أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - محمد السعدي - صفحات من كتاب سجين الشعبة الخامسة















المزيد.....



صفحات من كتاب سجين الشعبة الخامسة


محمد السعدي

الحوار المتمدن-العدد: 6452 - 2020 / 1 / 1 - 17:38
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


مدن كردستان تنتفض

في عام 1987 وفي صيف ساخن بأحداثه السياسية والعسكرية حدث تململ جماهيري وفعاليات عسكرية واسعة في مدن كردستان، تواكباً مع تطورات الأحداث التي أدت إلى سقوط ناحيتي ) نوجول( في قاطع كرميان بيد أنصار الحزب الشيوعي العراقي وقرادغ في محافظة سليمانية بيد قوات البشمركة المشتركة. في خضم هذه التطورات والأحداث المتسارعة والتي سبقت التقييمات والتقديرات والخطط الموضوعة بسرعة حدوثها ونتائجها. كنت وقتها في الطريق مع مفرزة أنصارية متوجهاً إلى قاطع سليمانية وكركوك بعد أن تركته في نهاية 1985 إلى قاطع بهدينان بعد أن ُسّدت منافذ العبور وأصبح من الصعب التحرك والتوجه بالنزول إلى بغداد الحبيبة نتيجة سياسة الاحتراب مع قوات الاتحاد الوطني الكردستاني )أوك(. أدت بنا هذه النزاعات المسلحة إلى حصرنا في الشريط الحدودي مع إيران في مناطق سليمانية في جبالها ووديانها محتمين بصخورها وتضاريسها وشكوتاتها، مستعينين بمفارز صغيرة تعمل بالسرّ والخفاء وهم من أبناء المنطقة )كري منطقة(. وقد أخّرت مشروعنا النضالي لسنوات، وحمّلتنا خسائر مادية وبشرية ومعنوية لم تنفكّ عنا دهراً.

وصلت إلى قاطع بهدينان الفصيل المستقل الذي ُيعنى بتنظيمات الداخل وإعداد كوادر متدربة على العمل السياسي )السري( والذي يوجد


31

فيه عشراتٌ من الكوادر الحزبية. لكن عدد الرفاق الذين توجّهوا إلى الداخل من مجموع عدد الفصيل اليتناسب ال طرداً وال عكساً مع العدد الموجود.

في قاطع بهدينان كانت كل الطرق سالكة تقريباً بما فيها النزول إلى بغداد طبعاً على الرغم من وجود بعض المخاطر الجدية ... كان رفاقُ محليّة الموصل متمكنين من مدّ الخيوط واالتصاالت بالمدن والقصبات المحيطة بمدينة الموصل وحتى داخل المدينة وكان للرفاق أبو داوود، خديد اختاري، وصباح كنجي وعامل، تأثيراتهم الواضحة في التحريك في دشت الموصل. من خالل هذه العالقات والتحركات تمكنت من النزول إلى بغداد مرتين في عام 1986 من خالل المحطات الحزبية. وسبقني في النزول إلى بغداد مجموعتان كانت األولى مكونة من الرفاق الشهداء أبو أحمد، أبو سرمد، أبو بشرى، أبو ساالر. أما التحرك الثاني فكان ممثالً بالرفاق، الشهيد أبو أثير )علي الجبوري ( وأبو عبير ) عبد فيصل(. أود أن أذكر هنا أن صعودي الثاني إلى كردستان أخذته على عاتقي الشخصي ربما في حينها كنت مضطراً لظروف طارئة وتطورات ميدانية لم تكن في الحسبان . وصلت من بغداد إلى الموصل، وركبت سيارة أجرة إلى قضاء شيخان وفي وسط الطريق نزلت متوجهاً إلى إحدى القرى الصغيرة حيث توجد لنا فيها عائلة آشورية شيوعية ربّ البيت مقاتل معنا . بقيت ليلتان في البيت وكان يوجد في البيت ضيوف من بغداد، جرى الحديث معهم في الليل ودارت نقاشات بيننا طويلة وتساؤلات محرجة عن تطورات الوضع السياسي ومستقبل وجدوى تجربتنا في تغيّرات الوضع السائد، وكنا جالسين على أضواء الشموع ألن القرية كانت مشمولة ضمن خطة السلطة في قطع التيار الكهربائي



32

عن القرى. أما في النهار كنت ال أخرج من محيط الغرفة تحسباً أن يراني أحد من أهالي القرية. وكانت ربة البيت تقوم برش الغرفة بالماء البارد كل ساعة ليمتص حرارة الغرفة الساخنة المغلقة بحيطان الطين إال فتحة الباب والمغلقة أيضاً تحسباً ألي طارئ. في اليوم التالي تسللوا من الجبل ليالً بعد وصول خبر وصولي، جاء رب البيت مع الرفيق عامل، لكن عويل الكلاب في القرية دفع الربايا والمواقع العسكرية المحيطة لتشغيل التنوير على القرية مما اضطرنا إلى التخفي داخل أشجار القرية تحسباً من تقدم الجيش ومفارز المخابرات باتجاهنا، ألن إمكانية العودة إلى سلسلة جبار القوش وشيخان في نفس الليلة ضربٌ من المستحيل وانتحار وسبب آخر تعب الرفيقين وقرب بزوغ الفجر. لضرورة الخبر وأهميته ومعلوماته اضطررت العودة ثانية بسبب الارتباك الحاصل والذي من الممكن أن يعرضني إلى الموت. حيث تمكنت من إيجاد عمل مناسب ومكان آمن بعيداً عن أعين الرقيب في العاصمة بغداد. وبدأت التحرك بهدوء ودقة بعد أن توفرت مستلزمات التحرك للعمل الحزبي من مكان بعيد عن أعين السلطة إلى عالقات بنيت لهدف توسيع التنظيم بمدّ الخطوط والاتصال بالناس وسط صعوبات جمّة وعالقات متشابكة في ساحة العمل الحزبي )التنظيمي( التي تركتها مضطراً عام 1983 ثالث سنوات كانت كافية وكفيلة في ظل الإرهاب والقمع بضياع الجهود السابقة التي بنيت بالدم وذهب ضحية هذا العمل رفاقٌ أخصّ بالذكر منهم كريم خروع من أهالي السماوة البطلة، حيث اعتقل أثناء عمله في صيدلية خاله بشارع الجمهورية ببغداد. وأثناء تلقي الخبر حاولت الابتعاد عن اللقاءات تحسباً أن يدلي باعترافات تسبب لنا



33

كارثة، لكنه كما اتضح وعرفناه فيما بعد فقد استشهد تحت التعذيب ولم يعترف مدافعاً وببسالة عن الشيوعية وهذا يعد واحد من جنود الحزب المجهولين والمنسيين.
ٍ

كان عام 1986 عام حزن وضياع رفاق درب ومناضلين. عام بداية تحطيم تنظيم المنطقة الوسطى وتحديداً في بساتين )جديدة الشط( محافظة ديالى حيث تمكنت مجموعة بطلة من الشيوعيين العراقيين من التسلل من جبال كردستان وبناء قواعد حزبية في ريف ديالى. منطلقين من إحدى بساتينها للعمل الحزبي. تعرضوا إلى هجمة شرسة في ساعة صفر واحدة يوم 1 ـ 1 ـ .1980 وكان مسؤول التنظيم أبو ناصر وقيادة الحزب في كردستان بعيدين عما حدث من تطورات وتفاصيل في غاية السرية. يجهلون المعلومات عن أسباب وخطوط الضربة بكل تفاصيلها ودقائقها. كان الموعد الحزبي المهم والمحدد لي مسبقاً مع الرفيق والصديق سالم العكيلي )أبو الجاسم( المقيم حالياً في مدينة استوكهولم. تكرر الموعد مرتين حسب االتفاق في بغداد وتحديداً في موقف الباص مقابل السينما الواقعة في حي األعظمية. التي تحولت اآلن إلى مسرح السالم. ولكني لم ألتقيه في كال المرتين وشعرت بالقلق ورحت أبحث عن أسباب عدم حضوره في الموعد المحدد. كنت أعيش في ظروف صعبة للغاية من ناحية السكن والتحرك والعالقات اآلمنة.

بدأت الشكوك تطاردني في تحركاتي واتصالاتي وكذلك الاحتمالات السيئة التي ربما كانت أكثر من الواقع. لكنّ عمالً بهذا المستوى وفي مثل هذه الظروف تستدعي ذلك. ومما زاد تخويفي هو تلقّفي ألطراف حديث من بعض الأصدقاء القريبين لنا والذين التقيتهم في بغداد. كالماً يفيد بأن


34

وكراً للشيوعيين تعرّض للمداهمة في مدينة الراشدية... وحسب معلوماتي فإن أبو الجاسم متواجد في هذا المكان. إذاً سأكون أنا تحت مراقبتهم أو ربما اآلن تحت سيطرتهم، وما عليّ إال مواجهة أسوء الاحتمالات.

تحركنا أنا والرفيق أبو الجاسم في نهاية شباط 1986 من موقع الفصيل المستقل في منطقة )زيوة( مع مفرزة أنصار من الشيوعيين باتجاه مناطق دشت الموصل. وكان موقع الفوج األول وإقليم كردستان آخر نقطة التقاء لنا، ووضع لمسات أخيرة ألأسلوب عملنا وطرق التحرك والاتصالات في الداخل. ودّعنا بعضنا أنا وأبو جاسم بعناق بكبر العراق وتعهدنا بروح الشهداء أن نحافظ على مبادئنا، وسبقته في النزول إلى بغداد باتفاق على أنني بعد أيام معدودة سألتقيه في بغداد.

إنّ تقديراتي وضمن تجربتي البسيطة والمتواضعة، وهذا ما خرجت به من عملي في هذا المجال، أن الرفيق في لحظة تركه الموقع يفقد االتصال بالمركز فتصبح أخباره في خبر كان. حيث لم يعد التنظيم وال حتى يحاول المتابعة عن حياة الرفيق ولهذا تبقى الشكوك هي الكفّة الغالبة في هذا النوع من العمل، فثمة رفاق وقعوا بيد السلطة وتعاونوا معها وأخفوها عن الحزب وكانوا يقدّمون تقارير كاذبة عن حياتهم الحزبية والتنظيمية في داخل العراق. والتجربة والصدفة أحياناً كشفت بمختلف الطرق عدداً من الحالات تورطوا بهذا العمل المندسّ داخل صفوفنا. لكن جلّهم كان مجبوراً عليه ويتحين أقرب فرصة مواتية ليتوارى عن أنظارهم ويلتحق بالحزب. لكن إجراءات الحزب في مواجهة مثل هذه الحالات متخلّفة وثأرية مما منع البعض عن الصمت وتمشية األمور، خوفاً من روحية التشهير المنحطّة. والذين يتربعون على عرش هذا النوع من العمل الخطر


35

والمهم لم تسعفهم مؤهلاتهم على مواكبة حقيقة ما يجري في الداخل. وأصبحت قيادة هذا النوع من العمل أسلوباً للتظاهر والاستعراض... أكثر مما هو نضالي ومقدس. وزد على ذلك أن هذا النوع من العمل خضع إلى أسلوب المنافسة غير الالئقة والمجدية. أيهما قادر أن يزج أكبر عدد من الرفاق إلى الداخل دون تمحيص وتدقيق ولهذا ظلّت منظمات الداخل مجهولة وملغومة من الداخل وسهولة وسرعة اختراقها من األجهزة المعادية. وهذا ما أثر بدوره على سمعة الحزب والتنظيم بين الجماهير وضعّف مواقعه. أحد مندوبي المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي ُدعي
ِ
للحضور من الداخل، لكن أثناء وقائع جلسات المؤتمر ُحجر وعزل في مكان معزول لكثرة الشبهات حوله غير أن الأصطفافات بعد المؤتمر والتي لم تخلو من الكولسة وإلأقليميات والارتجاليات أعادته مرة ثانية إلى الداخل رغم الاعتراضات الشديدة، وقد أدّ ت تلك السياسات إلى إلحاق أفدح الأضرار فيما بعد بالتنظيم واستشهاد عدد من الرفاق. ودّعت أبو جاسم مع رفاق محليّة الموصل خديد اختاري )أبو داوود( وصباح كنجي وعامل من موقع مقرّ اإلقليم تحت قيادة الرفاق سليم إسماعيل ولبيد عباوي وأبو جنان وسبهان ملا جياد. بعد يومين من المسير على جبل متين وعلى تلال وأطراف مدينة الموصل.

رافقت مسيرتنا تحركات مكثفة وواسعة أشبه باستنفار عسكري من أجهزة السلطة في المنطقة. مما دفعنا أن نختفي في شكوت )كهف صغير( لمدة ثالثة أيام في سفح جبل متين مطلّ على الشارع بين أقضية وقرى القوش وشيخان. وكان غذاءنا اليومي في كل الوجبات زيتون معد قبل فترة وجيزة ومخبّأ في الكهف. ولم يكن قد ُجّهز للطعام لكن اضطررنا على أكله


36

وتحمله. جوعنا جعلنا نقضي عليه، منذ تلك الأيام والزيتون يشكّل عندي ركناً مهماً على المائدة. بعد أن خفّت التحركات من خالل المعلومات التي وصلت لنا من خالل شبكات التنظيم. تحركنا ليالً باتجاه دشت الموصل وكانت الأراضي محروثة حديثاً ومعدّة للزراعة ونزل عليها مطرٌ كثيف مما أعاق تحركنا وأخّرنا في الوصول على الموعد المحدد بعد أن ضللنا الطريق إلى قرية )دوغات(. داهمنا الصباح وبدأت حركة السيارات المارة بين الموصل ونواحيها فضاق الوقت بنا والخطر يداهمنا. لكن ما أسعفنا هو وجود حفرة صغيرة ومعدة لهذه الأيام من الطوارئ ومهيّئة بشكل جيد. كانت على شكل بيت صغير داخل حفرة في األرض من داخلها مغلفة بالخشب ومدخلها عبارة عن صخرة بمستوى انبساط االرض ال تثير أيّ انتباه للمارين والرعاة. وحشرنا بها ثالثة رفاق أنا وصباح وأبو داوود رغم أنها ال تتسع إال لشخص واحد. من الساعة الخامسة صباحاً حتى السادسة مساءً. كنا نسمع ضجيج أصوات السيارات وحديث الرعاة وأصوات الماشية حسستنا بألفة المدينة رغم مخاطرها الجدية. تحت جنح الظالم تحركنا باتجاه قرية دوغات إلى بيت أحد رفاقنا. واستقبلنا بحفاوة كبيرة. وتوزعنا على أكثر من بيت تحسباً لمداهمتنا في الصباح، لكن في الصباح الباكر توجّهت مع أحد الرفاق من التنظيم المدني بسيارته )التاكسي( إلى مدينة الموصل. ولدواعٍ أمنية بقيت في الموصل أتجول وحدي للتأكد من عدم مراقبتي. في الليل ذهبت إلى المحطة وركبت مع عدد من الناس في سيارة متوجهة إلى العاصمة الحبيبة بغداد. مع طلوع الفجر كنت في بغداد في منطقة عالوي الحلة. ذهبت إلى من كنت أحس بحسن استقبالهم لي، هدى، عالية، سعد، علي، ورغم كل ظروفهم الصعبة والرعب الذي يسكن


37

نفوسهم، فتحوا لي أبوابهم بعد قلوبهم وفاءاً لمعروف قديم سبق لي أن قمت به. بدأت أعيد اتصالاتي من خالل خرم اإلبرة إن صح الوصف، بعدما فقدت األمل في اللقاء بالرفيق أبو الجاسم. أبحث عن أدوات األمان بحدود السكن اآلمن، مع هذا بقيت أمرّ على نفس الموعد والمكان وأنا جالس في الباص عسى ولعلّ أعثر على رفيقي أبو جاسم.

قضيت الأيام الأولى بصعوبة بالغة وخاصة في الليل. كانت ساحة النهضة في بغداد ولمرات عديدة مناماً آمناً لي مفترشاً أرضها الصخبة لقضاء ليلة أخرى مع الجنود القادمين والذاهبين إلى جبهات القتال مع إيران. لكن كنت في األغلب أقضي لياليّ التعيسة في القطار الواصل بين بغداد والموصل جيئة وذهاباً، ّاتصلت أوالً بالدكتور كريم دبش )يعيش اآلن في اليمن( وحددت موعداً ّللقاء به في الكاظمية. جرّنا الحديث إلى كورنيش الأعظمية مشياً على الأقدام فهو مكان ال يثير أي انتباه باعتباره ملجأ آمناً لتسامر ولقاء العشاق. عادت بي الذاكرة سنين إلى الوراء عندما كنت طالباً في الجامعة، كنا نذهب مجموعة من الطلبة إلى مكتبة الأعظمية للقراءة ومتابعة الدراسة وبعدها نذهب إلى أماكن الهدوء هذه لنتمتع بشواطئ ومياه دجلة العذب.

ثمّة طلبة جمعتهم ظروف الدراسة والزمالة والرفقة وضرباً من التجاذب الروحي رغم التباعد الجغرافي والانتماء السياسي وذات مرة أنا وزميلتي إنعام هنيدي وهي من أصول هندية بالرغم من وشائج الصلة في عالقة متنامية من خالل الاهتمام المتبادل والذي لم يدم طويلا لصعوبة الأجواء السائدة آنذاك دار نقاش بيننا إثر ظهور )القائد( في اجتماع مجلس الوزراء في 1982، وامتد النقاش حتى قرار إعدام وزير الصحة العراقي


38

رياض حسين لمحاولته )استيراد أدوية سامّة لمعالجة جرحى الحرب(. كانت إنعام تناقشني بقناعة مؤكدة ادعاءات )السيد القائد( في الوقت الذي لم تسألني يوماً لماذا لم أكن بعثياً. أما أنا كانت قراءاتي مغايرة...

عندما استولى صدام على السلطة وعزل األب القائد بالطريقة البعثية المعروفة، فماذا تعني ادعاءاتهم حول وزيرهم الصحي؟ كنا أنا والدكتور كريم في كورنيش الأعظمية نرى العشاق يتهامسون تحت ظلال الأشجار ونحن مشغولون في استقراء الوضع السياسي وإمكانية العمل الحزبي في الداخل. في هذا الوقت لم تنقطع محاوالتي رغم كل الظروف الصعبة التي واجهتني من تفسير غياب أبو جاسم عن الموعد والأحاديث المتناقلة على ألسنة الشارع من أن هناك كبسة تمّت لوكر شيوعي في قرية جديدة الشط، الذي يعد المرجع الحزبي لي، تكللت محاولاتي بالنجاح للوصول إلى الموقع من خالل امرأة مسنة وما زالت حية ترزق في العراق. بعد أن تمكنت من الوصول إلى الموقع، تعرضت إلى التهديد بالتسليم إلى السلطات من قبل الشيخ صفوك والد أبو ناصر خوفاً من أن تكون مرسلة من النظام ألن هذه األساليب كانت مألوفة وزد على ذلك كان أغلب أفراد عائلة هذا الشيخ معتقلين وضمنهم النساء أم ستاروسفانة، لكن استطاعت أن تقنع العائلة بشرف مهمتها من خلال تقديم بعض التضمينات وبشجاعة نادرة آنذاك. وحصلت على رسالة تفصيلية حول الضربة وأضرارها وأبعادها النفسية والمادية. سلمت الرسالة لي في بغداد في منتصف عام .1986 هنا توجب صعودي إلى كردستان ألن قيادة التنظيم كانت تجهل تفاصيل الهجمة على الموقع الحزبي لصحافة الحزب وخصوصاً طريق الشعب حيث يتم تزويدها بالأخبار اليومية والدقيقة وممكن مراجعة أرشيفها لعام


39

1986 وبمعاونة رفاق وأصدقاء لي، واحدة من الأخبار التي نشرت في طريق الشعب هو طرد أقربائي من المواقع الحساسة في الدولة واعتبارهم معادين للسلطة، حيث يتمّ استدعاءهم إلى دائرة الاستخبارات العسكرية كونهم أخفوا معلومات عني وكونهم من ساللة عائلة معادية. بعد سقوط النظام 2003 عثر أقربائي على وثيقة في المخابرات العامة معنونة إلى كافة المؤسسات األمنية والحزبية في البحث عني، ومذكور أيضاً بعض األسماء وموقّعة من قبل علي حسن المجيد. ومنشور في نهاية الكتاب.
بعد فترة من وصولي إلى قاطع بهدينان ُّبلغت حزبياً بتغّير مجرى عملنا الحزبي والعودة ثانية إلى قاطع سليمانية وكركوك وكانت هناك مستجدات أملتها علينا ظروف العمل اللاحق وهي الأندساسات والأختراقات التي ُكشف عنها من خلال اعترافات البعض وتقديمها ألجهزة السلطة خطوط العمل والمحطات في التحرك نحو الداخل. كان فالح حسن )أبو بهاء( واحداً من هؤالء المندسين وتمت تصفيته جسدياً بعد أن أدلى باعترافاته الكاملة ولجسامة األضرار التي ألحقها بالتنظيم. ولطبيعة المخاطر وجدّيتها على صعيد الوضع األمني في العراق طلبت وبإلحاح من أبو ناصر أن أعود إلى الداخل وبنفس الطريق، وفي حالة الصعود سألتحق من قاطع سليمانية وتحديداً عبر منظمتي السابقة )الصدى( التي أعتز بأسلوب عملها وطريقة تحركها ودورها الكبير في لملمة الناس المقطوعة من الحزب أو بالأحرى التي تركت دون توجيهات عملية للمرحلة المقبلة وعلى أسس تنظيمية جديدة أملتها ظروف البلد آنذاك حيث إنها واكبت كل تطورات البلد من المتغيرات. أبدى أبو ناصر تحفظاته على منظمة الصدى والتنسيق معها لدواعٍ أمنية.



40

أما أنا فكان ترددي وخوفي من خلال بعض الحجج المقنعة لكن لم تراعَ ولم يعتد بها وحدث ما توقعته وطرحته. وأخيراً التزمت الصمت مما فرض عليّ من توجيهات وقرارات بعدها شعرت أن حججي لم تلق ترحاباً فالنتيجة كانت مأساوية وغير مرضية للجميع.

تحركنا مع مفرزة أنصارية صغيرة من منطقة بهدينان وتحديداً من مقراتنا في منطقة )زيوة( باتجاه منطقة لوالن عبوراً إلى قاطع سليمانية ومروراً بالمدن الإيرانية. وفي لوالن تأخرنا عدة شهور بسبب رداءة الجو حيث الثلوج غطت قمم الجبال فعرقلت عبورنا. استقريت في منطقة بوربيان مع أبو ناصر وعلي الشرطي الطارئ علينا أصالً ووجوده كان خطأً. عقدت اللجنة المركزية اجتماعها الاعتيادي وهذا أول اجتماع يعقد بعد المؤتمر الرابع للحزب. حضر أبو ناصر الاجتماع وكان واضحاً عليه أنه قدُّبلغ من قيادة الحزب بأنه من العشرة المبشرة باحتالل مواقع قيادية مرموقة. خارجاً ببركان من الهمم والمعنويات العالية. بالأمس فقط كان متردداً ويشكو كثيراً ويطالب بالسفر إلى الخارج للراحة، علماً أن الرفيق أبو ناصر كان من الناس المناضلين ويتمتع بنكران ذات قلّ نظيره في الحزب. في بهدينان عندما تعرضت غرفة الرفيق ثابت حبيب )أبو حسان( إلى قصف مدفعي من السلطة وهدمت على إثره، قام أبو ناصر وبمساعدتي ببناء غرفته مجدداً في الوقت الذي لم يجرؤ العديد من الرفاق على التقرب من غرفة أبو حسان لخالفاته مع الحزب حول الوضع الأمني. بعد المؤتمر الرابع تم تعيين أعضاء اللجنة المركزية من قبل سكرتير الحزب عزيز محمد، فبقي لغزاً محيراً )واحد داخل والآخر خارج(. في لوالن أيضاً ودعنا الرفيق مهدي عبد الكريم إثر سكتة قلبية ألمّت به ولم تمهله طويلا. وفي


41

اليوم التالي تم تشييعه ودفنه في مقبرة لولان رغم كثافة الثلوج، وابنه رحيم عجينة في تشييع مهيب وحزين ومؤثر.

في منطقة لوالن التقيت بالشهيد البطل علي الجبوري )أبو أحمد( كان تواً عائداً من بغداد، وجدته هذه المرة محبطاً من خالل استعراضه للوضع التنظيمي والسياسي. تحدثنا أليام عن مجمل قضايا تخص الأوضاع والعمل في داخل العراق، تربطني بهذا المناضل وشائج رفاقية عميقة فعندما حاولت من سوريا الخروج إلى براغ تطلّب الموقف كتاب تأييد للحصول على فيزا للجواز اليمني الذي أحمله وممكن الحصول عليها من مقرّ الحزب في دمشق، همّ الرفيق أبو أحمد الذهاب إلى المقر حامالً جوازي للحصول عليها، التقى في المقر لبيد عباوي حيث امتنع األخير عن إعطائي كتاب تأييد للسفارة التشيكية بسبب عالقتي بباقر إبراهيم وعامر عبد اللّه فهم يستطيعون حسب رأيه الحصول على الفيزا فواجهه الرفيق أبو أحمد بعنف مسمعاً إياه كلمات ربما لم يسمعها طيلة حياته الحزبية والحياتية. في المساء التقى أبو أحمد بالرفيق أبو داوود طالباً منه أن يبلغني بالذهاب إلى المقر وسيجد الكتاب جاهزاً وهذا ما تم فعالً. في لوالن كشفت ما يجول في داخلي من تردد وخوف حول طرق وأساليب العمل في التوجهات الجديدة والمرتبطة بتغير أمكنة عملنا وتحركنا الجديد. لكنه حاول أن يخفف عني عبء التردد بحديثه المسؤول والعقلاني، إلا أنه لم يهمل أفكاري ورؤيتي للمستقبل. في خضم هذا النقاش والحلول ُسئلنا في لوالن من قبل العاملين في موقع العالم باعتبارنا واصلين جدد من بغداد عن مانشيت عريض وجذاب في صدر جريدة الحزب طريق الشعب يشير إلى أن هناك في بغداد، وتحديداً في كلية التربية الرياضية


42

وأكاديمية الفنون الجميلة المغلقة لعناصر حزب البعث، اندلاع موجة من الاحتجاجات والمظاهرات أدت إلى الاصطدام مع أجهزة السلطة في بغداد، وفي هذا التاريخ المحدد كنا أنا وأبو أحمد في بغداد ونفينا الخبر وبدّل بمانشيت آخر، وكانت السلطة العراقية لمرات عديدة تقوم بتضليلنا من خلال تسريب أخبار كاذبة لنا عن طريق وكالئها في ألمنطقة فكيف الخبر سيجد مصداقيته في تسريب وكلاء السلطة لنا وأن وقوع الحدث يشير في ذلك إلى كليات مغلقة مثل التربية والأكاديمية!. حدث ذات مرة عندما كنت في قاطع سليمانية في منطقة مصيف أحمداوة عام 1984 أن تم الحديث عن مظاهرات في بغداد بمنطقة السنك، وكان خبراً منشور في جريدة مركزية ومعارضة وبالنتيجة فهو عارٍ عن الصحة. ينبغي أوالً التأكد من صحة الأخبار لما له من أضرار بليغة على سمعة الحزب وعلى مصداقية خطابه السياسي بين الجماهير.

في الربيع ذابت الثلوج من قمم الجبال فتوجهنا إلى إيران قاصدين مناطق زيوة التابعة لمحافظة الرضائية الإيرانية حاملين أوراق الحزب الديمقراطي الكردستاني تحسًّبا وتمويهاً على المخابرات اإليرانية وكان معنا عمر الشيخ أبو فاروق. بعد يوم واحد وصلنا إلى مناطق زيوة مقرّ حزبنا بقيادة الرفاق أبو هيوا وأبو حكمت. بعد يومين من وجودي طلبت من أبو ناصر أن أسبقهم إلى مناطق )بشدر( حيث مقرات الحزب الجديدة رغم أجواء المدينة الهادئة والبعيدة عن الصعوبات، وحاجة الرفاق الملحة للراحة والاستجمام لالبتعاد عن أجواء حرب الأنصار واليوميات المملة أحياناً. بعد إلحاح وإصرار مني سافرت إلى مناطق بشدر مع أحد الرفاق األكراد وبقيت في الموقع )دوال كوكه( بانتظار تحرك المفرزة ووصول أبو


43

ناصر من إيران. في معمعة هذا التأخير التحقت في مواقع الريبة للكمائن المتقدمة والمطلة على سهول مناطق )قلعة دزة( لمراقبة تحركات أجهزة السلطة وجحوشها، وإذ نتفاجأ بأفواج من الجحوش تسلم نفسها بقادتها وأسلحتها من خلال العبور من موقعنا إلى مقرات الحزب الديمقراطي الكردستاني في األراضي اإليرانية. وفي وقتها طلبت من مسؤول المفرزة بالتحقيق معهم وتجريدهم من السلاح. تحجج المسؤول بأمر قيادة القاطع السماح لهم بالعبور عبر موقعنا.

تخلّف عنا الرفيق أبو جاسم في موقع بهدينان بسبب آالم في رجله والتحق بنا الحقاً في قاطع سليمانية وفي منطقة زيوة الإيرانية، قبل السفر التقينا أنا والشهيد علي الجبوري أبو أحمد بالرفيق سامي حركات بناءً على موعد مسبق مع أبو أحمد وكانت بالنسبة لي المرة األولى التي ألتقي به وقد أصبح فيما بعد ومن خالل هذا اللقاء تقارب فكري وسياسي بيننا. وجدته عكس ما قيل عنه من سخافات وتفاهمات بحق رفيق الأمس فهو شابٌ دمث الأخالق ومعشره طيب ودافئ ويحمل مؤهالت سياسية وفكرية ومشاريع ثورية مؤجلة، طموح تتلمس من خالله رؤياه السياسية وإصراره على التحدي وروح المواصلة، وقد تمّ اللقاء خلسة وبعيداً عن أعين الرقيب أي المتربصين وضعاف النفوس، وكان ضيفاً على مقرات الحزب الديمقراطي الكردستاني في زيوة الإيرانية. وقد شكا لنا سوء المعاملة ولغة التخوين والتهميش بحقه وما تعرض له من قساوة وتعذيب هو ورفاقه في الزنزانات الفردية في منطقة )بارزان( واستشهاد الرفيق منتصر تحت التعذيب الذي كان يمارسه النصير سياميد وهو من أهالي أربيل والذي سلّم نفسه إلى السلطات العراقية فيما بعد وكانت اللجنة التحقيقية برئاسة


44

الدكتور مهند البراك )صادق( مارسوا ضدهم أشدّ وأحطّ أنواع التعذيب والإذلال بحقّ رفاق نضال األمس. وبعد أن أخذت األمور منحاً خطيراً دفع بالرفيق أبو جاسم )قاسم داوود سلمان( إلى مخاطبة عزيز محمد جالباً معه بعض أدوات التعذيب وقميص الشهيد منتصر مضرجاً بالدماء. وما كان من الأخير إلا أن أمر بإطلاق سراحهم وتركهم على الحدود الإيرانية باعتبارهم عملاء للسلطات العراقية فوقعوا بقبضة ورحمة المخابرات الإيرانية. كان سامي حركات يتحدث لنا بألم عما تعرضوا له من ممارسات دنيئة. فالرفيق أبو أحمد استنكر هذه الأساليب في التعامل مع الرفاق الذين يختلفون مع سياسة الحزب، محاولا تهدئة الموقف بحديث استطاع أن يمتصّ به غضب سامي وهو يتحدث بعصبية، وبعد أحداث عام 90 والتي عصفت بالعراق وأهله تسلل سامي حركات من جبال كردستان إلى بغداد مختفياً بين أزقتها الضيقة إلعادة ما دمرته الدكتاتورية والحروب لكنه مات واقفاً في الدفاع عن شيوعيته في أقبية النظام السرية مثلما دافع عنها في مراحيض برزان... سجون الحزب الشيوعي المدافع عن حقوق العراقيين في كسب الديمقراطية وحقوق الإنسان. واعتقل الشهيد سامي في منطقة جميلة بعدما فتح جنبراً لبيع الخضروات، وفي أغلب الظنّ تم الاعتقال عن طريق الوشاية، وكانت لي آخر رسالة منه قبل اعتقاله بأيام مرسلة من إيران يستقرئ الوضع السياسي بها. إن ظاهرة اتهام اآلخرين ترسخت في العقد الأخير وربما واحدة من أسبابها، الظروف الاستثنائية التي مرّ بها الحزب في الابتعاد عن الجماهير، لكن هذه الظاهرة زادتهم انعزالا وابتعاداً، ربما يكون الأسلوب الأضعف هو مهاجمة مخالفيهم في الرأي والفكر. وهذا أحد النتائج السلبية جراء انعدام الديمقراطية في الحياة الحزبية.


45

في السنوات الأخيرة أخذ هذا الأسلوب يضعف بل يفقد مصداقيتهم بل والأكثر من ذلك برزت انعكاساته السلبية بفرز نتائج وخيمة على سمعة الحزب وجماهيريته ونفور أعداد متزايدة من التنظيم واختلت مواقعنا الطبيعية وسط الناس والمجتمع. تقول األديبة والفنانة حياة شرارة... على لسان أختها بلقيس شرارة:

)بعد تردي الوضع العام عام 1961 حيث وجد أن عراق نوري السعيد وعراق الثورة ال يختلفان، فقررت حياة الذهاب إلى موسكو للدراسة ألنها كانت مصممة على ترك الحزب الشيوعي بعدما خاب ظنها في العمل السياسي، وكانت على اختالف مع الشيوعيين ولم يكن بوسعها ترك الحزب والبقاء في الداخل حيث سيتحول بعض أعضائه إلى مهاجمتها ونعتها بالخيانة والجبن. األمر الذي كانت تتجنبه، كانت في صراع نفسيّ متواصل، فكان تقديمها طلب الالتحاق بالبعثة إلتمام دراستها فرصة مناسبة للتخلص من هذا الجوّ واالبتعاد عنه. وقد صوّ رت تلك الخيبة على لسان أحد أبطال روايتها... وميض بريق بعيد(. هنا تعود بي الذاكرة لسنوات مضت كانت حياة تدرّسني لمدة ثالثة سنوات األدب الروسي في جامعة بغداد من خلال تسطير فطاحل الأدب الروسي الذي تميز بالجرأة والواقعية ومقارعة الظلم. بعد وصول أبو ناصر إلى مواقع بشدر كنت حينها مرابطاً في الربية نستقبل أفواج الجحوش المسلّحة المنهارة بتركها مواقع السلطة، ووضع خدماتها تحت تصرفات الحزب الديمقراطي الكردستاني وهذا تقليد موروث قديماً في الساحة الكردستانية فعندما يختلّ موقع أحد الطرفين المتنازعين يصطفون مع الجهة األقوى والغالبة في النزاع. بعدها نزلت إلى وادي )دوال كوكا( حيث مقرات حزبنا الجديدة. بعد أيام


46

معدودات لملمنا صفوفنا بالتحرك باتجاه العمق من مفرزة أنصارية مكوّنة من 11 رفيقاً باتجاه مدن قرداغ، كفري، كاالر، وهذا يتطلب المرور بأربيل والعودة ثانية إلى سليمانية وكركوك. والمفرزة لم تكن مؤهلة للقتال بحكم مهامها. كانت تضم الرفيق الشهيد أبو أحمد، الذي كانت مهمته العودة إلى الداخل، والرفاق أبو لينا وأبو ناصر. رافقت مسيرة المفرزة صعوبات جدية لسببين األول عدم وجود دليل يعتمد عليه من خالل معرفته بطبوغرافية المنطقة، أي أن يكون ابن المنطقة )كري منطقة( ملمًّا بمواقع الربايا ومنافذ تحركات السلطة. الثاني الاضطرابات السياسية في مدن كردستان مما أدى إلى المزيد من التحشدات الأمنية والأستنفار العسكري. كانت المفرزة بقيادة ملازم فاضل، وهو خريج دورات اليمن الديمقراطية وهو شابٌ حيويٌّ وجريء، قاد المفرزة بحرص وأمان، وبعد يوم من المسير المتواصل وصلنا إلى منطقة بشتاشان وتسلقنا جبل قنديل وتمتعنا بمناظره الخالبة وذوبان الثلوج رغم معاناتنا من كثافتها في قمة الجبل. وبعضنا وكنت أحدهم تجرأنا التزلج على الجليد من قمة الجبل إلى قعر الوادي. والتقينا في الوادي بقوات من أنصار األحزاب األخرى. كانوا محصورين لكثافة التحشدات الأمنية والعسكرية في المنطقة وتحديداً الطريق الذي يربط أربيل براوندوز.

كانت نوايا السلطة الهجوم على الوادي وعلى القوة المتجمعة فيه. مما سرّع تحركنا باتجاه قرية ورته، من الجانب اآلخر الذي يؤدي إلى وادي بليسان حيث كان وما زال يعاني أهله وحيواناته وأشجاره من آثار القصف الكيمياوي المدمر الذي حوّل القرية إلى أشباح. ولصعوبة الطريق في الوصول إلى الصوب اآلخر، كان هنالك منفذٌ صغيرٌ عبر جسر ضيق يؤدي إلى قرية ورته.


47

ولوال إرادة الخالق لتحول هذا الجسر إلى مقبرة لمفرزة شيوعية، بعد يوم من الانتظار في الوادي ولزحمة المعلومات بوجود هجوم كبير من السلطة عليه ولتبخر بعض قوات األحزاب، دفعنا إلى اتخاذ قرار بالعبور خصوصاً بعد وصول دليلنا المهلهل والمرتبك والمرعوب أصالً من تطور الأحداث. بعد مسير ساعات من الليل مشوبة بالحذر والتوتر وفي منتصف الليل أصبحنا على مشارف الطريق العام الذي يربط أربيل براونديز. الحظنا الإشارات بين الربايا من خلال الأطلاقات النارية وتحرك السيارات في الشارع ونحن غير مباليين لصعوبة وضع المفرزة. حيث لم نتوقف رغم خطر الموت، ألنه ال بديل آخر ينقذنا... فالموت لنا أهون من الإقدام على الانتحار في حالة عودتنا. نزلنا إلى الشارع العام وكنت مع المالزم فاضل نحتل مقدمة المفرزة في الوصول إلى الجسر الوحيد الذي يؤدي بنا إلى قرية ورته. كانت مفرزة من الاستخبارات العراقية بانتظارنا فوق الجسر مختبئين خلف بناية قديمة. كان ُدّكان القرية. ومنذ اللحظة الأولى حين وضعنا قدمنا أنا وفاضل على الجسر صرخوا بنا بالاستسلام مع سيل من الطلقات النارية ولم يكن أمامنا إلا العبور إلى الجهة الثانية من الجسر تحت وابل من النيران وإلى اآلن لم أصدق كيف نجونا وبأعجوبة، تحت هذا الوابل من إطلاقات النار. أما رفاقنا فقد تسلقوا القطوع وعبروا النهر سباحة قبل وصولهم إلى نقطة العبور. في دشت أربيل ودّعنا الشهيد أبو أحمد متوجهاً إلى الداخل بعد معاناة دامية من أورام في القدمين وبروز فقاعات وأكياس مائية في رجليّ بسبب ضيق الحذاء الذي أترديه. أما الشهيد أبو أحمد فهناك كانت تركة قديمة لكن لم يكن أكثر مني حظاً في النزول إلى الداخل. نحن واصلنا المسير إلى مناطق قرداغ واستقرينا


48

بأول موقع للحزب لترتيب تحركنا الجديد إلى مناطق كرميان فوجدت في القاعدة أجزاء من رواية مدن الملح لعبد الرحمن منيف بأجزائها، واستغليت الوقت في قراءتها بنهم. كنت أنا وأبو ناصر وعلي الشرطي الذي تم سحبه من قلة الرجال في مالكات التنظيم، اعتقاداً من أنه سوف يسد الفراغ أثر الخسائر التي أصابت تنظيم المنطقة الوسطى بعد الضربة التي وجهت إلى التنظيم في بدايات 1986 في محافظة ديالى قرية )جديدة الشط(. ال بد من الإشارة هنا أن البعض من الرفاق كان يعتقد أنّ وجوده داخل التنظيم المدني يضيف له موقعاً مهماً والبعض اآلخر كان يدرك جيداً بعدم قدرته على النزول إلى الداخل، وهذه مهمة التنظيم الرئيسية لكن كان متشبثاً في البقاء أو سحبه إلى التنظيم ألسباب عديدة منها الابتعاد عن أجواء الأنصار والبعض من أجل مكاسب شخصية حتى البعض ألحّ في العودة إلى الداخل هروباً من حياة الأنصار ولهذا كان الوقوع في يد السلطات سهالً والانهيارات كانت تحدث سريعاً. وبعد الإحتلال الأمريكي وعودة الحزب بمقراته العلنية... جاء له العديد من الرفاق، والذين تسللوا في سنوات سابقة من الجبال إلى بغداد والمحافظات، وكانوا معدودين ضمن قائمة الشهداء، لكنهم في الواقع كانوا يمارسون حياتهم الطبيعية بعد أن وقعوا في قبضة السلطات.

علّق الكادر الفالحي، مام علي، على هذا النوع من التنظيم الذي أصبح مدعاة للتفاخر والتباهي أكثر من أن يكون عمالً نضالياً مقدساً وخطيراً. علق ساخراً... إن الرفاق يقودون التنظيم في بغداد عن طريق الناظور.

في كرميان تحدّثت مع أبو ناصر لترشيح كريم عرب إلى التنظيم وكان لهذا الترشيح صلة في الحديث منذ فترة زمنية عندما كنا في بهدينان.


49

وتمّ سحبه إلى التنظيم وفعالً توجه إلى الداخل استطلاع الأوضاع هناك وإمكانية بقائه والعمل، لكنه عاد بعد أيام لهلع الناس وخوفهم من استقبال السياسيين... كريم عرب، هو عبد العظيم الكرادي، وبعد أيام من التحاقه في صفوف الأنصار، أصيب بشظية مدفع برأسه إثر قصف مقرات الحزب في منطقة كرجال، كنت حينها في قاعدة التنظيم المدني في منطقة هزارستون. وقد عدت تواً منها إلى مقر القاطع فوجدت عبد العظيم يتلوى ألماً إلى حد أنه دخل في غيبوبة لبرهة من الزمن فتحركت سريعاً واتصلت بقيادة القاطع لترتيب سفره إلى إيران للعلاج منفذنا الوحيد في قاطع سليمانية. وبسرعة رتبت سفره ورافقته إلى الحدود الإيرانية باتجاه مدينة مريوان الحدودية. وضعت مبلغاً من النقود العراقية في جيبه وكانت هذه النقود شخصية وتعود لي. روى لي بعد عودته من العلاج عندما كان نائماً في مستشفى مريوان وشعر بتحسن حالته الصحية حيث تلمس جيوبه فوجد النقود فتساءل باستغراب من أين أتت هذه النقود؟ وهذا يعني أن صحته كانت متدهورة ولم يعد يعي ما حدث له طوال الطريق الذي استغرق قرابة الساعتين.

بعد الوصول إلى مناطق كرميان والتي حرمنا فيها من ممارسة أي نشاط سياسي وعسكري لسنوات خلت نتيجة االحتراب مع قوات )أوك( أي تنظيمات الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطلباني، ونتيجة الاحتراب المشار إليه فقد كان من الصعوبة بمكان الاتصال بالجماهير بعد أن سدّوا كل أشكال التوغل والمنافذ إلى بغداد فبقينا وبمفرزة صغيرة من أبناء المنطقة متخفين عن عيون السلطة وقوات أوك على ٍّحد سواء.

كرميان... مناطق واسعة ومحاذية لمدن كثيرة مثل كركوك، كفري،




50

كاالر، طوزخورماتو، قرة تبة، قادر كرم وقرى وقصبات أخرى تمدّ عالقتك بالجماهير، وتستمد قوتك من ناسها الطيبين وأهالي القرى الذين تحملوا معاناة وكيماوي بسبينا ولم يحسّوا بالضجر بل ساهموا في مساندتنا في أشدّ الصعاب والبرد والموت.

في صعودي األخير إلى كردستان عام 1983 كنت حينها طالباً مواظباً على الدراسة في المرحلة الثالثة من كلية الآداب، جامعة بغداد. في تلك الفترة حصلت حالات اندساس عديدة داخل التنظيمات المدنية لالتحاد الوطني الكردستاني ولحساب الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة ومن بينهم المدعو أنور المزوري وهو من أهالي كفري، فأثناء وجودي عام 1982 في مناطق كردستان لمهام مستعجلة تم تشخيصي من قبل أنور، كنت حينها أتجول في القرى مع المفارز وكان معي النصيرين خضر عبد الرزاق وعبد الزهرة عباس حيث كانا ملتحقين قبل شهور قليلة، وأنا الذي رتبت طريقة التحاقهم بكردستان، شكوا لي من ملل الحياة وطرق النضال في كردستان وجدوى فاعليتها على المدى القريب، وقد دفعتهم روتينية النضال إلى التخلي عن مواقع المواجهة مع العدو، وبعد فترة تركوا سالحهم وسلّموا إلى القوات الإيرانية باعتبارهم جنوداً هاربين من الجيش العراقي. لكن في اللقاء الذي تمّ في كردستان طلب مني خضر أن أحصل له على مبلغ من المال من أهله ألنهم ما زالوا يستلمون رواتبه لكونه جندي في جبهات القتال طيلة فترة غيابه. بعد أيام من عودتي إلى القرية سررت للدكتور عزيز إسماعيل باعتباره قريباً من نشاطي وعلى اطالع ببعض تحركاتنا. ولألمانه لم أكن أعرف أن خضر بعد استلامه المبلغ سيسلم نفسه إلى القوات الإيرانية ألنه يتنافى مع توجيهات منظمتنا )الصدى( ففاتحنا صديقنا


51

الطبيب فالح حافظ من أهالي الزعفرانية ووجهنا له دعوة لزيارة قريتنا الهويدر، وبعد أن اتفقنا على طريقة التحرك وفي الليل وبعد أن استطلعت المكان شخصياً وتأكدت من وجود أخيه فاضل في البيت، سلكنا طرق البساتين ونادراً ما يسلك في الليل من المارة. بعد أن أعطيت له كلمة السر بين الأخوين. وصلنا إلى عتبة باب بيتهم وأشرت إلى صديقي الطبيب وانسحبت إلى طريق فرعي آمن في انتظاره وكنت حاملا مسدساً للطوارئ. وعندما طرق الدكتور الباب خرج له فاضل وبدقائق معدودة تمكن من إنجاز المهمة. وانسحب الدكتور سالكاً طريقاً آخراً بالاتفاق معه. وكنت أنا أسير خلفه ووصلنا إلى بيت الدكتور عزيز بأمان. وبعد أيام تمكنت من إيصال المبلغ عن طريق التنظيم إلى الشخص المعني في كردستان وبعد استالمه توجهوا إلى إيران... وهذا ما لمُ يرْح الآخرين وال التنظيم التابع إلى المنطقة الوسطى. لكنه ما حدث، وهذا ليس مفاجئاً ألحد ممن يتابع الوضع السياسي في إيران وتحديداً العراقيين بسبب ضنك العيش وصعوبة السفر من إيران، عادوا إلى مواقع الأنصار في منطقة كرجال موقع قيادة قاطع سليمانية وكركوك، حيث لم يستقبلوهم وال حتى سمحوا لهم في المبيت ولو لليلة واحدة وال حتى من أجل الانتظار في الوقت الذي كان مقرّنا مفتوحاً للمشبوهين والمدسوسين من قبل السلطة ورغم طلبهم )خضر وعبد الزهرة( أنهم جاؤوا للقاء بي ومساعدتهم. كنت في حينها في موقع التنظيم المدني في منطقة هزارستون جبل )سورين( فتوجهوا لي لكن للأسف الشديد فإن برقية قيادة القاطع سبقتهم طالبت بعدم استقبالهم بل وحتى طردهم من المقر. لكن بعد وصولهم وقفت بشدة ضد هذه التوجهات غير الإنسانية تجاه رفاق األمس. فتمسكت ببقائهم في المقر


52

وحتى مبيتهم وهذا ينسجم مع رؤيتي للحياة والمبادئ التي أحملها بعيداً عن الثأر والانتقام رغم الرفض الجماعي داخل المقر، في الصباح الباكر جداً توجهوا إلى الأراضي الإيرانية بأسماء أخرى.

في عام 1987 التحق بقاطع بهدينان رجل مخابرات لكنه من عائلة لها امتدادات شيوعية، كانت مهمته تصفيتي جسدياً حسب اعترافاته التي قدمها إلى اللجنة التحقيقية. كنت من حيث المبدأ واقفاً ضد تصفيته وسبق لي أن نشرت خبراً عنه حين كنت في الداخل نهاية عام 1986 في جريدة الحزب )طريق الشعب(. الجدير بالذكر أن السلطات الحكومية داهمت بيتهم للبحث عنه للتمويه على عمله الالحق وإعطائه دفعة لإنجاز مهامه الأمنية وللتزكية لغرض الالتحاق بصفوف الحزب الشيوعي العراقي وهذا ما تمّ فعالً، وقد ُشخّص بالصدفة وتعرض للتعذيب وأدلى بمعلومات خطيرة ومهمة. رغم أن اسمه كان منشوراً في جريدة طريق الشعب تحت عنوان، احذر هؤالء.

في منطقة كفري صيف 1987 ويا للمفارقة العجيبة فلقد جمعتني الصدفة في بيت حزبي بالمدعو أنور المزوري وعرفته بنفسي وبحضور كادر التنظيم المدني كريم كومنست وكان مندهشاً وبدأ يسرد لي القصة ّإياها محاولا تبرئة نفسه وبسبب التعذيب الذي تعرض له في مديرية استخبارات كاالر، حصل على المعلومات الشخصية عني من قبل النصيرين، سليم وأكرم لغرض الاتصال بي والحصول على مبلغ، فوقع بيد الاستخبارات مع رسالة شخصية موجهة لي. وبعد ضغط شديد حسب ما روى لي قاد مفرزة من الاستخبارات إلى بيتنا في قرية الهويدر. ونجوت بأعجوبة بعد أن طوقت مداخل القرية ومخارجها واحتلوا بيتنا أليام وبعثروا كل أشيائي


53

الجميلة واستطاع ابن جيراننا أموري نقل مكتبتي إلى بساتينهم ودفنها وتلفت بتراكم السنين والرطوبة عليها. وتمكنت بنفس اليوم الوصول إلى أقرب قاعدة حزبية مدنية وكنت أرتدي الملابس المعتادة في القرية. وصلت سالماً إلى بيت مدير بلدية كفري الشيخ عطا الطالباني ومكثت هناك 17 يوماً ودارت سجالات ونقاشات عديدة حول الوضع السياسي وتطوراته واختلفنا حول رؤاه وواقعيته واحتمالاته المرتقبة، والتكيف مع اشتداد الحملة والتجاوب مع المنعطفات. كان يعتبر الحوار لامتصاص الأزمة والمصالحة الوطنية مع السلطة من أنسب الحلول ألزمة الحزب تمهيداً للعودة إلى أحضان الجماهير وقيادتها. كان يعتبر التوقيع على قرار 200 سيء الصيت أبلغ الأساليب النضالية لمواجهة القمع والإرهاب الحكومي، منطلقاً من تجربته وقراءته للأحداث. وكان يكرر دائماً السياسة فن الممكنات وهذا كان بتقديري ينسجم مع ضرورات المرحلة الراهنة. لكن بعد مرور عشرين سنة من التجربة أدركت فحوى استنتاجاته وأهميتها. رغم أني كنت في البداية معارضاً لها ومجادلا له باعتبارها تنصلا عن الانتماء والمبدأ، فبحكم تجربتي آنذاك اعتبرتها مساومة على األفكار والمبادئ ووقفت ضدها جملة وتفصيلا واعتبرتها آراء غريبة ومتطرفة. علق الرفيق فهد حول التعهدات والتواقيع، عندما يجبر الرفيق على ذلك أنّ هذا التعهد ال قيمة له ألنه غير دستوري، وأن الرفيق زكي بسيم مرّ بمثل هذا الظرف وانهار في التحقيق واعترف لكن بقيت مكانته في الحزب وهذا ينبع من حصيلة مرارة الرفيقين في السجون وقربهم من نبض الجماهير وحرصهم على مصلحة الحزب والشعب. وهذه السجالات حدثت 1983 عندما تمكنت الإفالات من قبضتهم بمساعدة


54

المرحوم مهدي حميد السعدي بعد أن ُطّوق بيتنا من قبل رجال األمن. تمكنت من الوصول إلى بيتهم بمساعدة الآخرين. إذ تمّ تهريبي في باص خشبي مع أقفاص الرمان الهويدراوي إلى منطقة السعدية وأخذت تاكسي إلى مدينة كفري وعندما سألني سائق التاكسي ّادعيت أن أختي تعيش في كفري وجئت أبلغها باستشهاد أخي في جبهات القتال. وصلت إلى بيت شيخ عطا أو بالأحرى الرفيق والمناضل ومدير بلدية كفري. إن كلمة الرفيق كان يستحقها بجدارة، بعد أن نسبت إلى كل الجحوش والجبناء. بقيت عندهم 17 يوماً حيث حاول إقناعي بعدم الالتحاق بالجبل لحاجتهم لي في الداخل. لكن دون جدوى كنت أدرك جيداً طبيعة النظام ودمويته. أسمعني بألم ما كتبه عن كوكب الشرق الراحلة أم كلثوم من خواطر وتأمل.



55


الهويدر



قرية قديمة وعريقة ومهمة تقع شمال مدينة بعقوبة مركز محافظة ديالى بمسافة خمسة كيلو مترات بطريق مبلط. وقد أنشأت هذه القرية سنة 929 ه، 1910 م واسمها فارسي مأخوذ من )هودار( أي مجمع الهواء وقيل أن اسمها تركي جاء من الهواء العذب. وهذه القرية كانت قد تكونت بسبب عوامل الطمي التي حصلت لنهر ديالى بعد أن تغير مجراه. وهي عامرة بالبساتين وخاصة مزارع البرتقال والرمان والتمور بأنواعه المختلفة. ولسحر عثق التمور فإنه يطلع علينا أخضر اللون وبعد أيام يتحول إلى األصفر كعناقيد الذهب. تحتوي القرية على قرابة 1200 دار ويبلغ عدد سكانها نحو ثمانية آالف نسمة جلّهم من العرب، لهم تقاليدهم العشائرية وعاداتهم الاجتماعية وخاصة في الشعائر الدينية أيام محرم عاشوراء. الهويدر تعد قرية صغيرة حصرها نهر ديالى بمنفذ وحيد يربط بمركز المدينة وقد تبدو للمشاهد كجزيرة وسط المياه ومحاطة بكثافة البساتين. تعرضت مرتين إلى تدمير طبيعي إثر فيضانات نهر ديالى. لكن بقيت ملامحها طاغية ومعالمها واضحة وحافظت على تكوينها القروي رغم الخراب الذي أصابها من أثر الفيضانات. تمسكت هذه القرية بطابعها الشيعي الحاد والذي يصل أحياناً إلى مستوى التقوقع رغم قربها من مركز المدينة بعقوبة. امتازت قرية الهويدر بالزراعة ونخيلها المتميز وجمال طبيعتها وصفاء نهرها وطيبة


57

أهلها. وخرجت رموز سياسية وأدبية تركوا بصماتهم على مكانة القرية. أمثال طلعت الشيباني وزير اقتصاد حكومة قاسم 1958 أول حكومة وطنية في العراق. وأيضا خزعل السعدي القائد العسكري والسياسي، وسعدون شاكر وزير داخلية حكومة البعث وشخصيات أدبية وفكرية. تكاد تكون نسبة األمية ضئيلة جداً. وما زال اسم القرية عليه افتراضات وسجالات وهناك رواية أخرى تقول... إن اإلمام علي )رض( مرّ بجيشه في القرية في إحدى حروبه وطلب من جيشه أن يهودروا للراحة واألمان ومن هنا جاءت التسمية. وهناك رواية تقول... األصل كلمة إيرانية بمعنى نسيم الهوى العليل حيث تمتاز به القرية. إضافة إلى امتيازهم بالطيبة والكرم من خالل تعاملهم مع األشياء وتفاصيل الحياة اليومية.

كان القادم لها من مكان آخر خارج نطاق حدودها... يتفاجأ كباقي مناطق العراق عندما يهمّ بالخروج من مقهى لدفع حسابه ويكون مدفوعاً من أحد أبناء القرية وما يسمى )ور(.

عام 1980 أقدم النظام العراقي على جريمة كبيرة، سادتها أجواء الرعب والحيف الذي لحق بالناس. ففي جوّ إرهابي أقدم على تهجير ما يقارب 500 مواطناً بحجة التبعية اإليرانية من أجل تصفية حساباته وخلافاته السياسية. فكان العدد الأكبر منهم ينتمون إلى العراق وحاملي الجنسية العراقية القديمة ومنهم ليس قليلا من أعمدة النظام في القرية. هجروهم قسراً بعد أن اختطفوا شبابهم من ذويهم، وإلى اآلن لم يذكر لهم ذكرٌ وربما غيبوا في غياهب السجون. فقد هجروهم بعد أن جرّدوهم من كل ممتلكاتهم الشخصية، البعض ماتوا على الحدود حنيناً للعراق وأهله. في هذه الأجواء هبّ أهالي القرية لشراء ما تركوه من بيوت وبساتين وباتفاق


58

الجميع لتكون أمانة عند عودتهم... وفعالً عادت بعد عودتهم مع رحيل الدكتاتورية. سبق هذا العمل الهمجي حمالت اعتقال واسعة في العراق شملت تنظيمات الحزب الشيوعي وحزب الدعوة في حملة تستهدف وجود أحزاب أخرى تعمل في البلد وللتفرد في الساحة السياسية العراقية وتكريساً لعقدة الحزب الواحد. شملت الأعتقالات عشرات من الشباب وبعضهم غيبوا في السجون. والبعض اآلخر أطلق سراحه بعد أن وقعوا على القرار 200 سيء الصيت )الذي يحمل موقعه التبرئة من العمل السياسي، ويلزمه إن أراد العودة للسياسة بالعمل داخل حزب البعث(.

وكنت أنا في عمر وبمستوى من الوعي لم يؤهالني تقييم وتحليل الأوضاع بدقة كافية وواقعية. لكن مع مرور السنين تعمقت معرفتي مع تنظيم )الصدى( في بغداد. وكنت أتردد بشكل دائم على بيت شيخ الشيوعيين الشيخ عطا الطالباني بحكم عملي الحزبي مع اشتي، والتي امتدت لسنوات كانت صعبة جداً في الحياة السياسية العراقية وتفاصيلها، ال يفصل بينها إال مشاهد الدم والقتل من 1980 إلى .1983 فالظروف وتطورات البلد السياسية وقربي من هؤلاء الرفاق دعتني أن أنظر إلى التطورات التي تحدث برؤية أخرى أكثر انفتاحاً وموضوعية وتجاوباً مع التغيرات الحاصلة. واعتماد المرونة والعقالنية في التعامل مع المنعطفات السياسية وعلى ضوء الواقع المفروض في البلد خدمة للشعب والحزب والوطن.

ما زالت ولألسف الشديد طروحاتنا في معالجة قضايانا وعملنا الحزبي والسياسي نهمل هذا الجانب الحيوي. لو نالحظ خطابنا السياسي في الفترات الأخيرة من عملنا تنقصه الحنكة والسياسة في التعامل، مما


59

جعلنا نخسر العديد من الرفاق الذين يئسوا من النضال والميل إلى العوز، وأبعدنا مسافات عن مزاج الجماهير ونبض الشارع الذي هو روح الحزب ورصيده المعنوي والمادي والفكري، إن واحدة من إنجازات وثمرات الجبهة الوطنية مع البعثيين عام 1973 هي اتساع رقعة تنظيمات الحزب في عموم العراق فكان لقريتنا نصيبها الواضح باتساع تنظيمات الحزب من خلال التحاق طاقات شابة وواعدة بركب التنظيم مما أدى إلى استفزاز القوى التي تنظر إلى هذه الممارسة المحدودة األفق بريبة وحذر. أما اآلن فلقد تبخر العديد ويتحمل حزب البعث المسؤولية األولى لما تفرد به من قسوة واستبداد من حل للخلافات بطرق الإرهاب والقمع بدالً من أسلوب مواصلة الحوار والتفاهم والشراكة في بناء العراق. وبهذا يكون قد قضى على بوادر طيبة في العمل السياسي لمستقبل العراق. كما ال نعفي أنفسنا كشيوعيين من المسؤولية بسبب سياستنا الخاطئة وخطابنا السياسي الذي ال يمت إلى الواقع بصلة. في صيف 1988 وفي دمشق كنت عائداً من تجربة مرة من داخل الوطن حيث جمعتني الصدفة بأحد الرفاق من أهالي السماوة المعروف بأبي حازم، ومن خلال استقراء اللوحة السياسية العراقية كان )محمّل الوضع أكثر من الواقع(، حاولت أن أقرّب له صورة الناس في الداخل ورؤيتهم للعمل السياسي والموقف وانعكاساته السلبية من الخروج الجماعي )الهروب( خارج العراق. وكانت األيام هي الكفيلة بالرد على تصورات الآخرين. تعود بي تجربة العمل السياسي في العراق إلى عام 1979 والهجمة الشرسة في القضاء علينا كتنظيم ووجود وبشر، ورداً على هذه الهجمة وتنظيم صفوفنا، صدرت وثيقة حزبية )مناضل الحزب( من قبل الرفيق باقر إبراهيم في الداخل وفيما بعد عرفت من أبو


60

خولة أن الرفاق الشهداء صفاء الحافظ وصباح الدرة مساهمين فيها وكان الهدف من إصدارها هو لرأب الصدع في العالقة مع الحزب الحاكم من خالل رؤية سياسية واقعية أعطت حلولا لأزمة مشتعلة وكنا نحن وقودها وأشعلتنا بنارها جميعاً وأصبحنا رماداً حتى دون ومضة شرارة في تجارب العمل السياسي وما يحرك أجندته كان من الممكن كسب الوقت من خالل المناورة في ظروف قد تكون أكثر نجاعة من المواجهة نفسها.

في عام 1982 وفي مهمة خاصة إلى الأراضي المحررة )وفي وقتها انقطعت أياماً عن الجامعة( وجدت رفاقنا بتصورات بعيدة عن واقع الحياة السياسية في العراق. كانوا يناقشوني بأن النظام على حافة الهاوية فتعجبت لهذا الطرح وهم أيضاً تعجبوا من طرحي بأن النظام قوي ويحتاج إلى سنين من التضحيات والنضال حتى نستطيع أن ننال منه.

تعود قوة التنظيمات السياسية المعارضة في القرية بكل أطيافها وألوانها إلى الطابع الاجتماعي والديني لسكان أهالي القرية الهويدر، فتنظيمات القوى الدينية كانت الأبرز من خلال احتدام المواجهة مع السلطة، وهذا مرتبط بالتركيبة الاجتماعية والتي ال تخلو من العشائرية والمذهبية ألهالي القرية. كانت لقوة الحدث التراجيدي في يوم عاشوراء انعكاساته الواضحة على تفكير الناس ومعتقداتهم. تنفرد القرية في تجسيد هذا الحدث بكل مآسيه وصوره المحزنة على أرض الواقع من خلال التقاليد والتشابيه المحزنة والتي فاقت كل التصورات والوقائع مما أثار حفيظة كل الأنظمة المتعاقبة على العراق. يبرز اللون الأسود ويحتل نفوس الناس ويغطي الجدران والأعمدة والشوارع. والسواد هو الذي ال يميز الناس بين بعضهم، حزن شديد وبكاء في كل زاوية وركن من القرية مكتسحاً الوجوه


61

جميعها. السواد يعم كل أهالي القرية من طفل عمره سنة إلى أكبر شيخ فيها الفتات تنادي بالثأر لقتلة الحسين وتغلق المحالات وتغصّ القرية بالزوار من خارجها وتفتح أمامهم بيوت القرية لتناول وجبات طعام دسمة ومتنوعة ألجل الحسين وصحبه وانتقاماً من قتلته. أماكن تصرّخ وعزاء ونواح ولطم في زوايا القرية وبيوتها. تشابيه تقلد وتمثل مقتل القاسم وعطش العباس ومأساة عبد اللّه الصغير الذي قتل في واقعة الطف مع أهله وناسه... كنت مرة أمثل العباس ومرة أوالد مسلم ابن عقيل. اإلمام الحسين كان صاحب رسالة إنسانية بثورته ضد الطغيان والظلم وحري بنا نحن اليساريون أن نستشهد بها في الدروس والبالغة. يبقى الناس ملتزمين بلباسهم األسود حتى حلول يوم األربعين حيث تغلق المدارس وتعطل مرافق الحياة وتبدأ السيارات بنقل الناس إلى كربلاء ليسطروا مشاهد قتل الحسين وصحبه. وعرفت القرية بسبب من تمثيلها لهذا الحدث المأساوي. ويعدّ عزاء الهويدر متميزاً ومشهوداً له. قال لي الصديق محي الأشيقر نقالً عن والدته )يمّه الهويدراويون يلطمون من كل قلوبهم وموجوعون(. عام 1980 السنة الأولى في الجامعة كان الأستاذ جليل كمال الدين أستاذ الأدب المقارن يسأل الطلبة عن سكناهم، قال لي معلقاً إن عزاء الهويدر مؤلم في كربلاء. والهويدر تعدّ آخر معقل تم القضاء فيه على هذه الأحتفالات والمراسيم... حين صدر القرار من السلطة العراقية بإلغاء هذه المظاهر. كانت أيام عاشوراء تجسّد وتمثل من قبل الشيوعيين والقوى األخرى، وكيف كان رجال األمن يحاصروننا داخل المسجد واللطم فوق المالبس، كانت مشاهد تاريخية وتحديات.

أعود إلى القرية وتاريخها حيث فتحت فيها أول مدرسة ابتدائية سنة




62

1920، كانت هناك قبلها مدرسة أهلية ويدرّ س فيها على طريقة المّال تسمى اليوم مدرسة الهويدر األولى للبنين وما زالت وكنت أحد خريجيها ولها الفخر والمكانة في بث روح العلم والمعرفة وفي تخريج نخبة من المتعلمين والمثقفين. أهم ما تشتهر به الهويدر هو البرتقال وبودنا أن نذكر أن هناك أنواع جديدة من البرتقال دخلت زراعتها في الهويدر نذكر منها برتقال دموي، اللنكي هرفي، واستضاف الأستاذ كامل الدباغ في برنامجه العلم للجميع المالك عبد الحسين ليحدث الناس عن أنواع الحمضيات وأسمائها في قرية الهويدر. ومن هنا جاء يوم المحافظة ليتوج بملكة جمال الحمضيات بأسماء السامرائي ولحقتها أخت الأستاذ رشيد الشيباني. ويوجد في القرية مستوصف صحي، وهي مضاءة بالكهرباء ومشمولة بمشروع ماء بعقوبة الموحد وفيها سوق يحتوي على دكاكين كبيرة وتوجد فيها مقاهي جميلة وواسعة أشهرها مقهى الحاج إبراهيم جوالغ ومقهى أبو ستار وكامل.

نحن الشيوعيون فهمنا للتراث والواقع كان مغلوطاً وهذا متعلق بدوافع الانتماء للحزب فكان في األغلب لم ينم عن وعي ودراية بل كان عبارة عن دوافع والئية وال تخلوا من دوافع عشائرية. وبعد حفنة من السنين والتجارب تحضرني واقعة للداللة، حول الانتخابات السويدية، حيث ذهبوا جميعاً إلى صناديق االقتراع حتى ممن ال يعرف أن يقرأ لانتخاب حزب اليسار حتى دون مراجعة بسيطة لبرنامجه الانتخابي فضالً عن أنه مرتعٌ للعناصر الانتهازية.

تفرد الشيوعيون بميزتين تجلّتا أكثر سطوعاً في المهجر وهما عدم الوفاء لرفاقهم، رفاق األمس يجلدونهم إذا اختلفوا في الرأي معهم وثانياً


63

إنهم غير معنيين بتاريخهم وال مبالين به، لم يكترثوا بتقليب ونبش صفحات ذلك الإرث النضالي والإنساني الذي لفه النسيان المتعمد والغموض لمدة 70 عاماً، ومن تجرأ وكتب، تمّ تسفيهه وحوصر ألنه ال يتفق مع السياسة العامة لذلك النهج السياسي الذي أجبرنا على الإدمان عليه.



#محمد_السعدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اليوم العالمي للغة العربية .
- سلام عادل .. صورة غير نمطية للقيادة الشيوعية .
- وداعاً شوقي الماجري .
- جائزة نوار للابداع .
- رد’ على رد .. صورة لبيد عباوي .
- سائرون بين الجريمة والعقاب ؟.
- بغداد تتهيأ ...؟.
- الهويدر .. قريتي . 2/ 2
- الهويدر .. قريتي . 1/ 2
- قادة الحزب الشيوعي العراقي .
- عامر السعدي .. ذاكرة وطن .
- مهمة من بغداد . Mats Ekman ( ح 8 )
- مهمة من بغداد . Mats Ekman ( ح 7 )
- سجون .. إغتراب .. نضال .
- إعترافات متأخرة .
- الدال والمدلول وما يمكث ومايزول .
- مهمة من بغداد . Mats Ekman ( ح 6 )
- مهمة من بغداد . Mats Ekman ( ح 5 )
- مهمة من بغداد . Mats Ekman ( ح 4 )
- مهمة من بغداد . Mats Ekman ( ح 3 )


المزيد.....




- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري
- باي باي كهربا.. ساعات الفقدان في الجمهورية الجديدة والمقامة ...


المزيد.....

- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى
- عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة / حزب الكادحين
- الأنماط الخمسة من الثوريين - دراسة سيكولوجية ا. شتينبرج / سعيد العليمى
- جريدة طريق الثورة، العدد 46، أفريل-ماي 2018 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - محمد السعدي - صفحات من كتاب سجين الشعبة الخامسة