أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد نبيل - انهيار















المزيد.....

انهيار


محمد نبيل

الحوار المتمدن-العدد: 1558 - 2006 / 5 / 22 - 09:52
المحور: الادب والفن
    


كانت الساعة تشير إلى الثامنة و النصف صباحا. فجأة، غادرت أشعة الشمس مدينة برلين، لتحل محلها عواصف و زخات مطرية قوية. كنت بجانب بويب بيتي، أدقق النظر في بعض الكلمات الألمانية المرسومة على الجدران عسى أن أفك ألغازها. لحظات قليلة ثم أستبد بي الحزن و الأسى، ولم أعد أقدر على الوقوف. لقد دب في نفسي شك أكبر حجما من الكون الذي أوجد فيه. جاءني كريستوف، جار و صديق يسكن هو وكلبه منذ 20 سنة في البيت المجاور لي. كنت متكئا على الحائط، واضعا يدي على جبيني، أفكر في حالي. بعد التحية و السلام، سألني بصوت خافت أوحى لي بصمت الكنائس و تخشع الناس قرب قبب الأولياء عندنا هناك:
ـ كيف حال صحتك اليوم ؟
استغربت لطريقة كلامه، فهو يطرح علي لأول مرة سؤالا من هذا النوع!
خاطبته بعد ثوانٍ معدودة:
ـ أنا بخير كالعادة، لكن…قل لي، لماذا تسألني عن صحتي بالضبط ؟
ـ آه ،من المفروض أن تنسى كل ما حدث لك…لكن ليس المهم هو أن نتذكر لحظات اليأس، فالحياة تستمر بالرغم من كل شيء…
ـ قل لي ماذا وقع…؟ماذا نسيت…؟
ـ أنت نسيت كل شيء…جميل جدا.
ـ أنا لا أتذكر سوى اسمي العربي و عنوان جدتي و بعض الأشياء التافهة.

لم أكن أصدق ما أسمع. بدأ يحكي لي عن أشياء غريبة وقعت لي ولا أستطيع أن استحضرها. كريستوف رافقني بالأمس عندما حملوني على وجه السرعة إلى إحدى مستشفيات مدينة برلين. لم يكن شخص واحد قادر على حملي على كتفيه من شدة الصراخ. لقد تطلب هذا الأمر استدعاء شخصين آخرين من أجل التغلب على إسكاتي و إيقاف جسدي الذي كان يرقص من شدة الألم. طلقت العنان للساني حتى صرت أتكلم بكل لغات العالم. تفوهت بكلمات غير مفهومة و كلمات مبهمة. لم يميز كريستوف سوى ثلاث كلمات، الحب في خطر! ومرة أخرى خانني بدني النحيف و رأسي الذي لم أعد أحمله معي. لم أعد أفرق بين اليد اليمنى و أختها اليسرى . لعنة النسيان تطاردني في كل مكان. لم أعد أتذكر ما أقوم به طيلة اليوم، و لا أحكي عن نفسي إلا على لسان كريستوف. يا للحماقة !

كيف يمكن أن أتواجد في عالم أفقد فيه الإحساس بالرغبة، بالحب و بكل آهات الحنين؟ كيف يمكن أن أنسى كيف وضعت في جيبي كتيبا صغيرا كنت أردد مقاطعه على مسامع المرضى بمستشفى شاءت الصدف أن يوجد بالجانب الشرقي لمدينة برلين. كان الكل ينصت في خشوع مطلق و أنا أقرأ رسائل روزا لوكسمبورغ التي كتبتها وهي وراء القضبان. كنت أتحدث بسلاسة،و كأنني رضعت لغة روزا من ثدي أمي، فحتى الدكتور يون تعاطف معي و اقترب مني و كأنه يريد أن يقول شيئا معينا. سألته عن أحوال صحته، فضحك قائلا:
ـ أنا الذي يجب أن أطمئن عليك، شكرا جزيلا.
سألته مرة ثانية، لأ نني أعرف أن التكرار عند العرب مراده التأكيد:
ـ كيف حال صحتك يا يون ؟
أجابني هذه المرة و كأنه يلقي خطبة أمام أنصار حزبه:
ـ لم أعد أطيق الحياة هنا، تحولت أحلامي إلى رماد و ضاعت هويتي. أنا عاجز عن التفريق بين أشياء الأمس و أحوال اليوم.أختلط علي الأمر . لقد انتقلت من سجن صغير إلى آخر أكبر منه!

وكعادتي ضحكت حتى أغمي علي، فسقطت تلك القارورة التي علقوها فوق رأسي من أجل تغذية أجهزتي التي توقفت عن أداء وظيفتها. كان لدي إحساس غريب و كأن جسمي خارج عني.

حكى لي كريستوف، عندما زارني مساء اليوم الموالي ليطمئن على أحوالي، قال له مدير المستشفى بأنني تحولت إلى شاعر يكتب بلغة غوته. لم يصدق الخبر، لأنه يعلم أنني لست من هواة كتابة الشعر. أنا مجنون الرسائل الغرامية. كريستوف يعلم كيف كنت تلميذا نجيبا و بارعا في رسم خطوط جميلة لعشاق عجزوا عن مواجهة إعصار الهوى القاتل.
ضحك كريستوف عند سماعه الخبر و قال للمدير:
ـ صديقنا العربي لا يفهم إلا في حكي النكت و جمع الكتب الصفراء…

آه ،عندما دخل علي كريستوف، كانت أشعة الضوء الهاربة تنسحب شيئا فشيئا من غرفتي. تفوهت بكلمات عديدة عندما كانت الممرضة صوفيا أمامي، سيدة في الأربعين، شقراء، مطلقة و لها بنت.
ـ أنا متأكد من أن الحب مجرد عادة، فالناس يحاولون خلق صور مثالية تظل سجينة أذهانهم…فنحن الذين نخلق الأشياء و ليس العكس!
ردت علي صوفيا ضاحكة:
ـ لا أدري من سيتحفنا بهذه الحكم عندما يصدرون قرارا بمغادرتك لهذا المستشفى.
فزعت وبسرعة بدأت أحتج:
ـ آه، لماذا سيصدرون هذا القرار…هذا مستحيل !
ردت علي صوفيا و هي تطبطب على كتفي:
ـ خلال أيام و ربما خلال ساعات ستغادر هذا المكان…
رفضت الأمر، وبدأت أصرخ حتى عادت حالتي الهستيرية إلى نقطة البداية:
ـ لا ، لا، …أنا أرفض العودة إلى هناك. جسدي ثقيل، صدري مختنق و رأسي لا يقوى على التفكير. أنا مرتاح هنا…بجانب أسياد هذه الأمكنة المهجورة…إنهم مثلي، لا يحبون الحرية المشروطة…تقدمت صوفيا و ناولتني أنواعا كثيرة من الأقراص المهدئة. أخذت واحدة فقط لأن بطني تحولت إلى حفرة للنفايات الكيماوية.

استرسل كريستوف في حكيه الصباحي. وبدأ يصف لي كيف عم الصمت داخل غرفة المستشفى، صوفيا و الدكتور يون كانا هناك. طلبا مني أن أرفع يدي و أحرك ساقي الأيسر. قمت بكل ما طلباه مني. استغربا لأن كل المؤشرات تدل على سلامة صحتي…خاطبني يون متسائلا :
ـ لماذا أتيت إلى هنا…هذا ليس مكانك…
أجبته ساخرا و بلغة شاعرية :
ـ المستشفى كالحصان، أركبه من أجل الوصول إلى الجنة المفقودة!
رد علي يون و كأنه ينتظر هذا الكلام من مريض مثلي:
ـ هذه العبارات جزء من جنونك لكنها في مستوى ذكائك…

آه، من كلام الأطباء و لمسات الممرضات، ومن حديث المرضى الذي لا ينتهي… الكثير بدأ يؤول حالتي، فهناك من حولني إلى شاعر لكل الإنسانية. آخرون، حولوني إلى حكيم زمانه، أما كريستوف فبدأ يصدق أن ما أصابني عبارة عن مس شيطاني، فكاد أن يقترح علي مقابلة أحد القساوسة بالمدينة كي أتخلص من الأرواح الشريرة…أخرجت ورقة بالية و كتبت عليها بخطوط حمراء: المجنون هو الذي فقد كل شيء إلا العقل. علقتها على الجدران قرب وسادتي البيضاء. رأتها صوفيا و طلبت مني ترجمة العبارة، ولما فهمت معناها، رفضت أن تكمل زياراتها اليومية للمهلوسين القابعين بين وراء الجدار.جلست قبالة صدري ثم شدت على أصابعي. لم أكن أحس بلمساتها. كانت تريد أن تحاورني في هدوء و سكينة، ربما كانت تعتقد أنني حكيم بالفعل، و سأجد لها مخرجا لعزلتها هي و ابنتها البالغة من العمر عشر سنوات. قلت لها و كأنني واثق مما أقول:
ـ عزلة إنسان داخل مكان ما أفضل من حريته عندما يتحول إلى حيوان!
لم تفهم صوفيا هذه الكلمات المحلقة، فطرحت علي سؤالا جميلا:
ـ وما هي طبيعة الإنسان في نظرك ؟
حملت كتيبي بسرعة و بدأت أقلب في صفحاته حتى عثرت على فكرة روزا التي تقول فيها:
ـ في بعض الأحيان، أحس بأنني لست إنسانا حقيقيا، بل أنا طائر أو حيوان آخر يمارس سلوكا إنسانيا.

كنت أفيض غضبا عندما قرأت الكلمات الأخيرة لمقولة روزا . كان الكل يدقق نظره في تقاسيم وجهي و حركة عنقي. كانوا كلهم هناك، الدكتور يون، الممرضة صوفيا و بعض المرضى الذين يأتون للدردشة معي عندما يقتلهم الملل. روح العناد دفعتني إلى التفكير في إيجاد خلاص لأمري، خاصة عندما جاء أحد الأعوان الإداريين و سلمني شهادة المغادرة. فاضت عيناي بالدموع. لم أقبل أن يحملوني مرة أخرى و كأنني جثة هامدة لا تقوى على فعل أي شيء. كنت أراهم، كيف يريدون صندقتي لإرسالي إلى هناك، حيث لا وجود لمكان يتمدد فيه جسدي.كنت أقرأ في عيون صوفيا و الدكتور يون علامات الرفض. لكن، القرار إداري و لا علاقة لهم به. هم كذلك مثلي، يقعون تحت إمرة آخرين. وباستثناء كرستوف الذي كان يلح على العودة إلى بيتي، كانت لغة الفراق تتفتق من جفون يون وصوفيا. كانوا يعرفون أن الرجوع إلى تلك الأسوار يزيد من ألمي ويحولني إلى بضاعة غير قابلة للتداول.

كريستوف الذي يحب برلين الغربية وله ذكريات جميلة هناك قبل سقوط السور، ولا يريد التخلي عنها. فروح المرح و الحرية المشروطة اخترقت أنفاسه و لم يعد قادرا على لون آخر يوجد خارج ذلك المكان الذي يحيط بشقته.

صراخي و كلماتي الطائرة لم تكن لتخلصني من عذاب أربعة رجال جاءوا خصيصا لحملي على الأكتاف حتى أخضع لقرار المغادرة. كانوا بجانبي وكأنهم خائفون من هربي…تزاحمت في رأسي العديد من الأسئلة ثم سألت كريستوف و صوفيا اللذين رافقاني إلى حدود باب المستشفى:
ـ لماذا أمست كل الأمور بهذا الشكل التراجيدي ؟ لماذا لا نستطيع بناء عالم من الحب يسع للجميع ؟وأنت يا صوفيا، لماذا لم أحس بأصابعك عندما كانت تخترق شعيرات يدي ؟ كلهم كانوا ينظرون إلي في صمت رهيب و كأنني لا أقول كلاما يستحق الإجابة. وضعني كريستوف داخل سيارته الكبيرة كصندوق صغير، ثم انطلق بسيارته تجاه برلين الأخرى.لقد وصف لي كيف بللت ملابسي من شدة البكاء، و كيف كنت أحاول قراءة الأسماء التي تم إطلاقها على شوارع المدينة. كنت متحسرا وأنا أنظر إلى علامات كثيرة أصبحت يتيمة. سألته أكثر من مرة:
ـ وهل وصلنا إلى الجحيم ؟
لم يجبني واكتفى بالنظر إلي في المرآة العاكسة حتى يطمئن على أنني ثابت، لا أحرك أي عضو من جسمي،و أنني مازلت محافظا على هدوئي. استسلمت لحالي قبل أن أسأله مطأطئا رأسي:
ـ وما هي أخبار كلبك ؟ هل مازلت تخرج معه مساء كل يوم ؟
ـ نعم بخير… لكن صدقني، كلب صديق أفضل من صديق كلب!

عندما وصلنا البيت، رماني فوق سريري بسهولة فائقة، أغلق الباب، و انصرف بعدما وضع على صدري كتيب روزا بجانب ورقة و قلم.

محمد نبيل ـ كاتب و صحافي مقيم بألمانيا



#محمد_نبيل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في ذكرى ميلاد سيغموند فرويد : محنة العالم
- مسابقة لأجمل حمار
- سؤال الهجرة بمغرب اليوم
- رسالة من برلين
- من هو الألماني الصالح ؟
- سؤال الموت
- سؤال الصحافة بمغرب اليوم
- حقيقة مفهوم صراع الحضارات
- سكوت، نحن في تونس !


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد نبيل - انهيار