• / أمستردام
منذ اندلاع الحرب الأنكلو – أمريكية على العراق قبل عشرين يوماً والعالم يستفيق كل صباح على جملة من " الأخبار المتناقضة " التي أربكت الخبراء والمحللين العسكريين على وجه التحديد. فهم لا يستطيعون الركون إلى الأخبار التي يسربها الطرفان المتحاربان، ومجمل الأخبار والتقارير والبيانات العسكرية التي تصدر من قطعات التحالف من جهة، والعراق من جهة ثانية تؤكد بالدليل القاطع درجة التمويه العالية، والتكتم الشديد على ما يدور في جبهات المواجهة الحقيقية في الحرب الدائرة ضد العراق. والسبب الرئيس في بث أو تسريب هذه الأخبار غير المؤكدة من قبل قطعات التحالف هو ممارسة الحرب الدعائية التي تبتغي إرباك الخصم، وتحطيم معنوياته، وقذفه في دائرة القلق، والتشويش، والذعر. والعراق من جهته يمارس نوعاً آخر من الحرب الدعائية المضادة التي تحاول أن تفنّد هذه الأخبار والتقارير التي تتناقلها وسائل الإعلام، كما أنها تحاول التأثير على معنويات الجنود الأمريكيين والبريطانيين مستعينين ببعض الأخبار، والتصريحات، والتقارير، والتغطيات الإعلامية المصورة من ميادين المعارك التي تشتد يوماً بعد آخر. وقد تكتم العراق على العديد من الأخبار الصحيحة، ومنها عبور قطعات التحالف نهر الفرات، واحتلالها لأجزاء كبيرة من الناصرية، والنجف، وكربلاء، وربما يكون الخبر الذي أعلنه الصحاف بعدم احتلال مطار صدام الدولي من قبل الأمريكان هي كذبة دعائية كبيرة، خصوصاً وقد شاهدنا بأم أعيننا جنود الاحتلال وهم يتجولون في صالة الشرف الكبرى، فهل نصدّق أعيننا أم نقول إنها محاولة دعائية للتمويه على بقية القطعات الأنكلو – أمريكية والرأي العام العربي والعالمي؟ نستطيع أن نستنتج بأن دول التحالف الذي تقوده أمريكا في حربها ضد العراق قد تفوقت في سلسلة طويلة من الأكاذيب، أو التمويهات المتعمدة من أجل فرض نوع من الحرب النفسية المدمرة على العراقيين، مقاتلين وسكاناً عاديين، وقد أثبتت الوقائع أن الماكنة الإعلامية الإنكلو – أمريكية قد فقدت مصداقيتها، ولا أريد أن أقدّم البراهين، والحجج، والأدلة الدامغة التي جمّعتها بنفسي خلال أيام الحرب المنصرمة، ولكنني سأستعين بمراسل صحيفة الـ " ها آرتس " الإسرائيلية، وهو ليس محايداً كما هو معروف، وإنما يصطف إلى جانب قطعات التحالف الإنكلو – أمريكي. يقول داني روبرشتاين متمترساً خلف وجهة النظر الفلسطينية للحرب العدوانية ضد العراق، بأن هذه الحرب تذكرنا باليومين الأولين من حرب " الأيام الستة " عندما كنا نستمع إلى صوت المذيع المصري أحمد سعيد الذي يتفجر حماسة، والذي كان يُعد في حينها النجم الأبرز في إذاعة " صوت العرب " القاهرية التي كانت تبث أكاذيبها الصارخة عن الانتصارات الوهمية للجيوش العربية على الجيش الإسرائيلي. هذا ما يعتقده داني روبنشتاين وإن جاء على لسان بعض المواطنين الفلسطينيين. يقول داني بأن القنوات الفضائية التي تستأثر باهتمام الشعب الفلسطيني، ويجدون فيها درجة عالية من المصداقية هي الـ " بي بي سي " و " فوكس نيوز " و " سي أن أن " ولكنها الآن لا تختلف عن المحطات الإذاعية العربية قبل أربعة عقود من حيث ترويجها للأكاذيب المفضوحة. وقد جمعتْ مدرسة بيت حنينا الإعلامية الفلسطينية عدداً من هذه الأخبار والتقارير الأمريكية الكاذبة، والمضللة في الأيام الأولى من الحرب. ففي فجر يوم 20-04-2003 انشغلت أغلب وسائل الإعلام العربية والعالمية بخبر مقتل صدام حسين أو إصابته بجروح بليغة، لكنه ظهر على شاشة التلفزيون مفنداً هذا الخبر الملفق تاركاً الخبراء يحللون نبرات صوته، ومعالم وجهه، وسبب وضعه نظارة طبية سميكة على عينيه المتعبتين.كما أذاعت العديد من القنوات الفضائية خبر هروب طارق عزيز، نائب رئيس الوزراء العراقي إلى إقليم كردستان، ثم تبيّن بعد ساعات أن الخبر كاذب، إذ ظهر طارق عزيز في مؤتمر صحفي وهو يسخر من هذه الأكذوبة الفاضحة. وبعدها بمدة قصيرة جداً أُذيع خبر لجوء والدة عزة الدوري إلى إقليم كردستان، وتبين بعد ساعات محدودة أن الخبر عارٍ عن الصحة. ثم أذاعت القنوات الفضائية نفسها خبر مقتل ثلاثة من أبرز مساعدي صدام حسين وهم عزة الدوري، وطه ياسين رمضان، وعلي حسن المجيد، ثم تبين ن هذا الخبر لا يخرج عن دائرة الحرب النفسية الدعائية التي تبتغي الحط من معنويات الجيش العراقي خاصة والشعب العراقي عامة. ثم بُث خبر احتمال إصابة قصي وعدي اللذين يرجح وجودهما مع أبيهما أثناء حادثة قصف الملجأ، لكن ظهورهما غير مرة على الشاشة قبر هذه الشائعة في مهدها. وفي الأيام الأولى من إعلان الحرب أشيعت العديد من الأخبار الكاذبة، ولعل أبرزها احتلال أم قصر، ثم سقوط الفاو، لكنهما لم يسقطا إلا بعد مرور عدة أيام. كما أُعلن خبر استسلام الفرقة 51 مع قائدها، ثم تبين عدم صحة هذا الادعاء عندما ظهر الجنرال الهاشمي في لقاء مع قناة الجزيرة، وأكد أن ألوية فرقته تقاتل الأعداء بشرسة نادرة. وفي يوم أمس، الاثنين، 7-4 أذيع على نطاق واسع خبر مقتل علي حسن المجيد، ابن عم الرئيس، والمكلف بالدفاع عن المنطقة الجنوبية، وبالرغم من أن الخبر لم يتأكد بعد إلا أنه انتشر انتشار النار في الهشيم من دون أية أدلة أو أسانيد أو صور تقتل الشك باليقين. كما تناقلت أغلب وكالات الأنباء ومحطات التلفزيون في العالم خبر اجتياح القطعات الأمريكية إلى بغداد يوم أمس، السابع من أبريل " نيسان " وسيطرتها على أحد القصور الرئاسية، ووزارتي الخارجية والإعلام، وفندق الرشيد، ثم تبين بعد ساعات محدودة بأن الأمريكان قد قاموا بغارة مفاجئة على قصر رئاسي، لكنهم لم يعبروا الجسر المعلّق، وأن نقطة انطلاقهم كانت من هور رجب في الدورة، وقد تكبد الطرفان بعض الخسائر لكن القوات الأمريكية قفلت راجعة إلى أماكن انطلاقها، وأن العملية برمتها مجرد " استعراض للقوة " وربما تكون رسالة واضحة إلى القيادة العراقية، والشعب العراقي بأن الأمريكان قادرون على الوصول إلى أهم المناطق الحساسة في بغداد، وربما تكون أيضاً محاولة استطلاعية لجس نبض الدفاعات العراقية في بعض محاور التقدم المحتملة في معركة بغداد الحاسمة. لذلك نستطيع الاستنتاج بأن الأمريكان يعولون على الحرب الإعلامية أكثر من تعويلهم على العمليات العسكرية على أهميتها في حسم هذه الحرب غير المتكافئة. فهذه الشائعات والأخبار الملفقة قد تحدث ثغرة في جدار السد المتين الذي يفضي إلى الانهيار، وإحداث الطوفان الكبير الذي لا تُحمد عقباه.