أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد الناصر حنفي - الترجمة ولعنة -تانتالوس-: شوية ملاحظات حول ترجمة -فتحي إنقزو- لكتاب -فكرة الفينومينولوجيا-















المزيد.....


الترجمة ولعنة -تانتالوس-: شوية ملاحظات حول ترجمة -فتحي إنقزو- لكتاب -فكرة الفينومينولوجيا-


عبد الناصر حنفي

الحوار المتمدن-العدد: 6449 - 2019 / 12 / 28 - 18:21
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


1- أحيانا وانت بتقرا ممكن تحس فجأة إنك بقيت في حالة شبه اللعنة بتاعت "تانتالوس" في الأسطورة الاغريقية، يعني الحاجات قريبة ومحاوطاك بس صعب تمسك منها أي حاجة، والكلام شكله متماسك وأملس وبيلمع، بس في نفس الوقت عامل زي ما يكون غمغمة جاية من بعيد بحيث إن أي تركيز فيها بيخلي المعاني تتزفلط حواليك بطريقة مقلقة!
وطبعا في الأحوال العادية محدش حيسيب نفسه يوصل للحالة المزعجة والمملة دي بسهولة، لإن طبيعي الكتب اللي ممكن تسبب الحكاية دي يا دوب الواحد ممكن يقرا منها كام صفحة ودمتم، ويرميها وينساها بعد كده، بس الوضع ده بيختلف مع الكتب المترجمة اللي سمعتها سابقاها ومفروض انها بتأسس لحاجة في مجالها فتبقى مضطر تصبر على قرايتها على أد ما تقدر، وهنا بقى الحكاية ممكن تاخد منحنى درامي شويتين.
2- وتقريبا ده اللي حصل مع كتاب هوسرل "فكرة الفينومينولوجيا"! اللي ترجمه الأكاديمي التونسي "فتحي انقزو" وكان حظي اني أعافر معاه أكتر من مرة، وشوف بقى لما تانتالوس وهوسرل يجتمعوا في نص واحد!
3- والفقرات دي هي مجرد "تجربة" في وصف كيفية حضور الظاهرة "التانتالوسية" في الكتاب ده، لا أكثر ولا اقل، يعني مش حنتعرض هنا للافكار اللي في الكتاب نفسه سواء بتاعت هوسرل أو بتاعت المترجم.
وعشان نعمل كده قدامنا خيارين على الأقل:
-فإما نبدأ باني أقول شوية توصيفات عامة للحالة أو الظاهرة التانتالوسية دي طبقا لتجربتي معاها، وبعدين نحاول ندور على تفسير ليها، وساعتها الموضوع حيقلب لشهادة ذاتية أكتر منه تحليل.
- أو نجيب نماذج من النص المترجم ونحللها بالتفصيل، بحيث اللي حيقرا يبقى عنده فرصة انه يكون راي يخصه في الترجمة بغض النظر عن اللي بنقوله هنا .. وده برضك خيار صعب، لان تحليل جملة أو عبارة واحدة بالطريقة اللي باحاول اجربها هنا ممكن ياخد مئات أو حتى آلاف الكلمات، يعني بنتكلم عن تحليل بحجم كتيب مش حيقدم في الآخر سوى عدد محدود برضك من الحالات مقابل إن مقروئيته حتبقى اصعب بكتير!
- وعشان كده حنكتفي هنا بتحليل جملة أو عبارة واحدة بوصفها نموذج، وحنقارنها بالتفصيل مع النص الأصلي والترجمتين الإنجليزي.
4- ونبتدي مشوارنا بالتأمل شوية في الجملة اللي اخترناها:
"ومع ذلك، فإنا أحوج ما نكون
إلى يقين نلتمسه في
"الرد النظري المعرفي".
(هوسرل - فكرة الفينومينولوجيا - ترجمة فتحي انقزو - ص 80)
5- الجملة -أو العبارة- السابقة دي ممكن تكون مثال على ترجمة بدون اي أخطاء لغوية واضحة، ومفيهاش مهمطة ولا اهتراء في تركيب الكلام مع بعضه، يعني جملة لامعة ومصقولة وأولها يوديك على آخرها بدون توقف، بالظبط زي الفواكه الطازة اللي ممكن يشوفها تانتالوس لو رفع عينه شوية، ورغم ذلك فهي برضك مثال على جملة الترجمة المحترفة لما تتوهك أو تخدعك بتماسكها اللي بييجي على حساب ترابطها مع الفقرة والنص وعلاقتها بالفكرة، بحيث انها بتبعد كل ما تحاول تقرب منها أو تمسكها عشان تكمل الحالة التانتالوسية.
أما إزاي ده بيحصل ؟ .. فتعالى ناخدها واحدة واحدة ونحاول الإمساك باللي بتقوله الجملة دي.
6- بداية أي حد قاري هوسرل شوية .. احتمال يقف هنا ويسأل: هو اليقين الفينومينولوجي بييجي عن طريق "الرد" لوحده بحيث اننا "احوج ما نكون" اليه؟ ..طب تمام .. طالما الحاج هوسرل (أو مترجمه) شايف كده ... بس ايه هو الرد ده بقى بالظبط؟ وايه حكاية انه "نظري ومعرفي" دي، بتحيل لايه يعني طالما ان اي تحليل فلسفي ممكن نقول عليه نظري وممكن نقول عليه معرفي، أو ممكن نقول عليه الاتنين مع بعض من غير ما نبقى اضفنا اي معنى!
أكيد الجمل اللي جاية فيها تفصيل اكتر، واحنا بس محتاجين نمد ايدنا مسافة أطول شوية (زي ما الحاج تانتالوس كان بيعمل طول الوقت).
7- وبالتالي فصعب أوي ان حد بيقرا الكتاب للمرة الأولى يقف كتير ادام الاسئلة دي، لان العبارة بتسلمك -أو لامؤاخذة بتزحلقك- للي بعدها على طول لغاية ما تخلص فقرة والتانية وصفحة والتانية ... وهلم جرا، وساعة ما حتقف وراسك مدووشة بطنين البلاغة المتماسكة اللي مبتقدمش غير افكار قليلة ومهوشة وفاكة من بعضها، فغالبا حتلوم نفسك وتحاول ترجع تقرا تاني، وبالتالي حتفضل الجملة اللي وقفنا عندها هنا متوارية وصعبة الانكشاف .. زيها زي اخواتها.
8- بس لو مشينا واحدة واحدة كده وابتدينا نحلل العبارة تاني: حنلاقي ان لفظة "الرد" هي البطل الرئيسي أو المسند اليه هنا، وبقية الكلام كله بيحاول يقول حاجة حوالين "الرد".
- وفي الاطار ده ممكن نلاحظ ان أهم اللي بيتقال عن الرد هو علاقته باليقين (يعني احنا عايزين "الرد" أو محتاجينه عشان ده اللي حيجيب لنا اليقين).
- ثم التركيبة اللفظية بتاعت "النظري المعرفي"، ودي مفروض انها -طبقا لموقعها في تركيب الجملة- بتحدد طبيعة الرد، بينما هي فعليا مبتحددش حاجة خالص.
9- وبكده .. فطالما قدرنا نرصد مشاكلنا مع الجملة دي في 3 أو 4 كلمات فالموضوع بقى سهل شوية، يعني ممكن نحلل ايه اللي تاعبنا في كل كلمة من دول، وبعدين نبص عليهم في النص الالماني والترجمات الانجليزي ونفتح قاموس ونقفل قاموس ونشوف حنوصل لإيه!
10- ولازم الأول نحط قدامنا جملة هوسرل نفسه بترجماتها المختلفة:
أ- النص الالماني:
Doch hier bedarf es der Sicherung durch die erkenntnistheoretische Reduktion,
ب - ترجمة ويليام (WILLIAM P. ALSTON)، وجورج (GEORGE NAKHNIKIAN)، 1964
"But here we need assurance through epistemological reduction"
ج- ترجمة هاردي (LEE HARDY)، 1999
"But this point needs to be secured by the epistemological reduction",
د- الترجمة العربية - فتحي إنقزو - 2007
(ومع ذلك، فإنا أحوج ما نكون إلى يقين نلتمسه في "الرد النظري المعرفي".)

11- ونبتدي بلفظة "الرد"، ودي في النص الالماني (Reduktion) وفي الترجمتين الانجليزي (reduction)، وبالتالي فمفيهاش مشكلة خالص، بالعكس ده أنا عايز احيي المترجم انه رحم اللفظة دي من اللي بيعمله فيها المترجمين العرب (وخاصة اللي بيترجموا حاجة ليها علاقة بالفينومينولوجيا أو هوسرل)، فهم يقولون "الريدكشن": "خفض، اختزال، إحالة، تقليص، تحويل، اقتضاب، ارجاع.... الخ" وبعضهم ممكن يترجمها في نفس النص بعدة ألفاظ مختلفة حسب السياق اللي هي جاية فيه لانهم غالبا بيبصولها على انها مجرد اشتقاق من لفظة "رديوس" (reduce) أكتر منها اصطلاح بيشير لعملية أو استرتيجية تحليلية هي الأهم على الاطلاق بالنسبة للفينومينولوجيا، إن مقلناش انها الحاجة اللي بتميزها فعلا قدام اي نزوع تحليلي أو وصفي.
12- نيجي بقى للفظة "اليقين"، ودي -عكس ما قد يبدو عليها- بتمثل إشارة في منتهى الخطورة فلسفيا (وفينومينولوجيا برضك)، وده لسببين على الاقل:
أ- الكلام عن "الرد" بوصفه ما يجلب اليقين بيقلل كتير من أهمية ما يسبقه من اجراءات وتقنيات وصفية وبيحولها لعمليات تحضيرية في أفضل الظروف أو حتى بيلغيها في اسوأها لانه بيخلي الرد هدف في حد ذاته، بحيث تنعدم الحاجة اليها طالما وصلنا أو ممكن نوصل لمرحلة الرد من أي سكة والسلام.
ب- وتاني حاجة ان الكلام عن اليقين بالطريقة دي بيلغي الرد نفسه، أو بيحوله لعملية مؤقتة أو عارضة (زي الادلة العقلية في اللاهوت كده) مش استرتيجية دائمة، فلأنه "ليس بعد اليقين شيء" فبالتلي إذا "الرد" وصلنا لليقين فحنروح فين بعد كده، خلينا قاعدين بقى مكان ما وصلنا، وارمي موضوع الرد ده في البحر، أو خلي شوية منه نستعمله كأسلحة دفاعية ضد أي حد يهاجم اليقين بتاعنا، وبكده تبطل الفينومينولوجيا بوصفها نزوع منهجي وتتحول لميتافيزيقا فشيخة ومحترمة ليها كهنة ومبشرين وحراس
13- وعموما لو رحنا للنص الالماني بتاع هوسرل حنلاقيه في الموضع ده جايب لفظة (Sicherung) ودي بعض معانيها في القواميس الالماني-عربي بتتكلم عن الحماية والضمان والمساعدة .. الخ.
أما في ترجمة ويليام وجورج، فقايلينها (assurance) ودي من أهم معانيها التأكيد، والضمان.
بينما في ترجمة هاردي، قايلها (secured) يعني برضك بمعنى الضمان والتأمين.
وبالتالي نقدر نقرا الجملة باعتبارها بتقول اننا محتاجين "الريدكشن" عشان يدينا تأكيد أو ضمان مطمئن لصحة أو تماسك اللي احنا عملناه أولريدي من عمليات وصف أو تحليل فينومينولوجي، وطبعا الرد مش حيطمنا بانه يتعهد أو يحلف لنا بالطلاق، هو بيعمل كده باعتباره عملية فحص ومراجعة لاتساق توصيفات الظاهرة مع بعضها البعض ومع العالم، ثم مع نقطة أو بقعة مرجعية (جيوديسية يعني) يفترض أنها تشكل أصل الظاهرة.
وبكده يبقى لفظة اليقين دي إضافة من الترجمة، وبرغم اني مقدرش اقول ان هوسرل -عند مستوى ما من عمله- كان بريء أوي من الطموحات اللي شايلاها اللفظة دي، بس ده يزود خطورة الامر مش يقللها).
14- ونيجي بقى للتركيبة الباهتة بتاعت "النظري المعرفي"، ودي حنلاقيها في نص هوسرل (erkenntnistheoretische)، وهي لفظة مكونة من دمج كلمتين -كعادة الالمانية- (erkenntnis) اللي هي بالعربية ادراك أو تعرف، و(theoretische) اللي هي نظري أو نظرية بنفس الصوتيات تقريبا في أغلب اللغات الاوروبية، يعني الترجمة "الفورية" المباشرة للكلمة دي هي :"نظرية المعرفة"، وبرضك ممكن تعرب إلى لفظة: "الابستمولوجي" حسب خيارات المترجم وهل بيرتاح لتعريب الصوتيات الاجنبية ولا بيفضل ترجمتها، أما الترجمتين الانجليزي فبيتفقوا على لفظة (epistemological)، وحتى لو فتحنا قاموس الماني فرنسي فحنلاقيها برضك (épistémologique).
يعني المفروض لو بنلعب فير جيم لفظة "الابستمولوجي" تكسب هنا بالضربة القاضية! خاصة إن الخيار التاني (نظرية المعرفة) مش حيسمح بالتنسيب اللي موجود في النص الاصلي (وكأن اللي صك التعبير ده بالعربي كان عايز يقولنا ان "نظرية المعرفة" دي مفروض تبقى حاجة لوحدها ومينفعش تبقى بتاعت حد أو تنسب لأي حاجة .. اللغة العربية برضك ليها قناعات وحركات فلسفية في الدرا كده .. ميغركش المنظر).
15- وهنا لازم نسأل .. ايه اللي ودى الترجمة ناحية عبارة "النظري المعرفي" اللي شكلها بتلم كلمتين اتقابلوا صدفة وبلا ترتيب يجمعهم، وكل واحدة فيهم ملهاش شغلة أو استخدام غير انها تشاور على نفسها وخلاص وكأن ملهمش أصل جايين منه مع بعض ولا لهم أهل أو مبحث فلسفي يسأل عليهم، وليه ده يتم على حساب الفاظ زي الابستمولوجيا أو "نظرية المعرفة" اللي بيشاوروا على مجال فلسفي محدد ليه تاريخه وتقاليده ومدارسه وتقنياته وشروطه ومتطلباته ... الخ، وكلها حاجات بتفترض أو بتفرض التزامات بعينها على "الرد".
16- ويمكن فيه تفسيرين للي حصل ده .. أولهم ان المترجم مبيحبش رسم الأصوات الاجنبية بحروف عربية (طب والفينومينولوجيا دي ايه؟) فجاب عبارة "نظرية المعرفة" وحاول يخضعها للتنسيب اللي في النص الأصلي ففك الكلمتين من بعضهم ولفهم حوالين لفظة "الرد" وبعدين عشان يضمن ان التلات كلمات دول يبقى فيه رابطة قوية بتجمعهم راح حاططهم جوه معقوفتين وكأنه بيكون عنصر في مجموعة رياضية ... بس في الآخر فضلت العبارة بتشاور على "رد نظري" (يعني فيه نظر أو تنظير وخلاص) و"رد معرفي" (يعني فيه معرفة وخلاص) ... وبالتالي راحت المركب الابستمولوجية (اللي مفروض يمتطيها "الرد" في رحلته) ستميت حتة!
17- أما التفسير التاني: فهو ان الموضوع ده قد يكون استجابة للمترجم بطريقة غير محسوبة وربما غير واعية للقلق أو التوتر بين حقل الابستمولوجيا والمنهج الفينومينولوجي، فالبعض يرى في الفينومينولوجيا مجرد رافد بسيط من روافد الابستمولوجيا، والبعض الآخر يرى ان الفينومينولوجيا قد ابتلعت الابستمولوجيا وحلت محلها. وبالتالي فإذا كان المترجم متردد بين الموقفين دول، او حاسم أمره لصالح التراس الفينومينولوجيا بشكل ما ... فده ممكن يبرر اللي عمله من اقصاء ونفي للابستمولوجيا وظلالها المنهجية إلى خارج عبارته. ويمكن لو رجعنا لكتابات المترجم -بوصفه باحث متخصص في الفينومينولوجيا- حنلاقي معطيات توسع التفسيرات دي وتحسمها في نفس الوقت ... بس ده ميهمناش في حاجة هنا، احنا بس عايزين نرصد إن الجملة بتنتهي بحالة اقرب للغمغمة اللي بتزود في الصوتيات وبتقلل في المعنى.
18- وبكده نوصل للمرحلة اللي تخلينا قادرين على قراءة العبارة أو الجملة الصغننة اللي ابتدينا بيها، ونشوف إزاي الترجمة هنا بـ "تصلطح" أو بتفرد جتت كلام هوسرل على سرير بروكست، وإزاي بتعيد عزفه -أو بتقمعه- في إطار موسيقى تانتالوسية متخصوش.
19- عزف العبارة المترجمة بيبتدي باستبعاد الاستدراك الخفيف (Doch، But =لكن)، اللي ممكن يبقى مجرد تمهيد لإضافة أو زيادة ما على الجمل السابقة، وبيحط بداله لفظة (ومع ذلك،) بما فيها من استدراك أكثر ثقلا يخلي اللي حيتقال في موضع تعارض اقوى مع اللي سبقه، والنقلة دي بما تحمله من نبرة تأكيد خلت المترجم يحاول يبرزها أكتر بوضع فاصلة (،) توقف مش موجودة في النص الاصلي، وبعدين بيرجع يطلع لتأكيد تاني ملفت أكتر وفيه تفخيم صوتي وصعود وهبوط شوية مع لفظ (فإنا = فا إن نا) بدلا من البساطة العابرة أو غير الملفتة للالفاظ الالمانية والانجليزية (es= هذا، ذلك/ we = نحن/ this point = هذه النقطة).
-ثم بدلا من معنى "الاحتياج" الهادي المذكور في النص الأصلي بيعاود المترجم استحضار الذات صاحبة الحاجة ورفع احتياجها ده إلى مستوى مصيري (أحوج ما نكون إلى ..).
- والكريشندو الصاعد ده بيوصل لأقصى ذروته مع لفظة اليقين (اللي اصلا مش موجودة في نص هوسرل).
- وبعد ما الكريشندو ده فرض نفسه على النص، بيبدأ يفرض الدراما التانتالوسية بتاعت موضوعه، ولأن مفيش نقطة صعود تانية بعد اليقين، بيبدأ الكريشندو بالانخفاض (أو الصعود المعكوس) اللي بنلاقيه مع عبارة "يقين نلتمسه" عشان نبقى ادام دراما التقاء "السعي إلى اليقين المنشود"، مع تواضع "المؤمن" اللي بيتعامل مع جلال ما هو يقيني عن طريق الالتماس أو التلمس (أو التحسيس يعني، ربما لانه لا يقين إلا بعد ظلام!) ... مع العلم ان لفظة "التلمس" أو الالتماس دي إضافة برضك من الترجمة ومش موجودة عند هوسرل، يعني فعلا جاية لضرورة درامية مش أكتر.
- وبعد الدخول إلى محاولة الالتماس أو "التلمس" (اللي ممكن نعتبرها إحالة مباشرة وواضحة لحالة تانتالوس) تنتهي العبارة بخفوت مباغت يصل إلى حد الغمغمة مع تركيبة: "الرد النظري المعرفي"، وكأنها قد تعثرت فجأة في اضطرارها للخروج من "العلو" اللي سعت للصعود إليه، فنطت ووقعت على وشها وادلدقت المعاني منها، وسابتنا احنا ننزلق أو نتزحلق للعبارة اللي بعديها.
20- الكريشندو التانتالوسي المهيب ده مش حالة نادرة في جمل الكتاب، لدرجة أنه خلى الترجمة بأكملها عبارة عن حومان دائم يأتي: إما أعلى من معاني النص الاصلي أزيد من اللازم في اتجاه مفردات أو أفق الميتافيزيقا القروسطية (اللي بتلعب هنا دور أشبه بفواكه تانتالوس)؛ أو يزحف أسفل هذه المعاني بشكل قد لا يليق بنص فلسفي!
والمناورات المستمرة دي بالتأكيد ممكن تخلي القارئ في مرحلة ما يحس انه قدام عالم بيقفل على نفسه باستمرار، عالم سطحه أملس ومنزلق ولكنه بلا مداخل ولا أبواب، عالم بيتكلم طول الوقت ولكنه مش عايز يتسمع اصلا .. وساعتها طبعا ممكن القارئ ده يشتم في الفينومينولوجيا وهوسرل واللي جابوا هوسرل (خاصة ان هوسرل ده تحديدا سمعته سابقاه أوي).
21- بس هل فعلا الحالة التانتالوسية دي بانتظاماتها شبه الموسيقية بتفتح نفسها هنا تحت ضغط النص الهوسرلي وحسب؟
وهل ملهاش علاقة بمناطق وحاجات تانية أعمق وأكثر التباسا؟
لانه إذا اعتبرنا الموضوع طالع من مجرد خيارات صوتية ملهاش معنى مباشر، فإزاي مجرد نزوع أو ميل لترتيب صوتي بعينه ينتج ويشوه افكار بمزاجه كده مع ان المفروض ان الترجمة بالذات بتشتغل تحت مرجعية نص أصلي؟ (ودي مرجعية اجرائية يمكن تكرارها وتدقيقها باستمرار.. مهياش أصل ميتافيزيقي يعني!).
22- يمكن الاجابة على الاسئلة دي بجد مهمة صعبة أو حتى مستحيلة دون القيام بابحاث ودراسات كتيرة مظنش انها مطروحة على اجندة حد دلوقتي .... فرغم إن حركة الترجمة شافت توسع ملحوظ في العقود الأخيرة وصاحبه نقل لنظريات الترجمة وانهماك في مناقشة "بعض" افكارها، إلا انه إذا استثنينا المعارك اللي بتولع فجأة وتنطفي فجأة حوالين ترجمة المصطلح ده أو ده، فنادرا ما حنلاقي دراسة بتحاول تحلل أو حتى ترصد ظواهر أو ممارسات الترجمة في نص بعينه.
23- وفي الإطار ده لو متاح نعمل شوية حركات فينومينولوجية زي التعليق والحدس مثلا (واللي البعض فاكرها أول وآخر الفينومينولوجيا) فممكن أقول ان الحالة اللي رصدناها هنا طالعة من تأثر عميق ولكنه مرتبك وغير محسوب بأفق البلاغة العربية القديمة بما في ذلك حقل صوتياتها ... والحدس ده ممكن نعتبره مجرد محطة بداية أو حتى منصة مؤقتة لإنتاج بعض الفروض حوالين الظاهرة دي لغاية ما ربنا يسهل وحد يدرسها بجد.
23- وطالما دخلنا بقى في سكة الحدس والفروض، فانا حأبدا بافتراض ان المثقفين المغاربيين (وخاصة بتوع التكوين الفرانكوفوني، ومنهم فتحي انقزو بالطبع) عندهم بصفة عامة علاقة ذاتية عميقة ومتميزة أوي بقدر ما هي مضطربة شويتين .. باللغة العربية ومعطياتها التراثية، وده يمكن نتيجة لضغط دعاوي وحملات التعريب (اللي ربما لم تكن تخلو من سمات قمعية أحيانا) واللي حتى بعد ما هديت سابت أثر فيهم وعملت ظل كثيف من الاحساس بالذنب، ومن توتر الشعور بتوقع الاتهام المسبق من الآخر. وده تزامن مع الموجة السيميولوجية اللي اجتاحت الثقافة العربية في التمانينات، واللي كان المثقفين المغاربيين هم الاكثر تحمسا لها، وانغماسا فيها بحكم اطلاعهم المباشر على أصولها (الفرنسية تحديدا)، وربما لإن الموجة دي خدت طابع بلاغي زيادة حبتين، وبقت كأنها مجرد إعادة تدشين لبعض مسارب البلاغة القديمة في قالب حديث، فده خلى المثقفين دول أكثر احساسا بقدرتهم على الفهم والتعاطي والامتلاك للتاريخ البلاغي ده وان عندهم ما هو جدير بتقديمه، أو حتى ما يصلح لأن يحل محل هذا التاريخ ويؤدي مهامه بشكل أفضل.
24- وعبر السياق ده ظهرت في ترجمة المصطلحات النظرية حركة نزوع اشتقاقي مبنية على تبني تركيبات صوتية حادة وملفتة إلى حد الازعاج احيانا، ودي قادها بالدرجة الأولى مثقفين المغرب في التمانينات، والحركة دي توسعت إلى حد الهوس، وما أن هدأت وباتت في مستوى اقل صخبا حتى ظهر جيل جديد من المترجمين المتفلسفة مع نهاية التسعينات (ودول طليعتهم المثقفين التوانسة، لدرجة اني بأفضل تسميته بالمدرسة التونسية في الترجمة)، والجيل ده بصفة عامة كان بيحكمه توجهين: الأول هو "إعادة التسمية" للمصطلحات النظرية المترجمة باعتبار ان ده بيفتح سكة جديدة أو بداية جديدة للعلاقة مع العالم والافكار ... سواء ده تم عبر مراجعة و"تصحيح" ما تراكم من المصطلح المترجم منذ أواخر القرن تسعتاشر، -أو حتى عبر تجاهل هذا التراكم تماما والبدء من الصفر، وغالبا النزوعين دول بيحققوا نفسهم عن طريق تبني بعض التحليلات "اللفظية" للاشتقاقات في العربية ومحاولة اجبارها على التوازي مع نظيرتها في اللغة الأجنبية (وف دي استفادوا من ثورة الاشتقاق اللي دشنها المغربيين).
بس ما أظنش ان فتحي انقزو ملموس أوي بالتوجه ده، ولا حتى متعاطف معاه بزيادة، واذكر انه في احد هوامش كتابه: "قول الأصول: هوسرل وفنومينولوجيا التخوم" ... اعرب بوضوح عما يمكن اعتباره تأفف من الخوض في الشقاقات أو المعارك الدائرة حول "المصطلح".
25- أما التوجه التاني فهو ميل الجيل ده من المترجمين إلى زرع ما يخصهم أو ما يحتك بقلقهم الذاتي والبلاغي واللغوي داخل النص المترجم دون اهتمام كبير بالنتوء أو حتى النزيف اللي ممكن يحصل للنص من ورا الحكاية دي، فأغلبهم تربى –أو حتى تشرب أكتر مما ينبغي- على مقولة "خيانة المترجم"بوصفها قدر ممنوش فكاك، وبالتالي فطالما احنا كده كده خاينين مهما عملنا فمن حقنا على الأقل نختار حنخون إيه وإزاي! وده بيركب مع حكاية إن تكوين غالبيتهم هو تكوين باحث بيدور على اختلاف يضيفه باسمه لموضوعه اكتر منه تكوين مترجم بيحاول يستفيد من تراكم اللي سبقوه عشان يسهلها على نفسه وعلى اللي بيقراه.
26- والتفاعل بين امتياز الخيانة ده وذاتية الباحث اللي بيدور على حاجة متقالتش خلى الترجمة عندهم اقرب ما تكون إلى فرصة متاحة للإعلان عن الذات والتفكير فيها والإلحاح على حضورها سواء عن طريق ابراز اللي فاكرينه يخصها، أو حتى مجرد الالحاح على إعلان اللي عايزينه يبان وكأنه يخصها!
وبسبب التفاعل ده ظهرت حالات بالغة الطرافة -والازعاج- وغير مسبوقة منذ استقرار تقاليد مهنة الترجمة في الثقافة العربية المعاصرة.
- فمثلا حنلاقي هيجل بيسيب مطاردته الفينومينولوجية للروح ويقف مع مترجمه "ناجي العونلي" عشان يكلمنا عن "التشغشب"، ودي لفظة بعد عناء عرفت انها مغرقة في العامية التونسية.
- أو حنلاقي هوسرل -المتحفظ والعبوس- بيسيب دروسه عن الزمن عشان يخبط على دماغه فجأة -مع مترجمه لطفي خيرالله- ويقول بنشوة "ليت شعري" .. (يا جدعان)!
- وحتى هيدجر-المسكيني حينتبه فجأة من حوار "الكينونة والزمان" عشان يرقص على رجل واحدة وهو بينشد "ذات المرار متخطاة القفزى"!!!
- ده غير حشو هوامش الترجمات أحيانا بأبيات من الشعر التراثي، وآيات قرآنية، واستشهادات في غير موضعها –غالبا- بالألفاظ اللي استخدمها قديما بعض الفلاسفة أو المتكلمين العرب!
27- ولكن حتى جوه المعالم البارزة للمدرسة دي حنلاقي "إنقزو" مش مشترك أوي، ومعندوش الميول دي بوضوح، ولذلك يبدو أنه حالة فريدة شوية، بحيث إن تاثره أو استجابته للضغط المزعج اللي بتمارسه البلاغة القديمة على ثقافتنا البائسة واخد شكل صوتي فريد جدا، شكل راسخ في العمق، وبيسري تحت مجرى الكلام ومبيطلعش لسطحه أبدا، بس من مكانه المتواري ده بيشتغل وكأنه قوة جاذبة بتشوه المكان والمادة بالمعاني اللي حواليها وبترجح بدائل واقتراحات لغوية على حساب أخرى.
28- ومعرفش هل الفضاء الصوتي اللي عنده قوة الجذب الهائلة والمراوغة دي لدرجة انه ينتج حالات شبيهة بلعنة تانتالوس ممكن يكون حالة خاصة فريدة وغير متكررة، ولا هو حالة منتشرة واحنا اللي مش واخدين بالنا؟
وبرضك معرفش حاليا ايه مدى مصداقية الملاحظات اللي اتقالت هنا، ولا ايه إمكانية تعميمها على حالات أكتر؟ وهل تقدر تشتغل كأساس لتحليل منهجي أكثر صلابة ولا لأ ... بس في كل الأحوال احنا محتاجين نفكر بجدية اكتر واكتر في ظواهر "ممارسات الترجمة"، والفقرات دي مش أكتر من تجربة في الاتجاه ده.



#عبد_الناصر_حنفي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- استطرادات حول تعريف هوسرل للظاهرة بوصفها حضورا
- الكذب ووقع الحقيقة - 2004
- عن دوار الترجمة وإفساد المبتدئين - ملاحظات حول ترجمة كتاب -ج ...
- من ثقب العبارة: تأملات أولية في بعض سياقات أعمال إريكا فيشر
- -نحو تأسيس فينومينولوجيا المسرح- :عن ظاهرة المسرح بوصفها مما ...
- تأملات أولية في حدث ظهور ما هو موسيقى
- نحن، والآخر في العالم!
- شذرة حول الصخب الهيجلي وعماء الزمن
- الدمى والوعي والعالم
- عن إشكاليات التأطير الجمالي في عرض: عاصفة رعدية
- تساو يو والروح الصيني القلق - تحليلات أولية حول الإطار الدرا ...
- تأملات تمهيدية حول ظاهرة المهرجان التجريبي
- عن ظاهرة المسرح والمسابقات التنافسية
- تقرير فني حول عرض -قول يا مغنواتي-
- عن الشوق الاجتماعي للمسرح .... ومخاطر خيانته!
- عن الأمل الهيجلي .. ورهاناته
- أغنية البجعة الليبرالية
- في إنسانية المسرح الجامعي
- من -ماكبث- إلى -بير السقايا- .... تأملات أولية في تحولات الد ...
- عن اليوم العالمي للمسرح ورسالته ... تأملات حول تقليد آن مراج ...


المزيد.....




- فيديو كلاب ضالة في مدرج مطار.. الجزائر أم العراق؟
- الناتو يقرر تزويد أوكرانيا بمزيد من أنظمة الدفاع الجوي
- طهران: لا أضرار عقب الهجوم الإسرائيلي
- آبل تسحب تطبيقات من متجرها الافتراضي بناء على طلب من السلطات ...
- RT ترصد الدمار الذي طال مستشفى الأمل
- نجم فرنسا يأفل في إفريقيا
- البيت الأبيض: توريدات الأسلحة لأوكرانيا ستستأنف فورا بعد مصا ...
- إشكال كبير بين لبنانيين وسوريين في بيروت والجيش اللبناني يتد ...
- تونس.. الزيارة السنوية لكنيس الغريبة في جربة ستكون محدودة بس ...
- مصر.. شقيقتان تحتالان على 1000 فتاة والمبالغ تصل إلى 300 ملي ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد الناصر حنفي - الترجمة ولعنة -تانتالوس-: شوية ملاحظات حول ترجمة -فتحي إنقزو- لكتاب -فكرة الفينومينولوجيا-