أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - ضيا اسكندر - البَدْلةُ الزرقاء














المزيد.....

البَدْلةُ الزرقاء


ضيا اسكندر

الحوار المتمدن-العدد: 6405 - 2019 / 11 / 11 - 19:42
المحور: كتابات ساخرة
    


خلال أربعين عاماً من الكدّ والتعب في حياته المهنية، عمل والدي في معمل أخشاب المعاكس في اللاذقية. ليُعيل سبعة أطفال كنت أكبرهم سنّاً بالذكور. ومن المكاسب السنوية التي كان يحصل عليها لقاء عمله كأغلب عمّال سورية الذين يعملون في قطاع الدولة في ستّينيات القرن الماضي، كانت عبارة عن قطعة قماش زرقاء تميل إلى اللون الكحلي. وربما تمَّ اختيار هذا اللون تحديداً لتحمّله الأوساخ. فمن المعروف أن لباس العمل لا يُغسل إلا بفتراتٍ متباعدة..
وحيث أن والدي قصير القامة، هزيل الجسم، فقد كانت حصّته من القماش تكفيه لتفصيل بدلتين له عند الخيّاط، ويبقى منها فائض يكفي لتفصيل بنطالين لي وأحياناً ثلاثة. وهذا المكسب يجنّبه مغبّة شراء البناطيل لابنه البكر طوال العام، وما يتطلّبه ذلك من نفقات هو أعجز من أن يلبّيها..
خمس سنوات، من الصف الثالث الابتدائي وحتى نهاية الصف السابع، وأنا مُكْرَهٌ على ارتداء البناطيل الكحلية. لدرجة أنني في أوقاتٍ كثيرة كنت أهجس مُتضرّعاً أن تبدّل إدارة المعمل لون القماش الذي يُمنح للعمّال. وكنت أتساءل في سرّي: «هل يُعقل أن يفاجئني والدي بمعجزة، أن قطعة القماش التي سيستلمها مطلع العام ستكون ورديّة أو بنفسجية أو بُنّية..؟». وكم كانت حسرتي شديدة عندما أراقب أترابي وهم يبتهجون عند شرائهم البناطيل ذات الألوان البهيجة المحروم منها والتي أحلم بها. والأدهى والأمرّ عندما يهترئ بنطالي على الركب أو من الخلف على عجيزتي بسبب شقاوتي في الركوع والجلوس على الأرض دون حذر. فكانت تُسرع والدتي إلى رقع الاهتراء بقطعة قماش كحلية جديدة باقية لديها من فضلات الأقمشة الزائدة. فتكون الرقعة فاقعة بلونها القاتم يحيط بها اللون الباهت بسبب البرش نتيجة الاستخدام والغسيل.
مرةً وكنت في الصف السادس الابتدائي متوجّهاً إلى مدرستي، أرتدي بنطالاً مرقّعاً من الخلف بدائرتين كحليّتين بارزتين، وإذ بأحد زملائي يناديني بلقبٍ جديد وهو يقهقه: «هيه، وينك يا أبو نواضير؟». التفتُّ إليه لأتأكّد ما إذا كنتُ المقصود، فأيقنتُ أنه يعنيني. وقفتُ مسدّداً إليه نظرةً غاضبة، فبدأ يرتعش خوفاً بعد أن فطن أنني في قمة انفعالي. سارع إلى القول: «ليش هيك عم تتطلّع فيني؟ والله عم امزح معك!». أنذرته متوعّداً بأنني سأكسر حنكه بقبضتي إذا ما تجرّأ ومزح معي مرةً أخرى.
كانت تلك الحادثة هي المرة الأولى التي أتلقّى فيها لقباً جارحاً من أحد بسبب لباسي المرقّع.
لدى عودتي إلى البيت سارعْتُ للشكوى وشرح ما جرى معي لأمّي. أخذتْ عيناها تلمعان بدموعٍ لم تذرفها وهي تستمع إليّ بحزن وقد أدركتْ حجم معاناتي. ضمّتني بحنان إلى صدرها وهي تقول: «يا حبيبي، والله أغلب صبيان الحارة يلبسون بناطيل مرقّعة. ليس عيباً ذلك. أحوالنا المادية لا تسمح بشراء الألبسة الجديدة. غداً إنشاء الله تُصبح شابّاً وتشتغل وتشتري ما تشاء من ألبسة.» بكيتُ وقلت لها بمذلّة: «صرتُ يا أمي مسخرة قُدّام رفاقي بالحارة. الكلّ سيناديني من الآن فصاعداً أبو نواضير. أرجوكِ خبّري أبي واقنعيه أن يعفيني من لباس بقايا قماش بدلته». مسحتْ دموعي بأصابعها الرقيقة ووعدتني بأنها سوف تقنع والدي بطلبي.
أمّا لماذا لجأتُ إلى أمي للتعبير عن مأساتي، فلم أكن في طفولتي أتجرّأ على مجادلة أبي في أيّ أمرٍ، أو حتى النظر إلى وجهه عندما يكلّمني؛ فقد كان يتّسم بشخصية قاسية بسبب بؤسه وفقره. إذ نادراً ما لمحتُ بسمةً على وجهه العابس الصامت المعتكر المزاج دوماً. فضلاً عن أنه وبسبب ضجيج مكنات المعمل، فقد أُصيبَ بصممٍ جزئي جعلنا نتحاشى الحديث معه لما يسبّبه التواصل فيما بيننا من معاناة للطّرفين. ولهذا فإنني وأخوتي كنّا نلوذُ إلى أمّنا دائماً عند تعرّضنا لأية مشكلة.
في اليوم التالي أخبرتني أمّي وهي تهتف بفرح من فاز بجائزة: «هات البشارة يا بنيّ، فقد وعدني أبوك أنه اعتباراً من العام القادم سيعفيك من لباس البناطيل الكحلية..». انتابتني مشاعر مختلطة ما بين الفرح والحزن وأنا أفكّر بوعد أبي. هذا يعني أنني سأتحمّل تعليقات واستهزاءات زملائي عاماً كاملاً ريثما يُطلق سراحي من هذه البناطيل اللعينة.
عندما انقضت فترة التزامي بذلك اللباس، والتي خلْتُها دهراً. وحان موعد تحرّري منه، أخذتني أمّي إلى السوق وقالت لي ونحن نتجوّل بسعادة: «سأشتري اليوم لك بنطالاً جديداً يا حبيبي، وما عليك إلاّ اختيار اللون الذي تفضّله».
لدى بلوغنا أحد محلّات بيع الألبسة أشارت لي أمّي إلى بنطال رمادي معروض في الواجهة وسألتني ما إذا أعجبني. وافقتُ بلهفة فوراً ودخلنا. رحّب بنا صاحب المحل ببشاشة التجار العريقين. ولمّا عرف مبتغانا قال لي: «للأسف، البنطال الذي أعجبك في الواجهة ، لا يوجد منه على مقاسك سوى اللون الأزرق الكحليّ!».



#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جُرْأة غير مسبوقة!
- الصحفي والمسؤول
- القلم
- بين الفكر والسّلوك
- الملعبُ البلديّ والسُّلُّمُ الخشبيّ
- أوّلُ أجرٍ أتقاضاه
- فأر الحقل
- مع عدم الموافقة!
- خطاب رسمي
- من ذكريات «الزمن الجميل!»
- روسيا وتركيا و«الكباش» المعلن والمخفي
- أوَّلُ مهمّةٍ حزبيّة
- هل روسيا «الأمّ الرؤوم» لأصدقائها؟
- سورية إلى أين؟!
- هل الحلفاء أخوة؟!
- «القرضاوي» والمسيحية
- مرةً أخرى عن العلمانية
- ذَكَرُ العجل
- دوامُ الحال، من المُحال..
- المنشور


المزيد.....




- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - ضيا اسكندر - البَدْلةُ الزرقاء