أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاجر برياز - لحظة وداع















المزيد.....

لحظة وداع


هاجر برياز

الحوار المتمدن-العدد: 1562 - 2006 / 5 / 26 - 10:32
المحور: الادب والفن
    


عمد الحاج علي إلى إغلاق دكانه القابع بين أزقة المدينة القديمة، فقد كان ينوي زيارة بيت السيدة زينب، تلك المرأة التي سلبها القدر أنيسها الوحيد، إنه العم إدريس كما يناديه أهل الحي، انتشر خبر وفاته في المدينة كالنار في الهشيم، لم يكن ليسلم الروح كاملة حتى كانت ساحة البيت تعج بالمعزين والنساء في الغرف يبكين
الفقيد، وأخريات تخصصن في النواح والعويل، منعن من شاءت الصدف أن تمر على جمع الرجال والنعش المسند على جدار البيت لتلج المأتم لا تعرف عنه شيئا، إنما تدخله لتشبع رغبة في نفسها تستميلها إلى الداخل حيث تختلط مظاهر الحزن بأشياء أخرى تنافيها في صورة غريبة تصعب قراءتها. أقيم سرادق بسطح البيت غصت فضاءاته بمقاعد عدة وأرائك من الطراز الرفيع، واستأجر أثاث إضافي يتناسب والعدد الكبير للمعزين. سبقت عبرات علي خطواته إلى المنزل، تساءل وهو يرى ذاك الحشد من الناس إن كان سمير وعادل هناك. مرت سنوات ثلاث لم ير فيها الابن الأكبر لصديقه، وكم كان يسأل عن عادل، ابنه الثاني الذي كان يعمل محاميا في إحدى مدن الشمال، مند تزوج لم يعد يمر عليه في دكانه، ولم يزره قط في بيته، بل إن أباهما كان يشكوغيابهما الطويل وعدم سؤالهما عنه وأمهما إلا قليلا.أصابه الحزن وهو يطأ عتبة البيت، فقد تذكر شجون صديقه التي ما فتئ يبرحها له، يتحدث فيها عن ابنيه واشتياقه لهما، عن سمير خاصة، بعد أن غادر البلاد إلى أمريكا، وعن منال، ابنته في تونس، كان قد ودعهاصحبة والديها في مطار المدينة منذ شهرين فقط لتلتحق بزوجها الموظف في السفارة، تذكر ما كان يحكيه أبوها عنها، كان يناديها أميرة، وكانت حقا أميرة البيت. أحبت أمها وكانت صديقه لها ورفيقتها في كل الأوقات. منحتها دراستها في الجامعة وإجازتها في الأدب ثقافة وبعد نظر يتحدث عنهما كل من يعرفها، ولم تتوان حين لم تجد عملا في أن تجعل النشاط الثقافي بين أحضان إحدى جمعيات المدينة أهم مشاغلها.
انقطع حبل ذكرياته على وقع كلام شجي يبكي الفقيد، وقبل أن ينتبه إلى الصوت ويفك أجزاءه عله يعرف من يكون صاحبه، كان اللقاء مع عادل، فاضت عيناه من الدمع وهو يضمه إليه، قدم تعازيه وأعرب عن مشاعره بكلمات رزينة تكون له سلوانا وصبرا جميلا. كانت عيناه وهو يتحدث إليه تبحثان عن سمير و منال،
سأله عنهما فأعلمه أنهما وصلا للتو. صاحبه إلى غرفة أمه، فعرف حينها مصدر الصوت الذي حرك أشجانه قبل قليل، إنها السيدة زينب المرأة التي عهدها أفضل نساء الحي وأكثرهن حبا للخير، كان زوجها يمجدها،أحبها ولم يمنعه شيء من أن يعترف بذلك لصديقه، أخبره يوما أنها الشمس ومنال القمر.
قبل يدها وحياها تحية تختلط فيها معاني الاحترام بملامح الشفقة، وفي أول لحظة نظرت إليه تراءى لها ظل زوجها كأنما يحمل أنفاسه. وكانت الكريمة كما عرفها، نسيت ما بها وقامت ترحب بصديق للأسرة طالما كان عونا لها، اتخذ له مجلسا بجانب عادل، على أريكة كانت مكانه طيلة أسبوع سبق موت صديقه، لم يفكر لحظة
أن الموت يقترب منه إلى أن جاءه الرسول من زينب يخبره الفاجعة. لم يصدق أول الأمر لولا أن جاءه من يؤكد له بعد حين، بل ما زالت تنتابه لحظات لا يصدق فيها ما حدث حتى وهو يتحدث إلى زينب وقد ارتدت لباس الحداد. عم صوت بهيم أجواء الغرفة وكأن من بها لا قدرة لهم عن الكلام. دخلتها منال رفقة أخيها سمير، وبدموع المشتاق المحب، بمشاعر الحاج علي النبيلة، عانق الاثنين وخاطبهما بما يمليه الواجب، لكنه وكلما نطق كلمات التعزية كانت تعتريه حاجة شديدة لأن يسمع نداء قلبه ويجهر به: أن يا زمان طوت أيامك حياة إدريس، فأبق سيرته أنيسا لي. لم يشك لحظة في حب أبنائه له، فقد أنشأهم الفقيد على اعتباره فردا في نسيج الأسرة، وعلمهم واقع الحال أنه كذلك بالفعل. كانت زينب أكثر المطلعين على حميمية العلاقة بينهما، فقد عاشت معهما أكثر الأحداث أهمية في حياتهما، وعبرها أدركت منال وشائج المحبة والوفاء التي ربطت أباها بالحاج علي منذ وطأت أقدامهما الصغيرة في اليوم نفسه كتاب الحي القرآني.
وبعيدا عن الغرفة، في ركن منزو من البيت، توجه الحاج علي رفقة زينب وأبنائها لإلقاء نظرة أخيرة على فقيدهم الذي ينتظر أكتافا تحمله إلى مثواه الأخير، فكان الوداع حيث لا لقاء بعده، واهتزت المشاعر من جديد، وذرفت المقلات دموعا بحرارة الحب الذي ألف القلوب. كان موكب الجنازة أكبر من أن تستطيع زقاق المدينة القديمة احتواءه، ومشت الأقدام على الأرض تبغي مكانا ترقد فيه أجساد بلا روح، وأنفس توفاها أجلها إلى يوم تبعث فيه. رفعت الأكف إلى السماء تستجدي الرحمة للروح الطاهرة، واسترسلت الألسن في دعاء امتد طول طريق العودة إلى البيت، وهناك حيث أعلن الجميع حالة استنفار تبعث الغرابة في نفوس أناس قليلين، اشتدت
الحركة وكثرت الحوارات هنا وهناك، وانتشر اللغط والكلام الكثير، واستعد الناس للدخول في مراسيم اعتبرتها الذاكرة طقوسا فكستها لباس القداسة.
لم يجد المكلومون بفقد أبيهم بدا من أن يجتمعوا ليتدارسوا أمر استقبال المعزين وتوفير ما تستدعيه مناسبة كهذه من مشاغل وخدمات تنوء عن حملها القلوب التي لم يكتب لها أن تبكي حيث البكاء لها راحة. وما لبثوا غير لحظات حتى التحق بهم إسماعيل زوج منال الذي لم تسعفه ظروف العمل لحظور موعد الدفن، كان طرفا مهما في الحوار الذي جمعهم لدقائق معدودات تفرقوا من بعدها لينظر كل منهم ماذا هو فاعل.
وبعد أقل من نصف ساعة كانت كافية لأن يحوي البيت كل اللوازم، توجهت السيدة زينب إلى المطبخ لتقف على سير عمل النساء هناك، وفي فناء البيت كما على السطح بين جنبات السرادق كانت فرق من الشباب تستدعي للموائد كل مار بهم، يطعمون الطعام، ويقرؤون على روح الفقيد آيات الرحمة والغفران.
لم يتسن للإخوة أن يجالسوا بعضهم وأن تكون لهم لحظات تجمعهم بوالدتهم، فكل له مهمة هو مسؤول عنها، وحالة البيت لا تسمح بتعطيل أمر لصالح آخر. سارت الأمور على الوتيرة نفسها ثلاثة أيام كاملة، وكان الختم حفل عشاء حضرته جموع غفيرة لم يسعها البيت على رحابته. انفرجت أنفاس أهل البيت المقبوضة
وكأنها تنفض عن كاهلها ثقلا اضطرت لحمله اضطرارا، وحينها فقط كان اللقاء الحنيني بين الإخوة وأمهم استدعوا إليه الحاج علي، وغاب إسماعيل الذي لحق بعمله في اليوم الثاني. تواصلت القلوب وتحركت الأشجان وتخللت المحادثات أدعية ترسلها القلوب من أعماق الحنايا وغور اللواعج فتستجيب لها الألسن،ترتل جماعة كلمات خاشعة تحمل روح الفقيد إلى رحمة السماء.
أحس الحاج علي بقوة شديدة تجذبه إلى الماضي، تخرجه من حاضره فلا يعي ما يعيشه، ذاكرته تسكن واقعه، ترجعه إلى أيام بعيدة وأخرى قريبة، أخبرهم ذلك فاستثار عواطف زينب واغرورقت عيناها بالدموع عبرت عن مصابها بكلمات استطاعت من خلالها أن تشعر أبناءها بحجم الحزن الذي يسكنها، وحاولت أن ترسل على أوتارالزمن نغما حزينا يحملهم في رحلة إلى ماضي أبيهم. تكلم الثلاثة عن الفقيد وعن الحب الذي جمعهم، وعن طيبته التي يتكلم عنها الجميع. ثم ساد الصمت بعد ذلك أجواء الغرفة التي احتوتهم. لكن منالا قطعته بنحنحة وحركات خفيفة متتالية في مكانها وكأنما تريد أن تقول شيئا غير الذي كانوا فيه خائضين. تنبه لها الجميع بل أحست في لحظت أنهم فهموا ما يجول في خاطرها وما تريد أن تجعل منه موضوعا يناقشوه معا. أما زينب فقد اعترتها رهبة شديدة وهي تستعد لسماع ما لم تجعله يوما في حسبانها، لقد مات زوجها وأنيسها، رحل من أحبها وأظلها بحنانه، سيرجع أبناؤها إلى أماكن إقامتهم. وتبقى وحيدة في بيت تمتد مساحته مئات الأمتار.
عبرت منال بكلمات أخفى البكاء معالمها أنها لا تستطيع أن تترك أمها وحيدة، وأنها عانت فراقها شهرين حاولت فيهما أن تتكيف مع حياتها الجديدة. تحدث الآخرون بمثل ما قالته منال، تكلموا جميعهم وزينب صامتة، لكن الكلمات كانت تنجح في أن تسرق لحظات صمتها بين الفينة والأخرى لتنساب دافقة على لسانها رحمات على زوجها. رفضت عروض أبنائها في لهجة كلها إصرار وثبات، لم تقبل صحبة أحدهم أيا كان، قالت إن بيتها وديعة كأغلى ما تكون الودائع، ذكرى ستحفظ فيه سنوات عمرها وأياما سعيدة تريد لها الخلود، لم ترد لبيتها أن يهجر ويقفل فيه على كل جميل. كانت تشعر وكأنه يمنحها أسباب بقائها، وأنه الدرع الذي سيحميها تقلبات الزمن. حاولت خلال لحظات صمتها أن تدرس كل احتمال قد يفاجئها، تماما كما فاجأها موت زوجها. استأذنتهم وخرجت إلى فناء البيت حيث تقف إحدى الشجرات شامخة تتعالى فروعها في السماء وتمتد جذورها في تربة بستان صغير يتوسط فناء البيت، كان الفقيد قد غرسها يوم ولد سمير. تأملتها لثوان معدودة ثم ما لبثت أن حولت نظراتها إلى حيث يجتمع أبناؤها والحاج علي، حركت شفتيها بكلمات حملتها نسائم اليوم الربيعي إلى الأفق وغنتها أسراب الحمام أنشودة وعد بالإبقاء على الزمن بين أحضان المكان الفسيح.



#هاجر_برياز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاجر برياز - لحظة وداع