أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالحق فيكري الكوش - الى طبيبة نبيلة : شكرا لأنه أمكنني أن أطل على الحياة من وصاياك..















المزيد.....

الى طبيبة نبيلة : شكرا لأنه أمكنني أن أطل على الحياة من وصاياك..


عبدالحق فيكري الكوش

الحوار المتمدن-العدد: 6413 - 2019 / 11 / 19 - 00:05
المحور: الادب والفن
    



يقول محمود درويش : "وَمن مُـتَعِ الدُّنيا جُلوسُكَ خاليًا وحيدًا سِوى من قهوَةٍ وكِتَاب"، لكني أضيف أن متعة الحياة هي أن تجالس "امرأة" تضيف بعض الملح إلى الحياة ، أو ما تبقى من حياتنا في لحظة مفصلية تشبه الانتقال من ضفة إلى أخرى عن طريق عبور جسر ضيق ، هو وسيلة الانتقال الوحيدة..
هو حظ أن نكون على موعد مع امرأة تضيف هذا الملح إلى حياتنا المنضبطة على إيقاعات التكرار والمزاحية، وأن يرتب القدر لنا زيارة مفاجئة إلى عيادة وبدون سابق إعلام، وأنا المتعب بمحاولات فهم جسدي الذي تحدث فيه أشياء غريبة وغير مفهومة ومتناقضة..
ويحدث في هذه اللحظات التي نكون فيها تحت عناية "امرأة طبيبة" أن يحدث لنا لقاء مع الحقيقة التي نحاول أن نفر منها أو نتجاهلها.. وخصوصا إن كان الشخص "المتعب" مزاجي –مثلي- لا يؤمن بالانضباط أعراف ونواميس القبيلة..
الحقيقة التي تغادر فجأة من شفتي امرأة متسلّقة كل حواجز المعنى .. على شكل كلمات صارمة تضبط الزمن على إيقاع جديد وتعيد ترتيب الوقت من جديد، لتخترق بهدوء وحذر شديد جدار النفس الصلب، ولتستقر في العمق مثل رشفة ماء تسقط على نبتة عطشى ..
نعم امرأة يمكن أن توقف الزمن وتغير أقدارنا ونمط تفكيرنا وطريقة عيشنا..
وإن كانت طبيبة، يصبح الزمن مختلفا، لأننا نصبح مجبرين على عبور الجسر الذي لم ننتبه إليه، إلى الضفة الأخرى ..
ضفة الممكن من الحياة، لا أقل ولا أكثر..
خاطبتني الطبيبة بلغة متفائلة وصريحة وصارمة، فبدأت أستيقظ مني رويدا ورويدا.. و خفيفا، فأحسست بحاجتي إلى إعادة ترتيب فِيزْيائِيَّةِ الوَقْتِ من جديد، في هذه اللحظات التي ترسم لي فيها هذه المرأة النبيلة خارطة جديدة للوقت، تلك التي أصغيت لها لها بإمعان واحترام خارج المألوف ..
هي امرأة لا تشبه النساء ..
هي سيدة نبيلة ترتدي ثياب نوارس بيضاء في يوم أحد، حدث أن ضربت لي موعدا وأنا أحمل في قلبي كثيرا من الضباب و في جسدي كثيرا التعب ، فخرقت القواعد المعروفة، وكان يوم عطلتها : الأحد الذي لا يشبه الأحد ! أو عُطْلَةُ كُلِّ شيء بوصف محمود درويش.
كانت كريمة وأصيلة، سافرت بي عبر زقاق ضيق ومتسع، بعيدا عن دخان المدينة ومداخنها.. بعيدا عن العزف المنفرد على آلة موسيقية واحد، وبعيدا عن عاداتي السيئة التي أصبحت طقوسي اليومية..
ثم يحدث -خلال هذه اللحظات الفارقة - أن شاهدت نفسي بنفسي في أطوار مختلفة، بدون أن أكون بحاجة إلى مرآة من زجاج... وعدت بي إلى الشريط القصير في بداياته، إلى بطن أمي "الزهرة" وتخيلتني الطفل الذي كبر فجأة وهو يحلم بأن يرتب الكواكب وفق مشيئته وأن يحكم الكون خمس دقائق..
"الزهرة" وهو اسمها الذي يلخص كل حياتها : أنها لم تقبل إلا أن تكون زهرة في حالاتها جميعا..
عدت بي إلى العبرات الأولى، والى وشغبي وانفعالاتي والى الطفل الهش يروض نفسه على مصارعة طيور ستيمفالوس الشريرة..، والى كسرة الخبز التي بللتها بتلك الدموع، و إلى ذراع والدي "العربي" بشاربه الصغير الذي رتبه بعناية، والى صوته وهو يقص عليك مغامراته رفقة حبيباته القديمات.. أو يمشط شعري بشغف بمشط يخبأه بعناية في جيبه الأيمن من أجلي..
عدت بي الى انفعالاتي المتعددة والمتناقضة والى مزاجيتي والى حزمة أحلامي التي كنت أدسها تحت مخدتي وقلقي المزمن الذي لم أتخلص منه قط... ، والى خطوات قدمي والدي يحمل قفة عاد بها سعيدا وفيها هدية متواضعة لطفله الكبير، أو هو يتمشى بين حقول القمح والدرة والحمص.. ويقص علي بكبرياء شهامة وبطولات جدي، وكيف حمل والده بندقيته وامتطى صهوة فرسه ليخطف حبيبته -جدتي- من عرسها ويزفها إليه. !
في الحب نكون أو لا نكون، هكذا فهم جدي سيدي أحمد الكوش الحياة وعاش سيدا لا عبدا!
عدت بي إلى أمي وأبي، وخطواتي الأولى والى ذاكرتي المكتظة بشخوص وأمكنة متحركة، وكيف كان يقص علي بطولات أجدادي "سيدي عبد الله الكوش المحارب" والزهراء الكوش التي رفضت السلطان زوجا وكيف انتصرت لنقاء روحها..
عدت إلى قلبي الصغير، والى ملامحي القديمة، تلك التي أحاول جاهدا أن أتذكر أين خبأتها: هل في تراب عبدة الأبية والكريمة ... أم تحت شجرة توت في قرية "المرازيك" أم على طاولات مهترئة في مدرسة "لمشعرن" التي تبعد عن قريتي بخمس كيلومترات، أم في "كوليج" درب مولاي الحسن" حيث كنت أنقح اللغة من عجزها وقصائد الغزل من أخطاءها، وأربي الحب في عيون تلميذات عذروات الكوليج وتنهداتهن، أم في ثانوية ابن خلدون و عشب حديقة بياضة و مقاعد حديقة درب مولاي الحسن، أم في مقبرة ليهود حيث كنت أواعد بعض التلميذات وأوزع عليهن أحلام بمقاسات مختلفة، وأخبرهن أني ساحر سأخلق لهن من شقاشق صدري ضفائر أجمل .. أم في درب الضلعي والسوق بحي بياضة حيث قضيت طفولتي وشبابي...؟
أم أني تعمدت أن أخبأ ملامحي بين قصائد الغزل الأولى عندما كتبت إلى أول حبيبة:
يناسبك الفستان الأحمر
وطلاء الأظافر الأحمر
وهذا العقد على جيدك ذو العقيق الأحمر...
أيتها السجينة خلف أسوارها عانقيني
بعض الموسيقى منك
إيقاع حياة وأكثر ..
عانقيني، ومدر ذراعيك لنلتقي...
وكوني قريبة
لنفتح أبواب النهار والليل
ونسكر على طاولة
بعض الرنين والجنون... وأكثر.
عدت بي إلى دولاب الفرح القديم ، إلى الطفل المتمرد ، إلى دولاب القلق والتوجس والغضب والبراءة والأحلام الصغيرة التي نسجتها من إدماني مشاهدة النجوم والقمر، عندما كنت أحاول ترتب الفصول الأربعة على طريقتي، أو بعبارة أخرى الفصول التي صارت ترتبني اليوم على طريقتها مثل أوراق تشق طريقها نحو الاصفرار .
شاهدت نفسي خلال هذه اللحظة الفارقة وأنا أدخل دهليز الوقت العجيب، وأسرف في تنقية الزمن من الزمن، والحياة من الموت ، والحضور من الغياب ، واللحظة من اللحظة ذاتها...
استعرضت مختلف الأشكال الماضية مني في حديقة الوقت وأنا أنصت إلى طبيبتي، وأنا المتمرد على كل شيء : بما فيها موعد مع طبيب، وكم أخلفت من مواعيد مع مجموعة أطباء، لأني أومن أن الحياة هي مجموعة كواليس ومسرحية، وأن أجسادنا لغز لا تحتاج إلى أطباء ..
المتمرد على القبيلة وأعرافها ونواميسها والكافر بحماقاتها ..
استعرضت اللحظات بسرعة، وكان لكل لحظة ثوب مختلف، واستوعبت أن اللحظات المتبقية تستحق الاحتفال بشكل مختلف ما أمكن..
نحن نتوهم أننا نسافر في قطار ذاهب الى محطة حجزنا لها مسبقا ، لكن الحقيقة أننا نسافر في قطار معاكس مكدس بمسافرين هدهم التعب، ونتوغل في دهليز الوقت ونحن نعتقد أننا كلما كبرنا سنصبح سعداء وأننا سنملك الأرض والنجوم !
بينما الحقيقة هي أنه من المفروض أن ننزل الى الجزء المنبسط من الأرض قبل أن نصعد إلى جزء أعلى ...
أن ننزل إلى الطفل الذي نفتقده، والى وجهنا القديم ، والى أشياءنا الصغيرة والبسيطة، والى المروج والوديان التي كانت تحتفي بطفولتنا..
بكل بساطة : لا مفر من النزول إلينا..
تقول الشاعرة الأمريكية إيلا ويلير ويلكوكس Ella Wheeler Wilcox
لا تحلّق عاليًا جدًّا يا طائر الأمل لأن السماء أكثر جمالًا
فعندما ستحلّق فوق القمم المرتفعة
وتصبح بعيدًا فوق أعالي الهضاب
قد تهبّ العاصفة فجأة وتدفعك إلى الوراء
وتقضي عليك فتسقط...
لكني أخالف الشاعرة ، لأني لا أومن بالسقوط، بل أومن بالحضور والغياب وبطاقية الإخفاء..
في لحظة فارقة – إذن- وأنا أنصت الى سيدة نبيلة، تطرز لغة الحياة بشكل مختلف وعلى طريقتها، وتوسع لي شوارع الوقت وتمدده بشكل مختلف: ليمكنني أن أشاهدني ا بشكل مختلف ..
فما أنبل أن تعود طبيبة من عطلتها، وتضرب لزبونها أو مريضها موعدا يوم الأحد ، وتخصص له يوم عطلتها ..
وما أروعها، وهي توجه خطابها إلى مريضها : اعتني بنفسك ، ولتمشي خفيفا حتى لا تنكسر ..
لكني سأمشي كأني غيري - كما قال محمود درويش- ! - أمشي خفيفاً، أمشي وتنقص فيّ الحياة علي مهلها كسُعال خفيف، و لعلي أفكر مثله : ماذا لو أني تباطأتُ، ماذا لو أني توقفت؟ هل أوقف الوقت ؟! ...
لكن لا مفر من أن نوقف الوقت لأجلنا ولأجل الحياة التي نستحقها...
فما أنبل الطبيبة التي تخصص يوم عطلتها للمريض الذي كان يريد أن يحكم العالم وأن يرتب الكواكب وفق مشيئته، وأن يصنع نجوما بمقاسات أكبر ..
الطبيبة التي هي خبيرة بالتعب الذي يفاجئنا خلال هذه اللحظة الفارقة ..
التعب الذي لا نشاهده في مرآتنا اليومية ، ولكنه يندس في حزمة الزمن التي تخترقنا عضلاتنا وعظامنا و تنحت في أجسادنا فتنتها..
التعب الذي يندس في أجسادنا في غفلة منا أو ذاك الذي نلتقيه دون أن نكون على موعد معه..
وأختم بأبيات للشاعر الروسي يفغيني الكساندروفيتش يفتوشينكو
دائماً توجد يد امرأة
دائماً توجد يد امرأة
خفيفة وباردة
لكي تهدئك كأخ
بحنان وقليل من الحب

دائماً توجد كتف امرأة
لكي تتنفس فيه بحرارة
وقد دفنت فيه رأسك
وائتمنته على حلمك المرد

دائماً توجد عينا امرأة
لكي تبدد ألمك الخاص
إن لم يكن كله فبعضه
لترى معاناتك

ولكن هناك يد امرأة
ما أحلاها
حين تمس الجبهة المنهكة
كالخلود والقدر.



#عبدالحق_فيكري_الكوش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مدينة آسفي وخطاب الأمل
- سياحة وأي سياحة من مراكش وفنادقها الى بريست الفرنسية وجهاتها
- إلى روح الجميل ياسين: نعتذر لروحك صديقي إذا نحن طلبة القانون ...
- سأصدق أن صديقتي -الراهبة- انتحرت
- محاولة لفهم ورصد الظاهرة الأعرابية عند ابن خلدون، العدو الأو ...
- المكتب الشريف للفوسفاط والتنمية الاجتماعية والبيئية بآسفي: ح ...
- محاولة لمقاربة نزاع الصحراء تاريخيا منذ القرن العاشر الهجري
- الطبيعة القانونية للمسألة السورية في وسائل الإعلام المختلفة
- قراءة في نص -شهرزاد- للشاعرة الناشئة -هاجر سعيد-، أزمة الولا ...
- الصورة النمطية للإنسان المسلم في الصحافة والمؤلفات الأجنبية: ...
- وثائق الاعتذار في محراب قلب الحبيبة-الى الحبيبة هجر-(02)
- وثائق الاعتذار – في محراب قلب الحبيبة – هاجر.
- بلبل الأمداح النبوية في بيروت والمشرق العربي، عبد الغني الكو ...
- العذراءالزهراء الكوش متصوفة استثنائية في المغرب والعالم الإس ...
- آل الكوش: قصة عائلة تأرجحت بين جرائم دولة الاحتلال والانتداب ...
- الإعجاز الثوري في الثورة التونسية: اقتصاد في الزمن، وواقعية ...
- 1912-2012 م – المغرب: من صدمة الحماية الفرنسية إلى تعايش الش ...
- صناعة -المحنة- في المغرب: «امتحان الزوايا» إلى «امتحان المثق ...
- الصحافي رشيد نيني والعنزة وجاليليو
- طقوسية بويا عمر وطقوسية النظام: الذهنية المشتركة وأزمة عقل ا ...


المزيد.....




- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالحق فيكري الكوش - الى طبيبة نبيلة : شكرا لأنه أمكنني أن أطل على الحياة من وصاياك..