أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جلبير الأشقر - همجية - الرسالة المتمدنة















المزيد.....



همجية - الرسالة المتمدنة


جلبير الأشقر
(Gilbert Achcar)


الحوار المتمدن-العدد: 1562 - 2006 / 5 / 26 - 11:25
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


همجية «الرسالة المتمدنة»
في نيسان/إبريل 2003، وعلى أثر سقوط بغــــداد، كتبتُ التشخيص التالي:
«إذ توسِّع الولايات المتحدة حضورها، أكثر فأكثر، في العالم العربي، تزيد من تعريض قواتها للخطر. فالكراهية التي تثـيرها في مجمل بلدان الشرق الأوســط، وعلى امتداد العــــالم الإسلامي، قد انفجرت في وجهها مرارا؛ وليس الحادي عشر من أيلول/سبتمـبـــر 2001 سوى تجلّي هذه الكراهية الأكثــر مشهديــة والأشد دموية، حتى يومنا هذا. إنّ احتـلال العــراق سوف يؤدِّّي إلى مفاقمة البُغضـاء المعممــة إلى الحدود القصـــوى، ويسرِّع اهتـراء النظــام الإقليمي الذي تدْعمه واشنطن. لن يكون هناك سلامٌ أميركي، بل بالأحرى خطوةٌ إضافية في الانحدار نحو الهمجيـــة، بحيث تغذِّي الهمجية الرئيسيــــةُ التي تمارسها واشنطن وحلفاؤها الهمجيـة المضادة التي يمارسها التعصب الديني...»
فيما أكتب هذا الفصـل الجديد في تشرين الأول/أكتوبــر 2005، تَمْثُل أمامي تأكيداتٌ كثيرةٌ ومؤْسفة لذلك التنبُّؤ المستوحَــى من الأطروحات التي صيغتْ في الفصول السابقة، حتى لَيَصْعبُ الاختيار من بينها [...] لذا سنكتفي هنا بإطـــــلاق بعض التأملات في مسار الأمور المأساوي هذا، مقتصرين علـــــى ذلك الجزءِ من العالم الأشدِّ تأثُّراً بعواقب 11 أيلول/سبتمبر 2001.

تنويعاتُ للمتعة المنحرفة
لقــــــد بات مشهدُ الهمجيــة، أو بالأحــرى مشــهدُ الهمجيتيـــــــْن، ويا للمأســــاة، حدثــا يوميــّا في العــــــراق. فمــن جهةٍ، هناك الهمجية الصغرى، ولكن الفظيعة، لمتعصِّبي الإسلام السَّلفي بصيغته الوهابية أو البعث «الصدّامي» شبهِ الفاشــي، ولاسيما حين يعْرضون قطْع الرؤوس في أفــلام، أو حين يصـل الأمـر ببعضهـم إلى حدّ تفجير أنفسهم – أو إرسال أشخاصٍ واقعين تحت سطوتهم ليفجِّروا أنفسهم – وذلك بهدف قتلِ أكبرِ عددٍ ممكن من العراقيين. وغالبًا ما يقتصر ذَنْب هولاء العراقيين، في نظر قتلتهم على كونهم شيعةً، أو، أحيانا، على وقوفهم في الصفّ من أجل الحصول على وظيفة شرطيّ أو جنديّ، بدافـع البطـالة والفقر اللذيْن فاقمهما الاحتـلالُ، تماماً مثلما يقف آخـرون فـي الصفّ في بلدانٍ أخرى أمام مكاتب تشغيل عمّال منــــاجم الأعماق أو طلباً للحصــــول على وظائفَ مماثلةٍ محفوفةٍ بمخاطر كبرى.
إن أبا مصعب الزرقاوي، الذي نصّبه بنُ لادن قائداً لتنظيم القـاعدة في العــراق في تشرين الأول/أكتوبر 2004، قد بـات أكثـرَ من سيِّده تجسيداً للتعصب الأشدِّ إجراما: معـادلاً لأسوإ القتلـة بالجملـة الذين يُمْكـن أن تتخيَّلهــم سينمــا الرُّعب، إلى حدِّ أنَّ البعض توصّلوا إلى الزعم بأنه شخصية وهمية. وعلى كلِّ حال، فمن المؤسف ألاّ تكون الفظاعاتُ التي ادّعى المسؤولية عنها وهميةً، ومن المؤسف أيضا ألاّ يكون المفجِّرون الانتحاريون ضدّ الشيعة وهميين هم أيضاً.
لقد بلغت أهوال التعصب أوجها هنا: فإذا كانت ما تزال ثمةَ درجة ما من الأخلاق الثأرية المنحرفة في التدمير الذاتي بهدف إلحاق أذًى كبير بخصم جائر وأعظم مقدرةً، حتى حين يكون الأذى عشوائيّاً، فماذا عساها تكون التبريراتُ حين ينتحر أفرادٌ بهدف قتل أكبر عددٍ ممكنٍ من المدنيين الذين ينتمون إلى أقليةٍ طائفيةٍ في العالم الإسلامي كانت مضطهدةً في كل مكان عبر التاريخ، إلاّ في إيران حيث تشكِّل الأغلبية؟ والحال أنّ المفجّرين الانتحاريين وموجِّهيهم لم يتعرضوا قطّ من جانب تلك الأقلية الشيعية إلى أيّ اضطهاد؛ بل إنّ المسؤول عن أحد أشدِّ تلك الاعتداءات دمويّة لم يكن عراقيّا، بل أردنيٌّ، على غرار الزرقاوي نفسه. وكلُّ الدلائل تُظْهر أنّ سبب سُعارهم الأبرز هو رؤيةُ الطائفية الشيعية وقد تحررتْ أخيرا من الاضطهاد الذي كانت تتعرَّض له.
إنّ «النشوة» التي عبَّر عنها Chen في رواية مالرو [قدر الإنسان] يمكن أن تُعتبر ذات مشروعيةٍ مزدوجة: فقد أراد، من جهة، الثأرَ من تصفية الآلاف من رفاقه؛ وسعى من جهة أخرى، إلى القيم بذلك عبر محاولة اغتيال الطاغية المسؤول بصورة رئيسية عن تلك المجزرة. ولقد كان يُمْكن أن يعادِلَ ذلك، على المستوى العراقي، عمليةٌ انتحاريةٌ لاغتيال صدّام حسين، حين كان لا يزال في السلطة، على يد عضو في إحدى الفئات الكثيرة من ضحاياه. لكنْ أيِّ «نشوة» يُمكن أن يشْعر بها مَنْ يفجّرون أنفسهم في العراق ليَقتلوا عشوائيا ضحايا البارحة، في حين أنّ هؤلاء الشيعة امتنعوا عن القيام بردٍّ دموي جماعيّ بعد سقوط الطغيان، أو امتنعوا عن العمل يدًا بيد مع قوات الغزو، على غرارِ ما فعل أسيادُ الحرب في «تحالُفِ الشمال» في أفغانستان؟
لقد بلغ التعصُّب القاتلُ أوجه في العراق منذ احتلال القوات التـي تقودها واشنطن لهذا البلد. فقد باتت المذابحُ الجماعية من التواتر في هذا الوطن المعذَّب، الذي لم تنفك مِحنُهُ تتعاظمُ منذ استيلاء البعثيين على السلطة عامَ 1968، بحيث تعْتبرها وسائلُ الإعلام العالمية مجرّدَ «أخبار أخرى،» وتتعاملُ معها على هذا الأساس، إلاّ حين يحدث، بين الفينة والفينة، أن يقترب عددُ ضحايا اعتداءٍ ما من المئة أو يجتاز هذا الرقم...
هذه الهمجيةُ، التي تبقى أصغر بالمعنى الكمّي، تتغذّى حتمًا بمحنةِ الهمجية الأخرى ومشهديَّتها، وهي همجيةٌ أكبر. وخلال كتابة الفصول السابقة من هذا الكتاب، لم يكن للهمجية الكبرى المنظَّمة انطلاقا من واشنطن غيرُ اسم طوبوغرافي واحد، ذي رنين رمزيٍّ، يعلِّق على قائمة «إنجازاتها» بعد 11 أيلول/سبتمبر: غوانتانامو! لكن مُذّاك أُضيف إلى ذلك الاسم اسمان رمزيان آخران: الفلّوجة، وبوجه خاصٍّ أبو غريب. وتعبير «بوجه خاص» يحيل، هنا، فقط، على الفرادة النسبية لِما تمّ كشفُه، ولا يَسْتند بالتأكيد إلى عدد الضحايا.
فعلى غرار غزو العراق عامَ 1991، تختلف التقديراتُ كثيرًا جدّاً بخصوص عدد القتلى الذي تسبَّب به غزوِ عام 2003: من عشراتِ الآلاف أو أكثر، لما تريد أن تعترفَ به المصادرُ الرسميـةُ أو شبهُ الرسميـة في الولايــات المتحـدة وبريطانيـا، إلى مئات الآلاف أو أكثر، بحسب الدراسات التي نشرتْها في تشرين الأول/أكتوبر 2003 المجلة الطبية البريطانية The Lancet. والحال أنّ الرقم الأدنى، الذي يسلِّم به المحتلون، هو في ذاته ثمنٌ باهـظٌ يدْفعه شعبٌ، وإن يكــن ذلك لأجل تخليصه من طاغيـة. لقد كان تدميرُ مدينة الفلّوجة صورة إضافيــةً عن الوحشية التي تستطيع ارتكابها القواتُ العسكرية الأميركيةُ خلال حملاتها الإمبراطورية. وهذه الوحشية تفاقمها إلى حد بعيد، وبصورة مفارقةٍ، دقّةُ ضرباتها «الجراحية،» حين لا تعودُ تستهدفُ الحدَّ من «الأضرار الجانبية» المباشرة، بل تصبُّ قوّتَها الناريةَ مباشرةً على تجمُّع مدني يقْطنه مدنيـــــون. ولقد كان [قصفُ] الفلّوجة على مقياس مدينة يسكنها حوالي 200 ألف نسمة، ما يعادل ذلك القصفَ الذي قامت به طائرات أي – سي-130 أميركية في أفغانستــان، في أول تموز/يوليو 2002، لأحدِ الأعراس، مستخدمةً «ذخائر عظيمة الدقة» أدّتْ إلى سقوط 50 قتيلا ومئة جريح بين الحضور. سوى أنّ الفارق بين الحادثتين هو أن ما وقــع في أفغانستان «خطأ» في حين أنّ مَنْ أَمَروا بالهجماتِ الدموية ضدّ الفلّوجة قد كانوا على وعيٍ تامٍّ بما يفعلونه.
ومن هجوم إلى آخر من مناطق السُّنَّة العرب في العراق، تَسْحق القواتُ المسلحة الأميركية السكّان المدنيين بمَحْدلتها، في حين يكتفي كثيرٌ من العناصر [العراقيـــة] المسلّحة التي تقاتلها تلك القواتُ بالانتقال إلى نقاطٍ أخرى من المنطقة عينها. وقد لاحــظ السناتور جون ماكاين ذلك الأمر أثناء استجوابه قائدَ «القـوة المتعددة الجنسية» في العراق، الجنرال جورج كايْسي، خلال جلسة استماع لـ «لجنة القوات المسلحة» في مجلس الشيـــوخ الأمريكي في أيلول/سبتمبر 2005 إذْ سألَ: «كم من المرات، يا جنرال كايسي، سوف نقرأ عن هجوم آخر في الفلــوجة، والموصل، والرمادي، والقائم، حيث ندْخل، ونسيطر، ثم نمضي، ليعودَ الأشرارُ من جديد؟»
الواقع أنّ وحشيةَ الهجمات بالذات، إذا لم نقلْ وجود قوات الاحتلال في ذاته، تضيف إجمالاً إلى «المتمردين» متطوِّعين جُددًا يَفُوقون عددَ المقاتلين الذين تمْحوهم. وقد اعترف بذلك الجنـرال كايسي نفسُه حين أعلـــن، خلال الجلسة عينِها، أنَّ وجــود «قوات التحالف بوصفها قوة احتلال» كان «أحدَ العنــاصر التي [تُذَكي] التمرّدَ.» وليس ثمةَ ما هو جديدٌ حقّاً على هذا الصعيد: فملاحظةُ كايْسي هي مِنْ عِمْرِ عصرِ نزعِ الاستعمار، الذي حوَّل السيــاساتِ الكولونيالية أثناء القرن التاســــع عشر وأوائل القرن العشرين – وهي «آخرُ شكل من أشكـــــــــال الهمجية» بوصف أناتول فرانس – إلى أمرٍ لا يمكن احتمالُه. ومنذ ذلك الوقت يرْفض سكّان البلدان المحتلة إلقاء سلاحهم قبل التخلص من محتلّيهم.
في المقابل، كان لأبو غريب تأثيرُ الصدمة الكهربائية في قسم هامٍّ من الرأي العام الأميركي. فمن خلال إظهار الوسائل [التعذيبية] التي كان الناسُ يظنّون أنّها حكرٌ على جيوش أنظمةٍ همجيةٍ في طبيعتها، كانت أخبارُ أبو غريب من أقوى التجلّيات على الارتداد الأميركي المعاصر إلى الهمجية المطلقة. فمنذ أن انفجرتْ على الصفحات الأولى م الجرائـد، في نيسان/أبريل 2004، فضيحةُ جلسات التعذيب التي التُقطتْ لها صورٌ فوتوغرافيةٌ وأفلامٌ في سجن أبو غريب العسكري في العراق، ظَهرتْ إلى العلن أمثلةٌ أخرى على السلوك الهمجي لأعضاء في القوات المسلّحة الأميركية، مؤكدةً أنَّ الانحلال الأخلاقي الذي شَهِدَتْ عليه الفضيحةُ المذكورةُ ليس ظاهرةً معزولةً تمّ التخلُّص منها بمجرَّد «اكتشافها.»
وفضلاً عن ذلك، فإنّ الصورَ التي أُعلنتْ ودارت على مرأى العالم ليست إلاّ جزءًا فحسب من الصور في أبو غريب. فوزارة الدفاع الأميركية تمْلك صورًا أخرى لا تقلُّ صدمًا وإثارةً للاشمئزاز، إنْ لم تَفِقها في ذلك، وهي ترْفض كشفَها خشيةَ أن تتعرّض سمعتُها لمزيدٍ من الأذى. لكنّ صورًا كهذه لا تعطي، في كلّ الأحوال، سوى نكهةٍ ملطَّفة لفظاعةٍ لم تُنقلْ منها سوى لحظــاتٍ خاطفة. ولقياس درجة الانحراف في أعمال التعذيب الممارَسة، تنبغي قراءةُ شهادات الضحايــا في إطار التحقيق الــــذي أجرتْه السلطات العسكريةُ في بداية الفضيحة، قبل أن تنْفجر على شاشات التلفزةِ. فتلك الشهاداتُ هي الأقوى على الهمجية في الممارسة، ولقد نشرت الواشنطن بوسط بعضًا من مَحاضرها على موقعها على الإنترنيت.
أظهرتْ تحقيقاتٌ قام بـها صحفيون أميركيون أنّ أعمــــــــــــال التعذيب في أبو غريب تندرج في منطق منهجي يرْفض الاتفاقيـــات الدوليــةَ ويسلــب المعتقليــن إنسانيَّـــتهــم. ففــي سجلّ المصطلحات الجديدة، المُدْرجة تحت تعبير untermenchen (أدنى من مستوى البشر)، ومباشرةً تحت تعبير unlawful combatants (المقاتلين غير الشرعيين) في غوانتانامو، يجب أن نضيف التسميـة الرسميـة التـي تستخدمهـــــــا القواتُ المسلحةُ الأميركيةُ للإشارة إلى موقوفيها في أفغانستان كما في العراق: «persons under control» (أشخاص تحت السيطـرة) أو PUCs- الملفوظة «pucs» (والذين يُضْربون كما تُضْربُ أقراصُ الهوكي على الجليـد!). وقــد أَرْسلـــــتْ إدارةُ بوش، وهي أكثــرُ الإدارات شؤمــًا وشــرّاً في تاريخ الولايات المتحدة، المنطقَ المنافيَ لحقوق الإنسان، كما أَرْسلتْ «سلسلةَ القيادة» التي تدير الشناعــات بعد الأسابيـــع التــي أعقبت 11 أيلول 2001. وحده كشفُ أعمال التعذيب، عبر تسريبات الصور وأفلام الفيديــو إلى وسائل الإعـــلام، هـــو الــذي لم يكن وارداً في البرنامج الأصلي!
هذا ولقد توصّل إلى الخلاصاتِ عينِها التقرير الذي نشرتْه في أيلول/سبتمبر 2005 «المنظمة الأميركية لمراقبة حقوق الإنسان» حول تعذيب الموقوفين العراقيين في القاعدة ميركوري للعمليات، شرقيَّ الفلوجة. فقد كشفتْ هذه الوثيقةُ حقائقَ جديدة تضاف إلى ملفّ همجية قوات الاحتلال إذ جاء فيها:
«يمكن عزْوُ التجاوزات المزعومةِ في هذا التقرير إلى قرار إدارة بوش تجاهُلَ اتفاقيات جنيف في النزاع المسلّح في أفغانستــان. ففي 7 شباط/فبراير 2002، أعلن الرئيس جورج دبليو بوش أنّ اتفاقيات جنيف بخصوص معاملة الأسرى لا تنطبـق إطلاقا على أعضاءِ القاعدة أو جنودِ الطالبان لأنّهم لا يُعتبرون أعطاءً في القوات المسلحة. وأصرّ على أنّ الموقوفين سيعاملون، مع ذلك، «بصورة إنسانية.» وقد أخبر وزير الدفاع دونالد رامسفيلد الصحفيين ذلك اليوم: «الحقيقة أنّ مجموعة الوقائع الموجودة اليوم مع القاعدة والطالبان لم تكن بالضرورة مجمـــوعة الوقائع التي أُخذتْ في الاعتبـــار حين صُمِّمتِ اتفاقياتُ جنيف.»
إن البيانات المقدمة في هذا التقرير دليلٌ إضافي على أنّه كان لقرار إرادة بوش هذا تأثيرٌ عميق على معاملة الأشخاص الموقوفين في العمليات العسكرية في العراق كما في «الحرب الكونية ضدّ الإرهاب» باختصار، سوف يؤدِّي رفضُ تطبيق اتفاقيـــات جنيــف في خليج غوانتانامو وفي أفغانستان إلى تقويــض الالتزام القديم من جانب القوات المسلّحة الأميركية بالقانون الفدرالي وبقوانين النزاعات المسلحة في ما يخصّ المعاملة المناسبة للأسرى.
كما جاء في في التقرير نفسه ما يلي: «.. ثمة أدلّةٌ متزايدةٌ على أن قياديين أميركيين مدنيين ةعسكريين رفيعين اتّخذوا قراراتٍ وأَمْلَوْا سياساتٍ سهّلت انتهاكاتٍ خطيرةً وواسعةً للقانــون. وتوحــي الظروفُ إيحاءً شديداً بأنهم كانوا يعرفــون، أو كان عليهــم أن يعْرفوا، أنّ انتهاكاتٍ كهذه تمّت نتيجة ًلقراراتهم وسياساتهم تلك. وهنـــاك أيضـــا معلوماتٌ متزايدةٌ تشير إلى أنّهـــم، حين وُوجهوا بالأدلّة على حصول تجاوزات بالفعل، امتنعوا عن العمل لوقفها.»
إلا أنّ مسؤوليةَ إدارة بوش عن الفضاعات التي اقترفتْها القواتُ المسلّحةُ الأميركية في أفغانستان والعراق مسألةٌ محسومـــة: وحدَهم مؤيدو الإدارة الأميركية تأييداً مطْلقًا هم الذين يُمكنهــم حتى اللحظة أن يعزوا تلك الفضاعات إلى بعض «الأخطاء المعزولة.» بيْد أنّ المشكلة أخطرُ بكثير: ذلك أنّ الأعمال الهمجية المقترفة في البلدين المغزوَّين بعد 11 أيلول/سبتمبر 2001 تكْشــف ارتدادًا أعمَّ سطاولُ قسما هامّا من المجتمع الأميركي، وتشكِّل إدارة بوش بالذات التعبيرَ الأوضحَ عنه.
إنّه الارتدادُ الذي شدّدتْ عليه الكاتبة الأميركية سوزان سونتاغ في تأمُّلاتها المدهشة لجذور الهمجية التي انكشفتْ في العراق. والحال أنّ أحدًا لم يعلِّق بصورةٍ أَنفَذ ممّا فعلته سونتــاغ على أعمال التعذيب في أبو غريب، وذلك في أحد مقالاتها الأخيرة، المنشورة في أيار/مايو 2004، قبل وفاتها بسبعة أشهر. وهو تعليــق جديرٌ بأن نستشهد بمقاطعَ طويلة منه:
«ما الذي يجْعل بعض الأعمال تمثيلاً [لشيءٍ أعمّ]، خلافًا لأعمـــال أخرى؟ ليست المسألة ما إذا كان التعذيــبُ مورس علـــى يــد أفراد (لا «على يد الجميع» بكلمات أخـــرى)، بل ما إذا كان منهجيّا، مُجازًا، مُتسامحا حياله؛ فكـلُّ الأفعـال صــــــــادرةٌ عن أفراد. وليست المسألة أن نعرف ما إذا كانت أغلبيةٌ أو أقليةٌ من الأميركيين تمارس أفعالاً من هذا النـــــوع، بــل ما إذا كانت طبيعةُ سياسات هذه الإدارة والمراتب التي يتـــــــمّ تكليفُها بوضعها موضعَ التنفيذ تجْعل هذه الأفعالَ مرجَّحـــَةَ الحدوث.
«إذا نظرنا إلى الصور الفوتوغرافية من هذه الزاوية، نجد أنّها نَحْنُ. بتعبير آخر، إنها تعبِّر عن الفساد الأساسي لأيّ احتلالٍ أجنبي، فضلاً عن السياسات المميّزة لإدارة بوش...
«... إنّ فظاعة ما تُظْهره الصور لا يمكن أن تنفصلَ عن فظاعة التقاطها – فيما المرتكبون يتوضَّعون، ويبتهجون، فوق أَسْراهم العاجزين. لقد سبق للجنود الألمان خلال الحرب العالمية الثانية أن التقطوا صوراً للفظاعات التي كانوا يقترفونها في بولندا وروسيا، ولكنْ نادرةٌ جدّا هي الصورُ التي كان الجلاّدون يقفون فيها وسطَ ضحاياهم... وإذا كان هناك ما يُمْكن مقارنتُه بما تُظْهـــره الصورُ [في أبو غريب]، فلعلّها أن تكون بعضَ صور ضحايا اللَّنْش [3] من السُّــود، والتي التُقِطتْ بين ثمانينيات القرن التاسع عشر وثلاثينيات القرن العشرين، وهي تُظْهر أميركيين يبتسمون تحت جسم عارٍ ومشوَّهٍ لرجلٍ أسود أو لامرأةٍ سوداء، مشنوقٍ أو مشنوقةٍ على شجرةٍ وراءهم...
«حين تتأمَّلون هذه الصور، تتساءلون: كيف يُمكن أحدًا أن يبتسمَ إزاء الام كائن بشريٍّ آخر وإزاء مهانته؟ كيف يَمكن إطلاقُ كلاب حراسة على الأعضاء التناسليـــة لأسرى عراةٍ ومنكمشيــــن، وعلى سيقانهم؟ كيف يُمكن إجبارُ أسرى مقيَّدين، ورؤوسُهم مغطّاة، على الاستمناء أو تصنُّعِ امتصاص أحدهـــم أداةَ الآخر التناسلية؟ وإنكم لَتَشعرون بالسذاجة إذ تطْرحـون هـــــذه الأسئلة، لأنّ الجواب هو بالضبط أنّ أناساً يقترفون ذلك حقّاً ضدّ أناس آخرين. إنّ الاغتصاب والألم اللذيْن يتمّ تعريضُ الأجزاء التناسلية لهما هما بين أشكال التعذيب الأكثر شيوعًا. وهــذا لا ينْطبق فقط على معسكرات الاعتقال النازية، وعلى أبو غريب حين كان هذا السجنُ بإدارة صدّام حسين، بل إنّ الأميركييــن، هم أيضا، فعلوا ذلك ويفعلونه حين يقال لهم، أو يجري إشعارُهم. بأنّ مَنْ يتسلطون سلطةً مطلقة عليهم يستحقـــــون الإذلالَ والتعذيب. وإنهم ليفعلون ذلك حين يُحْمَلون على الإيمان بأن الناس الذين يعذِّبونهم هُمْ مِن سلالةٍ أو دينٍ أدنـــى. ذلك أنّ معنى هذه الصورة ليس فقط أنّ تلك الأعمال قد مورست فعلاً، بل إنّ مرتكبيها كما يبدو لم يكونــوا يشعرون قطّ أنّ ثمة ما يَعِيبِ في ما تُظْهره تلك الصورُ.
«وثمة ما هو أشدُّ إثارةً للغضب أيضا، لأنّ الصور كانت معدّةً للنشر ولأن يراها الكثيرُ من الأشخاص: إذن فقد كان الأمرُ مسلِّيـــا. وفكرةُ هذه التسلية تشكِّل، للأسف، وبصورة متزايدة – خلافًا لما يقوله الرئيس بوش للعالم – جزءًا من «طبيعة أميركا الحقيقية» و«قلب أميركا الحقيقي.» إنّه ليصعبُ قياسُ القبول المتنامي للوحشية في الحياة الأميركية، لكنّهاتنجلي في كل مكـــان... لقد باتت أميركا بلدًا تُعتبر فيها الاستيهاماتُ (الفنتازية) وممارسةُ العنف لهوًا وتسليةً.»
يعد أن تكشّفت فضيحة أبوغريب على الملإ، جاء تعليقُ مانشيتات الصحافة في العراق، وفي العالم العربي، وفي مجمل العالم الإسلامي، بالاجماع تقريبا، على الشكل التالي: «إنّ حريتهـــم وديموقراطيتَهم تساويان التعذيبَ والبورنوغرافيا.» كان ذلك بعد عام من سقوط بغداد، الذي صاحبه نهبُ المدينــةِ وتــراثِ البلد الثقافي على مرأى قوات الاحتلال الأميريكية – وهو نهـــــــبٌ لا مثيلَ له منذ ذلك النّهب الذي ارتكبتْه جحافلُ هولاكو خان المغوليةُ في العام 1258. غير أنّ جحافل هولاكو، خلافا لقوات جورج دبليو بـــــــوش، لم تزْعم إطلاقا أنّها تجسِّد الـ حضارة (بأل التعريف)، بل كانت تنْتمي في حقيقة الأمر إلى مجتمع أكثر فظاظةً بكثيرٍ من ذاك الذي كانت تجتاح أرضَه. فقد كان سكّان الخلافة العباسية، التي شَهِدَتِ الحضارة العربية – الإسلامية في ظلّها عصرَها الذهبيَّ في المشرق قبل بدء الانحطـاط الذي لمتتخلص منه إلى الآن، يعتبرون المغول همجًا. إنّ جحافل جورج بوش – أو قياداتها السياسية والعسكرية على الأقل – تتزيّا بكلّ الأزياء المادية للحضارة الغربية الحديثة، وإن لم يلهمها تراثُ تلك الحضارة الأخلاقيُّ والروحيُّ. فـ«المنطقة الخضراء» التي تحْبس سلطات الاحتلال نفسها فيها [داخــل بغـــداد] – أو «سلطةُ التحالف المؤقتة» سابقًا – صُمِّمت على صورة تلك «الجماعات المسوَّرّة» («gated communities») الواردِ ذكرُها في الفصل السابق. وليس علينا سوى أن نقــرأَ وصفَ مراسل الواشنطن بوسط لها لكي نققتنع بذلك:
«إن الحياة داخل «المنطقة الخضراء» ذذاتِ الحماية القصوى – ويسمّيها بعضُ مستخدمي «سلطةالتحالف المؤقتة،» مازحين، «المدينة الزُّمردية»- لا تُشبه الحياة في باقي أنحاء بغداد إلاّ قليــــلاً. فالكهرباءُ متوفرةٌ باستمرار، والباصاتُ البرّاقة تنْقل الركّاب بسرعة فائقة، والمقاهي في الهواء الطّلْق تُفتح حتى ســاعةٍ متأخرة من الليل. وليس ثمة اهتمامٌ كبيرٌ بالالتزام بالتقاليــــد الإسلامية: فالبيرة تُصبُّ بغزارةٍ في المطاعم، والنساءُ يتجولن بالشورت، والتشيزبرغر بالبايكون [لحم الخنزير المقدَّد] على قائمة طعام الغذاء الذي تتناوله سلطةُ التحالف المؤقتة. «إنه أشبه بكوكبٍ آخر»؛ هذا ما يقوله أكيركيى من أصل عراقي ذو رتبةٍ عاليةٍ في سلطة التحالف، يعيش في 4المنطقة الخضراء» ولكنه يخاطر بانتظام بمغادرتها لرؤية أقاربه. «إنها مفصولة عن العراق الحقيقي.»
إنها مفارقة خارقة، بعد نهب بغداد الجديد، أن يتوصّل سكّان العراق المحتل، وسكّان العالم الإسلامي بشكل عامّ، إلى اعتبار القوات التي تتباهى بلادُها بأنها تمثّل «الحضارة» وبأنها تنْقل هــذه الحضارة إلى المسلمين (تعُدُّهم همجيين)، تجسيدا لشكلٍ حديث ومنحرف من الهمجية. إنّ عصر «الإمبريالية الجديدة,» الذي كان أنصاره يتخيلون أنّه لا يقل «مجداً» عن عصر إمبرياليية القرن التاسع عشر، قد بدأ بصورةٍ هي من السوءِ بمكــانٍ بحيث نأْمل أملاً كبيراً في أن يكون أقصر بكثير من سابقـــــه.

الثياب الجديدةلـ«الرسالة التمدنية»
كان توني بليـــر، الوزيــــــــر الأول العمّالـــــي البريطانــي، هو الذي عبّر، وبأكثـــر ممّا عبّر جورج بــــــــوش وكاتبوا خطبه، وبالصورة الأكثر فجاجة، عن المذهب النيوإمبريالي الذي بات الخطــابَ الرسميَّ لتحالفه الحماسي مع الإدارةِ الأكثرِ رجعيـــةً في تاريخ الولايات المتحدة أو الغرب المعاصر. كان ذلك في خطاب ألقاه بليــر في 2 تشرين الأول/أكتوبر 2001، بعد مرور ثلاثة أسابيع على اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر ، أمام مؤتمــر حزبه السنوي المنعقد في برايْتن. وهو خطابٌ كَتََبه بنفسـه، «خلافًا للعادة» وفقا لصحيفة الغارديان:
«أظن، إذنْ، أنّها معركة لأجل الحرية. وأريدُ أن أجعل منها معركةً من أجل العدالة أيضاً. العدالة ليس فقط لمعاقبة الجناة، بــــل أيضا لنقل قيم الديموقراطية والحرية هذه إلى العـــالم أجمــع...
«إنّ المتضوِّرين جوعا، والبؤساء، والمحرومين، والجهلةَ، أولئك الذين يعيشون في الحاجة والبؤس، من صحاري أفريقيا الشمالية حتى مدن الصفيح في غزة وسلاسلِ جبال أفغانستــــــان... هؤلاء أيضا هم قضيتُنا.
«إنّها لحظةٌ يجب استناحُها. لقد تمّ هزُّ المشكال، والقِطعُ تتحـرك، وبعد قليل، سوف تستقرّ من جديد. [لكنْ] قبل أن يحصـــل ذلك، لنُعِدْ تنظيمَ هذا العالم من حولنا.»
«إنه خطابٌ مسيحانيّ.» هكذا علَّق بإعجاب نيال فرغوسن، المتملِّقُ الأكاديميُّ البريطاني الرئيسي لـ«الإمبريالية الجديدة،» كمــا يسمِّها هو بالذات، مُوضحاً على الفور أنّ الولايات المتحدة [...] هي البلدُ الوحيدُ القادرُ على لعب هذا الدور في العالم اليــــوم. وأضاف هذا المؤرِّخ أنّه «يصعب التفكير في رئيسٍ للوزراء منذ غلادستون مستعدٍّ إلى هذا الحدّ لأن يجعل ممّا يُخيَّــــل إلى السامع، وبصورة لافتة، فكَّرنا مليّا، فسنرى أنّ لذلك أكثرَ من شبهٍ عابر بمشروع الفيكتوريين القاضي بنقل «حضارتهم» إلى العالم.»
كان الغارديان قد التقطت الشّبهَ بين خطابيْ بلير وغلادستون. ولكنّ مَنْ أدْلى بالخطاب الأكثر تماثلا مع خطابيْ بلير وبوش هو الوزير جوزيف تشامبرلاين. ولقد استقال تشامبرلاين من حكومة غلادستون عامَ 1886، في دلالة على مشاعره الإمبريالية. فقد كان إيديولوجيَّ «الإمبريالية» الرئيسيَّ في الحقبة الصناعية في نهاية القرن التاسـع عشـر، ولاسيّمـا حين تولّى وزارة المستعمـرات بين عاميْ 1895 و1903. ففي خطاب مشهور حول التصوّر الجديد للإمبراطورية، ألقاه عامَ 1897، أعلن التالي:
«لقد بلغنا الآن الطورَ الثالث من تاريخنا، والتصورَ الدقيقَ لإمبراطوريتنا... ولقد أخلى حسُّ الامتلاكِ المكانَ لشعورٍ مختلـــف، هو حسُّ الواجب. فنحن نحسّ الآن أنّ حُكْمنا لتلك الأقاليم لا يمكن تبريره إلاّ إذا استطعنا أن نبيِّن أنّه يضيف إلى سعادة الناس وازدهارهم. وأنا أؤكد أن حُكْمنا يقدم، بل وقدّم فعـــلاً، الأمنَ والسلامَ والازدهار النسبي إلى بلدان لم تعرف تلك النِّعَمَ من قبل.
«وإذ نتنكّب هذا العملَ الحضاري، فإنّنا نُنجزُ ما أظنُّ أنّه رسالتُنا القومية. وإنّنا لنجدُ إمكانية لممارسة هذه القدرات والصفات التي جعلتْ منّا عِرْقًا حاكماً عظيماً... لا شكّ في أنه حيـن تمت تلك الفتوحاتُ في البداية، سال الدمُ، ووقعت خسائرُ فــي الأرواح بين السكّان الأصليين، وخسائرُ أثمن أيضـا في أرواح منْ تمّ إرسالهم لكي يفرضوا على تلك البلدان نوعاً من النظام المنضبط. ولكنْ ينْبغي أن نتذكر أنّ ذلك هو شرطُ الرســـالة التي علينا الاضطلاعُ بها...
«... لا يمكنكم أن تصْنعوا العُجَّة من دون أن تكْسروا بيْضاً. ولا يُمكنكم القضاء على ممارسات الهمجية والعبودية والخرافة، التي عاثت فسادا في أفريقيا طوال قرون، ومن دون استخدام القوة. ولكن إذا وازنتم بنزاهة، بين ما تربحه البشرية وبين الثمن الذي ينبغي أن ندفعه لقاء ذلك، فإنِّي أظنّ أنّكم سوف تبتهجون بنتيجةِ حملاتٍ كتلك التي خيضت في الفترة الأخيرة...»
بعد أكثر من قرن، يمكننا أن نسمع الحجج نفسها، والكلمات نفسها تقريبا (رغم بعض التأثيرات الحديثة للرقابة الذاتية)، علــــى لسان أبطال الحملات الإمبراطورية الجدية. ويبدو أنّ مــــــــــرور الزمن قد محا قليلا العار والهوان اللذين كانا يصيبان ذلك النوع من الادّعاءات في الحقبة التي تلت نزع الاستعمار. بـــل كان المرءُ سيظنّ، في الواقع، أنّ الخطاب الإمبريالي من ذلك النوع الخاص بنهاية القرن التاسع عشر قد اضمحلّ إلى الأبد. فالحال أنه قد كان الخطاب الذي قاد ليوبولد الثاني، ملكَ البلجيــــك، إلى أن يقول في العام 1876، قبل أن يَهلك حوالي عشرة ملايين كونغولي بعد سنوات قليلة على مذْبح مصالحه الشخصية، في أحد المشاهد الأقسى في تاريخ الهمجية الكـولـونياليــة – في قلب الظلام:
«أن نفْتح أمام الحضارة الجزءَ الوحيد من الكرة الذي لم تدْخلْه إلى الآن، وأن نخترق الظلمات التي تكتنفِ شعوبا بكاملها: إنّ ذلك، إن كان لي أن أتجرأعلى القول، لهو حملة [صليبية] جديــــرة بقرن التقدم هذا. إنّها قضيةُ رفع راية الحضارة في أرض أفريقيا الوسطى، والنضال ضدّ تجار العبيد.»
ومع ذلك، فهوذا الخطاب عينه يظهر مجددًا بمناسبة الحروب الإمبراطورية الجديدة التي يخوضها الثنائيِّ بــوش-بليــر، بطريــقةٍ كان سيقدِّرها كثيرا المدافون عن «القدر الجليّ» لـ «العراق الأنغلو-سكسوني» في القرن التاسع عشر [4] فلنعتـــــــــرف بأن الزمن قد تغيّر إلى حدِّ أنّ ذلك الخطاب لم يعد يمكن أن يكون الحجّة الرئيسية، كي لا نقول الذريعة الرئيسية، المستخدمة لتبرير غزو العراق. ففي غياب إبادة جماعية جارية، ما كان الرأيان العامّان الأميركيُّ والبريطانيُّ سيوافقان على أن ينخرط جيشا بلديهما بكثافة في حرب كبيرةٍ الهدف الوحيد منها إطاحة طاغية وإرساء نظام ديموقراطي.
يُمكن أن نضيف أيضا أنّ حجّة «الرسالة المتمدنة،» حتى في القرن التاسع عشر، لم تكن يوما هي التي حرّكت الحكّام حقاً أو أقنعت شعوبهم. فهي لم تكن تُستخدم إلاّ كوسيلة منافقةٍ لإراحــــــــة ضمائرهم فيمل هم يقومون بحملات استعمارية تُمليها في الواقع المصالح الاقتصادية [...] لكنّ هذه الحجة لم تعد تستطيع أن تعبِّئ الناس أيضا؛ ذلك أنّ تطوُّر الوعي وتقدم «الحضارة» قاد الشعوب إلى الامتناع عن الميل مجددا إلى خـوض حروب استعمارية، وإلى رؤية جنودها يَقتلون ويُقتلون، خدمةً لمصالح اقتصادية صرف.
هذا هو السبب في أنّ الحجّة الأساسية، التي استُحضرت منذ 11 أيلول/سبتمبر 2001، هي حجّة الإرهاب. ذلك أنّ «الحرب ضد الإرهاب» هو العنوان الشامل الذي خيضت تحته حربا أفغانستان والعراق. وقد كانت حجّةً يمكن تصديقها بالنسبـــة إلــــى التدخل في أفغانستان، بمقدار ما كانت شبكة القاعدة منغرسة هناك [...] لكنها كانت حجة كاذبة تماما في حالـة العـراق، على ما واصلت الحركة العالمية المناهضة للحرب تأكيده قبل الحرب، وبلغ أوجه في 15 شباط/فبراير 2003 وسط تعبئة عالمية غير مسبوقة. وسرعان ما ثبتت صحّة مواقف تلك الحركة بعد احتلال العراق.
إنّ ذريعة الإرهاب وخرافة «أسلحة الدمار الشامل» المخبّأةِ في العراق تمكّنتا من إقناع غالبية الرأي العام الأميركي – الذي صدمه 11 أيلول/سبتمبر 2001 ومناخُ الخوف الذي غذّته عمدًا إدارة بوش بتكرار حالات الإنذار القصوى «الصفراء» و«البرتقالية» - بمزايا غزو العراق لأجل إطاحة صدّام حسين وإزالةِ تلك الأسلحة الوهمية. لكنّهما لم تكونا كافيتيْن لتبرير الإحتلال المديد للبلد، وهو احتلال كان في قلب هذا المشروع طبعـا منذ البداية. فلقد شرح معلقون لا يحصى عددهم، ومن بينهم كاتب هذه السطور، أنّ هدف جورج دبليو بوش و«مشــــــروع من أجل قرن أميركي جديد» - وهو مجموعة الضغط الرئيسية لاجتياح العراق، ومنها انبثق العديد من أعضاء إدارة بوش ومعاونيها – كان أولاً وقبل كل شيء هدفاً استراتيجيا، بالمعنى الواسع للكلمة.
إن الرابط بين سيطرة الولايات المتحدة على العراق، والهدف الآيل إلى «قرنٍ أميركي» جديد، يعود إلى الأهمية، الإقتصادية والعسكرية في آن معاً، للتحكم بنفط الخليج العربي-الفارسي. فهـــذا النفط يمثّل ثلثي الاحتياطي العالمي لمصدر الطاقة هذا، الذي يُتوقع نضوبه خلال القرن الحادي والعشرين، وهو ما يزيــــد إلى حدٍّ بعيد من قيمة النفط الاستراتيجية وثمنه. فبالوصــاية المباشرة التي تمارسها الولايات المتحدة على المملكة السعودية وإمارتي الكويت وقطر، حيث هي موجودة عسكريا، باتت الولايات المتحدة تتحكم بثلث الاحتياطي العالمي المثبّت proven reserves من النفط. فإذا أضيف العراق، فستصل الحصة الواقعة تحت سيطرتها المباشرة إلى 43% - والأمر هنا لا يتعلق إلاّ بالاحتياطي المثبّت؛ ذلك أنّ حصة تلك البلدان، وحصة العراق بوجه خاص، من الاحتياطي المرجَّح probable reserves ، هي حصةٌ أكبر.
إن الرهان الاستراتيجي الأهمّ. هو إذن، السيطرة على العراق إلى مدًى بعيد، ولا شيء أقلّ من ذلك. ومن ثم كان علـــى واشنطــــن أن تقدّم منذ البداية ذريعة تكمل بها حكايتها الملفّقة عــن الإرهاب، بهدف تبرير حضور طويل الأمد في ذلك البلد. ولقد كانت حجّةُ «الدمقرطة» هي أفضل خيار واضح. ففي 26 شباط/فبراير 2003 أيْ قبل أقل من شهر على اجتياح العـــــــراق، ألقى جورج دبليو بوش خطاباً عرضَ برنامجه للعراق والشرق الأوسط أمام «الأميركان إنتربرايز إنستيتيوت» وهي مؤسسة استشارية معروفة بكونها مأوى «محافظين جُدد» تباهى الرئيس الأميركيُّ بـأنه «استعار» من بينهم عشرين شخصــاً لإدارته. وبعد أن خصَّص بوش القسم الأول من خطابه لـ«الحرب على الارهاب» ولأسلحة الدمار الشامل، كما كانت تقضي الحاجةُ، أضاف هذه الملاحظة المعبِّرةَ جدًّ:
«إنّ إعادة إعمار العراق ستتطلّب التزامًا طويلَ الأمد من قِبل عدة أمم، من بينها أُمّتنا: سوف نبقى في العراق ما دام ذلك ضروريّاً، ومن دون زيادة يوم إضافيّ واحد. لقد وعدتْ أميركا بهذا النوع من الالتزام سابقا، ووفتْ به، خلال السلام الذي تلا حرباً عالميةً. فبعد هزيمة الأعداء، لم نتركْ وراءنا جيوش احتـلال، بل دساتير وبرلمانات. وأرسينا جوّا من الأمن، تمكّن فيــه قادة محليون مسؤولون، يتمتّعون بروح الإصلاح، من أن يبْنوا مؤسسات للحرية قادرة على الاستمرار. ولقد وجدت الحريـــة مقرّا دائما لها في مجتمعات أنتجتْ – في حقبة سابقةٍ – الفاشية والنزعة العسكرية. كان هناك زمنٌ يقول فيه الكثيـــرون إنّ ثقافتي اليابان وألمانيا عاجزتان عن تعزيز القيم الديموقراطيـــة. حسناً، لقد كانوا مُخطئين. وثمة منْ يقولـون الشيء نفسَه عن العراق اليوم، وهم أيضاً مخطئون.»
باختصار، لقد وعد بوش بألاّ تبْقى أميركا في العراق إلاّ الوقت الضروريّ، مثلما فعلتْ بعد العام 1945 في ألمانيا واليابان... ولكنّ هذين بلدين لا تزال الولايات المتحدة تقيم فيهما قواعد عسكرية بعد ستين عاماً! ولقد تمت الإشارة باستمرار إلى مثال هاتين الدولتين المهزومتين الكُبريين في الحرب العالمية الثانية، وذلك خلال المرحلة التمهيدية لغزو العراق وفي المرحلة الأولى من احتلاله. بل إنّ مؤسسة راندْ – وهي إحدى المؤسسات الاستشارية الرئيسية في البانتاغون، والتي كان دونالـد رامسفيـــــلد قد ترأسها خلال ولاية ريغان، وكانت كوندوليــــــــزا راير عضواً في مجلس إدارتها في العقد اللاحق – أصدرتْ كتابــــا مخصّصا لتجارب الولايات المتحدة السابقة في مجال «بناء الدول» انطلاقا من حالتيْ ألمانيا واليابان.
روى نُووا فيلدمان، وهو أستاذُ قانون في جامعة نيويورك، ويعمل «مستشارا دستوريا» لدى سلطات الاحتلال في العراق، نادرة معبّرة في هذا الخصوص. كان ذلك في أيــار/مايــــو 2003، في الطائرة التي تُقِلّه إلى العراق مع عشرات من المستشارين الآخرين المتخصصين في ميادين متنوعة قال:
«... نظرتُ من حوالي إلى زملائي الجدد. المستيقظون منهم كانوا يقرأون بانتباه. ولكنّني، حين رأيتُ ما كانوا يقرأونه، اعترتني القشعريرةُ... إذْ لم يبدُ أنّ بينهم شخصًا واحداً يشعر بالحاجة إلى تجديد معرفته بالعراق أو منطقة الخليج. كانوا [كلهــم] يقرأون، من دون استثناء، كتبا جديدة عن احتلال أميركي لألمانيا واليابان، وإعادة بنائها لهما.»
إذن، اضطلعت الولايات المتحدةُ بعملها في العراق، يُلهمها لإيمانٌ بأنها تعيد هناك ما سبق أن فعلته عام 1945. فإذا وضعنا جانبا الطبيعة الغريبة في ذلك الوهم، فإن بإمكاننا ملاحظة فرقٍ كبير لم يكن يُمكن أن يَخفى على أحد، أيّا كــان متقداً حماســةً: ففــي عام 1945، كانت الولايات المتحدة زمن روزفيلت تساهم بصورة حاسمة في كتابة مسوّدة ميثاق الأمم المتحدة، الذي بات حَجَر الزاوية في القانون الدولي العامّ. ولكن في عام 2003، كانت الولايات المتحدة عينها تنتهك، بصحبة المملكة المتحدة، القانـــــون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وبأكثر الأشكال صفاقةً.
من هذه الزاوية في حدّ ذاتها، شكّل غزوُ العراق مساهمة كبرى في إحلال «شريعة الغاب» محلّ «سيادة القانون» في العلاقات الدولية، تماما على عكس ما كان قد وَعَدَ به جورج بوش الأبُ فــي العام 1990. ومن وجهة النظر هذه بالذات، يمثِّل غزوُ العراق، وهو ذروةٌ التفرُّد الهيْمنيّ (الذي حلّلناه سابقا)، خطوةً حاسمةً في ارتداد «مجتمع الأمم» [الولايات المتحدة] من «الحضارة» إلى «الهمجية.»
باريس

ترجمة: كميل داغر
مجلة الاداب- العدد 3 / 4 مارس –ابريل 2006



#جلبير_الأشقر (هاشتاغ)       Gilbert_Achcar#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الانطباعات الأولى حول فوز -حركة حماس- الانتخابي
- إحتلال العراق في سياسة واشنطن الإمبراطورية الراهنة


المزيد.....




- سقط سرواله فجأة.. عمدة مدينة كولومبية يتعرض لموقف محرج أثناء ...
- -الركوب على النيازك-.. فرضية لطريقة تنقّل الكائنات الفضائية ...
- انتقادات واسعة لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بسبب تصريح ...
- عقوبات أمريكية جديدة على إيران ضد منفذي هجمات سيبرانية
- اتحاد الجزائر يطالب الـ-كاف- باعتباره فائزا أمام نهضة بركان ...
- الاتحاد الأوروبي يوافق على إنشاء قوة رد سريع مشتركة
- موقع عبري: إسرائيل لم تحقق الأهداف الأساسية بعد 200 يوم من ا ...
- رئيسي يهدد إسرائيل بأن لن يبقى منها شيء إذا ارتكبت خطأ آخر ض ...
- بريطانيا.. الاستماع لدعوى مؤسستين حقوقيتين بوقف تزويد إسرائي ...
- البنتاغون: الحزمة الجديدة من المساعدات لأوكرانيا ستغطي احتيا ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جلبير الأشقر - همجية - الرسالة المتمدنة