أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح هرمز الشاني - نجمة البتاوين....















المزيد.....


نجمة البتاوين....


صباح هرمز الشاني

الحوار المتمدن-العدد: 6395 - 2019 / 10 / 31 - 01:40
المحور: الادب والفن
    


نجمة البتاوين. . .


صباح هرمز الشاني

معظم الروايات الصادرة بعد السقوط، تعرضت للأوضاع المستجدة في البلد، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أهمية المعطاء الجديد وتأثيره بما حصل من تغيرات سلبا أو إيجابا في المجتمع العراقي. كما يدل أن مديات هذا التغيير بلغت درجة من التأثير بحيث لم يعد للروائيين منفذ آخر، سوى منفذ واحد لتناوله في سردهم، ألا وهو منفذ (الإرهاب) بمختلف أنواعه ومسمياته المتمثلة في القتل والسلب والخطف والتفجير والتهديد والترهيب والسرقة . ورواية (نجمة البتاوين) لمؤلفها شاكرالأنباري، هي واحدة من الروايات العراقية التي تنحو بجدارة هذا المنحى.
تدور أحداث هذه الرواية في حي من الأحياء القديمة للعاصمة بغداد، وهو حي البتاوين المعروف بتحوله أسوة بمعظم المدن العراقية، بعد السقوط الى مأوى للمجرمين وعصابات تمارس الخطف والقتل على الهوية في وضح النهار، وإرهابيين يفجرون السيارات ويقتلون البشر بأحزمة ناسفة، ودعارة ترجرج بين الأزقة وتنتقل من شارع الى آخر طلبا للزبائن. ففي هذا الجو المرعب، أرتآى مجموعة من الإصدقاء، يعملون في الصحافة، أن يقضوا أوقات راحتهم في شقة متواضعة، كونها قريبة من مقر عملهم في الجريدة، أطلقوا عليها أسم نجمة البتاوين، للتفريغ عن بعض من همومهم في شرب الكحول التي تفتح شهيتهم للحوار في الامور المستجدة في البلد وهي إنتشار الجنود الأجانب والميليشيات في كل مكان من العاصمة، والأحداث التي تجري فيها يوميا، وإستعادة الذكريات التي عاشوها مع بعضهم البعض، وفي بعض الأحيان تسخيرها لإصطياد النساء.
لجأ المؤلف بدلا من إتباع تجزئة الرواية الى فصول أو وحدات، لجأ الى تقسيمها الى النظام الترقيمي، موزعا إياها على أربعة عشر رقما، يبلغ عدد صفحاتها مئتين وثلاث وعشرين صفحة.
عمد المؤلف الى التعويل على ثلاث تقنيات في بناء معمارية روايته، وهي تقنية المكان، وتقنية تأخير وتقديم الحدث، وتقنية المقارنة. التقنية الأولى من خلال سيادة المكان على الرواية، والثانية عبر إتباع طريقة الميتا السردية المعروفة في الرواية الحدبثة، والثالثة عبر إجراء وجه المقارنة بين ماضي المدينة وحاضرها.
إن السرد في هذه الرواية لا ينشأ من خلال ترتيب الأحداث وتنظيمها وفق وقوعها، أي أن المؤلف، أو السارد الضمني الذي يقوم بسرد الأحداث بدلا من المؤلف لا يتقيد بالقواعد الكلاسيكية المعروفة في رواية القرن التاسع عشر، وإنما بقواعد الرواية الحديثة المبني على تأخير وتقديم الأحداث، بطريقة لا تخلو من الغموض، وتحررها من جاهزيتها، وتضفي عليها تكوينات جمالية. لذا إن التداخل والتشابك المبني في سير أحداث الرواية، قد تربك المتلقي الذي لم يألف قراءة هذا النمط من الروايات، وقد تكون هذه إحدى حسناته، وهي إعادة قراءتها لإزالة هذا الإلتباس. إن إختطاف عمران المهندس مثلا يأتي في بداية الرواية، بينما لا يطلع المتلقي على كيفية إختطافه إلآ بعد مرور مئة وستين صفحة من صفحات الرواية، مع أنه كأي شخصية أخرى من شخصيات الرواية موجود داخل الأحداث. والشيء نفسه ينطبق على شخصية زاهر. إذ بالرغم من أنه يغادر البلد ويتذكر الأحداث التي عاشها في العراق مع أصدقائه من داخل الحافلة التي تقله الى سوريا من بداية الرواية الى نهايتها، فهو كشخصية عمران له حضور في الأحداث أيضا. وإذا كان عمران المهندس في نظام الترقيم الأول قد أختطف، فإنه في النظام الترقيم الثاني، يبدو كما لو كان قد حرر من الأسر، وهو يسلم تقرير إختطافه الى زاهر، ويحضه على مغادرة البلد في جملة:( لا تلتفت وراءك أمض بعيدا عن هذا البلد). وهذه الجملة، بتأويلها الى المعنى نفسه، هي تناص مع عنوان مسرحية لجون أوزبورن الموسومة (أنظر الى الوراء بغضب)، مثلها مثل الجملة التي يطلقها علي محمد بوجه أحلام وهي عارية:(أنت ملاك الرب الذي هبط في بابل) المتناصة أيضا مع عنوان لمسرحية (هبط الملاك في بابل) للكاتب السويسري فريدريش ديرنمات. أقول هذا ما يترآى للمتلقي، أن عمران حرر من الأسر بعد الترقيم الأول، أي في فترة زمنية قصيرة جدا، بينما الحقيقة ليس كذلك، إذ جاء تحريره قبل عودة زاهر من الخارج. وهاهو عمران في الترقيم الثالث في إستقبال زاهر بمكتبه لقدومه من الخارج. في الوقت الذي كرس الترقيم الثاني فيه لرحلة زاهر الى سوريا، والأول لإختطاف عمران.
(أختطف عمران المهندس في الخريف)، تبدأ الرواية بهذه الجملة في الترقيم الأول.
( ليلة البارحة جلب له عمران تقريره عن قصة إختطافه)، تأتي هذه الجملة في بداية الترقيم الثاني.
(وهكذا بسرعة مئة وخمسين كيلو مترا في الساعة ووسط صحراء قاحلة ، بدأ زاهر يقرأ تقرير مروان)، جاءت هذه الجملة في الترقيم الثالث عشر، أي قبل نهاية الرواية بقليل.
وكان وجه سهى ينبعث في ذهنه بقوة تشبه قوة الغروب الهابط على المدينة، وكانت الصحراء الشاسعة والهادئة تبتلع كل شيء بعد ذلك، الوجوه، الحكايات، وعمران المهندس، وشقة البتاوين. . . )، في الترقيم الثالث من الرواية. عودة زاهر من الخارج.
إن كانت ثمة رواية بأسم رواية المدينة، فهذه الرواية تستحق أن تسمى كذلك، لأنها لا تدع شيئا في المدينة إلآ وتتصدى له، إبتداء من شوارعها وأحيائها وأزقاتها، مرورا بفنادقها وحاناتها وشققها وأسواقها، وإنتهاء بلصوصها ومجرميها وإرهابييها، وحيواناتها ونباتاتها وجمادها . و. . . و . . . لذا فهي رواية تكاد أن تخلو من الأحداث التي تقع في الروايات الأعتيادية، والأحداث البارزة فيها هي عملية الإختطاف والسرقة والتفجير التي تحدث لعمران وزاهر ومحمد علي وأبو حسن وربيع المحمدي ولعامة الناس في الشوارع والمحلات والحافلات وأي مكان بوسع الإرهابيين النفاذ منه، وفي كل مكان تدور فيه أحداث الرواية. لذا يعمد المؤلف لجعل المكان بطلا للرواية، لخلو الرواية من شخصية البطل أو الشخصية المحورية، وإعتمادها على البطل الجماعي، بالأحرى لأن المكان هو الذي يفرض نفسه بقوة لأن يكون كذلك بحكم الأحداث غير المألوفة والرهيبة الدائرة فيه، يعمد الى إستخدام تقنية المقارنة بين ماضي المدينة وحاضرها، ليس شرطا أن تكون بغداد، وإنما أية مدينة عراقية أخرى، من خلال أوجه الإختلاف بينهما، وبالتعويل على الوجه الأليف في الأول، والوجه المعادي في الثاني، ليس في شوارع المدينة حسب، بل في ساحاتها وأبنيتها وأزقاتها وكل المرافق الحياتية وغير الحياتية المرتبطة بها.
وإذا ما أجرينا مقارنة بين الوجه المعادي لمدينة أستنبول مع العاصمة بغداد من وجهة نظر الروائي التركي المعروف أورهان باموك بسوداوية أستنبول، هذه السوداوية التي يشير اليها في كتابه الموسوم ( أستانبول الذكريات والمدينة)، لوجدنا أن سوداويتها هذه، إنما هي الوجه الأليف لعاصمتنا. وهنا تكمن المفارقة. إذ في الوقت الذي يرى فيه باموك السوداوية في الأب العائد الى بيته حاملا أكياسا تحت مصابيح أزقة الأحياء الخلفية، نحن نرى هذا الاب بعكس ذلك محظوظا، وهويصل الى بيته بسلام، لأن الناس تخشى في بلدنا وفي وقت متأخر أن تسير في الأزقات لا بل حتى في وضح النهار، بسبب السرقة أو الخطف، كما حدث في هذه الرواية لعمران وزاهر ومحمد علي وربيع المحمدي، وهكذا بالنسبة لبائعي الكتب الذين يرتجفون في دكاكينهم بردا في تركيا، ويبدي باموك تعاطفه معهم ويشفق لهم. إن أبو حسن بائع الكتب في شارع المتنبي، لم يمت بردا وإنما بإنفجار قنبلة بالقرب من محله.
أما لو أجرينا مقارنة بين الوجه المعادي والوجه المألوف للعاصمة بغداد من خلال أوجه الإختلاف بين ماضيها وحاضرها، من وجهة نظر مؤلف هذه الرواية الذي هو شاكر الأنباري، لنجد أن شخصيات الرواية تفتقر الى ما يذكرها بالوجه المألوف للعاصمة بغداد، بقدر ما يذكرها هذا الوجه بالمدن العراقية الأخرى كمدينة السليمانية مثلا في فترة السبعينيات، أو كما لو كان الحاضر المؤلم قد شطب كل الأوجه المألوفة لبغداد عن فكر وذهن شخصيات الرواية، ولم يبق فيهما سوى صور الوجه المعادي، ما عدا صورة واحدة عن بغداد للوجه المألوف، ظلت عالقة في ذهن زاهر، وهي صورة البيت الذي تركه في شارع الفلسطين. إن الوجه المألوف لمدينة السليمانية بالنسبة لشخصيتي الرواية عمران وزاهر هو سهرهما في ليالي الشتاء الباردة وهما يتحدثان في السياسة وبنات الجامعة، وأكل الدبس والراشي وشرب البيرة وأرتياد مقهى مام علي ومشاهدة الأفلام في سينما سيروان. بينما الوجه المعادي للعاصمة بغداد، تعجز عشرات الكتب لغزارتها وبشاعتها من تدوينها.
يقول الناقد ياسين النصير في كتابه الموسوم:(المدينة والفن التشكيلي)، في المرحلة الحالية يجري تغيير جذري على مناطق بغداد، يتبعها تغيير جذري آخر في سياقات الحياة اليومية لهذه المناطق. فما كان سكنا اصبح ثكنة عسكرية، وما كان شارعا أصبح مقرات لأحزاب ومنظمات، وما كان رصيفا تحول الى بسطية متجولة، وما كان ناديا أو بارا الى مقر للميلشيات، وما كان مكتبة أو شارعا فجر بمفخخات التدمير الديني. . . ).1 وإذا كان النصير يدعو الفنان الشكيلي أن يرصد ألوان وخطوط وكتل هذه التحولات البنيوية في المدينة، لأنه بصدد الحديث عن الفن التشكيلي، فأنا من جانبي لا أعتقد ان الروائي العراقي بحاجة الى مثل هذه الدعوة، لسبب بسيط وهو أن معظم الروائيين، إن لم أذهب الى القول الكل، أوفوا حق هذه التحولات، وكل واحد منهم من وجهة نظر تختلف عن وجهات النظر الأخرى، وطريقة لا تتشابه الطرق الأخرى، لذا وبالعودة الى المقارنة السابقة بين ما تراه الشعوب أمرا غير أعتيادي، بينما نحن نراه أعتياديا، فمن الطبيعي والحال هذا أن يدعو المؤلف على لسان عمران في نهاية الرواية المتلقي من خلال مخاطبة زاهر على الهجرة، وهو يقول له: (أرحل عن هذا البلد ولا تنظر الى الوراء أبدا فالبلد يحترق يا صديقي). وبهذه الدعوة يبلغ المؤلف ذروة يأسه وخيبة أمله في تغيير نظام الحكم بأي شكل من الأشكال. ويتضح هذا اليأس أكثر في حلم علي محمد وهو يسير في شارع الرشيد:
( هكذا ركض بكل ما يملك من قوة، وما فتيء يجد نفسه في مكانه، حين أنتبه الى قدميه والتفت الى جانبيه، كان في الحقيقة يركض بين جدارين عاليين من الأسمنت، يستدير عله يجد أفقا، الى اليمين، فيقوده الطريق نفسه، ثم يكر راجعا فيسقط في متاهة الجدران، وبين الحين والآخر يرى لافتات تشير الى أمكنة بغداد الأليفة، لكنه لا يراها: الكاظمية، الوشاش، الأعظمية، حي دراغ، الطالبية، الزعفرانية، الثورة، بغداد الجديدة، أسماء فقط، لكن خطواته لا تقوده سوى الى المزيد من الجدران والغبش والبياض الرجراج، وبغداد مليئة بالجدران، بالمتاهات الكونكريتية، بالزنازين. يسقط من الأعياء.).
إن هذا الحلم السوريالي يعبر عن مأساة المواطن العراقي وهو يعيش في مكان حرم عليه أن يشاهد الأماكن التي أعتادت عيناه عليها لإحاطتها بالجدران الكونكيتية، فلم يعد له الإستمتاع بالأحياء القديمة للعاصمة ولا بأزقاتها وأسواقها وشوارعها. أما الأحلام الأخرى التي تلي هذا الحلم فهي توحي الى معنيين في آن. إن شق علي محمد طريقه بصعوبة بين الحشود في سوق مكتظ ، مثلما توحي هذه الجملة الى الفوضى السائدة في البلد، توميء كذلك، سيما تليها جملتي تلال من الرمان وسلال من التين المجفف، بحدوث عمل إرهابي في هذه السوق. أما جملة :(عربة من الأحذية يقف عليها رجل أعور)، تعني المخلفات الذي تركه التفجير. والشاب الملتحي والشبيه بزاهر ويضع السكين على حنجرته، يوميء بعدم إنجذاب سهى اليه وإنجذابها الى زاهر، لذا فقد قضى عليه نحرا بالإستيلاء على سهى. والجمهور السائر خلف سهى، وهو يصيح قحبة. . قحبة. . يوحي الى النظرة المتخلفة التي جاء بها الأسلام السياسي بعد السقوط للمرأة السافرة. وما أن تختفي سهى التي كانت تسير مع علي محمد نحو تمثال عبد المحسن السعدون، حتى يصرخ بوجهه: لماذا انتحرت سيادة الرئيس؟ إن هذه الصرخة إن دلت على شيء، فإنما تدل على إدانة كل رموز نظام الحكم بلا إستثناء، بفعل الفساد المستشري في البلد، والوضع المزري الذي يعمه. ذلك أن ولا واحدا منهم، من رموز نظام الحكم، بالرغم ما حل بالبلاد من فوضى ودمار، قدم على الإستقالة وليس على الإنتحار، كما أقدم عليه السعدون قبل مائة سنة تقريبا.
وإذا كان اليأس قد دب في نفوس شخصيات الرواية من خلال الحلم، فإن العودة الى ماضيهم يسير على الطريق ذاته، فالأغنية التي يستمعون اليها في شقة البتاوين لأنوار عبدالوهاب التي تذكرهم بفترة السبعينيات، هي الأخرى لحظة من لحظات حلم اليقظة: (فلم يعد هناك من كلام. أحسوا بالصوت مثقلا بالحب والموت في الآن ذاته، وصمت الكل في تكسرات صوت أنوار بمن فيهم زاهر أيضا حتى أنتهت الأغنية، حيث دارت الكؤوس ودارت معها الألسن.). وبقدر ما يتجلى هذا اليأس في الحلم بالعودة الى الماضي، بالقدر ذاته يجعل زاهر من الماضي حلما يحن اليه قبل أن يغدو الماضي ماضيا، قبل أن يغادر العاصمة، المكان الذي عاش فيه مع زوجته وأبنه لسنين في شارع فلسطين. وهذا االنوع من الأحلام الأقرب الى أحلام اليقظة هو أقسى الأنواع، وزاهر يودع الجراد وقطرات الحنفية التي داعبت جسد هشام الغض وعصافير الصباح وصراصير الحمام وأغصان شجرة الزيتون وصحون التلفزيون اللاقطة و. . و. . في هذا الجو المشحون بالإنفعال والعاطفة، يخطر بباله البيوت الذي بناها وخربها، ومن بينها بيت جرمانا والبيت المطل على بحر الشمال، وبمقارنة بسيطة بينهما وبين بيت شارع فلسطين، يرى زاهر أن الأخير مختلف وله طعم لن ينساه أبدا: (وهذا ما جعل من تقطيعه المؤلم الذي دام أسبوعين عملية تشبه الإنتحار.).
يقول باشلار في كتابه (جماليات المكان):( إن البيوت المتعاقبة التي سكناها جعلت إيماءتنا عادية. ولكننا نندهش حين نعود الى البيت القديم بعد تجوال سنين عديدة، أن نجد أدق الإيماءات وأقدمها تعود للحياة.)2. مع أن زاهرا لم يكن عائدا، وإنما مهاجرا، أو في طريقه الى الهجرة. فكيف إذا كان عائدا إذن؟! ليؤكد باشلار هنا مصداقية ما ذهب اليه السارد الضمني من خلال شخصية زاهر في كون بيت جرمانا والبيت المطل على بحر الشمال بيتان هامشيان، والبيت الأساس هو البيت الذي ولد فيه أبنه في شارع فلسطين وعاش فيه هو لسنين خلت.
إن تعدد النقلات المكانية في هذه الرواية من الشارع الى مبنى الجريدة والى البار والى نجمة البتاوين والى البيت والأزقة، وهكذا من مكان الى آخر، سببه مقاومة الشخصيات للحد من سطوة المكان، بوصفه بطلا مناوئا لهم. غير أن ميزة هذه البنية المكانية المتكررة تكمن في عودتها الى المكان الأول الذي أنطلقت منه، وهو نجمة البتاوين، ذلك ان هذا المكان، أو كما يقول الدكتور منصورنعمان:( أن المكان الأول الذي شكل أسا ثابتا وقائما لا يمكن إبعاده أو تهميشه، وبذلك يكون هذا المكان بمثابة الوضعية الأستهلاكية لكل الأمكنة التي تشكل تكرارا للمكان الأول .)3. لذلك فإن أحداث الرواية تبدأ بشقة نجمة البتاوين، وكل الحوارات المهمة تجري فيها، وتبدو الأمكنة الأخرى التي تتفاعل معها الشخصيات كالشوارع والبارات ومبنى الجريدة أشياء صغيرة مقارنة بها.
إن ميزة شقة نجمة البتاوين كمكان، لا تتجلى فقط في كونه بمثابة الوضعية الإستهلاكية لكل الأمكنة، وإنما لكونها المكان الوحيد في الرواية الذي تنسى الشخصيات همومها، وتعيش في الماضي. والأجواء الشاعرية التي يشكلونها فيه، إذا كان عن طريق إضاءة الشموع أو ترتيب المزات والصحون والملاعق، تتوسطهم مجموعة من قناني البيرة والعرق:( وأستحسن الجميع فكرة إضاءة المكان بالشموع. وكانت الظلال وتراقص الخيالات، ورائحة الطعام والشراب، حولت الفضاء الضيق الى عبوة غريبة لمن يراها من الخارج). والأهم من كل ذلك وجود أحلام في الشقة، هذا العبق الأنثوي وسط مجتمع ذكوري، لتأخذ قسطا لا بأس به من أحاديثهم:( حول عشاقها وحبلها، وعدد الأشهر المتبقية التي تستطيع فيها مضاجعة الزبائن، أحلام والوضع الامني والديني الذي سيقودها كما أكد علي محمد أمين ، الى الذبح ذات يوم). وللتأكيد على ميزة جلسات نجمة البتاوين عن غيرها من الجلسات أو الأماكن، يرى زاهر بالأحرى:( يفكر على ان هذه الجلسة من الجلسات التي لن تنسى في حياته). أي
جلسات شقة نجمة البتاوين.
يغلب السرد الموضوعي في الرواية، وهو الأسلوب الذي يعتمد على السارد العليم والذي يستعين بضمير الغائب هو، أو هي، على السرد الذاتي الذي يعتمد على ضمير المتكلم (أنا)، وتبدأ الرواية في صفحاتها الثلاث الأولى بالسرد الموضوعي، تحديدا من جملة: (أختطف عمران المهندس) الى جملة: ( ليس هناك قانون ولا شرطة تتعقبهم، ربح سهل وسريع). لتليها تقنية المونتاج القاطع من خلال قول علي محمد أمين: ولكن لماذا يقتلونه، إذ من هذه الجملة يبدأ السرد الذاتي، يعقبه مونتاج قاطع آخر من قبل أبو حسن عبر مفردة:(قال)، وهكذا من خلال المونتاج القاطع يتحول الى السرد الذاتي بين علي محمد وأبوحسن وربيع المحمدي الى جملة:( ثم أرتشف زاهر رشفة من كاسه)، حيث يتحول السرد الى الموضوعي الى جملة (قال زاهر)، يتحول الى الذاتي، وهكذا الى نهاية الترقيم الأول. أي أن المؤلف بدلا من الحوار التقليدي الدائر بين شخصيات الرواية القريب من الحوار في النصوص المسرحية، لجأ الى إستخدام الأسلوب الأقرب الى الرواية في سرد متنه الحكائي. بينما في التراقيم الأخرى، نادرا ما يلجأ الى هذ الأسلوب، بقدر ما أعطى مساحة أوسع للشخصيات لأن تعبر عن صوتها، كما في عودة زاهر من الخارج مثلا، وإن يبدو صوته في ضمير الغائب، بيد أنه لخروج هذا الصوت من الداخل(مونولوج)، وهو يسبح في تأملاته، ينضوي تحت لواء ضمير المتكلم. ولعل إعطاء مساحات واسعة لشخصياته لأن تعبر عن أصواتها بحرية (تعدد الأصوات)، ما دفع السارد الضمني أن يجرب قدرته على طرق أبواب التفاصيل السردية في الترقيم السادس والسابع، وخاصة السابع في توسعه بالأمكنة البغدادية وعلى نحو خاص في الترقيم المكرس لشارع الرشيد حيث بلغ عدد صفحاته عشر صفحات . والجميل أنه يشير في مكانين في الرواية الى إنجذابه الى هذه التفاصيل. في المرة الأولى على لسان زاهر في تذكره لرواية غائب طعمة فرمان (المرتجى والمؤجل) لدور بطل الرواية الذي قضى وقته في المشفى يلقن أبنه المريض تأريخ بلده بالتفاصيل المملة التي حولها الزمن الى تفاصيل جميلة. وفي المرة الثانية على لسان زاهر الذي اعجبته طريقة ربيع التفصيلية في الكتابة، كتابة التفاصيل ذلك أن:( التفاصيل تخلق الحياة وتشي بالرائحة واللون والحركة، نعم كيف يمكن الكتابة عن شارع الرشيد مثلا دون التطرق الى ذبابه المريع الذي لم يشاهد زاهر مثله في أي مدينة اخرى.) إذ مثلما رواية غائب طعمة المرتجى والمؤجل توحي الى إعلان المؤلف عن إتباعه تقنية تفاصيل السرد، كذلك يعلن من خلال مقارنة تعليم أبنه بتعابير لم يألفها بطل هذه الرواية، عن تناصها مع هذه الرواية.
تتكرر جملة:( لا تلتفت الى الخلف) أربع مرات في الرواية. في المرة الأولى عندما نط رجل من السيارة ووضع المسدس فوق رأس زاهر وقال له كلمة واحدة أفجر رأسك. ضع ما لديك من دولارات دون مقاومة. وفي المرة الثانية أثناء ما يتذكر زاهر الحادثة الأولى، يتذكرها كما لو كانت بالأمس، حيث اصبحت جزء من عالم ينبغي أن يغادره دون ان يلتفت الى الخلف. وفي المرة الثالثة وقد جاءت هذه الجملة عنوانا للتقرير الذي كتبه عمران الى زاهر. وفي المرة الرابعة تأتي ختاما للرواية، إذ ينهي تقريره في هذه الجملة:(لا تنظر الى الوراء أبدا فالبلد يحترق يا صديقي.).
أما مفردة (الذبابة) فقد تكررت سبع عشرة مرة وفي الصفحات التالية: 10، 23، 24، 37، 46، 53، 55، 58، 70 ثلاث مرات، 128، 141، 144، 149، 170، 177. في المرة الأولى جاءت هذه المفردة ضمن تكيف زاهر لإيقاعات البلد في الفقر والإختطاف والتخلف والذباب والأمكنة البائدة والأصدقاء وكيف يعيشون ويفكرون.
وفي المرة الثانية لتشبيه العدد الهائل لجنود الأجانب المنتشرين في بغداد بجيش من الذباب. والثالثة بوجوده في البار أيضا، ولكن بقصد الإيحاء الى أن هذا الذباب سيفرق فيما بينهم، بين عمران وزاهر بعد عودة الأخير الى بغداد، وأول لقاء ما بينهما. وفي الرابعة للتأكيد على أن في هذا البلد لا يوجد سوى الموت والغبار والذباب. والخامسة بقصد إنقضاض الإرهابيين على كل شيء في البلد، من خلال جملة:(وكان الذباب ينقض على كل شيء). والسادسة بما يوحي الى سعادتها في الحرية الممنوحة لها بالرغم من كل الجرائم التي تمارسها يوميا، في جملة:(واسراب الذباب تتطاير في محاذاة الباب مستمتعة بحارة الشمس). وفي السابعة في إشارة الى تحالف الذباب مع خصمه اللدود لتقسيم الغنيمة، في جملة:( والذباب يطير فوق معالق الخرفان سوية مع الزنابير الحمر).
كما أن جملة :( هناك لهفة الى الأكل) تتكرر أكثر من مرة. ومرد هذه الظاهرة يعيدها المؤلف الى توق الإنسان الى الحياة بسبب وجود الموت الكثيف. وللتأكيد على تفسيره هذا، يستعين بجملة أخرى تعزز معنى ما ذهب اليه:(والتآكل كان بارزا في أوجه البنايات والشبابيك والأبواب . . . ). بمعنى ليس الإنسان وحده في طريقه الى الموت، وإنما حتى الجماد في طريقه الى الزوال:( على اليمين واليسار تنتصب أعمدة شارع الرشيد التي بدت لعينيه أقل ضخامة من ذي قبل وكانت نجمة البتاوين في ضمير الغيب). وفي المرة الثانية لإتخاذ الصبيان من الأزقة الموحاة للعب والولادة، النهم للأكل والخوف من النسيان.
وتتكرر مفردة (الدجاج) ثلاث مرات في الرواية، في المرة الأولى ضمن بعض الطيور كالحمام وطيور الحب فضلا عن الأرنب التي يهوى ربيع المحمدي منذ الصغر تربية هذه الكائنات، لأنها توفر الراحة الداخلية له وتعدل مزاجه وهو يتأملها في القفص الذي أعده لها.
يقينا لم تأت هذه المفردة إعتباطا إن لم يهدف المؤلف من توظيفها لمغزى، سيما الدجاج نائم في القفص، والجيران تتصاعد منهم همسات ونداءات وكانهم يقيمون وليمة ما. يبدو لي بتأويل القفص الى سجن، والطيور الى بشر، والجيران الى السلطة، نبلغ المغزى المبتغى من توظيف هذه المفردة، ألا وهو إبتهاج حكام البلد بالبؤس الذي يعيشه المواطن المحصور داخل سجن العاصمة بغداد، والمطوقة بأسوار كونكريتية تعيق حركة المواطن، وسيارات مفخخة تنفجر هنا وهناك لا مفر للنجاة منها، شأنه شان الطيور المحبوسة داخل القفص. وها هو ربيع المحمدي يتساءل: أين تقع نجمة البتاوين يا ترى؟ رمز سعادة الأصدقاء الخمسة: (حدس أن مصائرهم في طريقها الى الإنفراط). وفي المرة الثانية لمراجعة ما كتبه عن الدجاج، وفي الثالثة في تناوله بالتفصيل فضل الدجاج على البشر في فصل ممتع جدا. وهنا يأتي المؤلف أيضا على ذكر التفاصيل، لربما إيحاء الى إنجذابه الى هذه الطريقة في السرد. كما أن جملة:( أنبل الطيور الدجاج) تتكرر ثلاث مرات في صفحة واحدة. تحديدا في الصفحة ( 140). ورغم إعطاء ربيع المحمدي هذه المكانة للدجاج من بين الطيور، غير أنه يتوصل الى قناعة مؤداها:( أن السكين يفترض بها أن تكون فقط لحز رقابنا إلهنا الجديد، الدجاج، لا حز رقاب البشر.
إذا كان الكل إستنادا الى إجابة أحلام لسؤال علي محمد آباء للطفل الموجود في بطنها من الشيخ عمر الى الكرادة، فهذا يعني انها أم الكل، وما دامت كذلك فهي ترمز الى الوطن. بدليل أن زاهرا يتفق مع علي محمد في كون أحلام أشرف إمرأة في المنطقة من ساحة التحرير الى ساحة الأندلس، لأنها لا تفجر عبوات ناسفة ولا تقتل البشر ولا تخطف من أجل النقود ولا تسلب سيارات الناس. والأكثر من ذلك فإن علي محمد مهوس بها وهو على إستعداد للزواج منها. ويسعى في الوقت ذاته التقرب من سهى المنجذبة الى زاهر الذي ضاجعها مرة في مكتب عمران. وهي الأخرى متمردة على العادات والتقاليد التي جاء بها الإسلام السياسي في إرتداء الثياب المحتشمة، وغير مكترثة للتهديدات والتعليقات التي تتعرض لها بين فترة وأخرى في الشارع وهي في طريقها الى مبنى الجريدة.
المصادر:
1-المدينة والفن التشكيلي، ياسين النصير، درر آراس للطباعة والنشر، الطبة الأولى 2013.
2-جماليات المكان، غاستون باشلار- ترجمة غالب هلسا، الطبعة السادسة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. 2006.
3-المكان في النص المسرحي، أطروحة الدكتوراه للدكتور منصور نعمان 1999.

14/6/2019



#صباح_هرمز_الشاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خلف السدة...
- المنعطف. .
- تل المطران...
- تمر الأصابع. . لمحسن الرملي
- ابناء و أحذية بين أكون أو لا أكون .. و بين .. إقناع الشيء مق ...
- مسرحيات فريدريش ديرنمات بين الكوميديا السوداء وإختلاف الشخصي ...
- مسرحيات يوسف العاني بين الرمز والموروث الشعبي . .
- في مسرحيتين لفيليمير لوكيتش
- بين شفرات الحافلة
- مسرحيات سترندبيرغ . . . بين الخيانة الزوجية وإقتران البداية ...
- مسرحيات أبسن= إسترجاع الماضي + المناقشة + الشخص الثالث.
- مقاربة بين مسرحيات سترندبيرغ وأبسن
- جدلية الانتماء والخيانة في مسرحيات يوسف الصائغ
- مسرحيات توفيق الحكيم....والمسخ
- مقاربة بين روايتي الكافرة و حجر الصبر
- الرجع البعيد بين تقنية الأيحاء وعملية التطهير
- وحدها شجرة الرمان . . بين تقنية المكان. . وعملية التناص
- الآنسة جوليا.. وحلم التحرر من السلطة
- السمات المشتركة في مسرحيات ابسن
- مناطق التغريب في مسرحيات بريخت


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح هرمز الشاني - نجمة البتاوين....