أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - راتب شعبو - الطيب تيزيني، فيلسوف الأفكار الشائعة 1















المزيد.....



الطيب تيزيني، فيلسوف الأفكار الشائعة 1


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 6392 - 2019 / 10 / 27 - 22:41
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


انشغل الكثير من المفكرين العرب وغير العرب بدراسة نشوء وتطور الدعوة الإسلامية الأولى وسيرة محمد والثورة المركبة التي أحدثها في العالم في ذلك العصر، ثورة دينية وسياسية أسست لحضارة حفرت لها مكاناً في تاريخ الحضارات البشرية. ولعل موضوع بزوغ الدعوة الإسلامية الأولى وسيرة رسولها من أكثر المواضيع التي استهلكت انشغال المفكرين العرب. المفكر السوري الطيب تيزيني (1934 – 2019) كان من بين هؤلاء الذين كرسوا جهداً كبيراً لهذا الانشغال. فقد تفرغ لإنجاز مشروعه الضخم الذي كان مقرراً له أن يأتي في اثني عشر مجلداً ويحمل عنوان "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بدايته حتى المرحلة المعاصرة"، ولكنه لم ينجز منه سوى ستة أجزاء، قبل أن يتحول من فكرة "الثورة" إلى فكرة "النهضة" عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، وعليه قام بتغيير العنوان العام لمشروعه فأصبح "من التراث إلى النهضة" بدلاً من "من التراث إلى الثورة". ولشرح هذا التغيير يميز التيزيني بين الثورة والنهضة بالحامل الاجتماعي لكل منهما، فبينما يرى أن للثورة حاملاً طبقياً لأنها تنبع من إشكالية طبقية، رأى أن الحامل الاجتماعي لمشروع النهضة يتمثل في مجموع الأمة. والحقيقة أن هذه المراجعة التي تنطوي على نقد ذاتي، وإن جاءت متأخرة وتالية "لنقد" مارسه الواقع نفسه، هي مما يحسب للتيزيني.
سوف تحاول هذه الورقة التي تتناول اشتغال الاستاذ التيزيني في دراسة الفترة الإسلامية الباكرة، أن تبين مواطن ضعف في منهجيته المعتمدة في المشروع (مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بدايته). سوف نتناول طريقة التيزيني في النظر إلى موضوعه (التراث) من خلال عمله هذا، وبالتحديد من خلال طريقته في تحديد وتناول موضوعه في الجزء الرابع منه الذي يحمل عنوان "مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر نشأة وتأسيساً".
ولكن قبل هذا سوف نتوقف قليلاً لكي نميز في الكتابات التي تتناول موضوع السيرة النبوية أو الكتابات التي تسعى إلى فهم النصوص الدينية وكيفية الالتزام بها مع تبدل العصور وتغير الأحوال، بين ثلاثة أنواع من المقاربات، لكي نحدد أين يقف كاتبنا من موضوعه وإلى أي مقاربة ينتمي.
ثلاث مقاربات لموضوع واحد
المقاربة الأولى، هي المقاربة الدينية المحض، أو ما يمكن تسميته المقاربة الشعبية، التي تشكل التيار العام للوعي الديني عند عموم المسلمين. هذا النمط من الفهم الديني للسيرة النبوية وللتعاليم هو التيار الغالب لأنه يستجيب لحاجة الإنسان العميقة إلى دين ما، باعتبار الإنسان، إضافة إلى كونه عاقلاً ومنتجاً، فإنه كائن متدين (Homo religiosus)، بحسب التعريف الذي يقدمه عالم الدين الشهير ميرسيا إلياد ، وباعتبار أن الوظيفة الدينية تكون أكثر إشباعاً حين تكون تشاركية أو جماعية. تتميز النظرة الشعبية، التي يعززها رجال دين ينتجون ويتماهون مع هذه النظرة، باحتوائها على فائض من القدسية يغلف مختلف جوانب السيرة النبوية والتعاليم، وهذا ما يجعل هذا التيار مضاداً للنقد وللنظر العقلي في الأمور، ويجعله نتيجة ذلك تياراً راكداً لا يتطور، ولا يقبل التطور في بنيته الأصلية. فالتصورات الدينية في القرن الواحد والعشرين تتطابق مع التصورات الدينية الأولى للإنسان، وستبقى مطابقة للتصورات الدينية بعد آلاف السنين.
يقبل هذا التيار الشعبي، أو يبتكر، الكثير من القصص التي لا يقبلها العقل، أو قل إن هذه القصص تستمد قيمتها من كونها غير معقولة ، لأنها بذلك إنما ترضي عند الإنسان نزوعه للاعتقاد بوجود ما يتجاوز حدود العقل لديه. ومن الأمثلة العديدة لهذه التصورات في موضوعنا، القصة التي يذكرها الطيب التيزيني نقلا عن السيرة النبوية لابن هشام، وهي أن (أم قتال بن نوفل)، اخت ورقة بن نوفل، "شمّتْ رائحة الخلاص النبوي" في بيت عبد المطلب، ولم تتورع أن تقدم نفسها لأبي محمد، النبي اللاحق، عبد الله بن عبد المطلب، ليضاجعها، بغية الحمل منه. ولكنه اعتذر عن ذلك، ووافق بعد حين، حيث لم تعد هي (أم قتال) مهيأة له. أما السبب في امتناعهتا هذا فيأتي من أنها، كما أعلنت وفق أخبار السيرة، افتقدت من وجهه ما كانت قد شاهدته فيه من "نور مبشر"، قبل دخوله على عروسه آمنة بنت وهب .
الاحتكام إلى العقل يحيل هذه القصة إلى ضرب من الخيال المنفلت من المحددات المنطقية أو العقلية، غير أن هذا النوع من القصص ينتشر ويجد قبولاً واسعاً لدى الناس الذين يتوقون، كأنما بالغريزة، وباستقلال تام عن المستوى الاجتماعي أو المستوى التعليمي أو الثقافي لهم، إلى أن يجدوا العقل مكسوراً ومتجاوَزاً، أو على الأقل أن لا يكون العقل البشري هو الحاكم الوحيد أو الأعلى. حيث يبدو العقل البشري، للسواد الأعظم من الناس، أشبه ما يكون بسجن رهيب يحرم الانسان من التطلع إلى معجزة تنقذ حياته من البؤس أو تعوض له، بطريقة ما "غير عقلانية"، بؤس حياته. من هنا ينبع هذا الحضور الغالب لهذه المقاربة الدينية "اللاعقلية"، التي تعطي الأساس والمفتاح لفهم القبول الواسع للقصص الدينية حتى لدى نخبة علمية ، ومن هنا نفهم بروز فتاوى غرائبية تناقض العقل والحس السليم من مثل "إرضاع الكبير"، ومن هنا أيضاً تنبع المقاومة الشديدة التي يبديها غالبية الناس ضد "عقلنة" ما يتصل بالدين.
المقاربة الثانية، هي المقاربة الإصلاحية أو المقاربة الدينية المجددة، التي تحاول أن تجمع بين القدسية النصية (القرآن أساساً) ومواكبة العصر. تريد هذه المقاربة أن تجمع بين الثبات الذي تفرضه قداسة النص ونهائيته، وبين التغير المستمر الذي تفرضه ضرورات الحياة المتطورة، أي إنها تحاول جمع ما لا يجمع في الواقع. وهي إذ تحاول الجمع بين النسبي والمطلق فإنها تحاول مهمة مستحيلة. الاستحالة هنا تأتي من جانبين، الأول هو ما ذكرناه من استحالة أن يستطيع نص ثابت من مجاراة العصور في مختلف جوانب الحياة، مهما بلغ هذا النص من الإعجاز. وهذا ما يجعل من المشاريع الفكرية لأصحاب هذا النهج، كليلة ومشلولة في الواقع، سواء منها ما اعتمد على منطلق أو حل لغوي، كما هو مشروع الباحث السوري المهم محمد شحرور ، او ما اعتمد على تحرير النص من جموده اللغوي بالاعتماد على أسباب النزول وتخليد المعنى بدلا من تخليد اللغة، وذلك عبر تجاوز الربط الميكانيكي بين النص والواقع إلى إدراك أن للنص اللغوي فعالياته الخاصة التي يتجاوز بها حدود الوقائع الجزئية التي كان استجابة لها، كما هو مشروع الباحث المصري الراحل نصر حامد ابو زيد . والجانب الثاني هو أنها تعمل على إدخال العقل في المجال الديني الذي يرى نفسه فوق العقل ولا يخضع له، لا بل يجد "مشروعية" وجوده في تجاوزه للعقل، ويجد في محاولات "عقلنته" نوعاً من التعدي أو الاعتداء. لا شك أن هذه النظرة الدينية المتجاوزة للعقل والتي يمكن فهمها وقبولها فيما يخص التصور الديني والإيمان الديني، تتحول إلى مشكلة مستعصية حين يجري سحبها على النصوص التي تحكم في حياة الناس المادية وفي العلاقات بين البشر. تطمح المقاربة الإصلاحية إذن إلى ابتكار آلية تحقق المصالحة بين الدين (الثابت) والدنيا (المتغيرة).
المقاربة الإصلاحية لا تسائل الدين بل تسائل المتدينين لأنهم مستسلمين لما تكرس من عادات، أو تسائل رجال الدين لأنهم يستثمرون في هذا المجال فيسيئون للدين ويجمدونه ويحيلونه إلى مصدر للرزق والسلطة .. الخ. تقف هذه المقاربة في منطقة بين المقاربة الدينية والمقاربة العلمية، فهي تسلم بالأديان وتقبل بتجاوز حدود العقل ومنطقه وقوانينه فيما يخص قصص الأنبياء والرسل والتواصل بين الله وبين عباده عن طريق الرسالات .. الخ، وتقر بألوهية النصوص وقداستها، ولكنها من ناحية ثانية تريد للعقل أن يسود بعد ذلك، أي تريد الجمع بين ما يتجاوز حدود العقل وما يخضع لحدود العقل في الوقت نفسه. المقاربة الإصلاحية تسعى إلى عقلنة اللامعقول، وهي لذلك تبقى رهينة هذا التناقض الذي تسعى إلى حله بشتى صنوف التوفيقات، التي لن تكتسب قيمة عملية في تطوير المجتمع إلا إذا استندت إلى قوة أي إلى سلطة سياسية تتبناها وتفرضها على المجتمع على أنها مخرج إسلامي من إشكالية إسلامية أو من وهدة الجمود الإسلامي.
المقاربة الثالثة هي المقاربة العلمية أو "الدنيوية"، التي تحاول أن تفهم أو تفسر الظواهر الدينية من خارج الدين، أي بأدوات ومعرفة لا تقر بالإعجازات التي تخترق الحدود البشرية، وتعتبر أن كل الظواهر قابلة للتفسير ويجب تفسيرها عقلياً، بما في ذلك "الوحي". هذه المقاربة متسقة مع نفسها في الواقع، أي إنها غير تلفيقية، وتعطي للعقل "الإمامة" في فهم أمور الحياة والكون، إذا استعرنا تعبير المعري "لا إمام سوى العقل". ولكن هذه المقاربة تبقى بلا جمهور فعلي، لأنها تريد أن تمحو القداسة والإعجاز من المجال الديني، أي إنها، بكلام آخر، تريد محو المجال الديني نفسه، في الوقت الذي لا يمكن للإنسان، بحكم تكوينه العميق، أن يقطع تماماً مع هذا المجال. ولنا مثال في التجربة السوفييتية التي قطعت مع الدين حوالي سبعة عقود من الزمن دون أن يتأثر المجال الديني في ضمير الناس وحياتهم، وقد استعاد الدين كامل حيويته هناك بعد انهيار الدولة السوفيتية. هذه المقاربة نخبوية ومتعالية على الدين، وهي محدودة الوظيفة، أي إن وظيفتها تتحدد في البحث عن تفسير عقلي لنشوء الرسالات، ومنها الرسالة المحمدية. ولكن من العبث توقع أن تتوسع هذه المقاربة لتشمل عموم الناس، لأنها تتعارض مع حاجة الناس إلى الدين، وحاجتهم إلى تجاوز سلطة العقل وحدوده.
إلى هذه المقاربة الدنيوية أو العقلية المحضة ينتمي مشروع الطيب تيزيني الذي يبدو متحدثاً قوياً باسم الأوساط النخبوية غير المتدينة التي تحاول فهم الدعوة الإسلامية الأولى، أو الإسلام المحمدي الباكر، كما يسميه التيزيني، بطريقة عقلانية بعيداً عن الشروح الدينية السائدة التي تكرست عبر قرون من السيطرة السياسية والدينية للإسلام. يعرض التيزيني لأفكار "دنيوية" تعارض في كثير أو قليل ما هو متداول ومستقر عرفياً ودينياً، ولكنها، مع ذلك، أفكار "شائعة" ومتداولة ولا يأتي التيزيني بجديد فيها سوى أنه يزودها، بطاقته البحثية والفكرية، بإثباتات من المراجع التاريخية المتوفرة، وبحجج عقلية صارمة.

صراع عقيم بين النزوع العقلي والنزوع الديني
الجانب الديني حاضر بكل ثقله في سرد السيرة النبوية والأحداث السياسية والعسكرية التي انتهت بغلبة الدين الجديد، ويعبر هذا الحضور عن نفسه في الكثير من القصص التي تتجاوز الصرامة العقلية إلى عالم غريب عن العقل ومضاد له. هذا ما لا يمكن تفاديه في كل ما يحيط بالبدايات الدينية المؤسسة. المسلمون، المتدينون بصورة خاصة، لا يريدون أن ينظروا إلى الرسول نظرة دنيوية، "قل إنما أنا بشر مثلكم"، بل يريدون أن ينظروا إليه محاطاً بهالة فوق دنيوية، ترافقه غيمة فتحميه من حر الشمس، وينسج العنكبوت شباكه على مدخل مخبئه كي يتوه عنه ملاحقوه، وتهبط الملائكة لتصد عنه في المعارك ..الخ. كما يطرب هؤلاء كثيراً لقصة تحكي كيف أتى رجلان عليهما ثياب بيض، بطشت من ذهب مملوءة ثلجاً، فشقا بطن محمد واستخرجا قلبه فشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها، ثم غسلا قلبه وبطنه بذلك الثلج حتى أنقياه. والحق أن هذه القصص لا تقتصر على الرسول، فالإنسان يبتكر هذه الهالة العجيبة لكي يحيط بها شخصيات دينية مختارة بحسب كل مذهب ديني.
من الطبيعي أن يسخر العقل من هذه "الخرافات"، وأن يجد الكثير من الحجج والدلائل ضدها، وأن يرد هذه الشخصيات "الخارقة" إلى دنيويتهم العادية والاكتفاء بإضافة صفات بشرية مثل كونهم أبطال أو عباقرة أو ..الخ. ولأن الإنسان كائن متدين وليس فقط كائن عاقل، من الطبيعي أن تتجاور النظرة العقلية مع النظرة غير العقلية لديه، ولكن يبقى السؤال: ما قيمة المحاججات والجدال الذي تريد به كل نظرة أن تمحق النظرة الأخرى، في الوقت الذي يبدو من غير الممكن لطرف أن ينتصر على الآخر، وذلك ببساطة لأن النظرتان لا تقومان على أرضية مشتركة.
لا غرابة أن يتمرد العقل وأن يسائل أو أن يرفض ما لا يتوافق مع قوانينه، ومن الطبيعي أن يرفض المعجزات أو أن يحاول تفسيرها عقلياً، لكنه سوف يدخل في مجهود بلا معنى ولا جدوى إذا ما حاول أن ينسف الإيمان بما يتجاوز حدود العقل. الإيمان الديني حاجة إنسانية أصيلة تماماً كحاجة الإنسان إلى العقل، ومن غير الممكن إلغاء حاجة لصالح حاجة أخرى. هاتان حاجتان تتعايشان في المجتمع ويبقى من المهم أن لا توضع الواحدة في وجه الأخرى. هذا بالضبط ما حدا بالفيلسوف العربي ابن رشد إلى الحديث عن "الحقيقة المزدوجة"، الحقيقة الإيمانية والحقيقة العقلية، بغرض استبعاد التعارض بينهما، فلا يكون المضي في واحدة قتلاً للأخرى. التاريخ مليء بالقصص التي تحكي وقوف النظر غير العقلي أو الديني في طريق النظر العقلي، ولكن دون جدوى. ولن يكون مجد أيضاً أن يقف اليوم النظر العقلي ليمنع النظر الديني والإيمان بما يتجاوز حدود العقل.
إذا عدنا إلى موضوعنا المباشر، لا شك أن العقل لن يقبل القصص والتفسيرات الدينية، لن يقبل العقل مثلاً هذه القطيعة التي يتم تصويرها بين الجاهلية والإسلام، على أنها انتقال من الظلام إلى النور، من الفساد إلى الصلاح، كما يقول الفكر الإسلامي السائد بغرض التشديد على قيمة الإسلام من جهة والتشديد على الإعجاز (الألوهية) في نشوء نتيجة لا مقدمات لها. كما يستبعد العقل أن يكون محمد أمياً ومعزولاً عن مجتمعه، كما يقول هذا الفكر أيضاً بغرض التشديد على المصدر الإلهي للوحي. والشيء نفسه فيما يخص الحديث عن إشكالية المرجعية والمصدرية في البحث، ولاسيما أن أقدم كتابة عن السيرة النبوية (سيرة ابن هشام المأخوذة عن سيرة ابن اسحق) لم تكتب إلا بعد حوالي مئتي عام من وفاة الرسول، ما يجعل من الطبيعي أن تثار الشكوك حول صحة المنقولات، وأن تثار التساؤلات حول الغاية منها وحول وظيفتها السياسية أو العقدية في لحظة ما من لحظات الصراع السياسي والايديولوجي. هذه الأفكار الدنيوية متداولة ومطروقة كثيراً في الأوساط النخبوية غير المتدينة أو لدى فئة تقل أو تكثر ممن يميلون إلى اعتماد العقل والمنطق في فهم أمور الحياة، إلى درجة أنه يمكن اعتبارها، بشيء من التجاوز، ثقافة مضادة للثقافة الدينية الشعبية السائدة.
على هذا ينبغي تجاوز الصراع بين النزوع العقلي والنزوع الإيماني إلى الفصل بين هذين النزوعين البشريين في المجال العام، بحيث يكون لكل نزوع مجال إشباعه الخاص دون تعارض مع الآخر. وعلى اعتبار أن الإيمان شأن شعوري عميق غير قابل للضبط أو القياس بأي حال، إلى حد اعتباره شأناً شخصياً، بمعنى أن لكل شخص إيمانه الخاص كما لكل شخص بصمته الخاصة، تبقى إدارة الحياة العامة موكلة للنزوع العقلي باعتبار القوانين العقلية والمنطق العقلي مجال مشترك بين البشر ويمكن لهم التفاهم على صعيده والاحتكام إليه.
مع ذلك، لا يهدأ الصراع بين هذين النزوعين (العقلي والإيماني)، لأن محرك هذا الصراع في الواقع ينتمي إلى مستوى آخر، غير بحثي، هو مستوى السعي الدائم إلى تحصيل وحيازة السلطة أو الثروة أو كليهما، إنه المجال السياسي الذي تكون فيه هذه الصراعات الفكرية في جانب مهم منها صراعات إيديولوجية، أي صراعات على كسب الوعي العام بما يخدم مشروع سياسي أو سلطة سياسية.
لنلاحظ كيف يحدد التيزيني دافعه للدخول في مشروعه هذا على أنه البحث العلمي في الوضعية الذهنية العربية التي تتنازعها ثلاثة أنماط من الإيديولوجيا هي "إيديولوجيا تسويغية تبجيلية تجد مرتعها الخصب غالباً في أوساط الحركات الإسلامية، وايديولوجيا علمانية لا تاريخية تفصح عن نفسها خصوصاً في محاولات بعض الباحثين لدراسة "تكوين العقل العربي الاسلامي وبنيته" .. وأخيراً ايديولوجيا ذرائعية تجد مجال ازدهارها في أنظمة سياسية ومنظومات سياسية نظرية توظف الدين وفق مصالحها الآنية والاستراتيجية، قدر المستطاع" (التشديد في الأصل) . يريد التيزيني إذن التصدي لإيديولوجيات بمشروع غير إيديولوجي، مشروع "نقد ايبستيمولوجي"، "تاريخي" أو "موضوعي" أو علمي"، كما يصفه. غير أن المحرك أو العمق السياسي للمشروع يفصح عن نفسه من الصفحة الأولى في المقدمة حين يشير الكاتب إلى "بروز قوى سياسية جديدة تعلن عزمها على تحقيق مجتمع جديد – قديم، بدولة جديدة – قديمة، وذلك تحت راية ما اصطلح عليه بـ"الإسلام السياسي"" . ويشكو الباحث من أن "الإسلام السياسي" يضع الكثير من الخطوط الحمراء في وجه البحث العلمي والموضوعي في المادة الإسلامية، ويستشهد بقول من يعتبر أحد الإسلاميين المتنورين، وهو حسن الترابي زعيم "الجبهة الإسلامية القومية" في السودان حينها، إذ يقول "في مواجهة الأعداء لجأت الثورة الإسلامية للحسم والإرهاب" ثم يؤكد قوله بالتشديد: "نعم، للإرهاب". ثم يشير بحق إلى الأذى المعنوي والجسدي الذي لحق بالكثير من الباحثين الذين تجاوزا تلك الخطوط الحمراء.
تبدأ المشكلة بين العالمين العقلي وغير العقلي، أو بين العالمين الديني وغير الديني، حين يبدأ أحد العالمين التحكم بعالم الآخر. الديني الذي يقتحم الدنيوي، كحال الإسلام السياسي، والدنيوي الذي يقتحم الديني كحال المقاربة الدنيوية للدين. في كلا الحالتين يتحول الدين أو "البحث العلمي" إلى إيديولوجيا سياسية في حلبة صراع ايديولوجي.
ينظر التيزيني إلى موضوعه، الإسلام المحمدي الباكر، من موقع لا ديني، ويجتهد في نزع القدسية عن أحداث لا يطالها الشك في الوعي الإسلامي العام، بما في ذلك وعي باحثين إسلاميين عصريين ومجددين. إن ثمار مثل هذا الجهد البحثي تبقى محصورة بالتالي في الفئة التي تشارك الباحث سلفاً موقعه اللاديني، فيما تبقى غريبة تماماً عن الفئة الأوسع من الناس الذين لا يخامرهم الشك ولا يطالهم القلق حيال أساسيات الدين، وفي اللب منها، مصدر "الوحي".
الكلام عن علاقة محمد مع الأحناف ولاسيما مع ورقة ابن نوفل ودور هذا الأخير في مسار الدعوة هو كلام متداول منذ أمد بعيد، والوصول في هذا الاتجاه إلى حد اعتبار ورقة بن نوفل هو "مصدر الوحي"، هو نوع من المشاكسة الشعبية او قل نوع من ممارسة متعة التمرد على القصص المستقرة، هذه المتعة التي تصل إلى مستويات أعلى حين تكون القصص "مقدسة"، ومحمية بسلطة عرفية أو اجتماعية (تابو). تركيز التيزيني على دور ورقة ابن نوفل في الدعوة المحمدية وعلى ما تناولته بعض السير النبوية من فتور الوحي (يضع التيزيني الوحي بين قوسين للدلالة على دنيوية المصدر) عقب وفاة ورقة بن نوفل، وما نتج عن ذلك من أزمة نفسية لدى محمد أودت به إلى محاولة الانتحار بالتردي من جبال شاهقة، نقول إن هذا التركيز هو توسع بحثي في فكرة متداولة أصلاً، ولكن المحاججات التي تذهب إلى أن ورقة بن نوفل هو "مصدر الوحي" أو أحد "مصادر الوحي"، ليست سوى مسعى عقيم في الواقع لاستئصال الجانب الديني بنسف الأساس الذي يقوم عليه وهو "الوحي".
هذا المسعى عقيم ليس لأن هذه المحاججات العقلية ضعيفة أو لأن الأخبار المتوفرة لدعم هذه المحاججات قليلة، بل لأن هذا المسعى يجابه الحاجة الدينية مباشرة. يضاف إلى ذلك أن التيزيني يجابه الحاجة الدينية من زاوية دين محدد هو الدين الإسلامي. صحيح أنه لا يقر ببقية الأديان، غير أنه هنا ينتقد رواية دينية محددة هي رواية الدين الإسلامي الأول. هذا يجعل منهجه "المادي"، الذي يبدو على يديه منهجاً مضاداً للدين، يمر عبر المواجهة مع دين محدد. على هذا فإن مسعاه هنا أضعف من مسعى الإلحاديين الذين يرفضون فكرة الإله من الأساس ويحاججون ضد الفكرة نفسها (فكرة الإله) بصرف النظر عن تجلياتها المحددة في هذا الدين أو ذاك. من مثل الباحث الانكليزي الشهير ريتشارد داوكينز في كتابه (وهم الإله) (The God Delusion) ، حيث نقرأ نقداً جذرياً لفكرة الإله من منظور فلسفي، نقداً لا يطال فقط الفكر الديني فقط، بل يطال أيضاً الفكر اللاأدري أو المحايد دينياً (agnostic).
على خلاف المحاججة التاريخية المضادة للدين والتي تدقق في، وتنزع القدسية عن، أخبار وسير الرسل وما جاء فيها من نصوص أو تعاليم، وتكشف تفارقها عن المنطق العقلي، فإن النشاط الفلسفي الإلحادي لا ينشغل في تفاصيل الأديان والقصص والأخبار ومدى انسجامها مع العقل أم لا، بل يحاجج المنطق الديني نفسه فلسفياً وعقلياً، لكي يصل إلى مقصده في نقض فكرة الإله. هذا نشاط فلسفي إلحادي يعتمد الطريق العقلي لنسف أساس كل دين إلهي بنسف فكرة وجود الله، أما النشاط الآخر، الذي يمثله التيزيني، فهو نشاط فكري سياسي، بالمعنى الواسع للكلمة، أي نشاط يستهدف تحريك "الأمة" باتجاه "الثورة" أو "النهضة". هنا يبرز أمامنا التساؤل التالي: إلى أي حد يخدم أو لا يخدم هذا المنهاج، الذي يتبعه التيزيني، في دفع المجتمع باتجاه الثورة أو باتجاه النهضة. لنا أن نتساءل عن فائدة مهاجمة الأسس الإيمانية الدينية في مجتمع ما في دفع هذا المجتمع إلى الثورة. ولنا أن نتساءل عن سبب هذا الربط "اليساري" الشائع بين التثوير السياسي والموقف النقدي من الدين. أليس في هذا خلط مستويات يوحي بالاعتقاد أن الإنسان الملحد هو أكثر ثورية من الإنسان المتدين؟ في الواقع ساد التصور القائل بأن الدين، من حيث هو دين، يعيق تثوير المجتمع، وهذا التصور دفع كثير من اليساريين إلى مهاجمة الدين، ويتعايش هذا التصور، أو يشكل الوجه الآخر، من رمي المتدينون اليساريين بالكفر.
من الصعب الحفاظ على الخط الفاصل بين النظرين الديني واللاديني بارداً، فلا يكتفي الكثير من الإسلاميين مثلاً بأن يرى التاريخ الإسلامي كما يشاء، بل ينتقل إلى حظر الآخرين من رؤية هذا التاريخ، ولاسيما منه التاريخ القريب من الرسول، بطريقة أخرى. ولا شك أن هذا يساهم في تفسير انتقال كاتبنا وغيره، من دراسة تاريخ الدعوة دراسة دنيوية، إلى استهداف الأسس الدينية لها. النظر الديني يتجاوز حدوده ويسعى إلى التحكم بالدنيوي، والنظر الدنيوي يتجاوز حدوده ويسعى لنسف النظر الديني. كل نظر يرد هجمة النظر الآخر.
حين "يغدو مطلوباً أن يؤرخ لهذه المرحلة [الإسلام المحمدي الباكر] من موقع الطهرانية والقداسة. فأهلها فوق الحدث التاريخي، بما ينطوي عليه هذا الحدث من مشكلات وأوهام وخصومات وصراعات دامية، غالباً" ، يمكن أن يتولد لدى الكاتب غير الديني نزوع مضاد للدين نفسه، بقدر ما يظهر الدين هنا على أنه مصدر لهذا "الاستبداد الفكري".
يشتغل التيزيني في مواجهة "الاستبداد الفكري" الذي يجعل الفكرة الإسلامية "بنية مغلقة تتأبى على كل تأثر "من خارجها"، كما يقول، ويضيف: "وإن كانت هي نفسها قادرة كل القدرة على التأثير في هذا الخارج .. إنها المفارقة في أن تكون البنية المعنية مغلقة ومفتوحة في آن ومن موقعها وحدها فحسب" (التشديد في الأصل). ولا يحتاج المرء إلى ذكر الشواهد التي يوضح أن "الاستبداد الفكري" الديني يصل إلى مستوى الإرهاب المادي. لكن كاتبنا لا يكتفي، كما قلنا، بتقديم الرواية من موقع الدنيوي الذي لا يرى الأبطال "فوق الحدث التاريخي"، بل يدخل في مواجهة مع الجانب الديني المحض من الرواية.
بكلام آخر، إن تناول تاريخ نشوء وتطور الدعوة المحمدية وما رافقها من صراعات وانتصارات وانكسارات ..الخ، تناولاً دنيوياً علمياً، لا ينتقص في شيء من "دينية" الدعوة، ولا يتعارض مع فكرة الوحي. فقد كانت حركة الدعوة الإسلامية محكومة لقوانين الواقع في سياق تطورها، ولم تكن حركة معجزات، كما يؤكد الرسول نفسه. وحتى إذا كان ثمة إرادة واعية متعالية ومفارقة وراء هذه الحركة، لمن يريد، فإن هذه الإرادة تحققت وفق قوانين الواقع وليس خرقاً لها، لذلك يحق لنا دراستها وفق قوانين العقل البشري واستخلاص ما تنطوي عليه من دروس، دون تجاوز أو انتهاك لأي إيمان أو معتقد ديني. وقد سبق لكاتب هذه السطور أن أنجز كتاباً عن هذا الجانب السياسي أو الدنيوي من الدعوة. بطبيعة الحال، يخرج من هذه الدائرة البحثية الانشغال في إثبات دنيوية الوحي نفسه، ذلك أن هذا يدخل الجدال في دائرة مغلقة من العقم واللاجدوى، لأنه يطال المجال الإيماني الذي لا يخضع، بطبيعته ذاتها، للمحاججات العقلية، فضلاً عن أنه يدخل الجدال في مسعى نسف الدين وهذا مسعى عقيم هو الآخر. أو على الأقل إن هذا المسعى غير مجد في مشروع يطمح إلى تثوير المجتمع واستنهاضه كما يحاول كاتبنا.
النتيجة مقطوعة عن السبب أو سابقة عليه!
يقوم النظر أو المنهج الغيبي على قطع النتيجة عن السبب، فتبدو النتيجة معزولة وإعجازية ومن فعل "إله قادر" وبلا أسباب يمكن أن نعقلها. عباس محمود العقاد، أحد ممثلي هذا المنهج، يرفض اعتبار الجاهلية مقدمة للإسلام، ويرفض أن يكون الفساد مقدمة للصلاح. إذن كيف يمكن أن نفهم مجيء الإسلام بعد الجاهلية، والصلاح بعد الفساد؟ يجيب العقاد: "كيف نشأ التوحيد بعد التباس الوحدانية بالشرك، وكيف ظهر الاسلام بعد عبادات لا تمهد له خطوة في الطريق .. هذه هي المقدمات التي لا تأتي بعدها النتائج الصالحة إلا بعناية الله" . في هذا، بطبيعة الحال، إقصاء للنظر العقلي من خلال قطع العلاقة بين السبب والنتيجة، أو جعل العلاقة بينهما خارج قدرة العقل على الإدراك، أي شأناً إلهياً.
وفي حين ينكر العقاد أي صلة سببية بين الجاهلية والإسلام، يجتهد التيزيني في القول إن كل شيء في الجاهلية كان يشير وينبئ بظهور الإسلام. منطقان ومنهجان متعاكسان. يعمل التيزيني على استجلاء مقدمات الإسلام في الجاهلية، وأكثر من ذلك، يعمل على إيجاد علاقة سببية بين النص القرآني والنص الجاهلي: "من طرفنا، سوف نعمل على استجلاء الخطوط الأساسية والكبرى، التي تنطوي على احتمال راجح للإفصاح عن عملية الانتقال إياها من "الجاهلية" إلى الإسلام، من موقع النص المعلن نفسه، (التشديد في الأصل) مع محاولة تقصي ذلك، أيضاً، من موقع ما يمكن إعادة بنائه في حقل "النص الغائب" و"النص المغيب" والنص الاحتمالي". ونحن إذ نفعل ذلك، فإنما نفعله بغية التدليل على أمر ذي أهمية منهجية مبدئية بالنسبة إلى بحثنا، وهو أن ما بين "النص القرآني" و"النص الجاهلي" تقوم علاقة سببية يمكن التعبير عنها بجدلية السابق واللاحق، تلك الجدلية التي تقتضي وجود سياق ناظم لما بين المقدمات والنتائج (الخواتم). وإذا ما تحقق لنا ذلك، استطعنا الإسهام في ردم الخواء الماورائي (الميتافيزيقي) (التشديد من عندنا) المعتقد وجوده، والذي يجد الفكر الديني السلفوي فيه المصدر الرئيس والوحيد للنص القرآني" .
إذا كان منهج العقاد ينسف العلاقة السببية بين الجاهلية والإسلام، أي لا يجد في الجاهلية أي مقدمات للإسلام، والغرض هو التأكيد على الإعجاز وعلى المصدر الإلهي أو "الميتافيزيق"، فإن منهج التيزيني يحاجج في أن الجاهلية حوت كل مقدمات الإسلام، والغرض هو "ردم الخواء الماورائي" أو "الميتافيزيق" وذلك لإعطاء الحقل الديني "مشروعية اجتماعية وتاريخية وتراثية" معينة (ص36). آليتان متعاكستان ولا توجد أرض مشتركة يمكن لهما أن يلتقيا عليها.
تقوم المنهجية التي يعتمدها الطيب تيزيني على الفكر المادي الذي يقول بأسبقية المادة على الوعي من جهة، ويقول بالتالي بمشروطية الفكر لواقعه الاجتماعي والاقتصادي من جهة ثانية. ولهذا تجد التيزيني في موقع من يبحث عن دعائم أو مقدمات تقود إلى النتائج المتحققة. بمعنى إنه يقرأ اللوحة في الجزيرة العربية قبيل بروز الدعوة المحمدية ليجد الأسباب التي دعت إلى بروز الدعوة وأعطتها "المشروعية الاجتماعية والتاريخية والتراثية"، فيبدو للقارئ أن كل شيء كان يشير ويمهد لبروز هذه الدعوة وكأنها "ضرورة". ومن الطبيعي أن في هذا المنهج جانب تبريري مهما حاول أن يؤصل لنفسه، لأنه في الواقع ينطلق من النتيجة إلى الأسباب، أي يحاول بناء أو صناعة الأسباب لكي تتوافق مع النتيجة المعطاة سلفاً. النتيجة في هذا المنهج تصوغ سببها وتستدعيه. إشكالية هذا المنهج تكبر أكثر كلما زادت يقينية الباحث، وكلما استخدمه في تفسير ظاهرة دينية تقوم بطبيعتها على دعائم غير عقلية.
اللافت أن كاتبنا التيزيني يتجاوز موضوع البحث عن المقدمات المادية والثقافية لبروز الدعوة المحمدية، إلى البحث عن مقدمات بروز الحقل الديني نفسه. لنقرأ: "ما هي الشروط الاجتماعية والتاريخية والتراثية التي كمنت وراء نشوء الحقل الديني واستمراريته، والتي اخترقت نسجه، وأسهمت في صوغه في كيفيات وأنساق متنوعة، رغم ما يواشج بينها من نواظم مشتركة؟" (ص35). لم يبرز الحقل الديني في شبه الجزيرة العربية مع بروز الدعوة المحمدية، بطبيعة الحال، والبحث في مقدمات نشوء "الحقل الديني" هو موضوع يتجاوز حدود المشروع الذي يتولاه كاتبنا في مشروعه. غير أن الموقف "العلمي" أو "المادي" من الدين، والنظر إلى الدين على أنه مرحلة عابرة في التطور أو أنه "طفولة البشرية" .. الخ، يشد الباحث إلى هذا النمط من التساؤلات الجذرية والمتطرفة "مادياً"، والتي تنطوي على تقليل أو استخفاف بمكانة الدين في النفس البشرية واعتباره مجرد استجابة "لمقدمات" معينة.
لنقرأ أيضاً هذا المقطع ونرى سهولة تقديم الأسباب المؤدية إلى نتيجة متحققة سلفاً: "ويمكن القول إجمالاً وعموماً، بأن الأحوال أفضت – عشية ظهور الإسلام – إلى أن الجميع لم يعد راضياً بوضعيته، مطمئناً إلى غده: الأدنون، الذين أخذوا يخضعون لأشكال متصاعدة، نوعياً، من القهر والاسترقاق والإذلال، والمتوسطون، الذين أخذت عملية إفقارهم تتسع من قبل أولئك، بحيث راحت أرهاط منهم ترغم – بفعل ضرورة اقتصادية قاهرة – على الهبوط باتجاه الأدنين بصيغة أرقاء دين أو صعاليك أو مخلوعين أو مشردين .. الخ، والأعلون، الذين راحوا يحسون – من موقع أنانية طبقية ضيقة وجشع اقتصادي لاهث – وطأة الأحداث المتعاظمة، من مرابض هؤلاء وأولئك الباحثين عما يعزز أمنهم المهدد، كل بطريقته وضمن احتمالاته". (ص249). لا يخفى على القارئ أن هذا العرض الذي يقدمه كاتبنا ليس إلا تطبيق للشروط الماركسية التي تحدد نشوء الوضع الثوري، حين لاترغب الطبقات الدنيا فى العيش بالطريقة القديمة ولم يعد بمقدور الطبقات العليا أن تسيطر وتحكم بالطريقة القديمة.
غير أن "الأزمة الثورية" التي كانت تشمل الوضع في الجزيرة العربية في عصر الدعوة الأولى، لم تكن في عمقها أزمة علاقة بين "الأدنون والأعلون"، فهي لم تكن أزمة طبقية في أساسها، بقدر ما كانت أزمة عامة تكمن في ضعف الإنتاج وتخلف الوسائل وشح الموارد وما ينتج عن هذا من اقتتال قبائلي عقيم ولا نهائي. ولم يكن هذا الضيق يستثني مكة (المركز التجاري)، فزعماء قريش يقولون لمحمد، "يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئاً مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلداً، ولا أقل ماء، ولا أشد عطشاً منا، فسل لنا ربك، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا أو ليفجر لنا فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق" .
ولم يكن الحل التاريخي الذي جاءت به "الثورة الإسلامية" ترسيخ "علاقات إنتاج" جديدة وإقامة عدالة في التوزيع، لأن مثل هذا الحل لم يكن له أي أسس في الشروط الاقتصادية والاجتماعية في تلك الحقبة. الحل الذي جاءت به الدعوة هو التوسع على حساب الغير، أي عن طريق الخروج من الحدود عبر الغزو. وهذا الحل كان يستدعي بطبيعة الحال إنشاء مركز سياسي له مرجعية فوق قبلية، الشيء الذي تحقق عبر الانتماء الإسلامي المستجد والسهل (نطق الشهادتين) والمتاح للجميع والذي له ميزة شديدة الأهمية هي أنه لا يتعارض مع الانتماءات القبلية، ولا يتطلب التخلي عنها أو إنكارها. والحق أن في هذه القدرة على توحيد كلمة الأفراد والقبائل دون الدخول في تحد مع الانتماءات العضوية السابقة، يكمن أحد أهم أسباب نجاح الدعوة. فضلاً عن أن الدعوة خلقت جهة انتماء ذات اعتبار لمن ليسوا ابناء قبائل وليس لهم اعتبار قبلي، وبعضهم أصبح من أعلام تلك الحقبة، مثل من كانوا يسمون "أهل الصفة".
لم يكن خافياً منذ بدايات الدعوة، أن المخرج الدنيوي الذي كان في ذهن محمد لا يكمن في قلب سلطة "الأعلين" لصالح "الأدنين"، بل في الخروج من بوتقة الجزيرة العربية. منذ البدايات كان هناك توجيه للأنظار صوب الخارج، صوب كنوز كسرى الفرس وقيصر الروم، دائماً كان هناك وعد بأحمر قيصر (الذهب) وأبيض كسرى (الفضة)، كما كان يقال. فأحاديث الرسول عن هذه الكنوز كثيرة. ومعروفة أيضاً قصة سراقة بن مالك الذي أغراه الرسول بأن وعده بسواري كسرى، كي يكف عن ملاحقته وهو في طريق هجرته إلى المدينة.
كان مسار الدعوة المحمدية مليئاً باللحظات الحاسمة التي كان يمكن أن تنهي الدعوة عند نقطة تحول دون نجاحها، الأمر الذي كان يمكن أن يفتح احتمالات أخرى لا يمكن أن نستبعد منها تكرار الغزو الخارجي (الحبشي بشكل خاص) ونجاحه في السيطرة على مكة. نقول هذا كي ننزع مسحة "الحتمية" التاريخية التي يمكن ملاحظتها في مقاربة التيزيني حين يصور واقع ما قبل الدعوة الإسلامية الباكرة كأنه مقدمة ناضجة لها، أو كأنها النتيجة الضرورية له: "افتقاد التوازن الاجتماعي والعدالة في توزيع الدخل الاقتصادي وتعاظم الظلم الاجتماعي والطغيان السياسي .." (ص512). في هذا القول منطق تطبيقي ضعيف القيمة. الحق إنه لو كان في مكة "طغيان سياسي" لما استطاعت الدعوة المحمدية أن تخرج من الشرنقة. على العكس من هذا، كانت الدعوة تقوم على حوامل سياسية أكثر سعة وتطوراً من الحوامل السياسية لنظام القبيلة، وتكشفت الدعوة في تطورها التالي عن مركزية سياسية شديدة كانت الأساس في نجاحها.
السؤال الذي لم يطرحه التيزيني هو: إذا كان محمد هو وريث الحنفاء أو "الحنيفي الأكبر"، كما يسميه باحثنا، وإذا كان محمد يجني ما قدمه ورقة بن نوفل وقس بن ساعدة وزيد بن عمر بن نفيل وغيرهم من الحنفاء، لماذا يتعرض محمد للتنكيل والطرد من قريش فيما كان الأحناف يعيشون في سلام؟
في البحث عن إجابة عن هذا السؤال سوف يبدو لنا أمرين، الأول هو أن قريش (الملأ القرشي بصورة خاصة) استشعرت خطراً من دعوة محمد لأنه لم يكتف بالوعظ والتبليغ والدعوة، فهذه أنشطة كان يقوم بها الأحناف من قبل، دون أن تستثير ردود فعل مضادة. ما أثار مشاعر الخوف والحذر لدى قريش هو أن محمداً بدأ بإنشاء تنظيم يأتمر بأمره، أي أنه ضمّن السياسي في العقيدي أو حمل العقيدي على حامل سياسي أي على تنظيم مركزي. لم يكترث التيزيني كما ينبغي بحامل الدعوة، ولذلك لم يتوقف عند قصة الهجرة إلى الحبشة، التي سبقت الهجرة إلى المدينة، والتي احتار فيها كثير من الباحثين. فقد هاجر إلى الحبشة حوالي نصف أتباع محمد دون أن يكون لهذه الخطوة ما يليها وما يمكن أن يلقي الضوء على الغاية منها. الحقيقة أنه لم يكن ثمة غاية تالية من تلك الخطوة، لأن الغاية كانت فقط تخفيف عدد المسلمين في مكة قبل العثور على حل للصدام المتصاعد بينهم وبين المجتمع المكي، الحل الذي تجسد لاحقاً بالهجرة إلى المدينة. والغاية من تخفيف العدد هو العجزز عن حمايتهم أمام الاعتداءات القريشية المتكررة، والحد من احتمالات نشوب صراعات تفكك قريش والمجتمع المكي الذي ظل حتى اللحظة الأخيرة القاعدة التي ارتكز عليها مشروع الدعوة، كما يظهر في أحاديث وسلوك الرسول وصولاً إلى فتح مكة. وقد تبين أن قريش، التي اسلمت أخيراً، تحولت إلى قاعدة الدعوة وإلى رأس الحربة في حروب الردة.
الأمر الثاني أن قريش لم تكن تمتلك من "الطغيان السياسي" ما يمكنها من خنق الدعوة "المشبوهة" في المهد. والواقع أن الدعوة استطاعت أن تنشأ وتنمو وتكبر من خلال هذه الثغرات "السياسية" في نظام القبيلة التي كانت تقبل التعددية الدينية. ونعلم أن كلمة الخلاص التي كان يرددها محمد في فترة الضعف المكية هي "لكم دينكم ولي ديني"، مستنداً إلى هذه الديموقراطية الدينية التي قام هو بنسفها من الأساس فيما بعد، حتى بات القتل هو جزاء من يختار ديناً مغايراً، فلم يعد بمقدور أحد، بعد ذلك، أن يقول لقومه "لكم دينكم ولي ديني"، كما فعل محمد مع قريش.
لم تكن مشكلة قريش مع محمد "ثقافية"، ولم يكن يعني شيئاً للقريشيين أن يؤمن محمد دينياً بما يشاء، أو أن يشدد على "عذاب القبر" وعلى "عذاب جهنم" ..الخ. كانت المشكلة سياسية حصراً. أو بكلام آخر، كانت المشكلة في الشق الثاني "السياسي" من الشهادة "محمد رسول الله"، ولم يكن هناك مشكلة في الشق الأول "الديني". فلو اقتصرت دعوة محمد على الشق الأول لما واجه المقاومة والنبذ الذي واجهه، ولكنه بالمقابل لما حقق شيئاً ذا قيمة في تاريخ المنطقة، أكثر مما حقق الحنفاء الكثر من قبله.
من المعروف أن الأوثان كانت وسائط للتقرب إلى الله، أي إن الله لم يكن فكرة جديدة على العرب، ولكن الجديد هو أن يكون ثمة من يخوله الله بنقل الرسالة ونشرها "بالقوة". والقوة تعني التنظيم والانضباط والسياسة. من هذا المنظور يبدو نشوء المركز السياسي أو "التوحيد السياسي" أهم من التوحيد الديني، وأن هذا الأخير كان وسيلة في يد الأول.
نختلف مع التصور الذي يقدمه التيزيني حول ترابط التوحيد الديني بالتوحيد السياسي (ص247)، وارتباط الوثنية بالاضطهاد الاقتصادي (ص254). في الجزيرة العربية ترافقت الوثنية مع وضعية اقتصادية اجتماعية محددة، وكان تجاوز هذه الوضعية يقتضي تجاوز الوثنية، هذا صحيح، ولكنه لا يعني أن الوثنية هي بالضرورة الغطاء الايديولوجي لحالة التخلف أو الضعف الاقتصادي. أقصد أن الترافق المذكور ليس ضرورياً، ولا ينتج عنه، بالمقابل، أن الدين التوحيدي ضروري للخروج من الوضعية المعاقة اقتصادياً واجتماعياً، وكأن هناك علاقة ضرورية بين التوحيد والتطور. هذا غير صحيح تاريخياً، لم تعتمد الدول اليمنية الجنوبية (سبأ، حمير، معين)، على سبيل المثال، ديناً توحيدياً، وكذا الحال مع الحضارة الفرعونية التي لم تكن توحيدية، لا بل منيت محاولة الفرعون امنحوتب الرابع (أخناتون) تبني دين توحيدي شمولي بفشل ذريع .
في نظرة عامة للإسلام المحمدي الباكر أو للدين الإسلامي الأول نقول إن اللب في "الثورة المحمدية" كان ذا طبيعة سياسية أكثر منها ثقافية، وكان التوحيد الديني هو المدخل الأنسب لتحقيق التوحيد السياسي وإنشاء مركز سلطة دنيوية. ويجب أن نضيف في كل مرة نتناول فيها هذا الموضوع، أن العلاقة التي أنشأها محمد بين الديني والدنيوي كانت، في حينها، علاقة خصبة ومدخلا مناسباً للخروج بأهل الجزيرة العربية من الاقتتال إلى الغزو والظهور على الشعوب الأخرى، ولكن هذه العلاقة التي يعبر عنها بالقول إن الإسلام دين ودنيا وتجد تجسيدها في الإسلام السياسي، لم تعد بعد ذلك مدخلاً إلا إلى صراعات لا طائل منها، وهي تشكل اليوم العائق الأهم في طريق تحرر المجتمعات المسلمة وخروجها من ركودها المزمن.
خاتمة
عملنا في البحث على تحديد موقع (الطيب تيزيني) من المقاربات الثلاث التي ميزناها في مجال تناول السيرة النبوية والدين الإسلامي في نشأته وعلاقته بالزمن، فميزنا بين مقاربة دينية محضة، ومقاربة دينية إصلاحية أو مجددة ومقاربة دنيوية، وحددنا بحث الطيب التيزيني بأنه ينتمي إلى هذه الأخيرة.
ثم أخذنا على البحث الواسع والغني الذي قدمه التيزيني في دراسته السيرة النبوية والإسلام المحمدي الباكر، ثلاثة مآخذ رئيسية.. المأخذ الأول أن التيزيني كان أميناً لمنهجه ومرجعيته أكثر مما كان مجتهداً. كأنما انحصر اجتهاده في جعل المادة التاريخية التي يتناولها برهاناً على صوابية منهجه "المادي"، فكانت المادة التاريخية في خدمة المنهج بدلاً من العكس، وذلك رغم اطلاعه الموسوعي على موضوعه. والمأخذ الثاني، وهو متعلق بالمأخذ الأول، هو الربط بين الدين التوحيدي والتطور الاجتماعي، وذلك تحت تأثير منهجية ترى التاريخ يسير على خط تقدمي يكون فيه التالي أكثر تطوراً من السابق. والمأخذ الثالث هو انشغاله البحثي في نفي البعد الديني عن السيرة، أو محاولة محو البعد الديني. وقلنا إن مثل هذه المحاولة عقيمة لأنها تحاول اعتماد العقل والمنطق في مجال لا يخضع لهما، ولهذا كانت محاججات كاتبنا تكراراً لأفكار مضادة للدين شائعة أو حتى شعبية، ولكن على مستوى بحثي وأكاديمي. هذا ما يجعلك ترى لدى الاستاذ التيزيني مجهوداً بحثياً كبيراً ولكنك لا تعثر، مع ذلك، على منتجات بحثية جديدة أو على أفكار مبتكرة، وهو ما جعله في نظرنا "فيلسوف الأفكار الشائعة".



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطيب تيزيني، فيلسوف الأفكار الشائعة 2
- بين سورية ولبنان
- استكشاف معكوس
- ثلاثة رهانات خاسرة في سورية
- تركيا والكرد السوريون
- عن النظام العربي والثورة السورية
- العلمانية، الأفق الممكن
- في ظل الدولة
- في نعمة -العدو-
- تونس، لا خلاص بالأفراد
- تشبيح معكوس لهدف واحد
- لغة الثورة، ثورة اللغة
- الأسد ومخلوف، اهتراء النظام
- خراب الاجتماع الوطني في سورية ولبنان
- ما وراء الطعوم
- قصتنا العسيرة
- في قصة نزاهة الرئيس وفساد الحاشية
- علمانية على هدي الرسول محمد
- نافذة في النافذة
- جبهة النصرة في تحولها أخيرا


المزيد.....




- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...
- -تصريح الدخول إلى الجنة-.. سائق التاكسي السابق والقتل المغلف ...
- سيون أسيدون.. يهودي مغربي حلم بالانضمام للمقاومة ووهب حياته ...
- مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى في ثاني أيام الفصح اليهودي
- المقاومة الإسلامية في لبنان .. 200 يوم من الصمود والبطولة إس ...
- الأرجنتين تطالب الإنتربول بتوقيف وزير إيراني بتهمة ضلوعه بتف ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - راتب شعبو - الطيب تيزيني، فيلسوف الأفكار الشائعة 1