أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - ليلى والذئاب: بقية الفصل التاسع















المزيد.....

ليلى والذئاب: بقية الفصل التاسع


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 6401 - 2019 / 11 / 6 - 20:40
المحور: الادب والفن
    


3
الدار الكبيرة، المُعرَّفة على ألسنة الآخرين، تارةً باسم السيّد أوسمان وأخرى باسم عليكي آغا الصغير، كانت مقسومة طبيعياً بين الأسرتين ولم تحتج لجدار يفصلهما بعضهما عن بعض. القسم الأسفل من المنزل، أين أقام منذ البداية السيّد أوسمان وزوجته باعتبارهما ضيفين، كان يتصل بالأعلى بوساطة سلم حجريّ من سبع درجات، تظلله شجرة مشمش بلدي عملاقة. هذا القسم الأخير، وكان يخص آل المرحوم موسي، احتوى على حجرتين للنوم علاوة على حجرة للمئونة تحولت لاحقاً إلى صالة خياطة. وفيما بعد أيضاً، ابتنى عليكي آغا الصغير مطبخاً خاصاً، بديلاً عن ذلك القديم والذي تُرك لعائلة العم أوسمان. وحده المرحاض، حَسْب، كان مشتركاً بين الأسرتين؛ وكان عبارة عن حجرة صغيرة بنيت فوق بئر قليل العمق. في ذلك الزمن، كان عمالٌ يتولون بالأجرة سحبَ الغائط من آبار المنازل. ومن ثم يقومون بإبعاد هذه الفضلات إلى خارج الحي، كي تفرش تحت الشمس في مكان ناءٍ، ليُستفاد منها بعدئذٍ كسماد للزراعة.
أرضُ ديار القسم العلويّ من الدار، شكّلت فسحةً سماوية ترّوح عن نفس ساكنيه. الحديقة، لعبت نفس الدور بالنسبة لآل السيّد أوسمان. على طرف الحديقة، أنشأ الرجلُ قنّاً للدجاج وأزواجهن الفحول، الذين اقتنعوا بأن مهمتهم هيَ إيقاظ أهل الدار صباحاً وليسَ فقط ملاحقة الإناث. بدَورها، كانت شملكان قد تولت على عاتقها مهمة العناية بهذه المخلوقات، وكان ذلك بعدما تركت مهنة الخياطة لربيبتها. الابن البكر، حاجي، بقيَ بحُكم ذهنه القاصر لا يميز بين اللهو والأذى. رغم أنه كان شغوفاً جداً بتلك المخلوقات، ولا يتعمد ضررها، فإن والدته كانت تضعه طوال الوقت تحت رقابتها الصارمة. الابن الأصغر، صالح، كان يجدُ سعادته في التجول خِلَل ممرات الحديقة، يشم الزهور أو يلاحظ الطيرَ والنحل والنمل. بسبب طبيعتهما المسالمة، نادراً ما كان الشقيقان يتخاصمان. وربما أيضاً يجب الأخذ بعين الاعتبار فارق العُمر بينهما، والمقدّر بخمس سنوات، لولا أن الولد الأكبر كان كالأصغر من ناحية الإدراك.

***
منذ اليوم التالي لعلمه بحقيقة مرضه العضال، أضحى السيّد أوسمان يلزم المنزل وكان يكتفي بالمرور على صديقه الزعيم في فترة متأخرة من الليل. على أثر وفاة سلمى، جدد رجلُ شملكان صداقته مع أرملها وكان يزوره أحياناً بعد خروجه من منزل الزعيم. ذات صباح، أمسك أوسمان المرآةَ وراحَ يتفحّص سحنته. كان قبل ذلك شغوفاً بالتطلع فيها على صورته، وكثيراً ما جلس بمقابلها كي يعتني بشاربيه. صار منذ ذلك اليوم المشئوم يتجنب المرآة، لأنها تعطيه انطباعاً بما يُمكن أن تكونه نظرات الناس لو خرج إليهم. كذلك، كان يرى صورته العليلة في عينيّ الحاج حسن. مع أن لسان هذا الأخير، حينَ يجتمع مع قريبه، اعتاد على نقل صورة معاكسة لحقيقة الحال. ولا أيضاً كان يختلف موقفُ عليكي آغا الكبير، وذلك مع ملاحظته اليومية لتغيّر صحة مَن يعدّه بمثابة حمي أخيه.
" ألم تلاحظي، ليلو، كيفَ تحول العم أوسمان إلى أشبه بالخيال؟ "، سأل عليكي آغا الصغير وهوَ مختلٍ بامرأته في حجرتهما ليلاً. جاء دوره الآن، في شأن الانتباه لصحّة الرجل المريض. رفعت المرأة رأسها من على الوسادة، وكانت هيئتها تدل على الاهتمام والقلق: " أجل، بالطبع، لحظتُ ذلك لأن لي عينين في رأسي. بينما شملكان، حينَ لفتُ نظرها للأمر، اكتفت بالقول أنّ الرجل بات مسنّاً ومن الطبيعي لبدنه أن ينحل "، ردت مع زفرة مديدة.
" لم يكن عبثاً، كما أرى، إصراره مؤخراً على أن نبيعه القسم الذي يسكنه في منزلنا. ما رأيك أنتِ؟ "
" أنا أيضاً تساءلتُ عما فكّره بالأمر، وذلك بعد أعوام عديدة من إقامته لدينا؟ "
" إذن هوَ يريد الاطمئنان إلى وضع أسرته، وكما لو أنه تلقى نذيراً من الغيب "، قالها عليكي آغا الصغير وقد لاحَ عليه التأثر. أطرقت امرأته برأسها، وفكّرت قليلاً قبل أن تقول: " لا بد أنه ذهب إلى أحد أطباء الشام، ولعله حصل بعدئذٍ من الفحص على نتيجة مشئومة؟ ".
قالت ذلك، ثم أردفت كأنها تذكّرت شيئاً فاتها ملاحظته: " بلى، لقد سألتُ شملكان عن زجاجة صغيرة، غريبة الشكل، كانت على الرف فوق سرير النوم، فأجابتني بأنه دواء يتناوله رجلها كل يوم أكثر من مرة وأنه يغدو على الأثر في حالة حسنة "
" ربنا يمنحه الشفاء، ويكون في عون امرأته وأطفاله "، هتفَ الزوجُ بصوت عال وكأنما بغية إيصال الدعاء للسموات العلى.

4
القشلة العسكرية، المتمركزة كما علمنا وراء جامع سعيد باشا على ضفة نهر يزيد، سيرتبط طبيبها بصداقة مع السيّد أوسمان. ذلك كان، عقبَ ذهاب هذا الأخير إلى القشلة كي ينقل جثة قريبه موسي إلى المنزل. الطبيب، وهوَ من الملّة الشركسية ويصغر صديقه الكرديّ قليلاً في العُمر، كان يقيم في الصالحية. للمصادفة، أنّ الرجل كان على قرابة بأهل زوجة الأمير البدرخانيّ وسبقَ له أن كان بضيافتهم في مدينة القنيطرة. ثم توثقت علاقة أوسمان مع الطبيب، بمعاشرتهما لأصحاب الراح في الحارة الجديدة، وكانا أحياناً يغشيان معهم أماكن المجون واللهو ضمن المدينة.
إنه هذا الطبيب، واسمه " إسحاق "، مَن قرأ في ملامح صديقه عوارضَ المرض العضال وكان بعدُ في مراحله الأولى. ثم ما لبثَ أن تأكد من ظنّه، بالكشف الموضعيّ. كان ذلك لما استشاره أوسمان، ذات مرةٍ، شاكياً من ألم مستمر في ناحية الكبد. ولكن إسحاق لم يفصح للمريض عن طبيعة علّته، مكتفياً بالتشديد عليه أن يتخلى نهائياً عن عادة شرب الخمر. كذلك نصحه بترك عمله، كون الجهد والبرد يؤثران على الصحة. أوسمان، وقد تكهّن عندئذٍ بخطورة مرضه، قرر العمل بتوصية صديقه. ذلك اليوم لن ينساه أبداً، كونه الحدّ الفاصل بين طريقتين للحياة؛ إحداهما منطلقة منفتحة على الحياة، والأخرى متقشفة زاهدة تسعى إلى الوصول للآخرة بأقل قدر ممكن من الذنوب. كان أوسمان يومئذٍ بضيافة الطبيب في محلّة الشركسية، التي أخذت اسمها من مقامٍ يخص أحد الأمراء الأيوبيين: بعد نحو ربع قرن، سيرتبط ابنُ أوسمان، صالح، بعلاقة سرية مع امرأة شامية تعيش في هذه المحلة، وكانت أرملة طبيب من أصلٍ شركسيّ. هذا الابن، كان قد ورثَ مهنة أبيه. ولكنه بدلاً عن الكرّوسة، كان يقود فخوراً متباهياً سيارةً من نوع " فورد "؛ وكانت هذه من أولى مركبات عصر التقنية، التي سيعرفها حيّنا الشعبيّ.

***
عليكي آغا الكبير، مثلما سبقَ وعلمنا أيضاً، وجد صديقاً مقرباً في القشلة ذاتها بشخص الشوربجي آغا. على ذلك، لم يكن غريباً أن ينضم كلاهما إلى أصحاب الطبيب والسيّد أوسمان سواءً في سهراتهم بالحارة أو خارجها. ابتعاد قريبه عن هذه الصحبة، بسبب المرض، لم يؤثر على عليكي آغا الكبير. فاستمر على علاقته الحميمة مع أوسمان، دونَ أن يعلم بالطبع بموضوع مرضه. في حقيقة الحال، أنهما كلاهما كانا على نفس الدرجة من حبّ الحياة ومباهجها، كذلك من ناحية المزاج الرائق والميل للمرح. عندما دهمت كارثة رحيل المرأة الحبيبة أحدهما، كان الآخر على موعدٍ مع نبأ فاجع يخص حياته نفسها. في أحد الأيام، وكان قد مضى شهران على رحيل امرأته، استقبل عليكي آغا الكبير صديقه في منزله. مضى به إلى غرفة الضيوف، أينَ المدفأة الشبيهة بالدراغونَ الخرافيّ؛ بشكل جسمها وقوائمها الأربع، وكذا بفمها النافث وهج الحطب وقشور الجوز.
في خلال سهرة الخميس هذه، شاء أوسمان أن يُفرغ جعبة أوجاعه جميعاً، مُستهلاً بحديث الرحيل عن الوطن إلى الشام الشريف: " كان والدك وبقية الأقارب قد سبقونا في الحلول هنا، وكنا نلمّ بأخبارهم عن طريق حجاج ضيعتنا ممن كانوا يمرون على الشام في الذهاب والإياب. أكثر أولئك الحجاج، وبحُكم طبيعتهم الريفية، كانوا يميلون للمبالغة في شأو ما بلغه أقاربنا المهاجرون من ثروة وجاه ـ كذا ـ علاوة طبعاً على الانبهار بالشام؛ حدّ تأكيد وصفها بأنها شبيهة بجنّة الله، التي لم يروها بعدُ! "، اختتم الرجلُ الملول جملته بضحكة مقتضبة.
ثم استمر في القول عابساً بعض الشيء، " في تلك الأثناء، كانت حرب القرم قد هدأت، ولكننا كنا نتوقع أن تشتعل جبهتنا مع الروس الملاعين في أية لحظة. الحلم بالحياة في فردوس الله الأرضيّ، علاوة على القلق والتوجس من جهة أخرى، جعلني أطلب من امرأتي يوماً أن تعجّل في حزم أشيائنا الضرورية والاستعداد للرحيل عن أرض الآباء والأجداد. بيد أن الشام كان لا بد أن تصدمنا، حال من سبقنا إليها من الأقارب والعشيرة. فلم تكن ذلك الفردوس سوى لفئة مختارة من ساكنيها، وكان على المرء الغريب أن يدوخ مطولاً قبل أن يحظى بعمل بسيط يحفظ له كرامته. ولكنني قلتُ لامرأتي، المحبطة مثلي سواءً بسواء، أن الموت هنا في هذه البلاد الغريبة أهون من الإياب إلى بلادنا وأيدينا خاوية ".
عاد أوسمان ليطلق ضحكة جديدة، قبل أن يتابع وقد انشرحَ صدره فيما لاحَ، " على حين فجأة، وكمن حظيَ ببركة ليلة القدر، إذا بأموري تتبدل بين ليلة وضحاها مع شرائي عربة كرّوسة للعمل عليها بين الحارة وسوق الجمعة. ثم ما لبثتُ أن انضممت لفئة الأثرياء؛ على الأقل، مقارنةً بأغلبية أهل الحارة. منذ ذلك الوقت إلى حين توبتي، شربتُ عرقاً كان يُمكن أن يملأ نهر يزيد ـ كما يفعل السيلُ، المتدفق من أضلع جبل قاسيون! ".
بغتة، اتصل ضحكُ المتحدث مع سعالٍ بلا ضجيج وكما لو أن حلقه مختنقٌ بعائق ما. ما كان من الرجل إلا أن أخرج منديلاً من جيبه، فسدّ به فمه إلى حين انتهاء وصلة السعال. بعد ذلك أرخى يده، ودونما أن يلقي نظرة على المنديل، عرضه لعينيّ المضيف. لقد كان ملوّثاً ببقع سوداء دامية، هيَ في حقيقة الحال مِزَقٌ دقيقة من كبده المعلول. قال لقريبه في حزن: " إنني أموت، يا صديقي ". في يوم تالٍ، تكررت الحالة في مضافة الزعيم، وكان على المريض أن يعيد نفس الجملة على مسمع الرجل.
راوي هذه السيرة، كونه يتخطى أحياناً تسلسلَ الأحداث في قفزاتٍ عبرَ الزمن، فإنه سينتقل إلى الأعوام الأولى من سبعينات القرن التالي، لذكر حالةٍ مرضية شبيهة بما دهمت السيّد أوسمان: " بيروزا "، حفيدة ربيبته ليلو، كانت إذاك شريكة حياة حفيد الزعيم. هذا الحفيد، واسمه " ديبو "، سيتمزق كبده أيضاً، نتيجة إدمانه على الشرب منذ مطلع الشباب وإلى مختتم سنوات الحياة، التي لم تكمّل الستين.

5
بقية أيامه في الحياة، انقضت على السيّد أوسمان وهوَ ملتزمٌ غالباً العزلةَ في حجرةَ نومه، لا يفارق السرير سوى لتناول القليل من الطعام أو لقضاء الحاجة. ليلو، كانت ولا غرو أكثر نساء العائلة حزناً على حالة العم الرائع، الذي تكفّل تربيتها مذ أن كانت طفلة. وكانت امرأة العم قد أسرّت لها بحقيقة مرضه، وذلك مباشرةً بعدما علمت هيَ به. مثلما سبقَ وتوقّع الزعيمُ، فالخبر لا ينتشر إلا على ألسنة النساء. مع استقباله لأول أفواج الزائرين، القادمين للاستفسار عن صحته وبث التمنيات بالشفاء، ألقى السيّد أوسمان على امرأته نظرةً فيها ما فيها من سخط وعتاب.
" ولكن كيفَ بالوسع إخفاء هكذا خبر، وعمك أضحى على شفا الاحتضار؟ "، كذلك دافعت شملكان عن نفسها حينَ انفردت بربيبتها على أثر مغادرة الزائرين للدار. ثم نقلت إليها الحديث الغريب، المُفضي به المريضُ لأولئك الأقارب المواسين: " لقد استعاد رحلته إلى الحج، خالطاً الواقع بالخيال. قال أنه ركبَ سفينةً من بيروت، كانت مكتظة بأهالي جبل لبنان ممن سيغيّرون وجهتهم بمجرد وصولهم إلى الإسكندرية، فيأخذون باخرة توصلهم إلى أمريكا. لما سأل بعض هؤلاء الناس عما سيفعلونه هناك، فإنهم رددوا بحماس أنها بلاد الذهب ". ثم صمتت شملكان قليلاً قبل أن تواصل بنبرة استنكار، " تصوري أن يقول لأقاربنا بعدئذٍ، أنه لو رافق المهاجرين إلى أمريكا لكان قد آبَ منها محمّلاً بالذهب ولما عرفَ المرضُ طريقاً إليه! "
" العم أوسمان لا يمكن أن يؤاخذَ، كونه مريضاً لا يُدرك ما يقوله. كما أنّ الربَ غفورٌ رحيم تجاه المذنبين؛ فكيفَ لمن حجّ للمسجد الحرام وتابَ على أعتاب قبر الرسول؟ "، علّقت ليلو وهيَ تهز رأسها علامة على اليقين.
أجابت الأخرى على كلام ربيبتها، باقتضاب: " آمين ". ثم استمرت في رواية حديث رجلها، وكأن ذلك كان يروق لها، " سفينة الحجاج وصلت إذاً إلى شواطئ مصر، وكانت قد لاقت المخاطر بسبب العواصف والحيتان ـ على حد قول عمك. كذلك تكلم عن برزخٍ يصل بين بحرين، يُدعى قناة السوس! وقال، أنه كان يكثر على ضفتي القناة الأعرابُ البدو، ممن راحوا يطلقون وابل من نيران بنادقهم على السفن، فيما رفاق لهم يمخرون المياه وهم في زوارق صغيرة. كون السفينة تنقل الحجيج، عاقبهم الله بأن سلّط عليهم ضواري المياه كأفراس النهر والتماسيح، التي مزقت أجسادهم إرباً. وقال عمك، أن البدو لم يدعونهم بسلام في البر أيضاً. هاجموا القافلة على طول الطريق إلى مكة، وقاموا بقتل ونهب كل من تخلّف عن ركبها أو تاهَ نتيجة الفوضى والاضطراب. من ناحية أخرى، كان العسكر التركيّ المرافق للقافلة أكثر طمعاً وجشعاً، مطالبين الحجّاج في كل مرةٍ بالمزيد من المال لقاء ردّ أولئك الأعراب. قادة هؤلاء العسكر، ما كانوا على علم بأنّ سلطانة قادين كانت مع القافلة. وقد عوقبوا هم أيضاً بقطع رؤوسهم، حالما وصل الحجيج إلى مكة ".
" لعله قاسى فعلاً كل تلك الأهوال، كونها رحلة طويلة ومستطيرة؟ "، عقّبت الربيبة على ما سمعته. ما كان من شملكان سوى إطلاق ضحكة ساخرة، قبل أن ترد بالقول، " يا عزيزتي، هل نسيتِ أن حجاج الشام ينطلقون براً إلى الحجاز مع المحمل الشريف ثم يرجعون برفقته أيضاً. ولكن عمك صارَ ضحية العته والهذيان، منذ معرفته بحقيقة مرضه. فلا أستبعد أنه كان يستعيد أمام الأقارب أحدَ أحلامه، التي اعتاد أن يقصها عليّ أحياناً حالما يفيق من النوم ".

***
كان المريضُ ما يفتأ على قيد الحياة، لما ولدت امرأته بنتاً؛ مثلما سبقَ وتنبأت. بلا حاجةٍ إلى نبوءة، كانت شملكان تعي جيداً، ومتألّمة كل الألم، بأن هذه الصغيرة ستكون آخر ذريتها من أوسمان. ولكن رجلها، اللطيف الطبع، خفّفَ من ألم امرأته حينَ حمل نفسه بصعوبة إلى فراشها كي يهنئها بالسلامة. القابلة، وكانت امرأة الزعيم، سلّمته الابنة دونَ أن تستطيع مغالبة دموعها: " تتربى بعزك، يا أبا صالح ". هكذا كانوا ينادونه، مذ أن رزق بابنه الثاني. تلقاء ابنه البكر، كان أوسمان يشعر بالخجل والحرج. في ذلك الزمن، كان يُطلب من القابلة أن تلوي عنق المولود ما لو ظهرَت الإعاقة على ملامحه. وقد أفلتَ لسانُ رجل شملكان ذات مرةٍ، لما كان ثملاً برفقة صديقه الطبيب: " لو كنتُ أعلم أن حاجي سينشأ وهوَ على هذه الحالة، لطلبتُ من القابلة أن تدق رقبته فور ولادته ". رداً على معاتبة الطبيب، أجابَ الأبُ الملول: " الموت رحمة لأمثاله، لأن الناس لن يشفقون عليه في الكبر ".
لما قال أوسمان لامرأته، أنه سيطلق على ابنته اسمَ " سلطانة "، سألته مشفقةً: " أما زلتَ ترى سلطانة قادين في حلمك؟ ". هز رأسه موافقاً ومعترفاً، دونَ أن ينبسَ ببنت شفة. بعد بضعة أيام، وكانت ملامح الصغيرة تأخذ في الجلاء، قال لأمها ساهماً، " كأني بها تُشبه القطة، وأعني قسمات سحنتها لا حركاتها "
" لم تنطبع ملامحي في أيّ من أولادي الثلاثة، وهيَ على أيّ حال لا تذكّرني بالمرحومة أمي "
" لعلها تُشبه أمي رحمها الله، وكانت قد ماتت أيضاً حينما كنتُ رضيعاً "
" لِمَ قلتَ: أيضاً؟ "، أفلتت شملكان سؤالها ثم ما لبثت أن عضت على شفتها تعبيراً عن الأسف. حرك الرجل كتفه بحركة استهانة، وكأنما عاد إلى طبيعته غير المبالية في التدقيق بكلام الآخرين.

***
مع مرور الأيام، حقَّ للخلق أن يعتقدوا بكون الابنة فألاً حسناً على والدها. لم تتحسن صحته، وفي المقابل، لم تشهد المزيدَ من التدهور إلى الأسوأ. لقد عاشَ ليشهدَ أيضاً إنجابَ ربيبته لابنة، وكان ذلك بعد نحو شهرين من ولادة طفلته. في ظهيرة اليوم التالي، ارتقى بصعوبة درجات السلم الحجريّ ثم اتجه إلى حجرة نوم ليلو. لم يجد هنالك سوى المولودة، وكانت سحنتها تشع حُسناً وعافية. سمعَ أصواتٍ من ناحية الغرفة المجاورة، وكانت ما تنفكّ محتفظةً بصفتها القديمة برغم أنها أضحت منذورة لأعمال الخياطة. ثمة رأى العائلة مجتمعة كلها، كباراً وصغاراً. أدهشه أن تجلسَ امرأةُ النفاس وراء مكنة الخياطة البدائية، وكانت مشرقة الوجه نضرة الملامح. قدم له الصهرُ المفترض مقعداً خشبياً، وقد أفصحت حركته عن بعض الحرج ـ كمن يتعامل مع مريضٍ، عالماً بأن حياة هذا آيلة سريعاً إلى الانقضاء.
" قالت لي شملكان، أنكم أسميتم ابنتكم ريما. يا له من اسم جميل، لائق حقاً بحُسنها "، هتفَ العم أوسمان بلهجة جذلة. حضوره وهوَ على هذا القدر من المرح، كان لا بد أن يُنسي الحضور مسألة مرضه. بنفس النبرة، ردّ عليكي آغا الصغير بالقول: " كنتُ أود تسميتها نيروز؛ كونها ولدت في عشيّة هذا العيد. ولكنّ الحاج حسن لم يُحبذ ذلك، مؤكداً أنه اسمٌ وثنيّ! "
" وثنيّ؟ فلِمَ إذاً يحتفل الحاجُ كل عام بالعيد، هناك في إيوان منزله؟ "، تساءل الرجلُ المريض في شيءٍ من التهكّم. ولكنه أستدرك بسرعة، " وقد يكونُ محقاً، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن حياة المولود تتعلق دائماً برضا الله عز وجل ". ربما تذكّرَ العنعنة، المرافقة لرحيل الرعيل الأول من أولاده وكانوا بسنّ مبكرة؛ ما دفعه فيما بعد للتوجه إلى الحج، وذلك بناءً على توصية امرأة أبي عليكي آغا الصغير.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ليلى والذئاب: الفصل التاسع/ 2
- ليلى والذئاب: الفصل التاسع/ 1
- ليلى والذئاب: الفصل الثامن/ 5
- ليلى والذئاب: الفصل الثامن/ 4
- ليلى والذئاب: الفصل الثامن/ 3
- ليلى والذئاب: الفصل الثامن/ 2
- ليلى والذئاب: الفصل الثامن/ 1
- ليلى والذئاب: الفصل السابع/ 5
- ليلى والذئاب: الفصل السابع/ 4
- ليلى والذئاب: الفصل السابع/ 3
- ليلى والذئاب: الفصل السابع/ 2
- ليلى والذئاب: الفصل السابع/ 1
- ليلى والذئاب: الفصل السادس/ 5
- ليلى والذئاب: الفصل السادس/ 4
- ليلى والذئاب: الفصل السادس/ 3
- ليلى والذئاب: الفصل السادس/ 2
- ليلى والذئاب: الفصل السادس/ 1
- ليلى والذئاب: الفصل الخامس/ 5
- ليلى والذئاب: الفصل الخامس/ 4
- ليلى والذئاب: الفصل الخامس/ 3


المزيد.....




- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - ليلى والذئاب: بقية الفصل التاسع