أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود الصباغ - البنى الآثارية للاستيطان الإسرءيلي في فلسطين(2)















المزيد.....


البنى الآثارية للاستيطان الإسرءيلي في فلسطين(2)


محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)


الحوار المتمدن-العدد: 6452 - 2020 / 1 / 1 - 10:26
المحور: القضية الفلسطينية
    


الفصل الثاني: خصائص مواقع الاستيطان الإسرءيلي
تتمثل العقبة الرئيسية في أي محاولة لتلخيص المعطيات الآثارية التي تعود لفترة الاستيطان الإسرءيلي في كيفية تحديد موقع ما يعود للعصر الحديدي الأول كمكان كان مشغولاً في البداية من قبل الإسرءيليين. وكان النصف الأول من القرن الثاني عشر ق.م قد شهد نشاط كيانات إثنية أخرى في " أرض إسرءيل "، وعلى الأخص الكنعانيون، الذين تواجدوا في السهل الساحلي والوديان الشمالية، كما يشير الكتاب المقدس أيضاً؛ كما استوطن الفلستيون السهل الساحلي الجنوبي والشفيلة في القرن الثاني عشر ق.م؛ بالإضافة إلى الجماعات المتنوعة التي كانت تشهد توحيداً عرقياً في نفس الوقت في شرق الأردن. وتشير المصادر التاريخية إلى تواجد مجموعات إضافية من شعوب البحر على طول الساحل، والفينيقيون في الشمال، والعماليق في المناطق القاحلة في الجنوب، أياً منهم قد ترك وراءه أثراً يدل على وجوده. ولكن قبل محاولة تحديد خصائص مواقع الاستيطان الإسرءيلي، لا بد لنا من تحديد ما نعنيه هنا- وفي بقية فصول هذه العمل - بمصطلح "إسرءيل - إسرءيليين "[ בני ישראל , بمعنى بني إسرائيل. المترجم]. بمعنى آخر، من كان إسرءيلياً في العصر الحديد الأول؟
تنشأ مشكلة تعريف من هو الإسرءيلي بسبب الفروق بين الجماعات الإثنية بداية فترة مازالت تبدو غامضة. علاوة على ذلك، يبدو أن جماعات أخرى - مثل الوحدات القبلية جنوب يهوذا، و الحِوّيين חוים في إقليم بنيامين وعناصر كنعانية في إقليم منسّى - انضمت إلى الكيان الجديد المتنامي في منطقة الهضاب. ومن المشكوك فيه، على سبيل المثال، أن يصف أحد سكان القرن الثاني عشر ق.م في موقع جيلو نفسه بأنه "إسرءيلي"؛ ومع ذلك، فإننا نشير إلى هذا الموقع وثقافته المادية باسم "إسرءيل".[ سوف سيتكرر استخدام " أرض إسرءيل" في هذا الكتاب كبديل لاسم الإقليم الجغرافي المعروف بفلسطين والذي لم يعرف قط باسم " أرض إسرءيل", كما سوف يتعمد فنكلشتين على استخدام التقسيمات الجغرافية التوراتية عند إشارته لأماكن توطن " القبائل الإسرءيلية", أي الأسباط שבטי (شبط) وهي كلمة عبرية بمعنى "عصا" أو" جماعة يقودها رئيس يحمل عصا" وحسب التقاليد اليهودية و المسيحية أطلقت كلمة سبط-أسباط في البداية على أفرايم و منسّي ابني يوسف و لم يكن لاوي محسوباً من الأسباط لأنه تم تعيينه لخدمة الهيكل كما اعتبر أفرايم و منسي سبطاً بدل من سبط يوسف و بهذا تقسمت الأرض بين أبناء يعقوب" إسرائيل" و حفيديه ابني يوسف. وبقي الاسباط مرتبطين في المملكة المتحدة حتى وفاة سليمان فحدثت خلافات بين يهوذا أفرايم كما هي مذكورة في سفر صموئيل الثاني( الإصحاح الثاني و الإصحاح التاسع عشر) أدت إلى انقسام المملكة إلى قسمين الأول بزعامة رحبعام ابن سليمان وانحاز له يهوذا و بنيامين و سميت مملكتهم باسم " مملكة يهوذا" أو المملكة الجنوبية, وانحازت بقية الأسباط العشرة إلى يربعام ابن نباط و ودعوا أنفسهم " مملكة إسرءيل" أو المملكة الشمالية. وتشير التقاليد المسيحية المبكرة إلى قيام السيد المسيح بتعيين اثني عشر رسولاً وفقاً لعدد الأسباط ( ويذكر سفر الرؤيا في الإصحاح السابع و الإصحاح الحادي و العشرين كيف قسم يوحنا المناظر السماوية التي رآها كالأختام و الأبواب و الأساسات إلى اثني عشر). المترجم].
كانت عملية تشكيل الهوية الإسرءيلية طويلة و معقدة و ملتوية و التي, في رأينا, اكتملت فقط في بداية الحكم الملكي. و يرتبط مع ملية التبلور هذه مرحلة وسيطة هامة ترافقت مع إنشاء مراكز عبادة مقدسة فوق قبلية خلال عصر القضاة كان أهمها موقع شيلوه الذي تم توضيح دوره في سفر صموئيل الأول -العمل التاريخي الذي يتفق الجميع عليه ( انظر الفصل الخامس).
تبعا لذلك، كان الإسرءيليون الذين عاشوا في العصر الحديدي الأول هم من يستطيع أحفادهم أن يصفوا أنفسهم كإسرءيليين- منذ الأيام الأولى لظهور شيلوه كمركز عبادة مقدس (النصف الأول من القرن الحادي عشر ق.م ) أو حتى بداية الحقبة الملكية- وقد عاشوا ,إلى حد ما, ضمن الإطار الإقليمي للملكية الإسرءيلية المبكرة، قبل توسعها (انظر وجهات نظر مختلفة حول حدود ملكية شاؤول في Aharoni 1979: 288-290 ؛ Vikander-Edelman 1986 : 130 -153 ). وهكذا، يمكن اعتبار شخص ما على أنه إسرءيلي حتى لو كان يعتبر نفسه حِوّي أو جبعوني أو قنزي وما إلى ذلك في بدايات القرن الثاني عشر ق.م، ولكن أحفاده الذين عاشوا في ذات القرية بعد بضعة أجيال ونظروا إلى أنفسهم فيما بعد كإسرءيليين أيضاً. ولكن هناك منطقتين تطرحان بعض الصعوبات هنا بخصوص هذا التعريف: أولاً, إقليم الجليل، الذي ينبغي اعتبار سكانه إسرءيليين، لكنهم لم يكونوا ضمن نطاق سلطة قضاء المليكة؛ ثانياً, تلال منسّي، في قلب الهضاب الوسطى، حيث واصلت المجموعات الكنعانية القوية العيش في العصر الحديدي الأول, ويمكن أيضاً تعريف المواقع بأنها " إسرءيلية" استناداً إلى خصائصها الاجتماعية, بما في ذلك مواقع العصر الحديدي الأول التي تنعكس في ثقافتها المادية المراحل الأولية من التوطن. وفي حين تصلح هذه المقاربة للتغلب على مشكلة تحديد هوية سكان الجليل و تلال منسّي, فلا يمكن تطبيقها على إقليم شرق الأردن, حيث ستصبح المجموعات الأخرى المستقرة في ذات الوقت شعوب مؤاب و إدوم و عمّون. قد يكون الحل الأفضل هو مزيج بين المقاربتين : الإسرءيليون في العصر الحديدي الأول هم أولئك الذين عاشوا ,في سياق عملية توطن في تلك الأجزاء من البلاد التي كانت جزءً من مملكة شاؤول, وفي الجليل. و مصطلح " إسرءيليين" إذن يستخدم في هذا الكتاب عند مناقشة العصر الحديدي الأول, حيث لا يعد سوى "مصطلح تقني" لوصف " سكان الهضاب أثناء عملية استقرارهم". وعلى كل حال, لا ينبغي لنا تجاهل حقيقة أن مجموعة من الأشخاص الذين عاشوا في كنعان في القرن الثالث عشر ق.م تم وصفهم في مسلة مرنبتاح باسم " إسرءيل". و المشكلة, بالطبع, هي عدم إمكانية تحديد تلك المواقع, وليس لدينا أي فكرة عن حجم هذه الجماعة أو بيئتها السياسية الاجتماعية ( للاطلاع على النقاشات الأخيرة حول إسرءيل في مسلة مرنبتاح انظر Stager 1985a Ahlstrom and Edelman 1985, ومن أجل عرض رؤية عن أصل تسمية إسرءيل, انظر: Ahlstrom 1986). [ كما ذكرنا سابقاً يستخدم فنكلشتين التقسيمات الجغرافية التوراتية المرتبطة بالأسباط:
- سبط أشير אָשֵׁר, بمعنى " السعيد" أو" المغبوط" ومسكنه كان " دور" جنوبي الكرمل إلى حدود صيدون و يتاخم منسّي جنوباً و زبولون ونفتالي شرقاً.
- سبط أفرايم אֶפְרַיִם אֶפְרָיִם , بمعنى " الأثمار المضاعفة" , وكان نصيبه القسم الأوسط من الهضاب الغربية و يحدها شمالاً منسّي و بنيامين و دان من الجنوب من الشرق نهر الأردن و البحر غرباً و تعد شكيم-نابلس أهم مدن إقليم إفرايم التي كانت عاصمة المملكة الشمالية لفترة من الزمن, ومن مدن أفرايم المهمة , شيلوه التي كانت مركزاً دينياً في عصر القضاة.
-سبط بنيامين בִּנְיָמִין بمعنى " ابن اليد اليمنى" أو " ابن اليمين" وتقع أراضيه بين سبطي أفرايم و يهوذا و من أهم مدن الإقليم أورشليم
-سبط جاد גָּד بمعنى" المحظوظ" أو " الطالع الحسن" الذي كان نصيبه شرق الأردن, بين رؤوبين جنوباً و نصف منسّي سمالاً و يقع جبل جلعاد على حدهم الجنوبي من نهر يبوق إلى حشبون و من حشبون إلى ربة عمون غرب وادي الأردن و الشاطئ الشرقي للطرف الشمالي للبحر الميت قرب بيت نمرة و أهم مدنه راموت جلعاد. و يعد إقليم جاد ساحة للمعارك التي دارت بين إسرءيل و آرام
-سبط دان דָּן بمعنى القاضي, و يقع بين يهوذا و أفرايم من جهة و بين بنيامين و البحر من جهة أخرى
-سبط رؤوبين רְאוּבֵן ونصيبه في شرق الأردن
-سبط زبولون זְבוּלֻן بمعنى " سكن, إقامة" وتقع أراضيه بين نفتالي أشير شملاً و يسّاكر و منسّي جنوباً
-سبط شمعون שִׁמְעוֹן بمعنى" السماع" و سكن في مدن تقع ضمن أراضي يهوذا جنوبي إقليم دان و أهم مدنه حرمة و بئر سبع و صقلغ التي استولى عليها يهوذا.
-سبط لاوي לֵוִי وهم حسب النصوص التوراتية كهنة الهيكل و القضاة و الكتبة و البوابون و الموسيقيون وتنتقل لهم هذه المهنة وراثياً, ولم يكن لهم إقليم محدد.
-سبط منسّي מְנַשֶּׁה. بمعنى" من ينسى" وهو ابن يوسف وجزء من أرضه تقع في شرق الأردن و النصف الآخر غربي النهر شمالي إقليم أفرايم أما حده الشرقي فاتسع حتى وصل إلى حدود جبل الشيخ و حوران
-سبط نفتالي נַפְתָּלִי بمعنى " مصارعتي" وامتدت أرض نفتالي إلى وادي الليطاني و الأردن و بحيرة طبرية ويحده غرباُ أراضي يسّاكر و زبولون و من أهم مدن هذا الإقليم رامة و حاصور و قاديش و أذرعي و بين عناة و مجدل إيل و بيت شيمش
-سبط يسّاكر יִשָּׂשׁכָר بمعنى " الأجير" أو " يعمل بأجرة" و تشمل أراضيه سهل يزرعيل وجبل كرمل حتى حدود الأردن يحدها شمالاً زبولون و جنوباً منسّي و شرقاً جلعاد من أهم مدنه مجدون و يزرعيل و شونيم و بيتشان و عين دور و أفيق و تعنك
سبط يهوذا יְהוּדָה. من أبرز أسباط بني إسرءيل وهو أول سبط حصل على إقليم خاص به و تشمل أراضيه جميع المنطقة التي تقع جنوب أورشليم و جزء من أدوم في شرق الأردن. المترجم].
ويعد النص الكتابي التاريخي ( المصدر الوحيد المتاح) نقطة الانطلاق في النقاش المتعلق بخصائص مواقع الاستيطان الإسرءيلي, حيث يحدد لنا النص موقع السكان الإسرءيليين في نهاية عصر القضاة و بداية الحكم الملكي. لذلك يجب استنباط السمات الثقافية الإسرءيلية من مواقع العصر الحديدي الأول في الهضاب الوسطى خاصة في القسم الجنوبي حيث لم تكن هوية السكان حينها موضع جدال. و يمكننا, من خلال المصادر المكتوبة و الأدلة الأثرية, تحديد مناطق التوطن الكنعاني و الفلستي. ومن السهل عموماً تحديد خصائص المواقع الكنعانية بناءً على ثقافتها المادية, لاسيما الفخار و اللقى الصغيرة التي تظهر استمرارية مباشرة للثقافة المادية لأسلاف سكان المواقع الذين عاشوا في العصر البرونزي المتأخر. ولا توجد أي صعوبة في تحديد المواقع الفلستية الرئيسية. فبالإضافة إلى الجانب الجغرافي, هناك الفخار الفلستي الأكثر تميزاً الذي يرتبط شكله و زخرفته بتقليد فخار بحر إيجة. وتم العثور على هذا الفخار الذي لا يمكن الخلط بينه و بين أي شيء آخر, بكميات كبيرة في المواقع الفلستية الرئيسية. ومن الواضح إذن أنه يمكن تعريف مواقع العصر الحديدي الأول في القطاعين الجنوبي و الأوسط من الهضاب على أنها " إسرءيلية " حتى لو كانت هناك عناصر أقدم أو عناصر أجنبية معينة في ذلك الوقت ( انظر على سبيل المثال: Kempinski 1979: 39, 43 B.Mazar 1981:76-79) . غير أن المشكلة التي تواجهنا سوف تنشأ عندما نحاول تحديد هوية سكان المواقع في المناطق الهامشية مثل وادي بئر السبع و شرق شيفلة عند سفوح الهضاب الوسطى, و الحواف الشرقية لسهل شارون. ونجد مثل هذه الصعوبة أيضاً إلى حد ما في إقليم منسّي في القطاع الشمالي من الهضاب الوسطى, حيث تشير الاعتبارات المختلفة - سواء الكتابية أو الأثرية- إلى وجود عنصر كنعاني قوي ظل موجوداً حتى مرحلة متأخرة من العصر الحديدي ( على الرغم من أنه طبقاً للتعريف الذي قدمناه أعلاه, كانت المنطقة إسرءيلية بالتأكيد).
تأثرت الثقافة بشكل طبيعي من كلا الاتجاهين في جميع هذه المناطق, التي هي أساساً مناطق انتقالية بين المرتفعات و السهول. لذلك، ينبغي النظر في ثلاثة عوامل هي: الوظيفة و التسلسل الزمني، والكمية, بالإضافة إلى الموقع عند أي محاول لتحديد الهوية الإثنية لسكان المواقع في هذه المناطق الهامشية على أساس ثقافتهم المادية
ترتبط وظيفة بعض اللقى، سواء كانت فخارية أم معمارية، ارتباطاً مباشراً بالمناطق الجغرافية التي تم استخدامها فيها وبالظروف الاجتماعية والاقتصادية للسكان. وبالتالي، فإن وجود هذه اللقى أو عدم وجودها في أي موقع مفترض لايعني بالضرورة انعكاساً للخلفية للإثنية لسكانها، بل هو بالأحرى نتيجة ثانوية للعوامل البيئية التي تمليها الحياة اليومية على الموقع. تكمن أهمية التحقيب الزمني في قدرته على المساعدة في تحديد أصل اللقى الإشكالية. أما بالنسبة للعامل الكمي، من الواضح أنه سيكون من الخطأ اتخاذ قرارات نهائية بشأن الهوية الإثنية على أساس وجود أو عدم وجود بعض اللقى النموذجية، لأنه على الرغم من العزلة الجغرافية الثقافية التي تميزت بها هذه الفترة، فقد كانت هناك تأثيرات متبادلة وعلاقات تجارية بين مختلف أجزاء البلاد. وعلى سبيل المثال، لا يؤدي ظهور كمية صغيرة من لقى فلستية في مستوطنة بخصائص إسرائيلية أخرى إلى تحويله إلى موقع فلستي. وبالمثل، ليس بالضرورة كل موقع يعثر فيه على عدد محدود من الجرار المخزونة المطابقة أن يكون إسرءيلياً. و مع أخذ هذه الاعتبارات في الحسبان، سنحدد الآن خصائص المواقع الإسرءيلية كما يتضح في المناطق الرئيسية للاستيطان (انظر، مؤخرًا ، Kochavi 1982: 5 ؛ A. Mazar 1985a)
أ) الموقع الجغرافي: على الرغم من أننا تعاملنا مع هذا الموضوع للتو، فإننا نلاحظ مرة أخرى أن النص الكتابي التاريخي، يوفر لنا- كونه المصدر الوحيد المتاح- الأساس لتحديد مناطق الاستيطان الإسرءيلي الرئيسية، وأن الباحثين قد كشفوا بالفعل في مواقع العصر الحديدي الأول في هذه المناطق عن ثقافة مادية ذات سمات مميزة، بعضها مناسب لمجتمع فقير معزول في المراحل الأولية من التوطن والتنظيم.
ب) حجم الموقع: تعد مواقع الاستيطان الإسرءيلية صغيرة نسبياً، حيث يبلغ متوسط مساحتها 5-6 دونمات أو أقل. فقط موقعي شيلوه و عاي كانا أكبر من ذلك حيث وصلت مساحة كل منهما إلى حوالي 10 دونمات. في إقليم منسّى، في الروافد الشمالية للهضاب الوسطى، تم مسح أكبر مواقع العصر الحديدي الأول، وهنا كان ثمة عنصر استيطان قوي وفي بعض المواقع، كان هناك استمرارية في شغل الموقع من الفترة السابقة.
ج) نمط الاستيطان: لا ينبغي اعتبار أي موقع معين يقع بعزلة عن غيره، بل ينبغي النظر إليه كجزء من صورة أكبر وأكثر تعميماً, وعلينا أن نسعى لفهم علاقته بالمواقع الأخرى في المنطقة ومكانه في النمط العام لاحتلال الموقع.
د) العمارة و مخطط الموقع: يجب التأكيد على أربعة عوامل ( سيتم التوسع فيها في الفصل السادس):
1- لم تكن معظم المراكز الإسرءيلية المبكرة مواقعاً محصنة, ويمكن تفسير بعض الاستثناءات القليلة على خلفية جهوية.
2- لا توجد في المواقع الإسرءيلية النموذجية مبانٍ عامة كمنطقة الحاكم أو أبنية المستودعات, بل كانت تتوفر على مساكن عادية بقدر ما هو معروف لنا حتى الآن.
3- يعد ظهور المباني ذات الأعمدة ( بعض أنواع البيوت مكونة من أربع حجرات) أحد سمات مواقع الاستيطان في المناطق الجبلية, و ينمذج هذا الظهور المواقع الإسرءيلية خلال فترة الملكية. علماً أنه تم العثور على أبنية شبيهة من هذا النوع أيضاً في مناطق غير إسرءيلية، مثل فلستيا و مرتفعات النقب, وربما يرتبط ظهور هذه الأبنية في هذه المواقع استخدامها تبعاً للظروف الطوبوغرافية. و تشير الأدلة المتراكمة الكمية و التحقيبية الزمنية المتحصل عليها من الحفريات والمسوحات إلى أن المصدر والتوزيع الرئيسي لهذا النوع المعماري يعود لمنطقة الهضاب الوسطى.
4- تكشف مواقع العصر الحديدي الأول الإسرءيلية عن وجود العشرات من صوامع محفورة في الأرض مبطنة بالحجارة. وتميزت هذه الصوامع خلال كل فترات وجودها بخصائص المجتمعات في المراحل الأولية من الاستقرار, حيث كانت المشكلة الأولى التي تحتاج إلى حل هي تخزين الحبوب. ومن ناحية أخرى, لا توجد مثل هذه الصوامع في مجتمعات جيدة التنظيم, فهي غير معروفة تقريباً في المدن الكنعانية أو في المواقع الإسرءيلية التي تعود للحقبة الملكية.
ه) الفخار: تميزت مواقع الاستيطان الإسرءيلي بالفخار البسيط و الهزيل نسبياً. واحتوت على ذخيرة محدودة جداً من الأنماط الفخارية. كانت معظم الأوعية تتكون من جرار تخزين و أوعية طهي مطوقة " [ذات إطار على هيئة طوق عند فتحتها. المترجم]. ( أنظر مثلاً: Mazar 1981a:31) . و يرتبط هذا بلا شك بالخلفية الاجتماعية و الاقتصادية للسكان. في حين أن جرة التخزين المطوقة ( شكل 91) , -" النمط المتحجر" للمواقع الإسرءيلية منذ حفريات أولبرايت في تل الفول سنة 1922- عثر عليها أيضاً في مواقع في وادي يزرعيل و السهل الساحلي, ويجب أن يؤخذ العامل الكمي في الاعتبار كما لاحظنا بالفعل ( و انظر أيضاً الفصل السابع) (1). وبكل الأحوال, ينبغي أن يستند تحديد أي موقع كموقع " إسرءيلي" إلى غلبة جميع الأدلة و ليس إلى عامل واحد, ولتوضيح هذه النقطة, دعونا نبحث في حالة عزبة صرطة وهو موقع يقع على الحدود بين إسرءيل و فلستيا, حيث يعد هذا الموقع " إشكالياً" من حيث الهوية الإثنية لسكانه. ستعرض المناقشة أيضاً مواقع إشكالية إضافية( أنظر أيضاً A. Mazar 1985a:61-62 ) .
تقع عزبة صرطة -التي تحتوي على ثلاث سويات ( الفصل الرابع)- على حافة الفوح التلية على الحدود مع السهل الساحلي, على بعد 3 كلم فقط إلى الشرق من تل آفق תל אפק [ خربة كرداني؟] المدين كنعانية التي أصبحت موقعاً هاماً للفلستيين. و من وجهة نظر جغرافية الاستيطان, ثمة احتمالين لتحديد الهوية الإثنية لسكان الموقع, إما أنه كان موقعاً إسرءيلياً انتشر سكانه غرب التلال ليؤسسوا مجتمعهم هناك مقابل السهل الساحلي الخصب, أو كان موقعاً فلستياً استيطانياً تابعاً لآفق القريبة(2). لا يحسم الموقع الجغرافي للمستوطنة هذه المسألة لأنه كان يقع على الحدود بين الإسرءيليين و الفلستيين. أما بالنسبة لنمط الاستيطان, فقد كشفت المسوحات الاستقصائية للمنطقة الواقعة بين جلجوليا شمالاً وروش هاعين רֹאשׁ הָעַיִן في الجنوب عن ستة مواقع إضافية تعود للعصر الحديدي الأول تقع بالمثل على حواف التلال و تطل على السهل( شكل1) . [ أقيمت مدينة روش هاعين سنة 1949 على جزء من أراضي مجدل يابا العربية إلى الجنوب من كفر قاسم. المترجم].
بكلام آخر, يعد هذا النمط ظاهرة جهوية و ليس مجرد مسألة موقع فردي معزول. ( وفقاً لأعمال المسح, لم تُعرف أي مستوطنة منفردة و غير محصنة تعود للعصر الحديدي الأول في الأجزاء القريبة من السهل الساحلي). و أظهرت الحفريات في آفق أن الاحتلال الفلستي لم يكن كبيراً, لذلك لا يوجد سبب لافتراض تطوير شبكة من المواقع التابعة في تلك الجهة الشرقية التلية من جميع الأماكن. كما تشير أعمال المسح إلى أن آفق حتى في أوج بروزها في العصر البرونزي الأوسط لم تكن مرتبطة بأية مستوطنات تابعة لها في هذه التلال. ومن ناحية أخرى كان هناك سلسلة متصلة من مواقع العصر الحديدي الأول تمتد من التلال شرقاً وتتجه نحو الهضاب الوسطى. وهذا يعني افتراضاً أن المواقع الممتدة على طول حافة الهضاب تنتمي إلى شبكة الاستيطان في الهضاب, فهذه لمواقع لا تتوافق مع نمط الاستيطان السائد في السهل الساحلي. لقد كان حجم عزية صرطة يتراوح بين 2 و 4 دونمات ( في السويات الثالثة و الثانية على التوالي), وهو ما يتوافق مع مواقع الاستيطان الإسرءيلي في الهضاب. إن بنية الموقع و تصميمه في السوية الثالثة Stratum III – عبارة عن حزام من الغرف حول فناء مركزي مفتوح- هو في رأينا بنية نموذجية لمجتمع رعوي في بداية تأسيس مستوطنة دائمة, بمخطط عام يعكس التقاليد المعمول بها قبل مرحلة التوطن ( أنظر الفصل السادس). وكان المجتمع الوحيد الذي يلبي مثل هذا التوصيف في العصر الحديدي الأول هو مجتمع السكان الإسرءيليين. بعد ذلك بقليل, في السويتان الثانية و الأولى تظهر اثنتان من السمات السائدة للمواقع الإسرءيلية: منازل من أربع حجرات و العديد من الصوامع المبطنة بالحجارة. و من المثير للاهتمام أن هذه المميزات لم تظهر في موقع آفق القريب حتى القرن العاشر ق.م (Kochavi 1981: 82). وهكذا ظهرت علامتان لا لبس فيهما للثقافة المادية للهضاب الوسطى عند آفق بالتزامن مع تراجع عزبة صرطة وفي الوقت الذي انتشر فيه الإسرءيليون في السهل الساحلي وفقاً للأدلة التاريخية.
أخيراً, يجب علينا النظر في الأدلة الفخارية, حيث يظهر الفخار الفلستي في عزبة صرطة و لكن بكميات ضئيلة للغالية. وعلى سبيل المثال, شكلت المادة الفلستية الملونة في تل قسيلة ما بين 14% إلى 24 % من مجموعة فخار السويات العاشرة إلى الثانية عشر XII-X ( A. Mazar 1985b: 105) وفي جازر 5% و لكن في عزبة صرطة شكلت فقط ما بين 1 % إلى 2% ( Finkelstein 1986: 46.91). وكانت كمية جرار التخزين المطوقة التي عثر عليها في عزبة صرطة كبيرة نسبياً بعكس الكميات المكتشفة في موقع أخرى في السهل الساحلي المجاور, مثل آفق و تل قسيلة و جازر, و التي يبدو أنها تناسب موقع إسرءيلي أكثر منه موقعاً فلستياً. من ناحية أخرى عدد جرار التخزين المطوقة كان قليل نسبياً بالمقارنة مع مثيلاتها من مستوطنات الهضاب, وهذا قد يفسر طابع الزراعة المحلي, وربما تعكس المجموعة الغنية نسبياً من الفخار التي عثر عليها في عزبة صرطة مقارنة مع مثيلاتها في منطقة الهضاب التواصل مع مواقع في السهل الساحلي. كانت عزبة صرطة مختلفة تماماً عن المواقع القريبة في السهل الساحلي من حيث الطبيعة و الموقع الجغرافي و المخطط العمراني و اللقى. ولا يمكن تفسير هذه الاختلافات على أنها تعكس التباين بين قرية صغيرة و مركز حضري. وبالتالي يمكننا التأكيد دون تردد على أن ظاهرة الاستيطان على الحواف الغربية للهضاب المقابلة للسهل الساحلي ترجع في أصولها إلى الهضاب الوسطى.
........
العنوان الأصلي للكتاب :The Archaeology of The Israelite Settlement
اسم المؤلف:Israel Finkelstein
الناشر و تاريخ النشر:Israel Exploration Society. Jerusalem .1988
المترجم: محمود الصباغ
ملاحظات
...............
هوامش
1- هناك عامل آخر قد يتعين مراعاته في المستقبل وهو بقايا الحيوانات. لم يعثر في عزبة صرطة و شيلوه على عظام الخنزير (Hellwing and Adjeman 1986:150-151)، وهي حقيقة لا ينبغي تجاهلها. من ناحية أخرى، لم يتم العثور على عظام خنزير في السوية السادسة VIفي موقع لخيش الكنعاني (Drori 1979). لذلك، يجب أن ننتظر البيانات من المواقع الأخرى قبل إصدار الحكم. من المحتمل أن توفر مجاميع عظام الحيوانات معلومات عن الخلفية الاجتماعية والاقتصادية للسكان أيضاً. على سبيل المثال، تشير نسبة كبيرة من الأبقار إلى تقليد قوي للاستيطان الدائم، في حين تشير ندرتها و رجحان وجود الأغنام / الماعز إلى تقاليد رعوية.
2- من الناحية النظرية، هناك احتمال ثالث، ألا وهو أن السوية الثالثة كانت موقعاً كنعانياً، ربما كان سكانها لاجئين من آفق المدمرة. وحتى لو كان هذا الاحتمال صحيحاً فإن ظاهرة الاستيطان الكنعاني غير المحصن بهذه الطريقة تعد في الواقع أمراً غير مألوفاً و غير معروفاً، ومن الصعب كذلك تصور مستوطنة كنعانية على الحدود بين إسرءيل وفلستيا حتى بداية القرن الحادي عشر ق.م. على أي حال، لاتعد الثقافة المادية للموقع مناسبة لسكان مرتبطين بشكل مباشر بالمجتمع الكنعاني الحضري في العصر البرونزي المتأخر.



#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البنى الآثارية للاستيطان الإسرءيلي في فلسطين(1)
- تحية إلى ديستويفسكي (2) : ديستويفسكي و لينين
- فيودور دوستويفسكي: ما له وما عليه مذكرات زوجة الكاتب: آنا غر ...
- الصراع السوري وأزمة اللاجئين في الاتحاد الأوروبي - وجهة نظر ...
- ديستويفسكي وجريمة قتل الأب
- تفاهة الشر: القمع البريطاني لثورة 1936 في فلسطين -2
- تفاهة الشر: القمع البريطاني لثورة 1936 في فلسطين -1
- القذافي والأسد والشرعية السياسية و إدارة أوباما
- الإرهاب اليهودي -الصهيوني و قيام دولة إسرائيل -5
- الإرهاب اليهودي -الصهيوني و قيام دولة إسرائيل -4
- الإرهاب اليهودي -الصهيوني و قيام دولة إسرائيل -3
- يوم أيوب؛أربعاء العطاء و الشفاء
- - الحاج- : حكاية الاستعمار و -دولة الحدود- 1
- العنصرية في لبنان:العنزة بتخلّف عنزة
- -مكبّعه ورحت امشي يُمّه بالدرابين الفقيرة-: ومن مثل الموسيقا ...
- الصهبجية:بين مطرقة الفن الهابط وسندان الزمن الجميل
- زفرة أبو عبد الله الصغير الأخيرة
- الدون كيشوت وتابعه سانشو في مخيم اليرموك(2)
- إسرائيل من الداخل:يهودية الدولة،والانقلاب الإشكنازي
- الإرهاب اليهودي -الصهيوني و قيام دولة إسرائيل (2)


المزيد.....




- هل قررت قطر إغلاق مكتب حماس في الدوحة؟ المتحدث باسم الخارجية ...
- لبنان - 49 عاما بعد اندلاع الحرب الأهلية: هل من سلم أهلي في ...
- القضاء الفرنسي يستدعي مجموعة من النواب الداعمين لفلسطين بتهم ...
- رئيسي من باكستان: إذا هاجمت إسرائيل أراضينا فلن يتبقى منها ش ...
- -تهجرت عام 1948، ولن أتهجر مرة أخرى-
- بعد سلسلة من الزلازل.. استمرار عمليات إزالة الأنقاض في تايوا ...
- الجيش الإسرائيلي ينفي ادعاءات بدفن جثث فلسطينيين في غزة
- علييف: باكو ويريفان أقرب من أي وقت مضى إلى اتفاق السلام
- -تجارة باسم الدين-.. حقوقيات مغربيات ينتقدن تطبيق -الزواج ال ...
- لأول مرة.. الجيش الروسي يدمر نظام صواريخ مضادة للطائرات MIM- ...


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود الصباغ - البنى الآثارية للاستيطان الإسرءيلي في فلسطين(2)