أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - يوسف رزين - ابن خلدون و المغرب ..بحث في دقائق العلاقة















المزيد.....



ابن خلدون و المغرب ..بحث في دقائق العلاقة


يوسف رزين

الحوار المتمدن-العدد: 6450 - 2019 / 12 / 29 - 20:53
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


يعتبر ابن خلدون مؤرخ المغرب الأشهر. نعم يوجد مؤرخون قاموا بنفس العمل لكنه تميز عنهم بتحويله الكتابة التاريخية من عملية تدوينية بحثة لأحداث الماضي إلى الانتقال بها إلى مستوى استخلاص الأسباب الكامنة وراءها أو ما أسماه هو بكنه الأخبار فأسس بذلك لعلم أطلق عليه إسم علم العمران الذي من خلاله جعلنا نفهم كيف تقوم الدولة في المغرب وكيف تنهار وفق دائرة حلزونية معادة.
كان لهذا العمل الذي قام به ابن خلدون أن أثار إعجاب كوكبة ضخمة من الباحثين وتقديرهم البالغ و اعترافا بألمعيته الفكرية فتناولوا فكره و شخصه و حياته بالدرس و التحليل مجمعين في ذلك على أنه مؤرخ نابغة همه واقع المغرب المضطرب فقرر أن يعمل فكره لتشخيص دائه المزمن المتمثل في الانهيار المتكرر لدولته.
و الواقع أني كنت لسنوات خلت ضمن أولئك الباحثين المعجبين بفكر ابن خلدون لولا أني صرت شيئا فشيئا أنظر اليه بعين ناقدة تحولت مع الوقت الى رفض مع قناعة أن صاحبنا هو أبعد ما يكون عن ذلك المؤرخ المهموم بمشاكل المغرب بل كان على العكس من ذلك مساهما رئيسيا في أوضاع المغرب المعقدة و مؤبدا لها.
قد يبدو هذا القول صادما للقارئ لكن هذا ما تبدى لنا اثناء دراستنا المتأنية لكتابه العبر (المتضمن كذلك للمقدمة و التعريف) و هو ما نعتزم إظهاره للقارئ و اشراكه فيما توصلنا إليه من نتائج.
لقد اعتمدنا في بحثنا هذا بشكل رئيسي على كتابه "التعريف بابن خلدون" الذي جعله سيرته الذاتية و تأريخا للأحداث التي عاشها و منه قررنا أن ندرس علاقة ابن خلدون بالمغرب وأن نسلط الأضواء الكاشفة على خبايا هذه العلاقة و دقائقها الدفينة و زواياها المعتمة آملين بذلك استنطاق ما سكت عنه المؤرخ المشهور و الغوص عميقا في أعماق نفسيته وعصره الملئ بالتقلبات.
يقتضي عملنا إذن وضع ابن خلدون و عصره تحت مجهر الفحص متسلحين في ذلك بآلية الملاحظة و التساؤل و المقارنة و التحليل و الاستنتاج الى آخره من أدوات النقد العلمي من أجل كشف الصورة بشكل واضح و جلي عن طبيعة علاقة متوترة و ملتبسة جمعت بين مؤرخنا الشهير و المغرب.
تبتدئ رحلتنا مع ابن خلدون عند إتمامه لتعليمه في تونس على يد شيوخ كبار نذكر منهم العلامة المغربي الآبلي و انتقاله الى المغرب بدعوة من السلطان أبي عنان حيث سيستعمله في كتابته و التوقيع بين يديه. يوضح ابن خلدون أن هذه الوظيفة قامت على النظر و القراءة و لقاء المشيخة من أهل المغرب و من أهل الاندلس الوافدين في غرض السفارة. بعبارة أخرى فإن ابن خلدون بلغة العصر كان مدير مكتب السلطان أبي عنان، فهو ينظم لقاءات أشياخ المغرب و سفراء الأندلس مع السلطان. و هذه وظيفة استخباراتية بامتياز تضمن له ربط علاقات متينة مع رجال الدولتين المغربية و الأندلسية مع اطلاع جيد على أحوال البلدين و ما يروج في مطابخهما السياسية.
و هنا يطرح السؤال : ما هي مؤهلات ابن خلدون لتولي هذا المنصب الحساس، علما أنه شخص غريب عن المغرب و لم يختبر معدنه بعد ؟ إن هذا الوظيفة لا تتطلب الكفاءة العلمية بالدرجة الاولى بل تتطلب ولاء أكيدا للدولة المرينية . هذه الدولة التي عانت مرارا من الخيانات و الانقلابات ضد رأس النظام. ألم ينقلب الأشياخ على سلطانهم أبي الحسن المريني ؟ أليست ذكراه ما تزال حية في ذهن ابنه أبي عنان؟ ألا يخشى أن يعيد أشياخ دولته نفس السيرة معه خصوصا و أنه يحمل نفس التطلعات التوحيدية لأرض المغارب؟ وهو الأمر الذي سبق و رفضه أشياخ دولة أبيه و بسببه انقلبوا عليه ؟ أليس من المفروض على أبي عنان أن يولي أمر كتابته و لقاء مشيخته أحد ثقاته و المتعصبين لسياسته لا شخصا غريبا طارئا لم تختبر نواياه بعد ؟
الغريب أن ما استشعرناه من شكوك و ارتياب تجاه ابن خلدون و عدم أهليته لهذا المنصب هو ما سيتأكد لنا فيما بعد. إذ انه سيبرهن عن ولاء منعدم للدولة المرينية حيث سيتآمر مع أبي عبد الله محمد امير بجاية المحتجز بفاس ليعود الى بلده و يستقل بها عن المغرب. لكن جواسيس ابي عنان وشوا به فسجنه. يدعي ابن خلدون أن ما بدر منه من تواصل مع أمير بجاية المعزول لم يكن مقصودا و لا برغبة منه في خيانة الدولة التي يشتغل بها بل ناجما فقط عن خطأ ارتكبه عبر عنه بالقول " و غفلت عن التحفظ في مثل ذلك من غيرة السلطان". لكن مع تقدمنا في هذا البحث سنكتشف أنه كان يرتكب هذه "الأخطاء" عن سابق الإصرار و الترصد معبرا في ذلك عن عدم ولاءه للمغرب.
قبع ابن خلدون في السجن لمدة سنتين ظل يستعطف فيها أبا عنان بقصائده إلى أن توفي فأفرج عنه القائم بالدولة الوزير الحسن بن عمر الذي أكرمه و أعاده الى سابق عهده حيث صار كاتب القائم بأمر بني مرين منصور بن سليمان . لكن رغم المعاملة الحسنة من طرف الوزير فإن ابن خلدون لم يسانده في صراعه مع الأمير أبي سالم القادم من الأندلس لطلب الملك بل فعل العكس و انضم لمعسكر أبي سالم و داعيته الخطيب ابن مرزوق و استغل علاقته الجيدة بأشياخ بني مرين و حرضهم على خلع منصور بن سليمان رغم أنه كان يكتب عنه و نقل ولاءهم إلى الأمير أبي سالم الذي بفضله صار سلطان المغرب.
تولى ابن خلدون مرة اخرى وظيفة الكتابة عن السلطان ابي سالم رغم أنه خان رئيسيه السابقين (أبو عنان و منصور بن سليمان). و هنا نتساءل مرة أخرى : ما السر الذي يجعل ابن خلدون يتولى وظيفة الكتابة رغم أنه عديم الولاء لرؤسائه ؟ إن تكرار توليه لهذه الوظيفة الحساسة رغم خياناته المتكررة يجعلنا نقول أنه كان مدعوما من جهة قوية لا يملك أحد في الدولة رد طلبها. فكيف ذلك؟
لشرح هذه النقطة دعونا نتابع ابن خلدون في عمله. فهو ما إن صار كاتب سر السلطان ابي سالم حتى بادر إلى تحرير الامراء الذين احتجزهم أبو عنان بفاس أثناء توحيده لأرض المغارب و أعادهم الى بلدانهم بكل فرح و اغتباط . يقول ابن خلدون في ذلك :" و قد كان لي المقام المحمود في بعث هؤلاء الامراء الى بلادهم و توليت كبر ذلك مع خاصة السلطان ابي سالم و كبار أهل مجلسه حتى تم القصد من ذلك".
لقد رأينا في الأول أن ابن خلدون كان ضد وحدة أرض المغارب حيث تآمر مع أبي عبد الله ليفر إلى بجاية و يستقل بها ثم نجده في المرة الثانية عند اندلاع الصراع بين قوة مغربية محلية و قوة مغربية مدعومة من الخارج/الأندلس ينحاز بوضوح إلى القوة الخارجية ثم في المرة الثالثة نجده يساهم بنشاط في بعث الامراء المحتجزين إلى إماراتهم ما يعني إعادة تفكيك المغرب الكبير و تحطيم مشروع ابي عنان التوحيدي. أي أن هذا الشخص رغم أفضال المغرب عليه إلا انه ليس له ولاء له. فبالنسبة له يجب أن يظل المغرب مفككا وتابعا لقوى خارجية ممثلة هنا في الاندلس.
لكن لماذا كان ابن خلدون يقف هذا الموقف من المغرب ؟ للجواب على هذا السؤال نقول من خلال تمعننا في التاريخ المريني أنه كان داخل الدولة المرينية تياران متصارعان أحدهما توسعي و الآخر انكماشي . الأول يدعو إلى إعادة توحيد أرض المغارب مثلما كان عليه الأمر زمن الدولة الموحدية الحية ذكراها في أذهان المرينيين و الثاني يدعو إلى انكماش المغرب على ذاته و الاقتصار على منطقة المغرب الأقصى مع التبعية للأندلس وعدم لعب أي دور مؤثر في محيطه الإقليمي. و بالتأمل في سلوك ابن خلدون و أفعاله المتكررة نجد أنه كان يمثل التيار الثاني ذي القوة المؤثرة و الذي كانت له الكلمة الفصل في أي صراع ينشب مع التيار الأول.
هذا التيار الانكماشي ممثلا في أشياخ الدولة المرينية -الدولة العميقة بمفهوم العصر الحالي- هو من أفشل سياسة أبي الحسن المريني التوحيدية و فعل نفس الشيء مع ابنه السلطان أبي عنان لذلك نرى أنه هو من فرض ابن خلدون على أبي عنان و منصور بن سليمان و أخيرا السلطان أبي سالم. يذكر ابن خلدون أن ابن مرزوق دخل في صراع معه و حاول أن يعزله عن السلطان أبي سالم لكن محاولات ابن مرزوق أدت الى إغضاب الدولة العميقة فانقلبت على أبي سالم و قتلته. يقول في هذا الصدد : " و لم يزل ابن مرزوق آخذا في سعايته بي وبأمثالي من أهل الدولة غيرة و منافسة إلى ان انتقض الأمر على السلطان بسببه و ثار الوزير عمر بن عبد الله بدار الملك فصار إليه الناس و نبذوا السلطان و بيعته و كان في ذلك هلاكه على ما ذكرناه في أخبارهم"، ما يوضح قوة هذه الدولة العميقة و المصير السيء الذي ينتظر من يضايق ممثلها ابن خلدون.
استبد الوزير عمر بن عبد الله بالحكم الذي بدوره أبقى ابن خلدون في منصبه بل و زاد في جرايته. و حدث أثناء حكمه أن طلب سلطان غرناطة أبو عبد الله المخلوع منه أن يتنازل له عن أحد مدن غرب الاندلس التي كان المغاربة يستعملونها أثناء جهادهم ضد النصارى ولأن هذا الطلب كان صعبا فإن سلطان غرناطة استخدم ابن خلدون في الضغط على الوزير وهو ما قام به المؤرخ الشهير بكل حيوية و نشاط حتى رضخ عمر بن عبد الله وتنازل له عن رندة و أعمالها. يقول ابن خلدون في ذلك : " و خاطبني أنا في ذلك (سلطان الأندلس) فكنت له نعم الوسيلة عند عمر حتى تم قصده من ذلك و تجافى عن رندة وأعمالها فنزلها و تملكها".
يعني هذا أن مؤرخنا استغل صلته القوية بالأشياخ/ الدولة العميقة/ التيار الانكماشي للضغط على الوزير و إجباره على تقليص الوجود المغربي بالأندلس و التنازل عن مدينة رندة وضواحيها -علما أنها تستخدم كموطئ قدم للقوات المغربية بالأندلس- و حرمان المغرب من امتلاك عمق استراتيجي بها. و هذا أمر طبيعي فابن خلدون هو ممثل التيار الانكماشي داخل البلاط المغربي.
لكن ما قام به ابن خلدون من تقليص للوجود المغربي بالأندلس أغضب الوزير عمر بن عبد الله و أحنقه عليه فقرر هنا مغادرة المغرب و الذهاب إلى الأندلس عند سلطانها الذي خدمه جيدا و هو ما حدث حيث استقبل ابن خلدون ممثل الدولة العميقة و التيار الانكماشي بالمغرب بحفاوة بالغة من طرف السلطان الاندلسي عبر عنها قائلا : " و قد اهتز السلطان لقدومي و هيأ لي المنزل من قصوره بفرشه و ماعونه و أركب خاصته للقائي تحفيا و برا و مجازاة بالحسنى " .
سافر ابن خلدون بعد ذلك الى ملك قشتالة الذي بدوره رحب به و أكرمه حيث عبر عن ذلك قائلا :" و عاملني من الكرامة بما لا مزيد عليه و أظهر الاغتباط بمكاني" . و هذا أمر طبيعي فابن خلدون قدم خدمات جليلة لقشتالة بخياناته المتكررة لحكام المغرب .ثم عاد بعد ذلك الى غرناطة حيث أقطعه السلطان قرية البيرة لكن الوشاة حذروا وزير غرناطة القوي ابن الخطيب من تحركات ابن خلدون المريبة و كثرة مرافقته للسلطان .
و لفهم هذه النقطة اكثر نوضح أن ابن الخطيب كان على النقيض من ابن خلدون . فإذا كان ابن خلدون مع تقليص مساحة المغرب و تحجيم دوره السياسي على المسرح الدولي و جعله تابعا للخارج/الاندلس فإن ابن الخطيب كان يرى أن أفضل حماية لغرناطة من خطر الممالك المسيحية يتمثل في تقوية المغرب و التبعية له . و لهذا نظر ابن الخطيب للقاءات ابن خلدون مع سلطان غرناطة بعين الغيظ لأنها ببساطة تعني توثيق تبعية غرناطة لقشتالة على حساب المغرب على عكس ما يريده ابن الخطيب. و لهذا قرر وزير غرناطة الضغط على ابن خلدون لمغادرة الاندلس و هو ما كان حيث رحل ابن خلدون عند صديقه أبي عبد الله أمير بجاية الذي استدعاه لتولي منصب الحجابة بها.
شغل ابن خلدون منصبا آخر غير الذي اعتاده في المغرب. إنه الآن الآمر الناهي في إمارة بجاية بعد أميرها أبي عبد الله و هنا يكشف ابن خلدون عن ملمح آخر من شخصيته و هو كراهيته للحضر و اعتماده على البدو. فقد قامت سياسته هناك على دعم سلطة أميرها وذلك بشراء ولاء البدو الأعراب بالمال عن طريق إجبار الحضر على أداء الجبايات الثقيلة بالقوة و هو ما عبر عنه بالقول :" فانهزم السلطان ابو عبد الله و رجع الى بجاية مفلولا بعد أن كنت جمعت له اموالا كثيرة أنفق جميعها في العرب و لما رجع و أعوزته النفقة فخرجت بنفسي إلى قبائل البربر بجبال بجاية الممتنعين من المغارم منذ سنين فدخلت بلادهم واستبحت حماهم و اخذت رهنهم على الطاعة حتى استوفيت منهم الجباية و كان لنا في ذلك مدد و إعانة".
و طبعا بسبب هذا الاضطهاد الذي لقيه أهل بجاية الحضر من لدن أبي عبد الله و حاجبه ابن خلدون فإنهم كاتبوا أبا العباس سلطان قسنطينة يستقدمونه. يقول ابن خلدون: " و كان أهل بجاية قد توجسوا الخيفة من سلطانهم بإرهاف حده و شدة سطوته فانحرفوا عنه باطنا وكاتبوا ابن عمه بقسنطينة" . و انتهى هذا الصراع بانتصار أبي العباس و تحرر أهل بجاية و الذي يمكن القول بصدده أنه كان صراعا بين الحضر و البدو أو بين أهل البلد والعرب.
لكن الغريب في هذا الحدث هو مقتل الامير عبد الله بينما لم يمس ابن خلدون بسوء رغم أن كلاهما اضطهد أهل بجاية. و مع ذلك لم تطله يد الانتقام !. و كأن قوة ما تحميه من غضب خصومه تجعلهم لا يجرؤون على المساس به !. كل ما حدث له هو أن خصومه ببجاية حذروا أبا العباس منه و من خطورته. و أمام هذا الوضع غير المريح طلب ابن خلدون من السلطان أبي العباس السماح له بالانصراف فقبل بصعوبة لعلمه بأنه سيذهب إلى حلفاءه الأعراب و هو ما حدث حيث ذهب عند شيخهم يعقوب بن علي فما كان من أبي العباس إلا أن اعتقل أخاه يحيى و أخذه عنده كرهينة.
لم يقبل أمير تلمسان أبو حمو ضم سلطان قسنطينة لبجاية و ترحيب أهلها به فقرر انتزاعها منه و ذلك بالاعتماد على البدو العرب و خدمات ابن خلدون الذي قال : " فلما وصل السلطان أبو حمو الى تلمسان و قد جزع للواقعة أخذ في استئلاف قبائل رياح ليجلب بهم مع عساكره على أوطان بجاية و خاطبني في ذلك لقرب عهدي باستتباعهم و ملك زمامهم و رأي ان يعول علي في ذلك".
يتضح من خلال هذا النص أن لابن خلدون كلمة نافذة على الأعراب لكنه يفسرها تفسيرا واهيا بالزعم أنها تطيعه لقرب عهده باستتباعها و ملك زمامها و هذا تفسير غير مقنع. هل قرب العهد بالاستتباع يستلزم طاعة و وفاء دائمين من العرب؟ !
فهمنا مما سبق أن ابن خلدون استعمل المال لاستئلاف العرب في بجاية و هذا أمر منطقي لكن لماذا عجز صاحب تلمسان عن استئلاف العرب رغم امتلاكه للمال و احتاج خدمات ابن خلدون في هذا الصدد رغم عدم امتلاكه للمال؟ ما السر في ذلك ؟ سنلاحظ كلما تقدمنا في هذا البحث أن الأعراب هم دائما رهن إشارة ابن خلدون سواء كان في السلطة أم لم يكن و أن سلاطين بلاد المغارب يلجؤون إليه باستمرار للاستتباعهم . و مرة اخرى نطرح نفس السؤال المحير : ما السر في ذلك ؟
نعود إلى موضوعنا و نشير إلى أن ابن خلدون لبى طلب صاحب تلمسان ابي حمو و طلب من أشياخ الدواودة ترك السلطان أبي العباس و الانتقال الى خدمة أبي حمو الذي ظل يهاجم بجاية كل عام فكان يعول باستمرار على ابن خلدون في استئلاف قبائل رياح و الدواودة كما تحالف مع صاحب تونس السلطان أبي اسحاق المعتمد بدوره على الأعراب لمحاصرة بجاية فكان ابن خلدون المستقر ببسكرة يلعب دور صلة الوصل بين السلطانين حيث كان يستقبل سفراء تلمسان بهذه المدينة أثناء ذهابهم إلى تونس.
لكن رغم كل محاولات أبي حمو إلا أنه لم ينجح في القضاء على إمارة بجاية و مع ذلك ظل مصرا على هدفه و ابن خلدون على مساندته. يقول في ذلك : " و لم يزل من بعد على استئلاف زغبة و رياح يؤمل الظفر بوطنه و ابن عمه و الكرة على بجاية عاما فعاما وأنا على حالي في مشايعته و إيلاف ما بينه و بين الدواودة و السلطان أبي اسحاق صاحب تونس و ابنه خالد من بعد".
في هذه الأثناء قرر السلطان عبد العزيز المريني مهاجمة تلمسان فقرر ابن خلدون من جهته الذهاب إلى الاندلس محملا برسالة من أبي حمو إلى ابن الاحمر و طبعا و كما هو مفهوم فإنه كان ذاهبا ليطلب من سلطان غرناطة مشاغلة سلطان المغرب منعا له من مهاجمة تلمسان لكن لسوء حظه تعذر عليه ركوب البحر من ميناء هنين فعلق به إلى أن أمسكت به سرية مغربية و حملته إلى السلطان عبد العزيز الموجود آنذاك بالقرب من تلمسان فوبخه بشدة و اعتقله لليلة.
استطاع عبد العزيز المريني دخول تلمسان لكنه في المقابل فشل في استتباع قبائل رياح فما كان منه إلا أن طلب من ابن خلدون أن يستألفهم لصالحه و هو ما كان و هو أيضا ما يؤكد سلطة ابن خلدون العجيبة و الغريبة على الأعراب ! .
فر السلطان أبو حمو إلى المسيلة و معه قبائل رياح و الدواودة و رغم أنه بذل العطاء فيهم ليجتمعوا إليه إلا أنهم بمجرد ما كلمهم ابن خلدون و طلب منهم الانتقال إلى طاعة السلطان المريني عبد العزيز حتى أطاعوه و تركوا السلطان أبا حمو !!.
يذكر ابن خلدون أنه استقر في هذه الفترة ببسكرة عند صاحبها أحمد بن يوسف بن المزني صاحب زمام رياح و مرة أخرى حذر الوشاة شيخ رياح من مناورات ابن خلدون التي وصفها هو قائلا:" فلم أشعر إلا و قد حدثت المنافسة منه في استتباع العرب" أي أنه كان ينافس بن المزني في كسب ولاء العرب و الإنقلاب عليه و استتباعهم لجهة اخرى. و هذا أمر مفهوم فهو لم يستتبع العرب لصالح عبد العزيز المريني إلا خوفا منه و ضد رغبته.
قام ابن المزني إثر علمه بمناورات ابن خلدون بمراسلة السلطان عبد العزيز بخصوصه فاستدعاه إليه لكن بمجرد وصوله إلى مليانه كان السلطان قد توفي فعاد ابنه أبو بكر السعيد و وصيه الوزير أبو بكر الغازي سريعا إلى فاس و لحقهم ابن خلدون إليها حيث أكرمه الوزير و جعله من خاصة السلطان.
لم يلبث أن اندلع الصراع بين الوزير أبي بكر و ابن الأحمر الذي أرسل جيشا بقيادة الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن من ولد السلطان أبي علي فسيطر على تازة. في المقابل جهز أبو بكر الغازي ابن عمه محمد بن عثمان إلى سبتة لإمداد الحامية المغربية بجبل الفتح المحاصرة من طرف ابن الاحمر لكن محمد بن عثمان سيخون أبي بكر و يتواطأ مع ابن الأحمر و يتخلى له عن جبل الفتح و سيبايع الأمير أحمد بن أبي سالم المحتجز بطنجة بطلب من ابن الاحمر و الذي سيرسلهما على رأس جيش سيطر على مكناسة كما قدم عرب معقل أنصار الأمير عبد الرحمان من سوس بتحريض من ونزمار بن عريف أحد أشياخ الدولة المرينية و الذي تمرد بدوره على الوزير أبي بكر الغازي و انحاز إلى خصمه الأمير عبد الرحمان. و أمام هذا الحصار الذي عاشته العاصمة فاس من الشرق و الغرب والجنوب لم يجد الوزير أبو بكر الغازي بدا من الاستسلام.
نلاحظ مرة اخرى أن ابن خلدون رغم علاقته الجيدة مع الأعراب إلا انه لم يستخدمها لمساندة الوزير أبي بكر الغازي المدافع عن المغرب ضد التدخل الاندلسي بل ترك الأعراب يساندون صديقه الأمير عبد الرحمان كما سيتضح فيما بعد. يذكر ابن خلدون في هذا الصدد أن الأمير عبد الرحمان كان يميل إليه و يستدعيه أكثر اوقاته و يشاوره في أحواله و هذا أمر طبيعي لأن ابن خلدون هو من يملك زمام الأعراب و هذا الأمير سيستقر بعد الاتفاق الذي أبرمه مع السلطان الجديد أبي العباس بمنطقة سجلماسة و درعة و هي مناطق انتشارهم بامتياز. و لم يكتف الامير عبد الرحمان بهذه المناطق فحسب بل ضغط للحصول أيضا على مراكش و أعمالها ضمن مناطق نفوذه ما يعني تجاوز الاعراب لجبال الاطلس الكبير و اختراقهم للسهول المغربية .
يؤكد ابن خلدون بسلوكه المتكرر أنه مهما لقي من معاملة كريمة من طرف السلطة المغربية فإن هواه يظل دائما مع القوى الخارجية المعادية للمغرب. و لذلك فإن هذا التقارب الذي حدث بين الأمير عبد الرحمان و ابن خلدون قد أقلق الوزير محمد بن عثمان رغم العلاقة الجيدة التي كانت بينهما فابلغ مخاوفه للسلطان أبي العباس (أحمد بن أبي سالم) فقبض عليه لكن اعتقاله لم يدم أكثر من يوم واحد حيث تدخل الأمير عبد الرحمان لصالحه.
قرر هنا ابن خلدون السفر إلى الاندلس فوافق السلطان أبو العباس بصعوبة هو و رجال دولته لعلمهم بخطورته. ثم بعد لقاءه بابن الاحمر ذهب إلى تلمسان و رغم أن الجو كان مظلما بينه و بين سلطانها أبي حمو بسبب تحويله ولاء العرب منه إلى عبد العزيز المريني إلا أن أبا حمو لم يعاقبه رغم غضبه منه بل طلب منه استئلاف الدواودة و كلفه بالسفارة إليهم لكن ابن خلدون تعامل معه باستخفاف و تظاهر بتلبية طلبه و رحل إلى أحياء أولاد عريف الذين أحضروا له أهله من تلمسان قائلين للسلطان بأن ابن خلدون عاجز عن خدمته ! . ثم استقر بعد ذلك في قلعة ابن سلامة المنيعة لمدة أربعة أعوام لتأليف كتابه "العبر" الذي سيخلد إسمه كمؤرخ شهير.
لكن السؤال الذي يطرح هو كالتالي: لماذا قرر ابن خلدون في هذه الفترة ترك الاشتغال بالسياسة و التفرغ للكتابة ؟ طبعا الإجابة المعتادة هي أنه سئم مناورات السياسة وتقلباتها خصوصا بعد مقتل صديقه أمير بجاية بالإضافة إلى أن التدهور العام الذي صارت تعرفه دولة المغرب جعله يفكر في تأليف كتاب يعالج فيه أسبابه تحت مسمى علم العمران. لكن هذا الجواب هو مجرد تمثل صادر عن الانبهار بالهالة المحيطة بالرجل. أما إذا غصنا عميقا في الدوافع المحركة لسلوك ابن خلدون فسنقول الآتي :
بعد أن اطمأن ابن خلدون الى فقدان المغرب لممتلكاته في الأندلس بعد سقوط جبل الفتح بيد غرناطة و انهيار دفاعاته ضد هجمات الأعراب حيت صارت الآن مراكش تابعة لسجلماسة و أعرابها و صار هؤلاء يسرحون كما يشاؤون في سهول المغرب الجنوبية أي منطقة الحوز الممتدة من مراكش الى مدينة أزمور . إذن بعد كل هذا التحجيم للمغرب والاستباحة من طرف الأعراب قرر مؤرخنا الشهير الانتقال الى المرحلة الثانية من عمله وهي تأليف كتاب يبرر لشرعية حكم الأعراب للمغرب و ينزعها عن الحضر.
إنه كتاب يوضح أن دخول الأعراب إلى المناطق الحضرية هو فأل حسن عليها لأنه سينعش الانتاج بها لأنهم في بداية حكمهم يكونون قليلي النفقات إضافة إلى حاجتهم إلى تألف قلوب الرعية الحضر و بالتالي فإنهم لا يفرضون إلا الضرائب الشرعية الخفيفة ما يدفعهم إلى فلاحة أرضهم و الانخراط النشط في عملية الانتاج بكل فرح وبهجة. غير أن الواقع هو عكس ذلك ، فدخول الأعراب للمناطق السهلية معناه بكل بساطة توقف الانتاج الزراعي بها و تحولها الى مناطق رعوية.
لقد كان المغرب الحضري في هذه الأثناء في النزع الاخير من حياته يقاوم بقواه المتبقية زحف المغرب البدوي الأعرابي فكان لزاما على ابن خلدون أن يرفق هذا الزحف المادي بزحف فكري ايديولوجي يمنح الأعراب شرعيتهم السياسية لحكم مغرب الحضر فألف كتابه الشهير. ثم قرر بعد ذلك الذهاب الى تونس لبث افكاره في مدارسها ، فراسل سلطانها أبا العباس رغم أنه سبق و تمرد عليه و ناصر خصمه أبا حمو و مع ذلك عفى عنه السلطان ودعاه للقدوم عليه.
لكن قبل الاسترسال في بحثا هذا نطرح السؤال التالي : لماذا يخطئ ابن خلدون في حق السلاطين و مع ذلك يحصل على عفو او عقوبة مخففة او السجن لمدة عامين كأقصى حد. و لا يتعرض للإعدام كما هو الحال مع جميع العصاة و المعارضين و المتآمرين؟ لماذا لم يلق ابن الخطيب نفس العفو من سلطان غرناطة ؟ لماذا يغضب السلاطين من ابن خلدون وبعد ذلك يتناسون افعاله ؟ هل هناك قوة لا يجرؤ السلاطين على اغضابها تحميه منهم أم أن الأمر يتعلق فقط بتبادل للمصالح جعلهم لا يبالغون في معاقبته ؟
و نعود إلى موضوعنا و نشير إلى أن المصالح هذه المرة كانت مشتركة بين السلطان أبي العباس و ابن خلدون فقد كان السلطان في حرب مع شيوخ بلاد الجريد و لهذا رحب بمجيء ابن خلدون الذي كما يذكر هو استدعاه بظاهر سوسة و أكرم وفادته و شاوره في مهمات أموره ثم رده الى تونس. ما يجعلنا نفهم أن السلطان لجأ إلى خدمات ابن خلدون في استتباع العرب و هو ما حدث حيث خضعت له بلاد الجريد و لحق زعيمهم يحيى بن يملول ببسكرة نازلا عند صهره ابن مزني حيث يمكننا القول بالاستناد إلى سابق سيرة ابن خلدون مع الأعراب و انقيادهم له أنه طلب من ابن يملول ترك بلاد الجريد لسلطان تونس والذهاب إلى بسكرة عند صاحبها بن المزني التي له فيها نفوذ كبير.
صار ابن خلدون بعد هذه الخدمة التي قدمها لأبي العباس أثيرا عنده فجعله مستشاره المقرب و سمح له كمقابل لخدماته ببث افكار كتابه في مدارس تونس، الشيء الذي أثار حفيظة رجال البلاط هناك و استنكروه و احتجوا على السلطان يتزعمهم في ذلك شيخ الفتيا ابن عرفة . لكن السلطان لم يعرهم أي اهتمام بل و طلب من ابن خلدون مده بنسخة من كتابه و وضعها في خزانته ما يعني أن هذا الكتاب المناصر للأعراب صار ايديولوجيا رسمية للدولة.
لم يكن السلطان يعي خطورة تحالفه مع ابن خلدون و سماحه له بنشر أفكاره بتونس فلجأت بطانته الى تكتيك آخر غير السعاية و التحذير منه. لقد لجأوا الى إغراء السلطان باستخدام ابن خلدون في حروبه ضد الأعراب . أي مصادمة ابن خلدون مع الأعراب حلفائه الحقيقيين . فهذا التكتيك هو الكفيل بنزع قناع ابن خلدون و كشف حقيقته . و هو ما كان . حيث طلب السلطان منه مرافقته في حملته العسكرية ضد ابن يملول الذي انتزع منه مدينة توزر و قد عبر ابن خلدون عن حاله بالقول :"فسارعت الى الامتثال و قد شق ذلك علي إلا انني لم اجد محيصا عنه" و بالطبع فمادام ابن خلدون مع السلطان فإن الأعراب انفضوا عن ابن يملول بتوزر و استعادها السلطان منه . ثم مرة اخرى كان ابن خلدون على موعد مع اختبار أقسى من الأول. ذلك أن السلطان قرر هذا المرة مهاجمة الزاب لأن صاحبها ابن مزني زعيم قبائل رياح قد آوى ابن يملول و هذا يعني القضاء على أي حلف موجود بين ابن خلدون و أصدقاءه الأعراب و لهذا فقد قرر الفرار من هذا الموقف البغيض إلى نفسه فتوسل إلى السلطان في تخلية سبيله و الذهاب إلى مصر فقبل بعد لأي كبير مع احتفاظه بأسرته كرهينة عنده.
وافق حلول ابن خلدون بمصر تولي السلطان برقوق حكم مصر الذي كان اعلانا بنهاية حكم أسرة قلاوون. يذكر ابن خلدون هنا أحداثا جرت بشكل متتابع و هي كالتالي : تدريسه بمدرسة القمحية و سخط السلطان قاضي المالكية في دولته لبعض النزعات و عزله وتوليته مكانه.
يسرد ابن خلدون هذه الأحداث و كأنها حدثت اتفاقا لا رابط بينها . لكننا نرى أنه مثلما احتج شيخ الفتيا بتونس على السماح لابن خلدون بتدريس مقدمته بمدارسها فإن قاضي المالكية بمصر فعل نفس الشيء حينما شرع ابن خلدون في التدريس بمدرسة القمحية فكره المناصر للأعراب ولكن لأن حكم اسرة قلاوون كان قد انتهى بمصر و حل مكانه حكم سلطان من أسرة أخرى بتوجه آخر قوامه اضطهاد المغاربة و التضييق عليهم و هو ما سنراه فيما بعد فإنه غضب على قاضي المالكية و أقاله و نصب مكانه ابن خلدون عدو الحضر وبعثه إلى مجلس الحكم بالمدرسة الصالحية بالقصرين مرفوقا بكبار خاصته.
و طبعا ما إن تولى منصبه حتى شرع في اضطهاد مغاربة مصر مدعيا أنه كان قاضيا نزيها لا تأخذه في الله لومة !. و الواقع أننا وددنا أن نصدقه لولا أن عصر برقوق بالذات اشتهر بفساد القضاء و انتشار الرشوة/البرطل فيه. ما يجعلنا نقول بأن ابن خلدون لم يكن قاضيا نزيها بل كان يد السلطان برقوق الباطشة بمغاربة مصر.
يصف ابن خلدون خصومه و ضحاياه بالقول : "و كان فيهم ملتقطون سقطوا من المغرب يشعوذون بمفترق من اصطلاحات العلوم هنا و هناك و لا ينتمون الى شيخ مشهور ...و خلوا إلى أهل جلدتهم من سكان الزوايا المنتحلين للعبادة ليشرون بها الجاه" أي أنه يصفهم باللقطاء و الساقطين و ضعفاء العلم و الذين لا يتبعون شيخا مشهورا. يتضح هنا أن التوتر بين الطرفين لم يكن مرده الى أن ابن خلدون أراد رد المظالم و إعادة الحقوق إلى أصحابها بل يعود بالأساس إلى الإختلاف الفكري بينهما مثلما كان عليه الأمر في تونس فابن خلدون ردد أفكارا لم يقبل بها مغاربة مصر مثلما هو الشأن مع التوانسة لأنها تمنح الشرعية السياسية للأعراب و تجعلهم مصدر الدولة في البلاد المغربية و أنه على الحضر قبول اجتياح العصبية البدوية لبلدهم إن ارادوا أن تقوم دولتهم من جديد و هو الأمر الذي كما يبدو من الصراع الذي نشب بين الطرفين أزعج مغاربة مصر فنددوا به . و لهذا استخدم ابن خلدون هنا آلية تسفيه الخصوم فهم مجرد لقطاء و ساقطون و مشعوذون و لا شيخ مشهور لهم . و حتى و لو أردنا تصديق ابن خلدون فهل حقا ما قاله في حق مغاربة مصر صحيح؟.
الواقع أن ما يذكره ابن خلدون عن مغاربة مصر في ذلك العصر يتنافى مع واقع الحال. لقد كان الحضور الصوفي قويا بمصر و زواياهم هناك منتشرة و شيوخها مشهورون كالشيخ أبي الحسن الشاذلي و تلميذه أبي العباس المرسي و محمد الصنهاجي البوصيري إلخ .. فكيف يدعي ابن خلدون إذن أن خصومه لا ينتمون لشيخ مشهور ؟ !.
لقد عانى مغاربة مصر من محنة شديدة على يد ابن خلدون لدرجة أن زواياهم التي ظلت عامرة بأهلها و مريديها صارت مقفرة و هو ما يصفه بعبارة : "و أصبحت زواياهم مهجورة و بئرهم التي يمتاحون منها معطلة". إذن نحن أمام سياسة اضطهاد ممنهج للمغاربة للتضييق عليهم و تقليص وجودهم بمصر.
نسجل في هذا الصدد هذا التشابه الغريب بين محكمة ابن خلدون و محاكم التفتيش التي ستظهر بعد فترة قصيرة بإسبانيا للتضييق على الوجود الموريسكي بها. هل هناك علاقة بين المحكمتين أم أنه مجرد تزامن صنعته الصدفة ؟
لكن سواء كان الأمر بفعل فاعل أو وليد الصدفة فإننا نلاحظ من خلال إلقاء نظرة بانورامية على أحداث القرن 14 أن هذا العهد كان عهد تقسيم المغرب الكبير و منع توحده و تخريبه من الداخل و جعله بين سندان الأعراب و مطرقة السفن الأوربية الصليبية و تقليم امتداداته في كل من الجزيرة الايبيرية و مصر . الغريب أن ابن خلدون يصف هذا الوضع بوضوح بالعبارة التالية : "نقص الأرض من الأطراف و الوسط و خمود ذبال الدول في كل جهة" !.
اشتد الصراع بين ابن خلدون و مغاربة مصر و لأنهم يعرفون ماضيه و سيرته بالمغرب فإنهم انطلقوا يفضحونه و هو ما عبر قائلا : " و انطلقوا يراطنون السفهاء في النيل من عرضي و سوء الاحدوثة عني بمختلف الإفك و قول الزور و يبثونه في الناس".
كان مقدرا لهذا التوتر أن يستمر طويلا بين الطرفين لولا أن ابن خلدون تعرض لحدث فعفع كيانه و أخمد حيويته و هو غرق السفينة المقلة لأسرته عند وصولها إلى ميناء الاسكندرية ما جعله يقرر الاستقالة من منصبه. لكن كان عليه انتظار موافقة السلطان إذ حذره مقربوه من هذه الخطوة لكن يبدو أن مؤرخنا كان قد فقد إثر هذه الفاجعة كل حماسته لاضطهاد المغاربة !.
و هنا نطرح الاسئلة التالية : لماذا أصر ابن خلدون على الاستقالة مباشرة بعد غرق أسرته و لم يحتسب هذا الحدث الأليم عند الله ؟ أليس قاضيا مالكيا مؤمنا بالقضاء و القدر؟ هل كل رجل من رجال الدولة يستقيل من منصبه عندما يفجع في أسرته ؟ أليس ابن خلدون قاضيا نزيها لا يخاف في الله لومة و ينصف المظلومين و عليه أن يستمر في منصبه لقمع أهل الفساد و الظلم ؟ لماذا أصر على الإستقالة رغم علمه بأن قراره هذا سيغضب السلطان برقوق؟ لنصل الى السؤال الأهم و هو : هل كان غرق السفينة المقلة لأسرة ابن خلدون قضاء و قدرا أم له علاقة بالصراع الدائر بين ابن خلدون و مغاربة مصر؟ و بعبارة أخرى: هل يرجع تزامن الحدثين(الصراع و الغرق) إلى الصدفة البحثة أم أنه كان بفعل فاعل ؟ !.
لماذا طرحنا كل هذه الاسئلة ؟ الواقع أننا وجدنا صعوبة في هضم التفسير المقدم من طرف ابن خلدون عن غرق السفينة المقلة لأسرته. يقول أنها غرقت بفعل الرياح لكن ما نستغربه هو أن هذه الرياح لم تغرق سوى سفينة واحدة في مكان مزدحم بالسفن و هو ميناء الاسكندرية !!.
كنا سنصدق هذه الرواية لو أن هذه السفينة قد غرقت في عرض البحر لكن أن تغرق في ميناء الاسكندرية دون غيرها من السفن فهذا أمر غير معقول فالرياح العاتية لا تجيد التمييز بين السفن و لو أنها هبت بقوة على ميناء الاسكندرية لأغرقت كل السفن الموجودة به ولكان ذلك يوما مشهودا من طرف مؤرخي مصر و على رأسهم ابن خلدون و كان في هذه الحالة سيكتب أن ميناء الاسكندرية تعرض لعاصفة بحرية أدت لغرق السفن به بما فيها السفينة التي تقل أسرته.
لذلك نرى أن هذا السفينة قد أغرقت بفعل فاعل فور رسوها بميناء الاسكندرية و لم تغرق قضاء و قدرا. لقد أغرقت كنتيجة للصراع الدائر بين ابن خلدون و مغاربة مصر ذوي النفوذ القوي في الدولة المصرية . لقد كان هذا الإغراق رسالة تحذير لابن خلدون كي يتراجع عن مسلسل اضطهاده للمغاربة الذي دشنه بمعية السلطان برقوق و قد فهم الرسالة جيدا و امتثل لها و قرر الاستقالة من منصبه رغم تحذيرات رجال البلاط له من غضب السلطان.
نطرح في ختام هذا البحث سؤالنا الأهم و هو لماذا كان ابن خلدون يقف هذا الموقف العدائي من المغرب رغم أفضاله عليه ؟ ما السر في ذلك ؟ ما الدافع الحقيقي لسلوكه؟ لماذا كل هذا الإصرار و الحماس في معاداة المغرب؟
للإجابة على هذه التساؤلات دعونا نستعرض ما استطعنا تجميعه من قطع فسيفساء متناثرة تخص ملامح شخصية ابن خلدون، و هي كالتالي:
- متآمر على الوحدة الترابية للمغرب الكبير
- مساهم رئيسي في تقسيمه
- خائن لرؤسائه المغاربة سلاطينا و وزراء
- مساند للتدخل الأندلسي بالمغرب
- مساهم نشط في تقليص الوجود المغربي بالأندلس
- يطيعه الأعراب دون تردد
- رغم خياناته المتكررة لا أحد يجرؤ على ايذائه
- يتلقى عقابا خفيفا ثم يطلق سراحه
- مناصر للأعراب ضد الحضر
- منظر ايديولوجي لدولة الأعراب
- مضطهد للحضر
- مكروه ومرفوض من طرف العلماء المغاربة
- يحذر منه الوشاة اينما حل و ارتحل
- محبوب و محتفى به من طرف أعداء المغرب و المغاربة
نجد بتأملنا العميق في ملامح هذه الشخصية و بتجميعنا لقطع البوزل الخاصة بها أنها تخص ملامح جاسوس أوربي استدعي من طرف الدولة العميقة بالمغرب لتنفيذ خططه التخريبية به و إطفاء جذوته و إزاحته عن مسرح السياسة الدولي.
لقد كان المغرب الكبير في القرن 14 م رجل البحر الأبيض المتوسط المريض. كانت تقابله قوتان صاعدتان هما جنوة و قشتالة. و بعد تدمير الأسطول الموحدي و فقدان المغرب لدرعه العسكري الذي يحميه من هجمات أوربا كان عليه إذن أن يواجه سياسة تفكيكه وتخريبه وإنهاء دوره التاريخي و ركنه على الهامش.
و طبعا حاول سلاطين بني مرين العودة بعقارب الساعة إلى الوراء و إحياء الدولة الموحدية من جديد لكن العطب كان عميقا. إذ أن كلا من جنوة و قشتالة صار لهما حلفاء أقوياء داخل البلاط المريني ممثلين في جماعة الأشياخ الذين كانوا بحاجة إلى جاسوس أو ضابط اتصال بلغة العصر ينسق عملهم مع سفراء الأندلس المخترقة بدورها من طرف قشتالة من أجل فرملة حركة المغرب نحو الشرق و منع نهضته.
كانت لابن خلدون كلمة نافذة على الأعراب رغم عدم امتلاكه للمال أو القوة العسكرية لأنه ببساطة كان مبعوث الدول الاوربية و نائبا عنها شأنه في ذلك شأن لورنس العرب الضابط الانجليزي الذي قاد بمفرده عرب الجزيرة ضد الدولة العثمانية. فمثلما انقاد هؤلاء للضابط الانجليزي انقاد أعراب المغرب الكبير لابن خلدون لإدراكهم منافع التحالف مع القوى الأوربية آنذاك.
نجد كذلك أنه ما من أحد من سلاطين المغرب جرؤ على فصل رأس ابن خلدون عن جسده جراء خياناته المتكررة (و هي عقوبة وسيطية شائعة) لعلمهم أن المساس به هو كفيل بإغضاب الوحش الاوربي و استقدامه مجددا عبر أساطيله الصليبية ( ألم تسعمر فرنسا الجزائر بسبب ضربة مروحة ؟ !). كل ما استطاعوا فعله كإجراء ضاغط عليه هو الاحتفاظ بأسرته كرهائن حتى لا ينقلب عليهم. كما لا ننسى أن ابن خلدون كان يمتلك دون باقي رجال المنطقة مفتاح الأعراب في يده و لذلك لجأ السلاطين إليه ليحل لهم مشاكلهم مع البدو الذين كانوا بإشارة منه يستجيبون له فينتقلون من خدمة هذا السلطان إلى ذاك.
قد يبدو هذا الاستنتاج صادما لكن دعونا نذكر القارئ بأن الجاسوسية كانت المهنة الرئيسية لعدد من المؤرخين الوافدين على المغرب ليس في الحقبة المعاصرة فحسب بل أيضا في الحقبة الوسيطية. لقد توصل المؤرخ محمد حجي إلى نفس الاستنتاج بخصوص دييجو دي طوريس و مارمول كربخال حيث ذكر أنهما و إن تخفيا في ثوب الراهب أو الأسير فإنهما بالأساس مارسا مهنة الجاسوسية لصالح قشتالة و نحن بدورنا نضيف من الشعر بيتا و نقول أنه حتى الحسن الوزان و عبد الرحمن بن خلدون كانا جاسوسين أوربيين (جنويين حسب تقديرنا) و إن تخفيا بأسماء إسلامية. ألم يتظاهر ميشو بلير باعتناق الإسلام و حفظ القرآن ؟ !!.



#يوسف_رزين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقتل الملك بطليموس و نهاية الحكم الملكي بموريطانيا السياق و ...
- الحماية القنصلية بالمغرب
- غزال الكعبة الذهبي
- يوسف و السجن قراءة في كتاب - يوسف و البئر- لفاضل الربيعي
- الاساطير المؤسسة للتاريخ الفاطمي
- تمثلات الاجانب عن افريقيا السوداء عبر العصور
- الاسلام في الأسر
- من بنى مراكش ؟ مقاربة مجالية لتاريخ المغرب
- علم العمران الخلدوني
- عبد الله العروي مضللا
- قراءة في كتاب : شدو الربابة بأحول مجتمع الصحابة ،خليل عبد ال ...
- كفاح بن بركة
- النظام الدولي : النشأة و التطور
- الحركة الوهابية النشأة و التطور و المآل
- الجزائر الفرنسية ..حكاية تطور مجهض
- عبادة الماء في المغارب القديمة
- سوسيولوجيا الأعيان
- حيرة شيخ - قراءة في مقال لعبد السلام ياسين -
- أحداث 23 مارس 1965
- الكتابة على الجسد..بحث في الدلالات


المزيد.....




- هل قررت قطر إغلاق مكتب حماس في الدوحة؟ المتحدث باسم الخارجية ...
- لبنان - 49 عاما بعد اندلاع الحرب الأهلية: هل من سلم أهلي في ...
- القضاء الفرنسي يستدعي مجموعة من النواب الداعمين لفلسطين بتهم ...
- رئيسي من باكستان: إذا هاجمت إسرائيل أراضينا فلن يتبقى منها ش ...
- -تهجرت عام 1948، ولن أتهجر مرة أخرى-
- بعد سلسلة من الزلازل.. استمرار عمليات إزالة الأنقاض في تايوا ...
- الجيش الإسرائيلي ينفي ادعاءات بدفن جثث فلسطينيين في غزة
- علييف: باكو ويريفان أقرب من أي وقت مضى إلى اتفاق السلام
- -تجارة باسم الدين-.. حقوقيات مغربيات ينتقدن تطبيق -الزواج ال ...
- لأول مرة.. الجيش الروسي يدمر نظام صواريخ مضادة للطائرات MIM- ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - يوسف رزين - ابن خلدون و المغرب ..بحث في دقائق العلاقة