أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - لمن البقاء: للحقيقة أم للأكاذيب؟















المزيد.....


لمن البقاء: للحقيقة أم للأكاذيب؟


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 6410 - 2019 / 11 / 16 - 14:52
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


فى مفاجأة غيرمتوقــّـعة سمعتُ حديث د.زاهى حواس (وزيردولة سابق لهيئة الآثارالمصرية) فى لقائه مع طلبة جامعة القاهرة يوم12نوفمبر2019حيث قال:إنّ شعبنا المصرى ليس له علاقة بالعرب، لأننا أحفاد جدودونا المصريين القدماء، الذين شيــّـدوا الحضارة المصرية.
لماذا اعتبرتُ حديث حواس (مفاجأة غيرمتوقعة)؟ لأننى تساءلتُ: لماذا اعترف بأنّ شعبنا المصرى لاعلاقة له بالعرب الآن ونحن فى عام2019؟ والسؤال بصيغة أخرى: لما لم يقل هذا الكلام طوال السنوات التى قضاها فى هيئة الآثار؟ ولماذا لم يرد على مناحم بيجين (رئيس وزراء إسرائيل) الذى زارمصرفى عهد السادات وقال وهوتحت سفح الأهرام: إننى أشعربالفخروأنا جالس بين جدودى اليهود الذين بنوا الأهرام؟ إنها أسئلة تواردتْ على ذهنى بعد كلامه الأخيرالذى أسعدنى، عن أصولنا الأفريقية..وليستْ العربية.
وعن هذا الأصل الأفريقى ذكرعالم الاجتماع الكبير(د.سيد عويس) أنه أثناء دراسته فى (معهد الدراسات الأفريقية) بجامعة بوستن تأكد من أنّ ((مصرأقرب إلى أفريقيا من العرب..وأنّ النص فى الدستوريجب أنْ يكون ((مصردولة أفريقية)) وأضاف أنه عندما قرأ فى الدستورالصادربعد سيطرة صباط يوليو1952، النص على أنّ (مصردولة عربية) شعربالحزن..وكتب ((وقد أحسستُ عندما قرأتُ هذا النص بخيبة أمل كبيرة..وكنتُ أرى أنّ اللغة والدين لايكفيان لتكون مصرعربية)) (مذكرات د.سيد عويس- ج2- هيئة الكتاب المصرية- عام2017- ص241)
إنّ ما ذكره عويس قريب فى معناه بما قاله أحمد لطفى السيد حيث كتب ((كان من السلف من يقول بأنّ أرض الإسلام وطن لكل المسلمين..وتلك قاعدة استعمارية تنتفع بها كل أمة مستعمرة تطمع فى توسيع أملاكها..ونشرنفوذها كل يوم فيما حواليها من البلاد..وتلك قاعدة تتمشى بغاية السهولة مع العنصرالقوى الذى يفتح البلاد باسم الدين)) وكتب أيضًــــــا ((الإسلام ليس لمسلم بوطن، فوحدة الاعتقاد الدينى ليست كافية لإقامة وحدة التضامن الوطنى)) (الجريدة 10مارس1907)
وما سبق أكــّـده عميد الثقافة المصرية (طاها حسين) فكتب ((من المحقق أنّ تطورالحياة الإنسانية، قضى منذ عهد بعيد بأنّ وحدة الدين..ووحدة اللغة لاتصلحان للوحدة السياسية..ولاقوامًـا لتكوين الدولة)) (جريدة السياسية31ديسمبر1923)
وعندما سأله أحد الصحفيين رأيه فى كلام ساطع الحصرى (عن الوحدة العربية) قال: لامانع من التعاون الاقتصادى والثقافى..أما إذا كنت ترمى إلى أنّ مصرتدخل فى (وحدة عربية) أو(القومية العربية) فأنت على خطأ، لأنّ الأكثرية الساحقة من المصريين لاتمت بصلة إلى العرب..وإنما تتصل مباشرة بالمصريين القدماء. ومصراليوم هى مصربالأمس، أى مصرالفراعنة. المصرى فرعونى قبل أنْ يكون عربيا..ولاتطلبوا من مصرأنْ تــُـغيرخصوصيتها الثقافية..ومصرلن تدخل فى وحدة عربية..ولا اتحاد عربى، سواء كانت مساوية فيه للدول العربية، أومسيطرة عليها، وسواء كانت عاصمة هذه الوحدة القاهرة أم دمشق أم بغداد (المجلة الجديدة-ديسمبر1938)
وبينما الشائع عن طاها حسين أنّ مصرلاتنتمى ثقافيـًـا إلى الشرق..وإنما إلى حوض البحرالأبيض المتوسط..وأنّ العقل المصرى منذ عصوره الأولى، عقل إنْ تأثربشيىء فإنما يتأثربالبحرالأبيض المتوسط)) فإنّ ما تجاهلته الثقافة المصرية السائدة (والعربية) قوله أنّ اليونانيين ((كانوا فى عصورهم الراقية..كما كانوا فى عصورهم الأولى، يرون أنهم تلاميذ المصريين فى الحضارة وفى فنونها الرفيعة بنوع خاص)) (مستقيل الثقافة فى مصر- دارالكاتب اللبنانى- عام1973ص31، 32) وعن مقاومة شعبنا للغزاة كتب أنّ التاريخ ((يـُـحدثنا بأنّ القومية المصرية قاومتْ الفرس أشد المقاومة..وبأنها لم تطمئن إلى المقدونيين حتى فنوا فيها وأصبحوا من أبنائها..والتاريخ يـُـحدثنا بأنّ مصرخضعتْ لسلطان الامبراطورية الرومانية الغربية والشرقية، على كره مستمر..ومقاومة متصلة، فاضطرالقياصرة إلى أخذها بالعنف..والتاريخ يحدثنا أنّ السلطان العربى لم يبرأ من السخط والمقاومة والثورة)) (جريدة السياسة- 31ديسمبر1923)
وأكــّـد الباحث والمفكرالكبير(أحمد أمين- المُـتخصص فى الدراسات الإسلامية) أنّ مصرليست عربية فكتب: إنّ العرب أزالوا استقلال فارس..وحكموا مصروالشام والمغرب..وأهلها ليسوا عربا)) (ضحى الإسلام- ج1- هيئة الكتاب المصرية- عام1997- ص76)
أما توفيق الحكيم (1898- 1987) الذى هوأحد المُبدعين والمُـثقفين المصريين الكبار، الذين عاشوا فى الفترة السابقة على يوليو1952، تلك الفترة التى شهدتْ تنامى الليبرالية الفكرية، فى جديلة واحدة مع الوعى بدورمصرالحضارى..وبالتالى ظهورالعديد من أسماء المصريين الذين كتبوا عن الحضارة المصرية، سواء فى المجلات، مثل مجلة (الكاتب المصرى) التى أصدرها عميد الثقافة المصرية (طاها حسين) عام 1945، أوفى الكتب التى أصدروها، أمثال محرم كمال، أحمد بدوى، أحمد فخرى، سامى جبره وسليم حسن إلى آخرتلك القائمة من المفكرين المصريين الذين آمنوا بمصر الحضارة، وكان من بينهم توفيق الحكيم.
فى مجموعة رسائل مُـتبادلة بين طاها حسين وتوفيق الحكيم سنة 1932، كتب الحكيم: لاريب أنّ العقلية المصرية قد تغيّرتْ اليوم بعض التغير. كيف تغيرتْ؟ إنّ شئون الفكرفى مصرحتى قبيل ظهورالجيل الموجود (فى زمن كتابة الرسالة) كانت مقصورة على المُحاكاة والتقليد، محاكاة التفكيرالعربى وتقليده..كنا فى شبه إغماء، لاشعورلنا بالذات، لانرى أنفسنا..ولكن نرى العرب الغابرين، لانحس بوجودنا، ولكن نحس بوجودهم هم. لم تكن كلمة (أنا) معروفة للعقل المصرى..ولم تكن فكرة الشخصية المصرية قد وُلدتْ بعد، حتى جاء الجيل الجديد فإذا هوأمام روح جديدة وأمام عمل جديد. لم يعد الأدب مجرد تقليد أومجرداستمرارللأدب العريى فى روحه وشكله..وإنما هوإبداع وخلق لم يعرفهما السلف..وبدتْ الذات المصرية واضحة، لافى روح الكتابة وحدها، بل فى الأسلوب واللغة أيضًا.
بعد هذا التمهيد كتب: لابد أنْ نعرف ما المصرى وما العربى؟ وقال إنّ هذا السؤال ألقاه على نفسه منذ عدة سنوات، ثـمّ تفرّع السؤال ليعقد مقارنة بين الفن المصرى والفن الإغريقى..وتوصل إلى إجابة مفادها الفرق بين عقليتيْن: وتساءل: لماذا تماثيل البشرعند المصريين القدماء مستورة الأجساد، بينما هى عند الإغريق عارية الأجساد؟ وأنّ تلك الملاحظة تطوى تحتها جوهرالفرق بين الحضارتيْن المصرية واليونانية..وأنْ كل شيىء فى مصرمُستترخفى عند المصريين، عارٍجلى عند الإغريق..كل شيىء فى مصرخفى كالروح..وكل شيىء عند الإغريق عارٍ كالمادة..كل شيىء عند المصريين مُستتركالنفس..وكل شيىء عند الإغريق جلى كالمنطق، فى مصرالروح والنفس..وفى اليونان المادة والعقل. إنّ المثــّـال المصرى لم يكن يعنيه جمال الجسد..ولاجمال الطبيعة من حيث هى شكل ظاهر، إنما تعنيه الفكرة، إنه يستنطق الحجركلامًا وأفكارًا وعقائد، على أنه– مع ذلك– يشعر بالتناسق الداخلى، يشعربالقوانين المُستترة التى تــُـسيطرعلى الأشكال، يشعر بالهندسة غيرالمنظورة التى تربط كل شيىء بكل شيىء، يشعربالكل فى الجزء، وبالجزء فى الكل..وتلك أولى علامات الوعى فى الخلق والبناء..وهذا كله يحسه الفنان المصرى لأنّ له بصيرة غريزية ومُـدرّبة تنفذ إلى ما وراء الأشكال الظاهرة لتــُحيط بقوانينها المُستترة. الفنان المصرى لايصرفه الجمال الظاهرللأشياء عن الجمال الباطن. إنه يُريد تصوير روح الأشكال لا أجسامها.
ثم قرن بين الهند مصر، فقال إنهما حضارتان قامتا على الروح، لأنهما قد شبعتا من المادة. أما الإغريق فهم على النقيض، أمة لم تشبع من المادة، أمة نشأتْ فى العُسروالفاقة. أرضها لاتـــُـدر من الخيرإلا القليل..كان لزامًا عليها الكفاح فى سبيل العيش..وكان حتمًا عليها الجرى وراء المادة. حرب تلوالحرب..وفتح بعد الفتح..وعلى هذا النحولم يكن للإغريق ذات الضميرالمُطمئن..ولاذات الشعور بالاستقرار..ولاذات الإيمان بالأرض الذى يوحى بالتفكيرفيما وراء الأرض والحياة. بينما عاطفة الاستقراروالإيمان عند المصريين ممزوجة بالدم، لأنّ المصريين نزلوا من بطن الأزل إلى أرض مصر..وفى كل يوم يظهردليل جديد على أنّ العمران والاستقراروُجدا فى مصرقبل التاريخ المعروف..وظهرتْ الحضارة المصرية فى التاريخ بعد مراحل من التطور..وقال الشاعروالمُشرع اليونانى سولون (640- 560 ق.م) أنّ الكهنة المصريين يعنون العناية كلها بذكريات تلك القارة العظيمة ذات المدينة الزاهرة التى ابتلعها المحيط قبل مبدأ التاريخ (قارة الأتلانتيد) إنّ الفلسفة عند الإغريق فلسفة الحركة لا السكون، بينما فى الهند ومصرالسكون..وقد أشارالشاعروالفيلسوف الفرنسى بول فاليرى (1871- 1945) فى كتابه (المقبرة البحرية) إلى الحركة والسكون، فإذا الحركة عنده من خصائص الكينونة الواعية الفانية..والسكون من خصائص العدم الخالد غيرالواعى..وعارض زينون فى إنكاره للحركة..وتغنى فى نهاية القصيدة بإنتصارالحركة أى الحياة رغم قصرها وفنائها، فهوبذلك لم يخرج عن يونانيته المُــكتسبة..ولم يفهم روح الهند ومصر..وهذه هى الصعوبة فى فهم الهند ومصر..وهذا ما جعل الفن المصرى سرًا مغلقــًا حتى أوائل القرن العشرين.
بعد ذلك قارن الحكيم بين الإغريق والعرب، فقال إنّ حظ الإغريق– فى كل ما سبق– مثل حظ العرب، فالعرب أيضًا أمة نشأتْ فى فقرلم تعرفه أمة غيرها: صحراء قفراء، قليل من الماء يُـثيرالحرب والدماء، جهاد وكفاح لاينقطعان فى سبيل العيش والحياة، أمة لاقتْ الحرمان وجهــًـا لوجه..وما عرفتْ طيب الثمار وجرى الأنهارورغد العيش..ومعنى اللذة إلاّفى السـِـيروالأخبار..وكان حتمًا عليها ألاّتحس المثل الأعلى فى غيرالحياة الهنيئة والجنات الخضراء..والماء الجارى وألوان النعيم واللذائذ التى لاتنضب ولاتنتهى، أمة بأسرها حلمتْ بلذة الحياة ولذة الشبع، فأعطاها ربها اللذة ومنحها الشبع..كل تفكيرالعرب وكل فن العرب فى لذة الحس والمادة، لذة سريعة منهومة مُختطفة اختطافـًا، لأنّ كل شيىء عند العرب سرعة ونهب واختطاف، عند الإغريق الحركة– أى الحياة- وعند العرب السرعة، أى اللذة. لم تفتح أمة العالم بأسرع مما فعلتْ العرب..ومرّالعرب بحضارات مختلفة واختطفوا من أطايبها اختطافــًا ركضًا على ظهورالجياد..كل شيىء قد يحسونه إلاّ عاطفة الاستقرار. وكيف يعرفون الاستقراروليس لهم أرض ولاماضٍ ولاعمران. دولة أنشأتها الظروف ولم تــُـنشئها الأرض..وحيث لا أرض فلا استقرار..وحيث لا استقرارفلا تأمل..وحيث لاتأمل فلا ميثولوجيا ولاخيال واسع ولاتفكيرعميق ولا إحساس بالبناء، لهذا السبب لم يعرف العرب البناء، سواء فى العمارة أوفى الأدب أوفى النقد، الأسلوب العربى فى العمارة من أوهى أساليب العمارة التى عرفها تاريخ الفن..وإذا عاش لليوم فإنما يعيش بالزخرف..وفن الزخرف العربى هوالذى أنقذ العمارة العربية. إنّ العمارة العربية ما هى إلاّزخرف لابناء، فلا أعمدة هائلة ولاجبهة عريضة..ولاوقفة قوية ولابساطة عظيمة..ولاروعة عميقة، إنما هى وشى كثير..وجمال كجمال الحُـلى المُرصّع، يُبهرالبصرولافكرخلفه. إنّ فن الزخرف العربى وليد الحلم باللذة والترف..كل شيىء عند العرب زخرف، الأدب (نثر وشعر) لايقوم على البناء، فلا ملاحم ولاقصص ولاتمثيل، إنما هو وشى مُرصّع يلذ الحس (فسيقساء) اللفظ والمعنى و(أرابسك) العبارة..كل مقامة للحريرى كأنها باب لجامع المؤيد، تقطيع هندسى وتطعيم بالذهب والفضة لايكاد الإنسان يقف عليه حتى يترنــّح مأخوذا بالبهرج الخلاب..كذلك الغناء العربى (أرابسك) صوتى فلا مجموعة أصوات مُـتسقة البناء كما فى (الديتيرامب) أوالأوركسترا الإغريقية أوكما فى الكورس الجنائزى المصرى..ولاحتى مجرد صوت ينطلق حرًا بسيطــًا مستقيمًا، إنما هوصوت مُحمّـل بألوان المُحسنات من تعاريج وانحناءات والتواءات وتقاسيم كأنها (ستالاكتيكات) غرناطية لايكاد يسمعه القاضى حتى يستخف به الطرب ويضع نعله فوق رأسه..والموسيقى كالعمارة من الفنون الرمزية لا الفنون الشكلية..ولكن العرب لايُحبون الرموز..ولاطاقة لهم بالفن الرمزى..ولايُريدون إلاّ التعبير المُباشر بغير رموز..والصلة المُباشرة بالحس، فجعلوا من الموسيقى لذة للأذن لا أكثر ولا أقل..كما جعلوا العمارة لذة للعين لا أكثر ولا أقل..ولقد حاول الفارابى التقريب بين الموسيقى العربية والموسيقى الإغريقية، فكان لابد له من الاخفاق، لأنّ العرب (أمة فردية) لم يعرف العرب الهارمونى..وهم من عُباد أبولون دون أنْ يشعروا بينما هم لم يفهموا (ديونيزوس) لم يفهوا تلك النشوة الدينية الجارفة التى تخرج من صاحبها من سيطرة العقل والوعى كى تصله مباشرة بالطبيعة: أغانى أعياد (باكوس) الحماسية فى الغابات ومزاميرال (ساتير) لشيىء بعيد إدراكه على العقلية الفردية. كما أنّ الاتحاد بين الإنسان والحيوان ليس له مثيل إلاّعند المصريين القدماء.
وقال الحكيم أيضًا: قد يكون للدين دخل فى تأخرالنحت والتصويرعند العرب، وذكرأنه يعتقد فى براءة الدين، لأنّ العرب (من وجهة نظره) كانوا دائمًا ضد الدين كلما وقف الدين ضد رغبات طبائعهم، لقد حرّم الدين الشراب فأحلوا هم الشراب فى قصورالخلفاء..وما وُصفتْ الخمرولامجالس الخمرفى أدب أمة بأحسن مما وُصفتْ فى الأدب العربى. لاشيىء فى الأرض ولافى السماء يستطيع أنْ يحول بينهم وبين اللذة. أما النحت والتصويرفليس من طبيعتهم لأنّ تلك الفنون تتطلب فيمن يُـزاولها إحساسًا عميقــًا بالتناسق العام المبنى على التأمل الطويل..والوعى الداخلى للكل فى الجزء وللجزء فى الكل..وليس هذا عند العرب، فهم لايرون إلاّ الجزء المُـنفصل، وهم يتمتعون بكل جزء على انفراد..ولاحاجة لهم بالبناء الكامل المُـتسق فى الأدب، لأنهم لايحتاجون إلاّ للذة الجزء واللحظة. قـليل من الكتب العربية فى الأدب يقوم على موضوع واحد مُـتصل، إنما أكثرالكتب كشاكيل فى شتى الموضوعات، تأخذ من كل شيىء بطرف سريع: من حكمة وأخلاق ودين ولهو..وشعرونثرومأكل ومشرب..وفوائد طبية ولذة جسدية..وحتى إذْ يُـترجمون عن غيرهم يُسقطون كل أدب قائم على البناء، فلم ينقلوا ملحمة واحدة ولاتراجيديا واحدة ولاقصة واحدة. إنّ العقلية العربية لاتشعر بالوحدة الفنية فى العمل الفنى الكبير، لأنها تتعجّل اللذة. لهذا كله قصرالعرب وظيفة الفن على الترف الدنيوى وإشباع لذات الحس. لذلك فمن المستحيل أنْ نرى عند العرب أى ميل لشئون الروح والفكربالمعنى الذى تفهمه الهند ومصرمن كلمتىْ الروح والفكر. إنّ العرب أمة عجيبة، تحقق حلمها فى هذه الحياة، فتشبثتْ به تشبث المحروم..وأبتْ إلاّ أنْ تروى ظمأها من الحياة..وأنْ تعب من لذاتها عـبًـا قبل أنْ يزول الحلم وتعود إلى شقاء الصحراء.
لكل ما سبق ذكرالحكيم: لاريب عندى أنّ مصروالعرب طرفا نقبض: مصرهى الروح..هى السكون..هى الاستقرار..هى البناء..والعرب هى المادة..هى السرعة، هى الظعن..هى الزخرف، مُـقابلة عجيبة: مصروالعرب وجها العمله وعنصرا الوجود، فأى أدب عظيم يخرج من هذا التلقيح؟ إنى أومن بما أقول وأتمنى للأدب المصرى الحديث هذا المصير: زواج الروح بالمادة..والسكون بالحركة والاستقرار بالقلق والبناء بالزخرف. تلك ينابيع فكركامل ومدنية مُـتزنة لم تعرف البشرية لها من نظير. إنّ أكثرالمدنيات تميل إما إلى الروح وإما إلى المادة. حضارة واحدة استطاعتْ فى وقت ما المزج بين الروح والمادة..وهذا الاتزان بين عنصرىْ الوجود، تلك حضارة الإغريق..ولكن تلك الحضارة انتهتْ بإنتصارأبولون على ديونيزوس..وهكذا اختلّ التوازن..ورجحتْ كفة المادة وانطفأتْ الحضارة الإغريقية إلى الأبد..ولم ترث أوروبا منها غيركنوزالعقل والمنطق..وبقيتْ فى الظلام كنوز ديونيزوس الخفية.
وفى رسالة مؤرخة سبتمبر1932كتب إلى طاها حسين عن التيارالمصرى فى الأدب والنقد الأدبى فكتب أنّ النقد المُعتمد على الذوق، أى سليقة المنطق والتناسق، هوعند المصريين القدماء سليقة المنطق الداخلى للأشياء..والتناسق الباطنى أى القانون الذى يربط الشيىء بالشيىء، فأى جمال للأهرام غيرذلك التناسق الهندسى الخفى..وتلك القوانين المُستترة التى قامتْ عليها تلك الكتلة من الأحجار؟ جمال عقلى داخلى..هذا الجمال الخفى فطن إليه المصريون القدماء يوم شيـّـدوا الأهرام، فهم لم يرموا إلى الجمال الظاهرالذى يسرالعين، إنما أرادوا أنْ يصنعوا بأيديهم ظاهرة من ظواهرالطبيعة، فى روعتها وضخامتها وقوة تأثيرها..وقد تمّتْ المعجزة وإذا الأجيال على مدى آلاف السنين تنبهربالأهرام.
وفى آخرالرسالة سأل: هل تستطيع أنْ تتخيّـل أنّ العرب تبنى الأهرام أوتــُـقدّر فيها جمالا؟ لقد جاء العرب مصر..وتحدّثوا بجمال نيلها وأرضها وسمائها ولم يروا فى الأهرام إلاّشيئـًا قد يحوى نقودًا مخبوءة، أما بناؤه فشيىء (من وجهة نظرهم) لا يُحسب فى الفن (من كتاب توفيق الحكيم "تحت شمس الفكر" دارسعد مصرللطباعة والنشر- الطبعة الثالثة عام 1945- من ص39- 60)
وعن أثرالحضارة المصرية فى الفن الحديث كتب الحكيم ((الفن الحديث كله، من تصويرونحت وعمارة، انطلق يبحث عن وسائل جديدة للتعبير، فوجدها فى مصرالقديمة: وجد البساطة فى التخطيط..وجد طريقة تركيب الأشكال المختلفة على قواعد هندسية (الكوبزم) وجد أساليب الحركة والإضاءة فى التماثيل والأعمدة مما لانظيرله فى قوة الأداء وبساطته..كل ذلك وجده الغرب وشيــّـد على أساسه فنــًـا جديدًا)) (المصدرالسابق– ص 79)
والحكيم عندما انتهى من كتابة روايته (عودة الروح) عام 1927 فإنه صدّر الجزء الثانى بأبيات من كتاب (الخروج إلى النهار) الذى تركه جدودنا المصرين القدماء، الشهيرفى الترجمة الخاطئة ب (كتاب الموتى) ولأنّ تلك الفترة التى أعقبتْ ثورة شعبنا فى شهربرمهات/ مارس1919 كانت فترة انبعاث قومى، لذلك خصّص الحكيم فصلا فى كتابه (تحت شمس الفكر) الذى صدرتْ طبعته الأولى عام 1938 بعنوان (البعث) ويبدأ هذا الفصل بنداء حورس إلى أبيه أوزير:
حورس: انهض.. انهض يا أوزير..
أنا ولدك حورس..
جئتُ أعيد إليك الحياة..
جئتُ أجمع عظامك..
وأربط عضلاتك..وأصل أعضاءك..
أنا حورس الذى يُـكوّن أباه..
حورس يعطيك عيونــًـا لترى..وأذنــًـا لتسمع..وأقدامًا لتسير..وسواعد لتعمل..
ها هى ذى أعضاؤك صحيحة..وجسدك ينمو..ودماؤك تدب فى عروقك..
إنّ لك دائمًا قلبك الحقيقى.. قلبك الماضى..
الميت : إنى حى.. إنى حى (من كتاب الخروج إلى النهار)
وكان تعليق الحكيم ((وحورس ليس إلاّ الشباب يُعيد الحياة إلى ماضيه الميت، نعم هو الشباب الذى يُـكـوّن أباه الوطن))
000
لقد شجــّـعتنى كلمات زاهى حواس، التى اعترف فيها بأنّ شعبنا المصرى، لاتربطه علاقة (ثقافية وأنثروبولوجية) بالعرب على أنْ أبحث فى أرشيفى عن كل ما يــُـدعــّـم الحقيقة..ويهزم الأكاذيب، التى راجتْ بعد كارثة يوليو1952.
***



#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عجائب الحكم العسكرى الناصرى
- ذكرى مولد التنويرى الكفيف
- إسرائيل والعرب فى وعى لطفى الخولى
- إزدهار العلاقات العربية الإسرائيلية
- سياسة أمريكا الخارجية وسياستها الداخلية
- دفتر التنوير المتأرجح
- أدعياء وحصدوا الشهرة والنجومية (2)
- الأدعياء رغم تخصصهم فى الفلسفة
- العداء العربى لرموز التنوير
- أحمد أمين: عرب اليوم هم عرب ما قبل الإسلام
- الأدلة المضادة للرواية الأمريكية عن11سبتمبر
- العلاقة الملتبسة بين المثقفين الملتصقين بالسلطة
- هل الأرض ((بتتكلم عربى))؟
- السلطة فى الإسلام مثل أى منظمة استبدادية
- البحرية المصرية فى الحضارة المصرية والعصرالحديث
- التقسيم الناصرى للأنظمة العربية
- تاريخ الملكة الأمازيعية المسكوت عنه
- لماذا تجاهل تجفبف منابع الإرهاب؟
- الفرق بين تسليمه نسرين ونصرأبوزيد
- ثمن النجومية: التنازل عن الكرامة الشخصية


المزيد.....




- تونس.. وزير الشؤون الدينية يقرر إطلاق اسم -غزة- على جامع بكل ...
- “toyor al janah” استقبل الآن التردد الجديد لقناة طيور الجنة ...
- فريق سيف الإسلام القذافي السياسي: نستغرب صمت السفارات الغربي ...
- المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف مواقع العدو وتحقق إصابات ...
- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...
- الأوقاف الإسلامية في فلسطين: 219 مستوطنا اقتحموا المسجد الأق ...
- أول أيام -الفصح اليهودي-.. القدس ثكنة عسكرية ومستوطنون يقتحم ...
- رغم تملقها اللوبي اليهودي.. رئيسة جامعة كولومبيا مطالبة بالا ...
- مستوطنون يقتحمون باحات الأقصى بأول أيام عيد الفصح اليهودي
- مصادر فلسطينية: مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى في أول أيام ع ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - لمن البقاء: للحقيقة أم للأكاذيب؟