أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حامد السلامونى - عرض -الطوق والإسورة- الميديوكر والعنف الثقافى















المزيد.....


عرض -الطوق والإسورة- الميديوكر والعنف الثقافى


محمد حامد السلامونى

الحوار المتمدن-العدد: 6459 - 2020 / 1 / 8 - 23:51
المحور: الادب والفن
    


حصد العرض ثلاث جوائز، الأولى من مهرجان القاهرة للمسرح التجريبى عام (1996) والثانية جائزة الشيخ سلطان القاسمي بمهرجان المسرح العربي الدورة 11، التي عقدت في القاهرة، ثم تُوِّج بجائز مهرجان قرطاج في النسخة 21، عام (2019).
وبذا، فعرض "الطوق والإسورة" يعد ظاهرة ثقافية، أى علامة تاريخية دالة، بكل ما تعنية الكلمة، نظرا لأنه يمثل النقطة الفارقة التى تقاطعت عندها مسارات معيارية عديدة.

من هنا، فهذا المقال يتمحور حول علاقته "أى العرض" بالمعايير المسرحية "التجريبية" من جهة، و"التأصيلية العربية" من جهة أخرى، وعن "الدلالة الإستثنائية" التى استحق عنها كل تلك الجوائز، وما تلاها من احتفاءات بالغة من قِبَل المسرحيين المصريين، وكذلك التكريمات الرسمية المتلاحقة...

بادئ ذى بدء، أتطلع هنا لتقديم مقاربة ثقافية- فضلا عن كونها نقدية- فى محاولة للإمساك بالمسكوت عنه فى الخطاب المؤسسى المسرحى المصرى والعربى.

رأيت عرض الطوق والإسورة عام (1996)، أكثر من مرة، فى مسرح الطليعة، بعد حصوله على جائزة التجريبى- وكان المشروع التجريبى الثانى قد بلغ من العمر تسع سنوات تقريبا، غير أنه كان لم يزل فى بدايته؛ من حيث الوعى بالأفق العام الذى يجب أن يكون عليه التجريب فى ذلك الوقت، إذ كان هناك لغط كبير وتضارب فى الآراء والتصورات، بل وصدمة مسرحية عاتية تفككت معها شبكة المعايير الجمالية والأخلاقية والأيديولوجية التى تواضعنا عليها... إلخ.
فى ذلك العام، تردَّدت كثيرا فى الكتابة عن العرض، لأن شيئا ما كان غامضا أيامها، وقف حائلا بينى وبينه.
نعم، كانت هناك أفكار جنينية قلقة ومختلفة إلى حد ما، لم تتبلور بعد؛ تتعلق بضرورة- فضلا عن كيفية- مراجعة المفاهيم المسرحية والنقدية السائدة لدينا بارتباطها بالنظام المعرفى السائد. غير أن الوضعية الثقافية العامة أيامها كانت منغمرة بأشباح المفاهيم التقليدية والتجريبية الستينية؛ بطابعها الأيديولوجى "السياسى، الإجتماعى، الشعبى"، ولم تكن تسمح لى أو لغيرى بمتابعة مثل تلك الأفكار.

الأن- لعل بعضها قد تبلور، وها أنا أكتب.

مهرجان القاهرة للمسرح التجريبى:
بدأت فعاليات الدورة الأولى من هذا المهرجان عام 1988، ولسنوات طويلة ظلت العروض التجريبية المصرية والعربية سجينة المواضعات الأيديولوجية والجمالية الستينية- وأذكر أيامها أن الدكتور فوزى فهمى رئيس المهرجان ، قال- ما معناه- :" كنت أطمح إلى إحداث قطيعة مع الماضى، كنت أتطلع إلى مسرح جديد يتعلق بالمستقبل، لكننى للأسف وجدت المسرحيين لدينا يفعلون ويقولون نفس ماكانوا يفعلون ويقولون من قبل.".

مشروطية التجريب والتأصيل:
(1)
البحث عن الخصوصية الثقافية هو الشرط المسبق لكل تجريب مسرحى، من هنا كان التداخل بين التجريب والتأصيل. بل ويبدو أن كل تجريب فى حقيقته هو محاولة للتأصيل، شريطة أن نعيد تعريف الخصوصية الثقافية، ونحررها من الأشكال المتحفية التى فقدت وهجها وتحولت إلى رماد. وبذا فالخصوصية الثقافية لمجتمع ما ترتبط بالضرورة بما هو "حى" و"متَّقِد" فى ذلك المجتمع.
إذن، التجريب اشتغال على الحاضر- أى على الحى- وفقا لمتطلبات الحاضر نفسه، لإضاءته وليس لإخفائه.
هذا علما بأن الإحتفاء الجماهيرى بالعروض القديمة، لا يعنى أبدا أنها " لم تزل تحيا فى الوجدان والذاكرة ووو... أو أنها لم تزل قادرة على إثارة الدهشة"، فقد يعنى أن العرض لا يزيد عن سرادق للعزاء، أو أن الإحتفاء به ممارسة للعنف الجماعى تجاه الجديد والمختلف، بغرض الدفاع عن هوية عتيقة مغلقة.

وكمبدأ عام، تقاس أهمية العرض المسرحى- من حيث تجريبيته- بالمسافة التى يقطعها بعيدا عن المألوف. ونظرا للغموض الذى يكتنف هذا التعبير، نقول: يتم وضع المعايير الجمالية التجريبية فى موضع سؤال، عندما يتم قبولها إجتماعيا، ويمتنع المجتمع عن التساؤل بشأنها- كما حدث لدينا مع الجماليات المسرحية الشعبية "التى تنامت على مدار تاريخ المسرح المصرى، وعثرت على فلسفتها الخاصة فى إطار مشروع البحث عن الهوية القومية، فى الستينات"، فتلك الجماليات اندرجت بقوة فى إطار المألوف، مما أفقدها طابعها التجريبى.
وبذا فالقيم الجمالية التجريبية التى تحظى بالوجود فى سياق تاريخى ما، وبحكم تاريخيتها، لا تتمتَّع بمطلقية من نوع ما، هذا والزعم بلا تاريخيتها ينطوى بالضرورة على خطاب زائف، يهدف عادة إلى قمع ماعداه، بالإعلاء من قيمة تأويل جمالى تمت نمذجته، لأسباب ما، على حساب تأويلات جمالية أخرى أكثر معاصرة.

مشروع البحث عن الهوية القومية فى المسرح المصرى والعربى عامة "بصيغته الستينية" فقد مبررات وجوده التاريخية، نظرا لأن مفهوم "الجماعة" السائد الآن، يختلف جذريا عن مفهوم "الجماعة الشعبية- الستينى".
يحتاج هذا الأمر إلى تفصيل أكثر:
فبفعل التحولات العولمية الراهنة وسقوط الأيديولوجيات الكبرى، تفككت المنظومات الطبقية القديمة، وانقسمت المجتمعات المعاصرة إلى "جماعات معنى = جماعات يلتف كل منها حول معنى ما؛ دينى- الجماعات الدينية- ورياضى- الألتراس- وفنى- الجماعات المسرحية والموسيقية... إلخ". هذا بالإضافة إلى أن "ثقافة الكتل الجماهيرية" السائدة الأن، التى هى بلا قوام، تتكون من خليط هائل من الثقافة الشعبية والثقافة العالمة، وكذلك من روافد ثقافية عديدة منحدرة من مجتمعات مختلفة.
مما يعنى أن "الجماعة أو الجماعات المصرية" لم تعد تستمد مقومات وجودها من التراث الشعبى؛ أى لم يعد هذا التراث الثقافى هو مرجعية "أنماط التمثيل" التى تحوِّل بها الجماعات الراهنة "الوقائع الجديدة المتناثرة" الى "واقع" تتواضع عليه وتحياه.
نعم، لقد فقدت الجماعة الشعبية نواتها القديمة، وتفككت تماما وذابت فى دوائر جماعية أخرى أكثر إتساعا.
هذا و"أشكال الفرجة الشعبية" تحولت الأن إلى أشكال تعبيرية تاريخية. وتعد إحدى تمظهرات "مبدأ التمثيل الحضارى القديم" الذى أنتجه المجتمع المصرى القديم. وقد فقدت ارتباطاتها بوعى وحاجات الإنسان المصرى، بدءا بعصر محمد على بامتداداته النهضوية، ثم التنويرية والحداثية. وبتعبير آخر، لقد تم تفكيكها وإعادة شحن ما تبقى منها بمعان جديدة تتسق مع "مبدأ التمثيل الحضارى الحديث".
تخلُّف النقد المسرحى لدينا وارتهانه للأيديولوجيا- أو للتصورات الكليانية العتيقة عن الهوية القومية والثقافة القومية، هو ما جعله ينتهى إلى تعريف للخصوصية القومية، فى ارتباطها المطلق بالتاريخانية لا بالتاريخ!.

مما سبق، نخلص إلى أن التمسك بالجماليات الشعبية القديمة الآن، لا يزيد عن نزعة قومية أيديولوجية، بلا مصداقية.
والحقيقة أن أصحاب هذا التيار العتيق، يمارسون العنف تجاه التيارات الأخرى، مستندين إلى القوة المؤسسية التسلطية العتيقة فقط، لا إلى الواقع السوسيوثقافى ذاته الذى نحياه الآن.

(2)
التجريب يرتبط عضويا بالخصوصية الثقافية فى سياق تاريخى محدد، وفى لحظة تاريخية محددة.
فكل عرض مسرحى "تقليدى أو تجريبى" هو علاقة... مع مجموعة المعايير الجمالية والإجتماعية... إلخ، لذا فالعرض لا يملكه صانعه، دون أن يعنى هذا فقدان الأرضية الذاتية للإبداع، فالذات هى التى تتفهَّم وتتدبَّر المعايير.
أشكال الفرجة الشعبية لم تعد جماعية- هذا إن كان بالإمكان وصفها حقا فى الماضى نفسه بالجماعية، دون وساطة أيديولوجية.
وهنا، أعيد فتح ملف "الجماعة الشعبية"، فعلى ما يبدو أنها لم تكن سوى "جماعة مصطنعة أيديولوجيا". إذ تم التضخيم من حجم البؤر الجماعية الصغيرة المتناثرة فى أرجاء مصر آنذاك، والتى أصابها الضمور بمرور الوقت، وكذلك تم التضخيم من بعض جوانب الثقافات الفرعية ومن بقايا الماضى الثقافى العتيق، وصَبَّه فى مفهوم إصطلاحى كبير، هو "الجماعة الشعبية" ودُفِع به ليلعب دور المرجع الثقافى التراثى الكلى للشعب المصرى بأكمله، دون أن يكون هناك إقبالا جماعيا على تلك الأشكال، أو توافقا عاما حولها.
ويبدو واضحا أن الدافع الأيديولوجى هنا يتعلق بـ "المد الشعبى" أو بالنزوع الشعبى، الجماهيرى، الذى اتسم به النظام السياسى فى الستينيات.
لقد تمت برجزة المجتمع- بما فى ذلك الريف المصرى- ولم يعد ممكنا الإعتقاد بأن البرجوازى المصرى، ساكن المدن، يستمد هويته الثقافية من الأراجوز أو من خيال الظل... هذا إن كان المصرى التقليدى فى المجتمع المصرى القديم يستمد هويته منها حقا؟!.
الإشكالية الكبرى الناتجة عن مثل تلك المسارات الثقافية ذات الطابع القومى العام، تكمن فى حَدِّها من زخم الفيض الإبداعى الفردى فى محيط المخيلة الإجتماعية، بالتشديد الذى تفرضه على الجميع بدواعى أيديولوجية- وغنى عن البيان أنها "تهدر حقوق الفرد بنفس القدر الذى تهدر فيه حقوق المجتمع بالإنفتاح على مبدعيه الأفراد".
من هنا فالدعاوى الجماعية ليست جماعية- كما يقول أدرنو- كما أن مقولة "الجماعة الشعبية" لدينا مقولة أيديولوجية أكثر من كونها مقولة إجتماعية حقيقية؛ يشى بهذا الإستخدامات الأيديولوجية "السياسية والجمالية" العنفية المحايثة لها منذ البداية.

"الطوق والإسورة"

العالم الذى يروى عنه عرض "الطوق والإسورة" تلاشى الآن ولم يعد له وجود/ وأذكر أن الدكتور محمد بدوى- الناقد الأدبى والمترجم- قال ذات مرة (على صفحات جريدة أخبار الأدب) أن العالم الذى كان يروى عنه يحيى الطاهر عبد الله انتهى الآن.
والمفارقة تكمن هنا تحديدا- عالم عتيق تم التعبير عنه بجماليات ومفردات مسرحية شعبية بائدة- ومع ذلك حصد الجوائز (التجريبية والعربية)، وحظى باحتفاءات بالغة؟!.
من هنا- فدلالة الظاهرة المتعلقة بعرض "الطوق والإسورة"- الذى بدا كأنما هو "العرض الذى ينتظره الجميع"- أكبر منه هو نفسه، وهى ما تعنينى هنا. ومع ذلك يستحيل تناول الظاهرة بمعزل عن العرض - وسأتناوله من خلال عناصره الأساسية فقط.

النص
(التماهى بين الرواية والعرض):
يتأسس السرد الروائى عامة ولدينا خاصة على إشكالية محايثة، إذ يبدو كأنما لم يعثر بعد على "أدبيته الكتابية- بالمعنى الحديث"؛ ذلك أن المتخيَّل الروائى "العالم بكل ما به من حدث وشخصيات وعلاقات وزمان ومكان... إلخ"، ينفصل عن اللغة الأدبية؛ التى يتم استعراضه من خلالها.
ذلك أن اللغة الروائية المتَّبعة ترنو إلى التواصل؛ الذى يتمحور حول مفهوم "الإبلاغ أو الإخبار- أو الإعلام الخبرى". مما يحول اللغة الروائية إلى مجرد وسيلة تواصلية "إبلاغية"؛ إنها "لغة أداتية".
تلك اللغة تتصف بكونها بلا أبعاد دلالية إيحائية- إذ ترتكز على فكرة أن [لكل شئ كلمة جُعِلت له]، ومن ثم فوظيفة العلامة اللغوية هنا ترتكز فقط على استحضار الشئ نفسه فى مخيلة المتلقى.
تلك الرواية تتمحور حول "الموجودات"، هذا والجهود الروائية تُبذل لأجل الإمساك بها وتأكيد وجودها، وليس على الكشف عن تجربة وجودنا مع تلك الموجودات، وكيفية رؤيتنا لها، فالأشياء توجد فى الأدب على النحو الذى تتواجد به فى الواقع الخام- الذى هو "الحس المشترك" السائد، العام.
نعم، السرد القصصى "الروائى والأقصوصى" غالبا ما يتبدَّى منفصلا عن "اللغة" التى يتمظهر من خلالها، على العكس من الفنون والأنواع الأدبية الأخرى، إذ يستحيل فصل القصيدة عن لغتها، والتمثال عن المادة المصنوع منها، والموسيقى عن الأصوات، والرقص عن الجسد، واللوحة عن الألوان... إلخ.
لماذا؟.
لأن هناك "حكاية".
وللحكاية تاريخ طويل ملازم للتاريخ البشرى، غير أنها "تاريخيا"، وبحكم انبنائها على التتابع، فقد كانت ولازالت تضطلع بمهمة "الربط" بين الأحداث، وصولا إلى معنى ما. نعم، الحكاية إستعارية بطبعها، وتعد إحدى الآليات التى يعمل بها العقل.
وإذا كان الإنسان الشفاهى قد انتجها باعتبارها إحدى وسائل التعبير، فى إطار ثقافة شفاهية ترتكز على الذاكرة البشرية (قدرتها على الحفظ)، فالقيم الجمالية الشفاهية كلها- كما يقول العلماء المختصون بالدراسات "الشفاهية والكتابية"- تم إنتاجها وفقا لهذا الإعتبار.
الإشكالية تكمن فى أن النوع الأدبى المسمى "الرواية"، لم يتحرر بعد من تلك القيم، أى لم يتحول من "القيم الجمالية الشفاهية" إلى "القيم الجمالية الكتابية".
وسنلاحظ بأن الروايات والأفلام والمسرحيات- وكل عمل فنى أو أدبى ينطوى على حكاية- عادة ما ينفصل عن وسائله ومادته، لتحيا الحكاية وعناصرها منفصلة ومستقلة عنه. هكذا، حتى أن النظريات الكبرى المتعلقة بالرواية ترتكز منجزاتها الجمالية على "المتن الحكائى والمبنى الحكائى" و"مورفولوجيا الحكاية..."، "خطاب الحكاية"، "... فى النصوص الحكائية"، "الحكاية والتأويل"، "النقد البنيوى للحكاية"، ... إلخ، وجميع النظريات السردية تتمحور حول الحكاية وتقنيات الحبكة ، دون أن تتجاوز القيم الجمالية "الشفاهية"، على الرغم من اشتغالها على الرواية "الكتابية"؟!.
وكى لا تستغرقنا تلك الإشكالية، إذ ليس هنا مجال مناقشتها، أقول: رواية "الطوق والإسورة"- هى نفسها- مجرد حكاية أقرب للحكايات الشعبية، أما اللغة التى تمت صياغتها بها- وهو ما لا ينفرد به يحيى الطاهر عبد الله- فترتكز فى الأساس على التركيب الإيقاعى؛ فمن خلال اللغة الفصحى يستحضر الكاتب إيقاع اللهجة الصعيدية فى كتابته للفصحى، كنوع من حضور الواقع البيئى فى صوت الراوى.
وبذا فهى لغة واقعية، أعنى أن الراوى يروى متقمصا شخصية المكان، محاولا محو المسافة الجمالية الفاصلة بينه وبين العالم الذى يروى عنه- فهو جزء منه؛ هو صوته.
الإندماج مع البيئة بكل ما بها من مكان وزمان وشخصيات... إلخ، هو ما يعنيه ويسعى للإشارة إليه على مدار السرد، بطابعه "الحكائى- الخَبَرى"، إذ يطفو "الحكائى- الخبرى" فوق اللغة، فالكتابة عند يحيى الطاهر تعنى الإحتفال بالواقع مستعادا فى "اللغة- بما هى لغة حكاية الواقع، أو حكاية اللغة بماهى الواقع".
نحن- إذن- أمام "واقع مستعاد هو لغة محكية أو لغة محكية هى واقع مستعاد".
إذ يبدو الأمر وكأنما الواقع يحكى نفسه بنفسه- وهى وسيلة حجاجية، يبلغ فيها الإيهام بالواقع أقصاه.
فالواقع- أو السياق- يروى، متماهيا مع صوت الراوى؛ أو أن الراوى يتكلم بصوت الواقع "باعتباره جزءا منه"، على شاكلة الطرح الأرسطى الذى يقول بأن الإنسان "كحيوان عاقل- ناطق" يتكلم بلسان حال الطبيعة، نظرا لكونه جزءا منها.
هكذا، فهو صوت الحقيقة؟!؛ صوت الواقع الشفاف- الذى يشف عما وراءه.

تكمن إشكالية عرض "الطوق والإسورة"، فى ارتكازه على مبدأ المحاكاة؛ الذى يتخذ لديه معنى "التقليد"؛ تقليد الواقع، كما يرتسم فى مخيلتنا الجماعية. أى أن اللغة المسرحية التى يصيغ بها الراوى الضمنى التتابع المشهدى، هى اللغة الموازية- أو التى تسعى بدأب لأن تكون موازية- للغة الرواية الأصلية. فالديكور والملابس والإكسسوارات والموتيفات الفولكلورية والأداء التمثيلى والموسيقى... إلخ، عناصر بيئية مكافئة للغة الروائية.
وبذا فنحن هنا أمام "تقليد- مضاعف"؛ تقليد الواقع من جهة وتقليد الرواية من جهة أخرى.
تقليد الواقع- تحدثت عنه من قبل، وأضيف هنا بأن الواقع الذى يقدمه لنا (العرض-والرواية من قبل) هو "المضمون: باعتباره مجموع التصورات التاريخية والإجتماعية والنفسية... إلخ" أو "الوعى" بالواقع، وقد تم تقديم هذا الوعى- بالواقع- على أنه هو الواقع الحقيقى نفسه، وبذا يمثل العرض- بتكراره لنفس المنحى- نوعا من التشديد أو التأكيد المطلق على ما ذهبت إليه الرواية.
الإشكالية الأساسية هنا، لا تقف عند حدود الترجمة الحرفية من قِبَل العرض للرواية، بكل ما يثيره هذا المنحى فى الإخراج من إشكاليات، لاسيما أن زمن كتابة الرواية، كان مسيَّجا بمعطيات جمالية ومفاهيمية محددة بقوة. الإشكالية الأساسية تتجاوز ذلك إلى النكوص الجمالى الذى يمثله العرض، إذ يتخلَّف بشدة عن المنجزات الجمالية المسرحية المعاصرة؛ المرتكزة على "الجمالية المسرحية- المتعلقة بالعرض الفرجوى" لا على "النص".

الإخراج:
"الطوق والإسورة" مجرد حكاية مصاغة بلغة واقع طافح بنفسه؛ لا أبعاد له سوى نفسه فقط ، مما يلبى حاجة أيديولوجية "لا جمالية" لدى قارئ معدوم الخيال. فهى رواية "خبرية" بامتياز. مما يعنى أنها لا تضع القارئ أمام عالم آخر، مدهش، بقدر ما تضعه فى القلب من عالم سابق فى الوجود على الرواية نفسها. هكذا، فهى حكاية ميلودرامية عن الفقر والجهل والموت وما شابه. ولا عمل لها سوى إفقار المخيِّلة الحضارية لشعبنا، بتحويل الواقع المجدب إلى حكايات جدباء- تكرر وتجتر قشرة المعيش، هكذا، لنتواضع- كمجتمع- على أن الواقع الذى نحياه هو صخرة لا قِبَل لنا بها وعلينا أن نبتلعها فى صمت!.
الرواية والعرض يكرِّران ما قيل من قبل فى روايات وأقاصيص وأفلام ومسرحيات أخرى، عن هؤلاء المرهونين لمعتقدات شعبية عفى عليها الزمن، ولا تضيف جديدا.

(1)
الواقعية ومشكلة العلامة:
الأدب والفن الواقعيان يعملان فى الأساس على العلامات الحسية، الخاصة بالموضوعات الواقعية، ويسعيان جاهدين لدفع المتلقى للبحث عن الدلالة فى القلب من المادة المرجعية الواقعية.
الملاحظة الأساسية هنا ترتكز على أن الواقعيين يعتقدون باستحواذ الواقع على الدلالات، هكذا وكأن الواقع يتمتع بشفافية تجعله يبوح ويكشف عما ينطوى عليه من أسرار- وتلك هى الميتافيزيقا بعينها.
فالقول بأن العلامة تحيل إلى موضوع واقعى، يعنى الإعتقاد بأن المعنى كامن فى المادة ذاتها، لذا نعود إليها.
يبدو أن المادة تعتِّم على العلامة- كما يقول "دولوز".
ويؤكد السيميولوجيون على أن العلامة لا تكتسب معناها من المرجع الذى تشير إليه، وإنما من النسق الذى ترتبط فيه بالعلامات الأخرى. وهو ما يجعل من العلامة "علامة لعلامة sing of sing" – وليس لموضوع واقعى.
علامات الصورة المرئية فى أغلبها الأعم ذات طبيعة حِسِّية "أيقونية"، أى أن العلامة الصورية، الحسية، تأتى متطابقة مع موضوعها الواقعى أو مع مرجعها- وهذا هو ما يجعلها مغمورة فى مادتها، دون أن ننسى أن استحضار المرجع الواقعى يعتمد فى الأساس على تكرار واجترار ما تحتوى عليه ذاكرة المتفرج.
الواقعية تشتغل على ذاكرة المتفرج فى الأساس، وليس على مخيلته، وترتكز على البُعد الكنائى (الذى يحل فيه الجزء محل الكل، ويذكرنا به).
العلامات الحسية المرتبطة بالذاكرة، هى العناصر "الأولية" التكوينية فى العمل الفنى، وهى ضرورية لفهم العمل ككل، لكنها عناصر بسيطة "لأنها علامات للواقع لا للفن"، أعنى أنها تعُدُّنا لإستقبال النسق العلاماتى الجمالى- كما يقول "دولوز"؛ فالتذكُّرات مجازات واقعية رديئة، لأنها تمثل وضعية "ما قبل الفن"، إنها "المادة" التى يشتغل عليها الفن.
من هنا يمكن القول بأن الواقعية فى الفن والأدب لا تزيد- فى مجملها- عن ذاكرة للوقائع مأوَّلة أيديولوجيا، أى خاضعة لنظام تمثيل أيديولوجى، خاص بالكاتب أو بالفنان، ومعه معتنقى أيديولوجيته، ولا تعنى الفن فى شئ، بل يمكن القول بأنها تمثل تهديدا للفن. وهو ما يعنى أن العمل الفنى عادة ما يحتوى على "المرجع الواقعى" الذى يجب علينا أن نرد إليه الصور البلاغية المختلفة الواردة فيه- أى أن الصور البلاغية لا ترتسم فى الفراغ- وهذا هو نفسه ما كان اليونانيون القدماء يطلقون عليه إصطلاح "الإيهام"؛ فهو إيهام بالواقع باعتباره المرجع المشترك بين العرض "كشبكة من الصور البلاغية" والمتفرج.
فى "الفن" الحقيقى، العلامات تحيل إلى بعضها البعض، ولا تحيل إلى موضوعات واقعية.
ومن ناحية أخرى، إذا أضفنا إلى ما سبق أن العلامات الحسية الواقعية فى عرض "الطوق والإسورة"، لم تعد تنتمى للواقع الراهن، سنجد أنفسنا أمام عرض هو ذاكرة شائخة، ميتة- وفى الحقيقة هو صورة مستولدة من صور أخرى "سينمائية ومسرحية قديمة"، أى واقع زائف، يُقَدَّم إلينا باعتباره هو الواقع الحقيقى!.
هذا و"الواقع المؤدلج" و"الواقع الصورى"- وادعاؤهما بأنهما الواقع الحقيقى، هما تزييف للمزيَّف.(= تزييف مضاعف)..
وهذا هو ما نجده فى جميع عناصر العرض تقريبا، فالأداء التمثيلى - على سبيل المثال - يستحضر الواقع الجنوبى من خلال الصور الأدائية الشائعة فى الأفلام السينمائية والمسلسلات التليفزيونية والعروض المسرحية الأخرى؛ تلك التى ترسَّخ فى اعتقادنا أنها صور أيقونية للواقع الجنوبى نفسه- هكذا، فنحن هنا أمام "جنوب نمطى- مؤدلج".
هكذا، فالواقعية الستينية- وعرض "الطوق والإسورة" يمثل إمتدادا لها- غارقة فى الواقع المُصطَّنع أيديولوجيا، ولا يستطيع الواقعيون، وليس بإمكانهم، صناعة علامات غير ملوثة بالواقع المادى، أى علامات تحمل دلالات أخرى مختلفة عما يعتقدون بأنه الواقع. وكما نلاحظ ، فهذا عنف بيِّن يمارسونه على جمهور يدَّعون بأن هويته المسرحية ذات طبيعة فولكلورية، بينما يحاصرونه بـ (واقعهم المصطنع، المؤدلج)- متناسين أو متجاهلين أو غير منتبهين إلى أن العلامات الفولكلورية متجاوزه للواقع، وعامرة بالمجازات التى تسعى للتواصل مع العوالم الماورائية!!.

(2)
سينوغرافيا العرض:
بدلا من تغيير المناظر على خشبة المسرح المعتادة، واتخاذ المتفرج موقعا أحاديا ثابتا فى رؤيته للعرض من الصالة كالمعتاد، قام المخرج بتحريك المتفرج ليتمكن من متابعة توزيعات المشاهد على مواقع عديدة فى الصالة - وإن اضطر لعدم تحريك المتفرج فى عروض أخرى خضوعا لإمكانات المسرح الذى يقدم عليه العرض.
وهى معالجة ليست جديدة تماما، وقد تحدث عنها "أحمد زكى" فى أحد كتبه بينما يتحدث عن التجارب المسرحية الغربية، ومع ذلك تعد معالجة سينوغرافية واعدة بدلالات جديدة، ولكن ما دلالتها فى العرض؟.
هل تحمل دلالة تفكك وتمزق العالم التقليدى القديم، وفقدانه لوحدته وتحلله إلى عناصر متفرقة؟.
النص نفسه لم يشر إلى هذا التفكك، بل على العكس من ذلك، إذ قدم عالما قديما تسيِّره الأقدار، لذا فبقدر ما تبدو الأحداث غير متوالدة من بعضها البعض "وفقا لقانون الضرورة والإحتمال"، وبقدر ما تبدو كلحظات منفصلة أشبه بالمتتالية القصصية، إلا أنه حاول الإمساك بالبنية الثقافية المضمرة الصُّلبة.
المعالجة الدرامية للرواية، لم تعبأ بتلك اللحظات المنفصلة، وانحصر اهتمام المُعِد فى محاولة الإمساك (بـ) والكشف (عن) البنية الثقافية ذاتها- ليتخذ "الطوق"؛ دلالة "تطويق المتفرج" أو حصاره، بوضعه داخل دائرة، يحتل هو مركزها.
ولكن، هل بقايا الثقافة الشعبية العتيقة، لازالت تطوِّق الإنسان المصرى المعاصر؟. بالطبع لا.

الخلاصة:
من أهم المنجزات الجمالية لعروض مسرح الثقافة الجماهيرية عبر تاريخه الممتد من الستينات إلى الآن، هو أن (أشكال الفرجة الشعبية أو الوسائط الفرجوية الشعبية) كانت هى المشترك الأعظم فى هذه العروض- سواء حتمت النصوص إستخدامها أم لا.
وعندما تخلى المسرح الرسمى عن تلك الوسائط ، بعد تحوله عن مشروع البحث عن صيغة مسرحية مصرية، ظل مسرح الثقافة الجماهيرية قابضا على تلك الوسائط ، حتى عُرِف بها- فما أن نذهب لمشاهدة أحد عروض ذلك المسرح حتى يرتسم فى أفق توقعاتنا "الأراجوز والحكاواتى وخيال الظل والذكر... إلخ".
ما يعنينى هنا هو أن مسرح الثقافة الجماهيرية، من الناحية الجمالية، حاول، بطرق لا حصر لها، تجذير عروضه فى القلب من الأشكال التعبيرية الشعبية التواصلية.

وفى الحقيقة، لم يفعل عرض "الطوق والإسورة" أكثر من أنه أعاد استحضار تلك الجماليات فى سياق تاريخى مختلف؛ أعنى أن دراماتورجيا المخرج "ناصر عبد المنعم" ظلت- بالنسبة للمسرح المصرى- تقليدية تماما.
لماذا حصل عرض "الطوق والإسورة" على كل تلك الجوائز بدلا من مخرجى مسرح الثقافة الجماهيرية؟. ألا يعد هذا سطوا فاضحا على منجزات الغير؟!، أم أن لجان التحكيم فى اللجان المختلفة لا علم لها بالتاريخ الجمالى للمسرح المصرى؟.

وفى الختام أقول:
عرض "الطوق والإسورة" ينتمى جماليا وأيديولوجيا إلى الماضى، ويفشل فى إعادة صياغة تلك الجماليات إستجابة للسياق التاريخى الراهن، أما العنف المؤسسى فهو الذى منحه الفرصة ليفرض نفسه على الحاضر لا لشئ سوى لإخفاء الحاضر!.
هذا وممارسة العنف الثقافى عامة فى مجتمعنا من قبل المؤسسات الرسمية والخاصة والجماعات والأفراد والأعلام... إلخ، وعلى الرغم من أنه ليس بالظاهرة الجديدة، إذ يحتفى بـ "الميديوكر" على حساب المبدع الحقيقى الأصيل، إلا أنه بحاجة لدراسة خاصة.



#محمد_حامد_السلامونى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عرض (فيفا ماما) واقعية بلا واقع ..
- عرض (الخبز اليومى) وإعادة تأسيس الواقعية ..
- المسرح الاستعارى
- (1) التأسيس الميتافيزيقى لفن التمثيل
- التجريب فى المسرح المصرى وتقويض الحداثة
- الثورة المصرية ، تمثيلات (اللغة والواقع والجسد)


المزيد.....




- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حامد السلامونى - عرض -الطوق والإسورة- الميديوكر والعنف الثقافى