أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جمال الجلاصي - خطاب حول الاستعمار - إيمي سيزير















المزيد.....


خطاب حول الاستعمار - إيمي سيزير


جمال الجلاصي

الحوار المتمدن-العدد: 6444 - 2019 / 12 / 22 - 21:04
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


خطاب حول الاستعمار
إيمي سيزير
ترجمة جمال الجلاصي



إن حضارة غير قادرة على حلّ المشاكل التي تسبّبها حركتها هي حضارة منحطّة.
إنّ حضارة تختار أن تغضّ الطرف عن مشاكلها العويصة هي حضارة مريضة.
إنّ حضارة تخادع عبر مبادئها هي حضارة تحتضر.
والحقيقة أن الحضارة المعروفة باسم "الحضارة الغربية " الأوروبية، التي شكّلتها قرون من الحكم البرجوازي، غير قادرة على حل المشكلتين الرئيسيتين اللتين أنتجهما وجودها: مشكلة البروليتاريا والمشكلة الاستعمارية. إذا أحلناها إلى محكمة،"العقل" أو محكمة "الضمير"، فإنّ أوروبا هذه عاجزة على تبريرها؛ وأنها بقدر لجوئها أكثر فأكثر، إلى رياء أكثر غرابة فإنها تملك أقل فرص للخداع.
أوروبا لا يمكن الدفاع عن نفسها.
ويبدو أن هذا هو الاستنتاج الذي يهمس به الإستراتيجيون الأميركيون بصوت منخفض. هذا في حد ذاته لا يهم.
الشيء الخطير هو أنّ "أوروبا" أخلاقياً وروحيّاً، لا يمكن الدفاع عنها.
واليوم يتّضح أنه ليس فقط الجماهير الأوروبية هي التي تجرِّم، ولكن الاتهام موجَّه على الصعيد العالمي من قِبل عشرات وعشرات الملايين من البشر الذين ينتصبون من أعماق العبودية قضاةً.
يمكنك أن قتل في الهند الصينية، وتعذّب في مدغشقر، وتسجن في أفريقيا السوداء، تستعبد في جزر الهند الغربية. الشعوب المستعمَرة تعرف الآن أن لديها ميزة على المستعمرين. وهي تعرف أن "أسيادها" المؤقتين يكذبون.
ممّا يعني أنّ أسيادها ضعفاء.
وبما أنّه طُلب مني اليوم أن أتكلم عن الاستعمار والحضارة، لنذهب مباشرة إلى الكذبة الرئيسية التي تتوالد منها جميع الكذبات الأخرى.
الاستعمار والحضارة؟
واللّعنة الأكثر شيوعاً في هذه المسألة هي أن تكون المخدوعَ حسنَ النية لنفاق جماعي بارع في طرح المشاكل المزيَّفة لإضفاء شرعية أفضل على الحلول البغيضة التي تقترحها. وهذا يعني أن الشيء الأساسي هنا هو أن نرى بوضوح، أن نفكر بوضوح، للاستماع بانتباه شديد، للإجابة بوضوح على السؤال الأوليّ البريء: ما هو مبدأ الاستعمار؟ للوصول إلى ما ليس هو. ليست بشيراً ولا مؤسسة خيرية، ولا إرادة لتقليص حدود الجهل والمرض والاستبداد، أو توسيع رقعة وجود الله أو تمديد سلطة القانون، إلى الاعتراف مرة واحدة وإلى الأبد دون خوف من العواقب أن الحركة الحاسمة هنا هي حركة المغامر والقرصان، وعطّار الجملة والمراكبي، والباحث عن الذهب والتاجر، والشهوة والقوة، ضدّ الظلال مظلم والشرير لشكل من أشكال الحضارة التي تجد نفسها، في مرحلة ما من تاريخها، مضطرة، داخليّاَ، لتوسيع نطاق المنافسة عالميّاً لاقتصادياتها المنافسة.
واستمراراً لتحليلي، أجد أن تاريخ الرّياء حديث؛ حيث لاكورتيز مكتشف المكسيك من أعلى تيليوكال، ولا بيزار وأمامكوزكو (ناهيك عن ماركو بولو أمام كامبالوك)،أعلنوا أنّهم رعاة من فصيلة متفوقة؛ أنهم يقتلون؛ أنهم ينهبون؛ أن لديهم الخوذات والرماح، والجشع؛أجد أن آكلي القذارة جاؤوا في وقت لاحق. أن المسؤول الكبير في هذا المجال هي الوثنيّة المسيحية، لأنها طرحت معادلات غير شريفة: المسيحية = الحضارة؛ الوثنية = الوحشية، والتي يمكن أن تترتب عليها نتائج استعمارية وعنصرية بغيضة، سيكون ضحاياها حتماً من الهنود والصّفر والزنوج.
إذا ما انتهينا من هذا، أعترف بأن اتصال حضارات مختلفة يبعضها أمر جيد؛ أن التزاوج بين عوالم مختلفة أمر ممتاز؛ أن أيّ حضارة، مهما كانت عبقريتها الخاصّة، إذا انغلقت على نفسها، تتلاشى؛ أن التبادل هنا هو الأكسجين، وأن فرصة عظيمة لأوروبا أنها كانت مفترق الطرق، وأنها كانت المكان الهندسي لجميع الأفكار ووعاء لجميع الفلسفات، ومكان استقبال جميع المشاعر، جعل منها أفضل موزّع الطاقة.
ولكن بعد ذلك، أسأل: هل حقّق الاستعمار تواصلاً حقيقيّاً؟ أو، إن شئنا، هل هو أفضل وسائل التواصل؟ أنا أجيب لا. وأقول إن المسافة من الاستعمار إلى الحضارة، لا متناهية؛ إن جميع البعثات الاستعمارية المتراكمة، وجميع الأشكال الاستعمارية المفصلة،وجميع المناشير الوزارية المرسلة، لا يمكنها تحقيق مبدأ إنساني واحد.


-2-

ينبغي علينا أن ندرس أولا كيف يعمل الاستعمار على نزع الحضارة عن المستعمِر، على تحويله إلى وحش بالمعنى الحقيقي للكلمة،على إذلاله،على إيقاظ الغرائز الدّفينة، الطمع والعنف والكراهية العنصرية ،والنسبية الأخلاقية، وأن نبيّن أن في كل مرة هناك في فيتنام رأس مقطوع وعين مسمولة، وأن يُقبَل الأمر في فرنسا، فتاة اغتُصبت وأن يُقبَل الأمر في فرنسا، تعذيب في مدغشقر وأن يُقبَل الأمر في فرنسا،هناك مكسب حضاري يثقل بوزنه الميت، هناك انحدار كونيّ يحدث، غرغرينا تستقر، مركز تعفّن يتمدّد، وأنه في نهاية كل هذه المعاهدات المنتهَكة، وكل هذه الأكاذيب المنتشرة، إلى كل تلك الحملات التأديبية المسموح بها، وكل هؤلاء السجناء المكبَّلين و"المستجوَبين" وكل هؤلاء الوطنيين المعذَّبين بعد تشجيع هذا الفخر العنصري، وانتشار هذا التفاخر، هناك السم المغروس في أوردة أوروبا، والتقدّم البطيء، لكنّه أكيد، لتوحّش القارة.
ثم ذات يوم، تستيقظ البرجوازية على رد فعل هائل: الغستابو منشغل، السجون تمتلئ، الجلّادون يخترعون ويصقلون، ويتناقشون حول منصّات التّعذيب.
نندهش، نسخط. نقول: "أمر عجيب! ومع ذلك، آه! إنها النازية، سوف تمرّ!" وننتظر، ونأمل. ويظلّ المرء صامتاً يخفي على نفسه الحقيقة ،إنها البربرية، لكنّها البربرية العليا، التي تتوّج، التي تلخص الحياة اليومية للبربريات. إنها نازية، نعم، ولكن قبل أن نكون ضحية، كنّا الشّريك. إنها النازية، نعم، لقد دعّمناها قبل أن نقاسي منها، نحن برّرناها، أغلقنا أعيننا عليها، وشرّعنا لها، لأنها، حتى ذلك الحين، لم تنطبق إلا على الشعوب غير الأوروبية؛ إنّ هذه النازية، نحن زرعناها، نحن مسؤولون عنها، ولها أن تنفجر، أن تخترق، أن تموت،قبل أن تبتلع في مياهها الحمراء، في كل شقوقها الحضارة الغربية والمسيحية.
نعم، سيكون من المفيد دراسة، سريريا، وبالتفصيل، الخطوات التي اتخذها هتلر والهتلرية وأن نكشف إلى المتميز جداًّ، الإنساني جدّاً، المسيحيّ جدّاً برجوازيّ القرن العشرين، أنّه يحمل في داخله هتلر لا يعرف نفسه،أن هتلر يسكنه، أن هتلر شيطانه، فإن كان يحتجّ عليه فبسبب غياب منطق، وهذا في الأساس، ما لا يغفره لهتلر ليس الجريمة نفسها، الجريمة ضد الإنسان، ليس إذلال الإنسان في ذاته، إنها الجريمة ضد الإنسان الأبيض، هو إذلال الإنسان الأبيض، وتطبيقه السلوكيات الاستعمارية في أوروبا، والتي حتى الآن حكر على عرب الجزائر،وعمّال الزراعة في الهند، والزنوج في أفريقيا. وهذا هو اللوم العظيم الذي أسوقه إلى أصحاب النزعة الإنسانية الزائفة :لأنهم احتقروا حقوق الإنسان لفترة طويلة جدا، لأنه كان لهم، وما يزال مفهوم ضيق ومجزأ، متحيّز وجزئيّ، لحقوق الإنسان، ولأنّهم بعد كل شيء عنصريون بقذراة.
لقد تحدثت كثيراً عن هتلر. إنّه يستحق ذلك: فهو يسمح لنا برؤية عريضة، وأن ندرك أن المجتمع الرأسمالي، في مرحلته الحالية، غير قادر على إرساء قانون لحماية حق الجماهير، كما أثبت عجزه عن تأسيس الأخلاق الفردية. سواء أردنا ذلك أم أبينا ففي نهاية زقاق أوروبا، أعني أوروبا أديناور، شومان، بيدولت وعدد قليل من الآخرين، هناك هتلر. في نهاية الرأسمالية، الحريصة على البقاء على قيد الحياة، هناك هتلر. في طرف الإنسانية الشّكليّة والتخلي الفلسفي، هناك هتلر.
واللحظة، تفرض إحدى جمله نفسها عليّ:
"نحن نطمح، ليس للمساواة، ولكن للهيمنة. وسيتعين على بلد العرق الأجنبي أن يصبح مرة أخرى بلدا من العبيد أو العمال الزّراعيين أو العمال الصناعيين. فالمسألة ليست مسألة القضاء على عدم المساواة بين النّاس، بل هي تضخيمها وجعلها قانوناً."
يبدو الخطاب حاداً،شقيّاً،عنيفاً،ويضعنا وسط الوحشية الصارخة. ولكن دعونا ننزل درجة واحدة.
من المتحدث؟ أشعر بالخجل من القول: إنه الإنساني الغربي، الفيلسوف "المثالي". اسمه رينان. صدفة أنه مقتطَف من كتاب بعنوان: الإصلاح الفكري والأخلاقي، أنّه كُتب في فرنسا، في أعقاب الحرب التي كانت فرنسا تريدها حرب القانون ضد القوة، فإنه يقول الكثير عن الأخلاق البرجوازية .
"إن تجدّد الأجناس الدّونيّة أو المهجّنة من قبل أجناس متفوّقة هو في ترتيب العناية الإلهية للبشرية. إن الرجل من العامة عندنا دائماً تقريباً، نبيل أُسقطت عنه رتبته، يده الثقيلة جُعلت للتعامل مع السيف أفضل بكثير من أدوات الخدمة. بدلا من العمل، يختار القتال، وهذا يعني أنه يعود إلى حالته الأولى. ريجيري إمبيريو بوبولوس، هذا هو نداؤنا الإلهي. فلْنصبَ هذا النشاط الجارف على البلدان التي، مثل الصين، تدعو لغزو الأجنبي. المغامرون الذين يزعجون المجتمع الأوروبي، لنجعل منهم أضحية،حشداً متنقّلا مثل الفرنجة واللومبارديون، والنورمان، وسيكون كلّ في دوره. وقد صنعت الطبيعة سلالة من العمال، هي السلالة الصينية، مع البراعة من يد رائعة، تقريباً دون أيّ شعور بالشرف. احكموها بعدالة، وخذوا منها لعمل هذه الحكومة، إيراداً كبيراً، لصالح السّلالة الغازية، وسوف تكون راضية. سلالة من عمال الأرض هم الزنوج؛ كونوا طيّبين معهم وإنسانيّين، وكلّ شيء سيكون على ما يرام؛ سلالة الأسياد والجنود هي السّلالة الأوروبية. اختزل هذه السّلالة النبيلة في العمل في السّراديب مثل الزنوج والصينيين، فستثور. كل متمرد، عندنا، تقريباً،جندي فاته نداؤه الإلهي، كائن مجعول لحياة البطولة، وحين تجبره على عمل يتعارض مع عرقه، يصبح عاملا سيّئاً، لكنّه دوماً جندي جيد جداً. لكنّ الحياة التي تجعل عمالنا يتمرّدون من شأنها أن تجعل صينيّاً أو فلاحاً سعيداً، الكائنات التي ليست بأي حال من الأحوال عسكرية. دع كلّ واحد يفعل ما خُلق لفعله، وكل شيء سيكون على مايرام. "
هتلر؟ روزنبرغ؟ لا، رينان.
ولكن دعونا ننزل درجة أخرى. إنّه السياسي المهذار. من يحتج؟ لا أحد. بقدر ما أعرف، عندما كان السيد ألبرتسروت، يلقي خطاباً لطلاب المدرسة الاستعمارية، يعلمهم أنه سيكون صبيانيّاً معارضة الشركات الأوروبية للاستعمار "حقّاً مزعوماً للاحتلال وحقّاً آخر لا أعرف ما هو عن العزلة الشرسة التي من شأنها أن تديم حيازة أيدي دون قدرة لثروة دون جدوى".
ومن يستنكر عند سماع شخص يُدعى ر. ببارد يؤكد أن خيرات هذا العالم، "إذا بقيت موزعة إلى أجل غير مسمى، كما ستكون دون الاستعمار، فهي لن تستجيب إلى خطط الله، ولا إلى مطالب المجتمع البشري "؟
متوقَع، كما ذكر من قبل زميله في المسيحية، ر. ب موللير: "أن الإنسانية لا يمكنها أن تعاني من أنّ عجز الشعوب الوحشية وإهمال وكسلها سيترك إلى أجل غير مسمى الثروات، التي كلّفهم الله بمهمة خدمة خير الجميع، دون استخدام ".
لا أحد.
أعني كاتباً مبرّأ أو أكاديميّاً أو مبشّراً أو سياسيّاً أو ناشطاً حقوقيّاً أو دينيّاً أو "مدافعاً عن الذّات البشريّة".
ومع ذلك، من خلال أفواه ساروت وبارد وموللير ورينان، عن طريق أفواه جميع أولئك الذين حكموا ويحكمون أنّه من الشّرعي تطبيق على شعوب من خارج أوروبا، ولصالح أممٍ أقوى وأفضل تجهيزاً، "نوع من المصادرة من أجل فائدة عامة "، فعلاً، إنّه هتلر من يتحدث!
إلى أين أريد الوصول؟ إلى هذه الفكرة: أنّ لا أحد يستعمر ببراءة، أنه لا أحد يستعمر دون عقاب؛ أن الأمة المستعمِرة، والحضارة التي تبرر الاستعمار – وبالتالي القوة – هي بالفعل حضارة مريضة، حضارة مريضة أخلاقيّاً، والتي، كنتيجة حتميّة، كنتيجة للإنكار تلو إنكار، تدعو هتلرها، أعني لعنتها.
الاستعمار: رأس جسر في حضارة البربرية التي يمكنها أن تؤدي في أي لحظة إلى نبذ للحضارة دون أدنى شرط.
لقد لاحظت في تاريخ البعثات الاستعمارية بعض السمات التي ذكرتها في أماكن أخرى على مهل.
وهذا الأمر لم يعجب الجميع. بدا كأنه سَحْب هياكل عظمية قديمة من الخزانة. نعم!
هل كان من غير المجدي أن نقتبس من الكولونيل ديمونتانياك، أحد غزاة الجزائر: "لطرد الأفكار التي تحاصرني في بعض الأحيان، أقطع الرؤوس، ليس رؤوس الخرشوف، ولكن رؤوس الرجال.
هل كان من المناسب أن نرفض كلمة الكونت دي هيريسون: "صحيح أننا نعود ببراميل مليئة من الآذان المحصودة، زوجاً زوجاً، من السجناء، الأصدقاء أو الأعداء."
هل كان يجب أن نرفض لسانت-أرنو الحق في جهره بعقيدته الدينية البربريّة: "ندمّر، نحرق، ننهب، نخرّب المنازل والأشجار. "
هل كان من الضروري منع المارشال بُوجود من تنظيم كل هذا في نظرية جريئة متشبّهاً بأجداده العظماء: "نحن بحاجة إلى غزو كبير في أفريقيا يشبه ما فعله الفرنجة، وما فعله القوط.
هل يجب في نهاية المطاف أن نلقي في ظلال النسيان عمل الأسلحة الذي لا يُنسى من القائد جيرارد وأن نلتزم الصمت إزاء الاستيلاء على أمبيك، وهي المدينة التي،في الحقيقة، لم تحلم أبداً بالدّفاع عن نفسها": كان لدى القنّاصة أوامر بقتل الرجال فقط، ولكن لم يتمّ منعهم؛ فالانتشاء برائحة الدم، جعلتهم لا يدّخرون امرأة، أو طفلا ... في نهاية فترة ما بعد الظهر، تحت ضغط الحرارة، ارتفع ضباب صغير: كان دم خمسة آلاف ضحية، ظِلُّ المدينة، الذي يتبخّر عند غروب الشمس. "
نعم أم لا، هل هذه الوقائع صحيحة؟ والشّهوة السادية، والملذات العصيّة على الوصف، والتي تُرعش جسد لوتي حين يشاهد في طرف منظاره مذبحة رائعة للأناميين؟ صواب أم خطأ؟ وإذا كانت هذه الوقائع صحيحة، لأنه لا يمكن لأي شخص أن ينكرها، هل سيقول المرء، لتقليل قيمتها، أن هذه الجثث لا تثبت شيئا؟
من جهتي، إذا كنت قد ذكرت بعض التفاصيل من هذه المجازر، فذلك ليس من باب تشهّي الإثم، وذلك لأنني أعتقد أنّ رؤوس هؤلاء الرجال وحصاد تلك الآذان وتلك المنازل التي أُحرقت، وتلك الغزوات القوطية وذلك الدم الذي يدخن وتلك المدن التي تتبخر على حدّ السيف، لن نتخلص منها بثمن بخس. إنهم يثبتون أن الاستعمار، أكرّر،يحرم الإنسان حتى الأكثر تحضّراً من إنسانيته؛ أن المؤسسة الاستعمارية، والمشروع الاستعماري، والغزو الاستعماري، القائم على احتقار السّكان الأصليّين وهذا الاحتقار الذي يبرّره، يميل حتماً إلى تغيير الشخص الذي يقوم به؛ وأن المستعمر، الذي، كي يريح ضميره، يعتاد على رؤية الوحش في الآخر، يدرب نفسه لعلاجه مثل الوحش، يميل بموضوعية لتحويل نفسه إلى وحش. إن هذا الفعل، وهذه الصدمة في مقابل الاستعمار، هي ما يجب أن نشير إليها.
انحياز؟ لا. مرّ زمن كانت هذه الحقائق نفسها تجلب الفخر، وحيث، بكل ثقة في المستقبل، لا أحد سينمّق الكلمات. آخر اقتباس؛ أقترضه من كارل سيجر،مؤلّف مقالة في الاستعمار:
"إن البلدان الجديدة مجال واسع مفتوح أمام أنشطة فردية عنيفة، تتعرّض في الحواضر، إلى بعض الأحكام المسبقة، برؤية حكيمة ومنظَّمة للحياة، والتي يمكنها في المستعمرات، أن تتطور بحرية أكبر وتؤكد، بالتالي، قيمتها. وهكذا، يمكن للمستعمرات، في مرحلة ما، أن تتحوّل إلى صمام الأمان للمجتمع الحديث .هذه المنفعة حتى وإن كانت وحيدة، ستكون هائلة. "
في الحقيقة، هناك عيوب لا يمكن لأي شخص إصلاحها ولا يمكن التكفير عنها أبداً.
ولكن لنتكلم عن المستعمَرين.
أرى جيّداً ما دمّر الاستعمار: الحضارات الهندية الرّائعة، وأنّ لا ديتردينغ، ولا رويال داتش، ولا ستاندرد أويل سوف يعزّوني عن الأزتيك أو الأنكا.
أرى جيّداً تلك- الموعودة - بالخراب: أوقيانوسيا ونيجيريا ونيوزيلاندا. أرى ما جلب الاستعمار أقلّ جمالاً.
الأمن؟ الثقافة؟ تمسّك بالقوانين؟ في هذه الأثناء، أنظر وأرى في كل مكان وُجِد، وجهاً لوجه، مستعمِرون ومستعمَرون، القوّةَ والوحشيّةَ والقسوةَ والسّادية والصّدام وفي محاكاة ساخرة للتشكّل الثقافي، تصنيعاً متسارعاً لبضعة آلاف من المسؤولين الثانويين والخدم والحرفيين والتجار والمترجمين الفوريين الضروريّين لسلاسة إدارة الأعمال.
تحدثت عن تواصل.
بين المستعمِر والمستعمَر، هناك فقط مكان للسّخرة والتخويف والضغط والشرطة والضرائب والسرقة والاغتصاب والبيع الإلزامي للمحاصيل والاحتقار وعدم الثقة والغطرسة، والكفاف، والفظاظة، نخب منزوعة الأدمغة، شعوب محقَّرة. دون أيّ تواصل إنساني، فقط علاقات هيمنة وخضوع تحوّل الإنسان المستعمِر إلى بيدق، إلى مساعد، إلى سجّان، إلى سوط والوطنيّين إلى أدوات إنتاج.
أضع بدوري معادلة: الاستعمار = التشيّؤ.
أسمع العاصفة. يحدّثونني عن التقدم، عن "الإنجازات"، وأمراض تُداوى، عن مستويات معيشية مرتفعة على نفسها.
أنا أتكلم عن مجتمعات أفرغت من نفسها، عن ثقافات مُداسة، ومؤسسات ملغومة، وأراضي مصادرة، وديانات مقتولة، وروائع فنية دُمِّرت، وإمكانيّات خارقة قُمعت.
يلقون على رأسي وقائع وإحصاءات وكيلومترات من الطرق والقنوات والسّكك الحديدية. أنا أتحدّث عن الآلاف من الرجال ضحايا سكة الكونغو- المحيط. أتحدث عن أولئك الذين يقومون، وقت كتابة هذا التقرير، بحفر ميناء أبيدجان باليد. أنا أتكلم عن الملايين من الرجال انتُزعوا من آلهتهم، أرضهم، عاداتهم، حياتهم، من الحياة، من الرقص، والحكمة.
أنا أتكلم عن الملايين من الرجال الذين تم غرس الخوف فيهم ببراعة، وعقدة الدونية، والارتعاش، والخضوع، واليأس، والذّلّ.
يضعون أمام ناظريّ حمولة كاملة من القطن أو الكاكاو التي وقع تصديرها، وهكتارات من أشجار الزيتون أو الكروم المزروعة.
أنا أتحدث عن الاقتصاديات الطبيعية، والاقتصاديات المتناغمة والقابلة للاستمرار، والاقتصاديات على مقاس السكان الأصليين غير المنظم، والمحاصيل الغذائية المدمَّرة، وسوء التغذية المركَّز، والتنمية الزراعية الموجهة فقط لصالح الدّول الاستعمارية، نهب المحاصيل، نهب المواد الخام.
يتبجّحون بإنهاء الاعتداءات.
أنا أيضا، أتحدث عن المعاملة السّيّئة، ولكن لأقول أنّنا أضفنا للقديمة - الواقعيّة جدا– أخرى أسوأ بكثير. قيل لي أن الكثير من الطغاة المحليين تم إخضاعهم؛ ولكنني ألاحظ أنهم بشكل عام يتّفقون بشكل جيد مع الجدد، ومن هؤلاء إلى القدماء والعكس بالعكس، اكتملت دائرة من الخدمات الجيدة والتواطؤ على حساب الشعوب.
يتحدثون معي عن الحضارة، أنا أتحدث عن التفقير والخداع. من جهتي، أنا مدافع آلي على الحضارات غير الأوروبية.
كل يوم يمر، كل إنكار للعدالة، كل تعنيف من الشرطة، كل مطالبة للعمال تُغرَق في الدّم، كل فضيحة مكتومة، كل حملة تأديبيّة، كل سيّارة لشركة الأمن الجمهوري، كل شرطي وكل ميليشيا يجعلنا نشعر بقيمة مجتمعاتنا القديمة لدينا.
كانت مجتمعات تشاركية، أبداَ لم تطبّق مبدأ الكل من أجل واحد. فلم تكن مجتمعات سابقة للرأسمالية فحسب، كما قلنا، بل أيضا معادية للرأسمالية.
كانت دائماً مجتمعات ديمقراطية.
كانت مجتمعات تعاونية، ومجتمعات أخوية.
أُشيد آليّاً بالمجتمعات التي دمّرتها الإمبريالية.
كانت مجتمعات واقع، لم يكن لديها أي ادّعاء بأن تكون الفكرة، لم تكن، رغم أخطائها، لا محبّة للكراهية ولا تُدين الآخرين. كانت مكتفية بوجودها. أمامها لم تكن لكلمة فشل معنى أو كلمة تحوّل. كانت تحتفظ بالأمل،سليماً.
بدلا من أن تكون الكلمات هي الأمر الوحيد الذي يمكننا القيام به، بكل نزاهة، تنطبق على الشركات الأوروبية خارج أوروبا. وعزائي الوحيد هو أنّ الاستعمار يمر، وأن الأمم لا تنام إلا وقتاً قصيراً وأن الشعوب باقية.
أقول هذا، ولكن يبدو أنّ بعض الدّوائر اكتشفتني "كعدوّ لأوروبا" ونبيّ العودة إلى الماضي السابق لأوروبا.
من جهتي، أبحث عبثاَ حيث يمكن أن أقول مثل هذا الكلام حيث قمت بالتقليل من أهمية أوروبا في تاريخ الفكر الإنساني. حيث سُمعت أعظ بأي عودة إلى الخلف. حيث ادّعيتُ أن هناك إمكانية أن تكون هناك عودة.
والحقيقة هي أنني قلت شيئا آخر: أن نعرف أن تأخر فترة تواصلها مع بقية العالم المأساة التاريخية العظيمة لأفريقيا، كانت أقل وطأ من الطريقة التي تم بها إجراء هذا التواصل؛ أن أوروبا "تمدّدت". في الوقت الذي وقعت فيه بين أيدي رؤساء الأموال ورجال الصناعة الأكثر انعداماً للضمير. أن حظنا السّيئ أراد أن نلتقي بأوروبا هذه في طريقنا وأن أوروبا مسؤولة أمام المجتمع الإنساني على أعلى كومة من الجثث في التاريخ.
من ناحية أخرى، وحكماً على العمل الاستعماري، أضفتُ أنّ أوروبا قد ساعدت جميع الإقطاعيين الأصليين الذين وافقوا على خدمتها؛ ودبّرت معهم تواطؤا معيباً؛ جاعلين طغيانهم أكثر واقعية وفاعلية، وأنّ عملها لم يقم سوى بإطالة أمد بقاء الماضي المحلي بشكل مصطنع في أكثر جوانبه فساداً.
لقد قلت- وهذا مختلف جداً – إنّ أوروبا الاستعمارية قد طعّمت التّجاوزات الحديثة على الظلم القديم؛ العنصرية الكريهة على عدم المساواة القديمة.
إذا كانوا يعقدون لي محاكمة نوايا، فإنني أرى أنّ أوروبا الاستعمارية غير عادلة في إضفاء الشرعية على العمل الاستعمار يبعد التقدم المادي الواضح الذي تحقق في مجالات معينة في ظل النظام الاستعماري، الطفرة المفاجئة ممكنة دائما، في التاريخ كما في مجالات أخرى؛ أنّ لا أحد يعرف مرحلة التطور المادي التي كان يمكن أن تبلغها نفس هذه البلدان دون التدخل الأوروبي؛ أنّ المعدات التقنية، وإعادة التنظيم الإداري، وفي كلمة واحدة، "أَوْرَبة" أفريقيا أو آسيا، كما يثبت المثال الياباني، لا علاقة لها بأي شكل من الأشكال بالاحتلال الأوروبي؛ أنّ "أَوْربة" القارات غير الأوروبية كان يمكن أن تتم بشكل مختلف عمّا حدث تحت الاحتلال الأوروبي؛ أن حركة التحوّل إلى "أوروبا" هذه كانت قيد الإنجاز؛ أنها، بكل "حال، زُيّفَت عبر السّيطرة الأوروبية.
كدليل على ذلك، أنّ في الوقت الحاضر يطالب السكان الأصليّون من أفريقيا أو آسيا بالمدارس وأوروبا الاستعمارية ترفض ذلك؛ أنّ الإنسان الأفريقي هو الذي يطالب بالموانئ والطّرق، وأنّ أوروبا الاستعمارية هي، فيما يتعلق بهذا الموضوع، مَن يقتّر؛ أن المستعمَر هو من يريد المضيّ قُدُماً، وأنّ المستعمِر هو الذي يسحب إلى الخلف.



#جمال_الجلاصي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خطاب حول الاستعمار - إيمي سيزير


المزيد.....




- شاهد ما حدث على الهواء لحظة تفريق مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين ف ...
- احتجاجات الجامعات المؤيدة للفلسطينيين تمتد لجميع أنحاء الولا ...
- تشافي هيرنانديز يتراجع عن استقالته وسيبقى مدربًا لبرشلونة لم ...
- الفلسطينيون يواصلون البحث في المقابر الجماعية في خان يونس وا ...
- حملة تطالب نادي الأهلي المصري لمقاطعة رعاية كوكا كولا
- 3.5 مليار دولار.. ما تفاصيل الاستثمارات القطرية بالحليب الجز ...
- جموح خيول ملكية وسط لندن يؤدي لإصابة 4 أشخاص وحالة هلع بين ا ...
- الكاف يعتبر اتحاد العاصمة الجزائري خاسرا أمام نهضة بركان الم ...
- الكويت توقف منح المصريين تأشيرات العمل إلى إشعار آخر.. ما ال ...
- مهمة بلينكن في الصين ليست سهلة


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جمال الجلاصي - خطاب حول الاستعمار - إيمي سيزير