أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مريم الحسن - الساميون الأوائل : موطنهم الأول و لغتهم الأم















المزيد.....


الساميون الأوائل : موطنهم الأول و لغتهم الأم


مريم الحسن

الحوار المتمدن-العدد: 6486 - 2020 / 2 / 8 - 14:11
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


تقديم
يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي ( 100 ه -170 ه) في كتابه معجم العين : " كنعان بن سام بن نوح, يُنسب إليه الكنعانيون و كانوا يتكلمون بلغةٍ تضارع العربية". و يقول ابن حزم الأندلسي (384 ه – 456 ه) في كتابه الإحكام في أصول الأحكام : « من تدبّر العربية و العبرانية و السريانية أيقن أن اختلافها إنما هو من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان, و اختلاف البلدان, و مجاوزة الأمم, و أنها لغة واحدة في الأصل" . يُستدل من هذين القولين على أن اللغويين العرب الأوائل فطنوا, و في وقتٍ مبكرٍ جداً, إلى وجود علاقة قُربى تربط اللغات السامية بعضها ببعض, و هم لاحظوا بعد استقرارهم في المناطق المفتوحة إسلامياً وجود تشابه لغوي لافت بين اللغة العربية, القادمة مع الإسلام من بلاد الحجاز, و بين لغات السكان الأصليين في كلٍّ من أرض العراق و بلاد الشام.

كما أن المستشرقين في القرن الثامن عشر ,لا سيما بعد اكتشاف السنسكريتية و بدايات تطوّر علم اللغة, لاحظوا في معرض دراستهم للنصوص التوراتية وجود تشابه لغوي قوي بين العبرية و العربية فشرعوا في دراسة هاتين اللغتين دراسةً علمية منهجية قارنت بينهما بحثاً عن جذور هذا التشابه الملحوظ و أسبابه, و انطلاقاً من هذه الدراسات الأولى التي قارنت بين العربية و العبرية تتالت الدراسة اللغوية المُقارِنة بين مختلف اللغات السامية الأخرى, لتتولد من رحم هذه الدراسات الأسئلة الباحثة عن اللغة السامية الأم, و عن جغرافية موطنها الأول , و عن لهجاتها التي تفرعت عنها, و عن خصائصها اللغوية الرابطة بين مختلف اللغات المشتقة منها, أوالشبيهة بها , و التي تمددت على مساحةٍ جغرافية واسعة شملت كامل منطقة الشرق الأوسط و شبه الجزيرة العربية و بعض المناطق في شرق إفريقيا و في سواحلها الشمالية.

فمن هم الساميون الأوائل؟ و ما هي لغتهم الأم؟ و أين كان موطنهم الأول؟

منذ القرن التاسع عشر حاول العديد من العلماء و اللغويين الإجابة عن هذه الأسئلة معتمدين في ذلك على ما جاءت به النصوص التاريخية و على ما رُويَ من أخبارٍ فيها عن أحوال مجتمعات المناطق المعروفة بالسامية و عن سلالات الشعوب التي قطنتتها, هذا من ناحية , و على نتائج ما توصلت إليه دراستهم البحثية المقارِنة بين مختلف لغات شعوب تلك المناطق من ناحية أخرى, إلا أن تباين الآراء و تعدد الفرضيات الموضوعة في هذا الشأن تسيّدا المواقف العلمية منذ ذلك الحين, فانفرز اللغويون حول الفرضيات المطروحة بين رافضٍ و مؤيدٍ و ما زالوا منقسمين في هذا الشأن حتى يومنا هذا. فما هي أبرز الفرضيات الموضوعة في هذا المجال ؟ و كم هو عددها؟ و أية واحدة منها أرجح من الأخرى؟

المقالات و الكتب الباحثة في هذا الشأن كثيرة و متنوعة , إلا أن خَيار هذه المقالة انحصر في ثلاثةٍ منها فقط, و هي على التوالي : كتاب "فقه اللغات السامية" للمستشرق الألماني كارل بروكلمان, نُشر لأول مرة بالألمانية عام 1906 و ترجمه إلى العربية للدكتور رمضان عبد التواب عام 1977, كتاب "فقه اللغة" للدكتور علي عبد الواحد وافي, الطبعة الثالثة الصادرة عن دار نهضة مصر عام 2004, كتاب "الساميون و لغاتهم : تعريف بالقرابات اللغوية و الحضارية عند العرب" للدكتور حسن ظاظا, الطبعة الثانية الصادرة عن دار القلم في دمشق و عن دار الشامية في بيروت عام 1990 .

أصل التسمية
يُجمع الباحثون على أن ذكر الساميين ورد لأول مرة في صحيفة الأنساب الواردة في الإصحاح العاشر من سفر التكوين , و قد جاء في هذا الإصحاح أن أشور و أرام و عابر, هم جميعاً من أبناء سام بن نوح. أما التوظيف العلمي لمصطلح "سامي" فإن أول من عمل به هو اللغوي الألماني شلوتزر Schlözer سنة 1781 حين وظّفه لغوياً للإشارة إلى الشعوب التي عمرت المناطق الواقعة غرب آسيا و التي امتدت حضاراتها من البحر المتوسط غرباً حتى حدود بلاد فارس شرقاً . فهذه الشعوب ,عدى عن تحدرها تقريباً من نسب واحد , ترتبط فيما بينها بعلاقات لغوية و تاريخية مشتركة. و قد أتى استخدام اللغويين لهذه التسمية لتسهيل عمل الباحثين العاملين في ميدان المقارنة بين اللغات القديمة المتحدرة من سلالة لغوية واحدة, و ذلك لأغراضٍ بحثية خالصة ليس لها علاقة بأي خلفيات سياسية أو تلميحات عنصرية على عكس ما كان الغرض منها في صحيفة الأنساب التوراتية. أما عن توظيف المستشرق اللغوي شلوتزر Schlözer لمصطلح الساميين في أبحاثه فهو كان قد اقتبسه من التوراة بعد أن لاحظ وجود تشابه لغوي كبير يجمع كلاً من العبرية و العربية و الحبشية, فاستخدم هذا المصطلح للتدليل به على هذه المجموعة اللغوية بعد أن اعتبرها عائلة واحدة تنتمي جميعها إلى نسب لغوي واحد .

عائلة اللغات السامية
حتى القرن التاسع عشر كانت عائلة اللغات السامية لا تضم سوى العبرية و العربية و الآرامية, و مَردُّ ذلك إلى عاملين : أولاً, تأثر لُغويو حقبة ما قبل القرن التاسع عشر بالتصنيف التوراتي, و ثانياً, قلة المعطيات اللغوية الميدانية في هذا المجال. فسفر التكوين نسب إلى سلالة سام بن نوح العيلاميين و الآشوريين و الليديين و الآراميين و العبريين معتمداً في تصنيفه هذا على معيارٍ استنسابي تحكّمت به العلاقات الثقافية و الصراعات السياسية الحاصلة حينها في زمن تدوين التوراة أكثر منه على معيار صلات القربى الرابطة بين شعوب المناطق التي جرت فيها الأحداث التوراتية. و بناءً على هذا المعيار, فإن سفر التكوين استثنى من سلالة الساميين شعوباً سامية كان قد نسبها إلى سلالات غير سامية كالفينيقية التي نسبها إلى السلالة الحامية, و ضم إلى السلالة السامية شعوباً غير متحدرة من أصول سامية أو مجهولة النسب فجعلها سامية كالعيلاميين و الليديين المتحدرين من السلالة الآرية أي من سلالة يافث بن نوح.

لكن علماء اللغة في القرن الثامن عشر حين اعتمدوا في أبحاثهم مصطلح السامية قاموا بإعادة ضبط عائلة اللغات السامية من جديد و ذلك وفق معيار علمي حديث, اعتمدوا فيه على المعطيات الميدانية التي وفرتها لاستكشافات الأثرية المستجدة لا سيما تلك التي تحصلت لهم بعد فك رموز اللغة المسمارية, فأخرجوا من السلالة السامية الشعوب غير السامية التي أدخلها التوراة عليها , و وسّعوا دائرة العائلة السامية لتشمل الشعوب السامية التي كان قد استثناها من قبل التصنيف التوراتي. و بهذا التصنيف اللغوي الجديد, و مع حلول القرن التاسع عشر, اكتملت عائلة اللغات السامية لتضم إليها لاحقاً كلاً من الأشورية- البابلية التي تُعرف أيضاً بالسامية الشرقية, و السامية الشمالية الغربية التي تشمل اللغات الكنعانية و الآرامية , و السامية الجنوبية الغربية التي تشمل العربية و الحبشية, و غيرها من اللغات الأخرى لشعوبٍ أخرى لا تنحدر من أصول سامية إلا أنها تحدثت السامية بسبب الاحتكاك الثقافي الذي تولد إما عن طريق الارتحال و التنقل بين المناطق جغرافية و إما عن طريق الخضوع الثقافي الذي عادةً ما تفرضه الهيمنة السياسية أو الاقتصادية اللتان تصاحبان غالباً الغزوات و الحروب.

اللغة السامية الأم
أما بالنسبة للغة السامية الأم أو اللغة الأولى التي تحدث بها الساميون الأوائل قبل انتشارهم وتفرقهم, فإن العلماء ما زالوا مختلفين في أمر تعيينها حتى الآن, و أقدمهم قاموا بنسج الفرضيات حولها محاولين نسبها إلى واحدة من اللغات السامية المعروفة اليوم كالعبرية أو العربية أو البابلية-الآشورية. إلا أن العلماء المحدثين اعتبروا أن كل هذه الفرضيات لا تعدو كونها ضرباً من خيال لأن كل الحجج التي دللت عليها لا تستطيع المحافظة على ثباتها بعد تمحيصها علمياً, لا سيما مع خلو الساحة البحثية من آثار نصوص مكتوبة تدلل على طبيعة تلك اللغة الأم المستخدمة في تلك الحقبة الزمنية الأولى. أما ما بات مؤكداً علمياً اليوم فهو أن اللغات السامية المعروفة حالياً قد اجتازت مراحل تطور كثيرة, زمنية و شكلية, أبعدتها بما يكفي عما كان عليه شكل لغتها الأم في الزمن الأول لنشوئها, و ما بقي منها اليوم ليس سوى لهجات متفرعة عنها تباينت فيما بينها متأثرة إما بالتباعد الجغرافي الذي فصلها عن بعضها البعض و إما بتلاقحها الثقافي مع باقي اللغات الأخرى التي جاورتها أو احتكت معها.

لكن بالرغم من غياب أي اثر واضح عن اللغة السامية الأم, فأن العلماء استطاعوا تمييز بعض خصائصها اعتماداً منهم على الخصائص الجامعة بين مختلف اللغات السامية. المتحدرة منها. فمما يُميز اللغات السامية المعروفة حالياً هو رجحان أصواتها الصامتة, التي عبرها يرتبط المعنى بالكلام, على أصواتها الصوتية التي تُعد رادفة للأصوات الصامتة و متأثرة بصفاتها. فاللغات السامية تعتمد في إنتاج مفرداتها على الحروف الساكنة و أصول هذه المفردات غالباً ما تكون مؤلفة من ثلاثة أصوات ساكنة و بعضها يتكون أحياناً من صوتين ساكنين, كما أنها تتميّز أيضاً بترتيب أصواتها الصامتة من ناحية غلبة الأصوات الحلقية و الطبقية و الصفيرية و ما بين السنانية عليها و ذلك وفق تدرج لفظي يميز فيما بينها.

وبذلك يكون عدد مخارج الحروف الأساسية في السامية ستة و عشرون حرفاً هي : الهمزة و الهاء و الحاء و الخاء و العين و الغين و الباء الانفجارية و الفاء و الدال و الذال و التاء و الثاء و الجيم غير المعطّشة و الكاف و اللام و الميم و النون و الراء و الواو و الياء و الطاء و القاف و الصاد (مع ترجيح وجود صوتين آخرين للصاد هما تصاد و فساد) و السين و الشين (مع ترجيح وجود صوت آخر يُلفظ بين السين و الشين) و أخيراً صوت الزاي, و إذا ما قورنت هذه الأصوات مجموعة مع أصوات اللغات السامية التي باتت معروفة اليوم سيُلاحظ أن أكثر اللغات قرباً إلى نظامها الصوتي الأولي هذا هي اللغة العربية. و ما يميز السامية أيضاً هو موضوعية الزمان في أفعالها بحيث أن أفعالها لا تعبّر عن الزمان من منظور فاعل الفعل بل من منظور حالة الفعل نفسه و ذلك من حيث انتهائه و إتمامه ( ما يُصطلح عليه نحوياً بالماضي) أو عدم انتهائه و استمراره ( أي ما يُعرف نحوياً بالمضارع). و تتميز اللغات السامية أيضاً باشتمالها على الجملة الاسمية الصرفة التي لا تحتاج إلى أي فعل مساعد لها كما هو الحال عليه مع باقي اللغات التي لا تنتمي إلى عائلتها, وتتميز أيضاً بشيوع اشتقاق الأسماء فيها من الأفعال و العكس بالعكس أي اشتقاق الأفعال فيها من الأسماء أيضاً.

موطن الساميين الأُوّل
انتساب اللغات السامية جميعها إلى عائلة لغوية واحدة لا يعني بالضرورة أن كل الشعوب التي تتحدث بها تتحدر من أصول واحدة, فمما بات مؤكداً علمياً أن اللغة لا تنتقل فقط بالوراثة بل أيضاً بالاحتكاك الثقافي الذي ينتج عادةً إما عن الارتحال و التنقل الجغرافي من مكان إلى آخر كحال بعض الشعوب القديمة التي سكنت قديماً في فلسطين و بلاد الشام و تحدثت العبرية أو الأكادية, أو كحال المجموعات الحبشية الناطقة بالسامية في بيئة حامية صرفة, و أيضاً حال المصرية القديمة التي تُعد شديدة الشبه بالسامية لا سيما من الناحية النحوية.

إما فيما يتعلق بموطن الساميين الأول, فلا يزال اللغويون متحيرين و منقسمين حول تحديده, و أراؤهم في هذا الشأن توزعت على ست فرضيات أضعفها ثلاث فرضيات : اثنتان منها اعتمدتا أساساً لهما قصة الطوفان و ما روته الأساطير و التوراة عنها و الثالثة اقترحت إفريقية وطناً أولاً لكن من دون تعليلها بحجة قوية . أما بالنسبة لمحتوى هذه الفرضيات الضعيفة, فإن أولى هذه الفرضية رأت في جبال كردستان موطناً أولاً للساميين كَون سفينة نوح رست على هذه الجبال و بالتالي فأن من المنطقي بحسب زعم هذه الفرضية أن تكون المناطق الواقعة في هذه الجبال هي مهد الساميين الأول, غير أن مَن دحضوا هذه الفرضية احتجوا عليها بأنه إذا كانت جبال كردستان هي حقاً موطن الساميين الأول فلا بد لها من أن تكون أيضاً مهد الإنسانية الأول و ليس فقط مهد السلالة السامية , لأن الناجين من أبناء نوح هم ثلاثة سام و حام و يافث.

أما ثاني الفرضيات الضعيفة فقالت ببلاد ما بين النهرين موطناً أولاً للساميين لأنهم شعب عرف مجاري الأنهار و سكن ضفافها, و هذا رأي إغناطيوس غويدي Guidi و من تبعه من لغويين مثل رينان و نورمان و هومل و بيترز وغيرهم , و حجتهم في ذلك هي كلمة "نهر" التي تحمل نفس المعنى في جميع اللغات السامية على عكس كلمة "جبل" التي تختلف من لغة سامية إلى أخرى, و من حُججهم أيضاً اجتماع اللغات السامية على بعض أسماء النباتات و الحيوانات الشبيهة بمفردات مماثلة في اللغة البابلية الأشورية. أما ما دحض هذه النظرية فهو نقش شهير لأشهر الملوك الساميين الأوائل (سرجون الآكادي) حيث أُشير فيه إلى أن هذا الملك نزح مع عائلته إلى أرض بابل قادماً من شرق جنوب شبه الجزيرة العربية, كما أن أغلب النقوش التي تروي تاريخ العراق الأول هي نقوش سومرية و السومريون كما بات معروفاً اليوم هم من أصولٍ غير سامية.

و ثالث أضعف الفرضيات ما اقترحه المستشرق تيودور نولدكه و وافقه فيه البريطاني بارتون من أن أفريقيا هي موطن الساميين الأول و بأن نزوحهم إلى آسيا قد تم إما عن طريق باب المندب و إما عن طريق برزخ السويس, و كانت حجة نولدكه لهذه الفرضية التشابه الموجود بين اللغات السامية و اللغات الحامية غير أن مَن دحضوا هذه الفرضية سألوا عن سبب غياب اللغة السامية عن باقي المناطق الإفريقية ما خلا بعض الجزر اللغوية في شرقها و على الساحل القرطاجي.

أما أكثر الفرضيات ترجيحاً من أصل الست المطروحة حول موطن الساميين الأول فهي تتدرج من حيث قوتها كما التالي : الفرضية الرابعة و قد اقترحها المستشرق الأمريكي كلاي و أيّده فيها الفرنسي موريه, و هي فرضية اقترح فيها كلاي بلاد "آمورو" الواقعة في شمال بلاد الشام موطناً أولاً للساميين مفترضاً أنهم سكنوا هذه المنطقة و منها انتشروا جنوباً و شرقاً نحو باقي المناطق التي أقاموا فيها و أن أول من نزح منهم هم مؤسسو الأسرة البابلية الأولى, غير أن مَن رفضوا هذه الفرضية عللوا الأمر باستحالة الانتشار من الشمال إلى الجنوب لا سيما في ظروف ذلك الوقت, و ذلك بسبب المساحات الصحراوية الشاسعة الفاصل بين المناطق و التي تحتم على المسافر فيها استخدام الجمال لعبورها, و الجمال كما بات معروفاً اليوم لم يُعرف لها استخدام قبل نهايات الألف الثالث قبل الميلاد و هو زمنُ لاحق على زمن النزوح السامي الحاصل بحدود الألف الرابع قبل الميلاد.

أما الفرضية الخامسة فتقول ببلاد كنعان أي بلاد الشام موطناً أول للساميين بدليل أن الساميين عمروا هذه البلاد في حقبة زمنية سحيقة سابقة على زمن انتشارهم في بلاد العراق, و هم عمروا البلاد السورية و كانت لهم فيها حضارة مزدهرة في نفس الحقبة الزمنية التي عمر فيها السومريون العراق أي في زمنٍ سابقٍ جداً على زمن انتشارهم في العراق. أما أكثر الفرضيات قوةً و رسوخاً فهي الفرضية التي طرحها المستشرق إيرهارد شرادر و أيّده فيها جمعٌ من العلماء. و هي الفرضية التي تقول بشبه الجزيرة العربية موطناً أولاً للساميين بدليل أن جميع المناطق التي نزح إليها الساميون كانت مسكونة قبلهم من شعوب غير سامية. هذا بالإضافة إلى أن الساميين عاشوا في شبه الجزيرة العربية على ضفاف الأنهر و هم عرفوا صناعة السدود عليها في حقبة تاريخية مبكرة بدليل بنائهم لسد مأرب وهذا الدليل يُعتبر الرد المنطقي على فرضية غويدي Guidi التي علّلها بشيوع كلمة "نهر" بذات المعنى في كافة اللغات السامية.

و من هذه الفرضية يُستنتج أن الساميين الأوائل نزحوا عن أرض الجزيرة العربية نحو الشمال بسبب عوامل ببيئة محضة نجم عنها جفاف أكبر نهرين عرفتهما منطقتهم, و هما النهران اللذان ورد ذكرهما في التوراة باسم شيفون و جيحون و اللذان بحسب ما جاء في التوراة كانا اثنين من أصل أربعة أنهر احتضنوا جنة الأرض الأولى, و هذه الأنهر الأربعة هي دجلة و الفرات في بلاد السومريين و شيفون و شيحون في بلاد الساميين. أما من بَقيَ من الساميين في شبه الجزيرة و لم ينزح عنها مع مَن نزح, فهم من احتفظوا أكثر من غيرهم بأقرب صورة لغوية عن لغتهم الأم و هذا ما يُفسر إجماع اللغويين كبروكلمان و رايت و غيرهم على أن اللغة العربية الفصحى هي أكثر اللغات السامية قرباً إلى السامية الأم. كما أن الدليل العلمي الأقوى الذي تعتمده هذه الفرضية هو النقوش الثمودية في مدائن صالح التي تركها من تخلف عن النزوح نحو الشمال و النقوش النبطية في خليج العقبة التي تركها من نزح منهم نحو خليج العقبة و استقر فيها.

الخاتمة
مما تقدم يُستنتج أن الشعوب , التي اصطلح علماء التاريخ و اللغة على تسميتها بالسامية, لأسباب ثقافية محضة, و ذلك تأثراً منهم بالنصوص التوراتية و من دون أي دليل علمي صلب يُثبت صحة حجتهم في إطلاقهم لهذه التسمية عليها, هي شعوبٌ تتحدر من نسل شعبٍ قديم سكن قديماً جنوب شبه الجزيرة العربية, و أن قسماً من هذا الشعب نزح قديماً عنها جرّاء عوامل بيئية قاهرة أجبرته على الهجرة شمالاً, و ذلك على عدة مراحل, بدايةً نحو بلاد ما بين النهرين و منها غرباً نحو بلاد الشام و بحراً نحو السواحل الإفريقية بدليل النقوش التي تركها خلفه على طول خط ارتحاله المتجه دائماً صعوداً نحو الشمال. و مما يُستنتج أيضاً أن الشعوب التي تتحدر من نسل هذا الشعب القديم , و هاجرت عنه, قد نقلت معها لغتها الأم إلى المناطق التي نزحت إليها , فأثّرت و تأثرت بلغات السكان الأصليين في تلك المناطق , و هذا ما أدى إلى تعدد اللهجات في لغتهم الأم التي حملوها معهم, و قاد بالتالي إلى حصول تطورٍ لغويٍ فيها, نجم عنه فروع لغوية عديدة شكلت الأساس الأوَّلي لمجموعة اللغات المتشابهة معها أو المتحدّرة منها و ما بات يُصطلح على تسميته اليوم بعائلة اللغات السامية . كما يتضح أيضاً من محتوى أقوى الفرضيات المطروحة حول الموطن الأول لهذا الشعب, و استخلاصاً من مجمل الخصائص التي تتصف بها اللغات التي تحدثت بها الشعوب المتحدرة من نسل هذا الشعب الأول , أن نظام الأصوات في اللغة العربية الفصحى هو أكثر الأنظمة الصوتية قرباً إلى نظام الأصوات في اللغة الأولى التي تحدثها هذا الشعب.

المراجع

• كارل بروكلمان, فقه اللغات السامية, ترجمة رمضان عبد التواب, مطبوعات جامعة الرياض, المملكة العربية السعودية ,1977.
• علي عبد الواحد وافي, فقه اللغة, الطبعة الثالثة, دار نهضة مصر, القاهرة, 2004 .
• حسن ظاظا, الساميون و لغاتهم : تعريف بالقرابات اللغوية و الحضارية عند العرب, الطبعة الثانية, دار القلم في دمشق و دار شامية في بيروت, 1990 .
• الخليل بن أحمد الفراهيدي (متوفى 170 ه ) , كتاب العين, تحقيق الدكتور مهدي المخزومي و الدكتور ابراهيم السامرائي ,دار و مكتبة الهلال.
• علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي (متوفى 456 ه ) , الإحكام في أصول الأحكام, تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر, دار الكتب المصرية.



#مريم_الحسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سراب وطني
- مؤامرة
- البدوي
- الباب
- صدام الحضارات و حرّاس الثقافات
- اللحظات الأخيرة...
- ولادةُ رؤية ...
- الجمال
- الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
- أي نعم أجل أيواً ... دليلُ إثبات
- البحث المنهجي كأسلوب حياة... وسيلة للتطور و للإرتقاء
- جواب
- يُحكى أنّ ... كُرةً تتراكلُها الأقدام صرنا
- المعادلة الفاضحة
- أتدري ما السهر؟
- الشهيد البطل عزّام عيد... حاضرٌ أبداً و ما رحل
- لك الله يا وطني ... و كل هذا الحب على أرضك
- من مذكرات مواطن عربي (3) ... التوهان
- أبو علي
- من نحن... سؤال لم يعد تائه و لا بريء و لا محتار


المزيد.....




- -الطلاب على استعداد لوضع حياتهم المهنية على المحكّ من أجل ف ...
- امتداد الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جدي ...
- توجيه الاتهام إلى خمسة مراهقين في أستراليا إثر عمليات لمكافح ...
- علييف: لن نزود كييف بالسلاح رغم مناشداتها
- بعد 48 ساعة من الحر الشديد.. الأرصاد المصرية تكشف تطورات مهم ...
- مشكلة فنية تؤدي إلى إغلاق المجال الجوي لجنوب النرويج وتأخير ...
- رئيس الأركان البريطاني: الضربات الروسية للأهداف البعيدة في أ ...
- تركيا.. أحكام بالسجن المطوّل على المدانين بالتسبب بحادث قطار ...
- عواصف رملية تضرب عدة مناطق في روسيا (فيديو)
- لوكاشينكو يحذر أوكرانيا من زوالها كدولة إن لم تقدم على التفا ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مريم الحسن - الساميون الأوائل : موطنهم الأول و لغتهم الأم