرحوا بها، قال المساعد، فو الله أينما ذهبتم، سيكون مرجوعكم إلي، ولن تخرجوا، إذا كان لكم نصيب في الخروج، إلا من هنا، حتى لو بعد خمس سنوات.
لم يكن لدينا أغراض لنضبَّها، فقد كانت زياراتنا ممنوعة طوال فترة التحقيق.
خرجنا من فرع فلسطين بثيابنا وقيودنا فقط.
كنا نتمنى أن يفضي خط رحلتنا إلى سجن صيدنايا، فقد سمعنا بطريقة ما، أنه افتتح منذ شهور، وأن جميع رفاقنا القدامى، أصبحوا فيه الآن.
ولكن من يدري؟! فمنذ بداية الحملة والوقائع تسير خارج توقعاتنا، وأحياناً على النقيض تماماً.
ألم نعتقد خلال الشهور الثلاثة الأولى من اعتقالنا، أننا نجحنا في إغلاق جميع الثغرات الأمنية؟!
لا بل إنهم نقلونا إلى الفرع |248| كمحطة على طريق نقلنا إلى سجن ما، وفجأة أعادونا إلى فرع فلسطين، ليبدأ التحقيق من جديد، وعلى نحو انتقامي فاجر.
ثم ألا يمكن أن يواصلوا انتقامهم، فيرسلوا مجموعتنا إلى سجن المزة مثلاً؟
كان ملفتاً للانتباه أن مجموعتنا الآن منتقاة على الأرجح بصورة مدروسة: عسكريون وأعضاء لجنة مركزية حصراً. وفي هذا من الاعتبارات، ما يكفي لجعل احتمال عزلنا وارداً وربما مرجحاً، لأسباب أمنية على الأقل وانتقامية وحتى إجرائية.
لا بأس.. المهم أن الشطر الأكثر خطورة في هذه الرحلة العمياء قد انتهى، وها نحن الآن في طريق آخر، يستحيل أن يكون أكثر سوءاً، مهما كانت احتمالاته.
قامات مهدَّمة، تسير متحاملة على نفسها، وليس لها ما تتكئ عليه سوى الكبرياء.
لم تكن المسافة من فرع فلسطين إلى الفرع |248| تتعدى الدقائق.
هناك أوقفونا في أحد الكوريدورات من العاشرة صباحاً حتى الرابعة بعد الظهر.
ـ أنت.. أبو البيجاما البنّية.. إنهض.
ـ لا أستطيع.. معي كسر في الحوض.
ـ قلت لك إنهض أحسن ما أجيبلك الدولاب ها!
ـ قلت لك لا أستطيع، ودولابك أيضاً لا يستطيع.
يبدو أن الإجابة أحنقت العنصر وأربكته، وحين لم يجد رداً مناسباً، صبَّ انفعاله باتجاه آخر.
ـ أبو الكنزة السوداء وجهك لقدَّام..
ـ وأنت أيها الحوت.. يديك وراء ظهرك..
ـ يداي نصف مشلولتين.
ـ من شو.. يا عين أمك؟
ـ من ألله.. وربما من الكرسي الألماني.
ـ بس.. بلا حكي برَّا الطريق..
ـ دعهم يا رجل.. فرع فلسطين كفَّى ووفَّى.
ـ من أراد الجلوس، يجلس.. ولكن حذار من البربرة والبصبصة.. وأنت أبو الفيلد العسكري، ثبِّت الطمّيشة على عينيك أحسن ما أحطلك طمّيشة ثانية.
أمسكني أحدهم من كتفي:
ـ تعال أنت.
سحبني بضعة أمتار، وربما أدخلني إلى واحدة من الغرف المجاورة. سألني صوت هادئ ومسالم، رغم نبرته الاستجوابية:
ـ أنت هو الشاعر أليس كذلك؟
ـ لا أدري إن كنتُ أنا من تعنيه.. ولكني أكتب الشعر.
ـ ماذا كنت تعمل قبل التخفّي؟
ـ في الصحافة.
ـ هل حقاً لك أشعار مطبوعة؟
ـ نعم.. لي بعض الأشعار المطبوعة.
ـ أين طبعتها؟
ـ في لبنان.
ـ ووزّعتها بصورة غير مشروعة طبعاً!
ـ أبداً.. لديَّ ترخيص فيها من وزارة الإعلام.
ـ كان ينبغي أن تكون هنا منذ ثلاث سنوات.. ولكن ساعدك الحظ كثيراً على ما يبدو.
ـ شكراً للحظ..
ـ ولكنك وقعت أخيراً.
ـ ليست معجزة.
ـ هل كنت تنشر في الصحف السورية؟
ـ سورية وغير سورية.
ـ ما حرام تضيّع مستقبلك؟!
ـ مستقبل أمة بكاملها ضائع.
ـ يبدو أنك لم تتعلَّم شيئاً من تجربتك.. أعيدوه إلى مكانه.
في الرابعة بعد الظهر وزّعونا على منفردات متباعدة، وفي اليوم التالي جمعونا في غرفة واسعة نسبياً، وتعاملوا معنا بطريقة شبه حيادية.
قال أحدنا، إنه التقى البارحة، أثناء الخروج إلى التواليتات، بسجين سياسي قديم في الفرع، أخبره أن ذهابنا إلى سجن صيدنايا مستبعد، فإما سجن المزة، وإما إلى تدمر لفترة عقابية، قد تصل إلى ستة أشهر.
ـ غير وارد على الإطلاق، علَّق أحدنا بطريقته القطعية، وغير منطقي أبداً، فرفاقنا الذين كانوا هناك، نقلوهم جميعاً إلى صيدنايا، فما مبرِّر ذهابنا إلى هناك؟!
قال آخر:
ـ تعلمون أن عضو اللجنة المركزية “مضر الجندي” شوهد لمرة واحدة أثناء التحقيق، وبعدها انقطعت أخباره، وليس هناك إلا واحد من احتمالات ثلاثة: إما أنه استشهد أثناء التعذيب. وإما أن لديه معلومات خطيرة، يخشون أن تصل إلينا أو إلى الخارج، فعزلوه عنا، وأنتم تعرفون أن هناك سابقة من هذا النوع. وإما أنه انهار وتعامل وخرج. وبغض النظر عن أرجحية الاحتمال الأول، فإن أي واحد من الاحتمالات السابقة، يجعل ذهابنا إلى تدمر أكثر من وارد.
تناقشنا طويلاً، ولكن نقطة واحدة، اتفقنا عليها، فيما لو تحقق هذا الاحتمال التدمري الأسود، هي رفض “التشريفة” هناك، أو مقاومتها والاحتجاج عليها بكل السبل الممكنة.
بعد ساعات أعادوا توزيعنا على الزنازين، لنخرج منها بعد يومين إلى ميكروباص أنيق، جعل أحدنا يعلّق متفائلاً:
النقل إلى تدمر يتم عادةً بالسيارة “القفص”، أما هذا الميكرو السياحي!
ما كدنا نجلس على المقاعد حتى أحضروا الكلبشات والطمّيشات.
ـ الكل يديه إلى الخلف.
كانت النبرة آمرة وقاطعة.
لا أدري لماذا تصرُّ المخابرات العسكرية على استيراد هذا النوع من الكلبشات الاسبانية الصنع!
صحيح أنها أنيقة ولامعة، ولكنها في منتهى اللؤم.
سامحكم الله أيها الإسبان.. لا أنكر أن أجدادنا، احتلُّوا بلادكم فيما مضى، وهذا رغم كل شيء يؤسفني حقاً، ولكن ألم تجدوا طريقة أخرى غير هذه لردِّ الجميل؟!
ـ انتبهوا إلي جيداً.. الجميع رأسه دون مستوى المقعد الذي أمامه، وأي حركة يميناً أو يساراً ستكلّفكم غالياً.
صمتٌ ضبابي عائم، يضفي عليه فحيح “اشطمان” الميكرو شيئاً من القشعريرة.
اتجه الميكرو شمالاً ثم شرقاً ثم شمالاً..
لا تزال الشوارع معروفة بالنسبة إلينا جيداً.. أطوالها، ميولها، اتجاهاتها، وانعطافاتها.
تبخَّر احتمال المزة، فخط السير الآن يتأرجح بين الشرق والشمال.
هذه أول مرة أدرك فيها بعمق، مدى الأهمية والكيفية التي تعمل بها الحواس الأخرى لدى الضرير.
اجتزنا المفرق الأول المؤدي إلى صيدنايا.. بقي هناك احتمال أن نذهب إليها عبر مفرق “معلولا”.
هكذا أكد لنا أحد الرفاق منذ يومين.
ما يزال هناك أمل.. مفرق “أبو الشامات تدمر”، قبل معلولا بكثير، فإذا اجتزناه، بقي احتمال صيدنايا فقط.
ولكن.. لماذا يأخذوننا إلى صيدنايا عبر مفرق معلولا، بينما طريق “برزة تل منين”، أقصر وأسهل؟!.
لا أدري.. بدأت هواجس تدمر، تنشر دخانها في رأسي بكثافة.
ـ أبو البلوزة الكحلية راسك لتحت.
إذا كان المصير إلى تدمر، فهذا يعني أن وضعنا، سيبقى مجهولاً إلى أن تفتح الزيارات.
الوضع الصحي لمعظمنا لا يستطيع أن يتحمل تدمر.. بعضنا سُحِب من المشفى قبل استكمال العلاج، فهل يعقل أن يرسلونا إلى تدمر، ونحن على هذه الحال؟!
المشكلة أن رئيس الفرع موتور وحاقد، وما من شيء يمنعه عن إرسالنا إلى هناك.
ألم يقل إننا أسفل مجموعة يراها في حياته، وإننا عذبنا جلاَّديه أكثر مما عذبونا؟!
يا كلاب.. ما إن ترفع الطمّيشة عن عيونكم، حتى تحدِّقوا في وجه المحقق بنظرات وقحة، لا تستطيعها حتى القحبات.
وشرف أمي لنسِّيكم الحليب اللي رضعتوه يا عرصات.
السافل.. ما علاقة شرف أمه بالموضوع؟!
فجأة انعطف الميكرو بحدَّة إلى اليمين مصوباً جهة الشرق.
اللعنة.. هي تدمر إذن!!
لقد احترق الحبل الأخير من مظلَّة الوهم.. كل شيء يحترق ويحترق و يحترق..
إنه السقوط الحر.
أمال الرفيق الذي بجانبي ساقه حتى لامسني، وراح يضغط، كما لو انه يريد أن ينعجن بي.
تا دا مو راااااااا …
هكذا صرخ صديق لي، قبل حوالي عشرين عاماً، وهو يلقي إحدى قصائده عن تدمر زنوبيا.
بدأ الطريق يتلوَّى، لا لشيء سوى ليطول.
حقاً إن اقتحام الخطر، أقل وطأة من ترقبه، وتدمر لا تريد أن تصل.
ـ آ ا ا ا ا ا ا خ..
صرخة نهائيَّة فاجعة ممتدَّة على طول هاوية سحيقة.
ـ إخرس ولك شرموط.. شو في عندك؟
ـ الكلبشة انزلقت، ويداي تتقطَّعان.
ـ دبِّر له الكلبشة بمعرفتك.
طخ..
ضربة بأخمص البندقية على الرأس، أوقفت الصراخ في منتصف الهاوية، ثم شيئاً فشيئاً أصبحت السماء والأرض منطبقتين تماماً، لا يفصل بينهما سوى خيط من الأنين، وربما خيط من الدم، وفحيح اشطمان الميكرو.
يا إلهي كم يبدو الزمن بطيئاً ودبقاً وكريه الرائحة!!
ـ كم تبقَّى حتى نصل؟
سأل أحد عناصر الدورية المرافقة.
ـ ليس أكثر من نصف ساعة، أجابه آخر.
ـ نايمين يا عكاريت؟! من شوية كنتوا بالفرع عاملين لي قبضايات! هلق منشوف زلوميّتكن.. قال شو..؟ ما بتعرف خيرو لتجرِّب غيرو.. والله تاتْشوفوا نجوم الظهر هلق.. بتستاهلوا.. ماني فهمان شو كان بدكن بهالشغلة الوسخة.. كلَّيتكن مثقفين وعايشين وعين ألله.. رْفَسْتوا النعمة لشو؟! شو يللي ما عاجبكِن بسيادة الرئيس آ ا ا؟ منين بدكن تجيبوا رئيس أحسن منُّو؟! أحكوا.. هاتوا تاشوف.. منين؟ صدقوني إذا بتبرموا الدنيا شرق وغرب، ما رح بتلاقوا رئيس بيجي لضفر من ضافيرو.. والله لو تفهموا وتقدروا بس، تاكنتوا تركعولو وتصلُّولو ياعكاريت.. قولوا بس شو يللي ما عاجبكن فيه ؟! ولك والله شخاختو دوا.. ولك والله والله خريتو مزار..
كانت كلمات المحاضرة تخرج من فم العسكري مهتوكة ومشرَّمة ومليئة بالتأتأة والنبر في غير أماكنه، وبين الجملة والأخرى كانت أخامص البنادق، تكمل عرض براهينها المفحمة بالدق على رؤوسنا حتى توقَّف الميكرو.
ـ كل واحد هلَّق يترك الطمّيشة عند الباب، وينزل وعيونو مغمَّضة وراسو بالأرض، وإيدو بإيد رفيقو.
كان الممر الذي دخلنا فيه أشبه بنفق مكشوف، وعلى جانبيه قيامة من السياط واللكمات والركل والأصوات البهيمية الزاجرة.
بعد زمن يشبه الغيبوبة، وجدنا أنفسنا محشورين في غرفة صغيرة على ثلاثة أنساق، واجمين ووجوهنا إلى الحائط.
حين نظَّمنا العسكري على أنساق، رأى العدد زائداً في النسق الثالث، فطلب مني أن أقف منفرداً بمحاذاة الجدار، ثم تركنا وغادر الغرفة.
تساءل أحدنا:
ـ هل انتهت التشريفة؟
جاءه الصوت من الخلف كضربة سوط:
ـ بلا حكي يا منيوك.
ران الصمت من جديد.. ثم فجأة أحسست بيد صلبة، تسحبني من كتفي.. التفتُّ لأرى نفسي أمام رقيب أشقر فاقع، يرفع رأسه على نحو استنكاري، وهو يحدجني بنظرة حجرية، تقدح إنذاراً ما.
هززت رأسي مستفهماً عما يريده، فقال لي:
ـ غمَّض عينيك.
لم أكن أعرف، أن إغماض العينين في تدمر، هو الدرس الأول، الذي يتلقاه السجين فور وصوله.
تذكرت كلمات رئيس الفرع:
يا كلاب.. ما إن ترفع الطميشة عن عيونكم، حتى تحدقوا في وجه المحقق بنظرات وقحة، لا تستطيعها حتى القحبات.
أعاد الرقيب أمره بنفاد صبر، كما لو انه الإنذار الأخير قبل إطلاق النار.
فكرت أنني لن أسمح له بترويضي مهما كان الثمن.
مرت بضع ثوان، كلانا يحدق في الآخر، منتظراً أن تنتهي المبارزة لصالحه.
اقترب مني أحد العساكر..
ـ ما يقوله لك حضرة الرقيب أمر عسكري منزل من عند ألله، ورفضُ التنفيذ، يعني كفر وتمرد.. نفذْ أحسن لك.
همسات بعض الرفاق تصلني راجية ومشجعة ومستغيثة ومؤنبة ومواسية:
ـ لا داعي لتكبير الموضوع.
ـ رفيق لا تعملها مشكلة.
ـ مشِّها الآن وفيما بعد نرى.
ـ يا الله بسيطة رفيق..
أغمضتُ عيني.
- أغمض جيداً.
أغمضت بقوة، لعلي أقنعه بأنه كسب الجولة، وأنتهي من هذا الموقف السخيف.
صفعة كافرة طرقع صوتها تاركاً في فضاء الغرفة صمتاً مدوياً، أعقبه طنين شامت، شعرت معه أنني أقف على نصل حادّ، يشقُّني بين رغبتين: الانتحار أو البكاء.
بعد قليل أدخلونا بالتتالي إلى غرفة الذاتية.
ـ فلان الفلاني..
ـ حاضر.
ـ يا ابن المنتاكة.. قل حاضر حضرة الرقيب، ثم ادخل.
دقَّقَ مسؤول الذاتية قيوده وبلطف واضح أعلن:
ـ خالصين تفضلوا.
تقدمنا بتثاقل، وكان بعضنا يشهق ويزفر، كما لو انه يتنفس الصعداء.
ـ عندك.. الجميع جالساً..
جلسنا.
ـ إشبكْ يديك حول الركبتين.
شبكنا أيدينا.
تشرت تشرت تشرت… صوت ماكينة حلاقة يدوية بدأ من الخلف شاقاً طريقه إلى الأمام بثقة واستهتار.
حقاً المرء بشعر وشاربين، ليس هو نفسه بدونهما.
ـ بلدية..
صرخ الرقيب:
ـ خذوهم إلى باحة التشريفة.
يا دين دينكم!!
إذن ليس كل ما مضى سوى تحضيرات للتشريفة؟!
ـ إخلع كامل ملابسك.
بدأنا بخلعها ونحن نتلكَّأ بفك الأزرار، كمن يحاول تأجيل قدر محتوم، ولو لبضع ثوان إضافية، لعل معجزة ما، تغير مجرى الحكاية.
باحة شاسعة تتسع لخمسين زنزانة.
ـ نخلع الكلاسين أيضاً؟
ـ قلت كامل ثيابك…أترك الجلد فقط، فنحن بحاجة إليه.
أغمضتْ أمُّنا الدنيا عينيها، وصكّت أسنانها، وانزوت في الركن الأبعد من باحة التشريفة، مديرة ظهرها لأمواج متدافعة من الأصوات الممزقة بين الصراخ والعواء، وما يشبه الولاويل.
هياكل لكائنات غريبة، محزومة أرجلها ومشدودة إلى أعلى.
كل الأشياء مقلوبة…كل الآلهة عاجزة ومجللة بالخزي .. وحده الموت يقف عابساً مهيباً ثابت الجنان.
كانت السياط والكرابيج، تشخط الهواء بزفيرها، تاركة وراءها أنيناً مخطوفاً، تتخلله شهقات دامية متقطعة.
ـ إنهضوا.. ثبتوا الطمِّيشات على عيونكم، وليضع كلّ منكم يده على كتف الآخر..
ـ صفّاً.. سِرْ.
تقدمنا كقطار، تتدافع مقطوراته وتتراجع، متلاطمة تبعاً لحركة القاطرة الأولى، التي يقودها أحد عناصر البلدية.
ـ تحرَّك يا حيوان تحرَّك.. إرفع رجلك قليلاً عند اجتياز الباب.
اجتزنا الباب الأول.
ـ إلى اليمين تابع.. تابع بسرعة.. إرفع رجلك أيضاً.. تابع.. إلى اليمين.. عندك.. انتظر قليلاً..تابعْ.. إلى اليمين.. إلى اليمين أيضاً.. قف.. تقدَّم قليلاً.. قف..
إرفعوا الطمِّيشات.. هذا مهجعكم، وهذه البطانيات.. خلال نصف ساعة أريد المهجع جاهزاً.
ـ من هم العسكريون بينكم؟
رفع العسكريون أيديهم.
ـ ما رتبتك أنت؟
ـ رائد.
صفعة خاطفة مدرَّبة..
ـ قل رائد حضرة الرقيب.. وأنت الآخر ما رتبتك؟
ـ مساعد حضرة الرقيب.
ـ إذن أنت رئيس المهجع.. انتبه جيداً لتقديم الصف، كلما فتح الباب، وكلما أغلق.. مفهوم؟
انسحب الرقيب والعساكر، وما كاد الباب يغلق، حتى فتح من جديد.
ـ رئيس المهجع تعال.
رشقة من الصفعات وقذيفة على البطن.
ـ لماذا لم تقدِّم الصف، عندما أُغلق الباب؟ قدم الصف تا شوف.
ـ حاضر حضرة الرقيب.. انتبه.. استا.. عد.. استا.. رح.. استا.. عد.. المهجع انتهى من التفتيش حضرة الرقيب.
صفعة طرشاء..
ـ قل الرقيب أول ولك عرص.. أعِدْ.
ـ المهجع انتهى من التفتيش حرقيب أول.
هكذا دمج رئيس المهجع كلمة “حضرة” مع “الرقيب” من شدة الارتباك.
ابتعدت الخطوات، وتدحرجت عيوننا في أرجاء المهجع: واسع متآكل.. مخنوق بالغبار.. والجدران أشبه بلوحات سوريالية مطروشة بالدم والوسخ ولطخات متنوِّعة من الدهان والبقع المرمَّمة بشيء من الإسمنت.. أما الأرض..
حسناً. سأختصر الموضوع وأسألكم.. هل سمعتم باسطبلات “أوجياس”؟!



#فرج_بيرقدار (هاشتاغ)       Faraj_Bayrakdar#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البرزخ
- صهيل
- تقاسيم آسيوية... ترجيعات
- تحية إلى أدونيس.. رداً للجميل
- تقاسيم آسيوية
- بيرقدار: السجن .. يا إلهي! هل يكفي أن أقول إنه حليف للموت؟
- ما يشبه بطاقة شكر من فرج بيرقدار إلى الشاعر محمود درويش
- ستة عشر يوما من الجمر


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فرج بيرقدار - “إلى الشرق”