أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم إيليا - دوَّامةُ النهر الكبير (2)















المزيد.....


دوَّامةُ النهر الكبير (2)


نعيم إيليا

الحوار المتمدن-العدد: 6392 - 2019 / 10 / 27 - 16:13
المحور: الادب والفن
    


كيف تأتَّى للميا ألا تنتظرني، وما كنا معاً إلا كما يكون عنصران متحدين في مادة واحدة؟
كيف تأتى لها أن تفصم أحدنا عن الآخر، وكنا معاً أقنومين في جوهر واحد ممتزجين بوصف قد كان أبلغ من „ لو مرّ سيفٌ بيننا...“ ؟
كيف تأتى لها ذلك !؟
سؤال لست أملك أن أجيب عنه بغير: إنها لميا !
غير أن لميا، وإن كانت جحدت حقي في وصالها، وهي وإن كانت فصمت علائقي بها، لم تكن جاحدة.
لميا إذ لفظت صحبتي من حياتها الجديدة، فإنها لم تلفظ إلا صحبتي. لم تلفظ لميا إلا صحبتي. أما الحبّ الناشب في قلبها، حبي الذي – بتعبيرها - استأجر منزلاً في قلبها بعقد إيجار دائم، فإنها لم تلفظه من قلبها في الوقت الذي لفظتني فيه.
وهي إذ لفظتني، إذ صدَّتني عنها، صدتني عن وِرْد مائها، لم تكن في الواقع من أهل الصدود!
فأكثر الصدود – إن لم يكن جلّه – لا يتحقق في هذا الواقع إلا بألفاظ فِجّةٍ عوراء موجعة مثل صدّ الرب لآدم وحواء عن جنّة خلده. فإنه ما تحقق إلا بكلمات موجعة؟
„ وقال الرب لآدم: لأنك سمعت لقول امرأتك، وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلاً لا تأكل منها، ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك. وشوكاً وحسكاً تنبت لك، وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها؛ لأنك تراب وإلى تراب تعود " .
بخلاف الصد من لميا. فإن الصد منها ما كان أشبه صد الرب، ولا كان أشبه غيره من الصد مما يأتيه الناس أكثرهم .
صدُّ لميا نسيج وحده! تنزّه صدُّها عن كل ما له أن يكون فِجّاً قاسياً فظاً جارحاً.
وأنا إذ أفاضل الآن بين صدّها إياي عن وصلها وبين صد الرب آدم وحواء عن فردوسه بأي لفظ تجسد كل منهما وتحقق؛ فما أفاضل بينهما بنيِّة أن أجدِّف على الربّ.
فمالي وللرب لأجدف عليه؟ ليس بيني وبين الرب خصومة أو عداوة، ليسوغ لي أن أجدف عليه.
راعي كنيستنا الأب (غايُس كِلْزي) المولع بمجادلتي في مسائل لاهوتية معقدة – وقد أكون أنا المولع بمجادلته دائماً بعد نهاية قداس الأحد في صالون الكنيسة – لا بد أن يحسب الأمر كذلك. أنا على يقين من ذلك! كما أنا على يقين من أن خالتي (فيوليت) الخائفة من الرب إلى حد الرهاب رغم إيمانها بأن الرب محبة وليس غولاً، ستحسبه كذلك.
ولذلك سيتعين علي أن أوضح لهما غرضي من المفاضلة.. سيتعين علي أن أقول لهما: إنني لا أقصد من المفاضلة معنى آخر أبعد من أنّ (لفظَ) الصدّ من لمياء، كان أرقّ ديباجة، وآنقَ تطريزاً من اللفظ الذي صدَّ به الربُّ آدمَ وحواء عن فردوسه.
هذا كل شيء.
وقد أُتْبِع قولي لهما بقول آخر يتبادر الآن إلى ذهني، يصور تصويراً ما بين الصدين من اختلاف في اللفظ: "لو كان صدُّ الرب صاداً، لكان صد لميا عيناً ". والعين هي الذهبُ، والصاد هي النحاس، فأين العين من الصاد؟
شتان ما بين الاثنين!
إنني كلما متحتُ كلمات صدها بدلو ذاكرتي وحبالها، ثم نهلتها، أحسستها عذبة شهية الطعم كالماء من أنقى مصادره.. كلما تلمّست لغتها في خيالي – ولا أجهل أن اللغة لا يلامسها الخيال ملامسة اليد للأشياء - أحسستها أرقّ وأنعم ملمساً من حرير شفوفها الداخلية.
ما كان أشبه كلمات لميا، وهي تصدني عنها، بما كان شعراء العاطفة الرومانسيون يحوكونه بآلات خيالهم الماتعة من كلمات في وصف ليالي حبهم الساجية !
بمرح طفلة لاهية، بعاطفة ثَرّة شافية، بمنطقٍ معجز غالبٍ على بساطة تركيبه اللفظي - بالقياس إلى تراكيب الشعراء الرمانسيين - بتهذيب أميرة عريقة النسب، صدتني عنها معلنة عليَّ هجراً غير منتظر، هجراً ولكن بلا عنف، بلا نفور، بلا قلى، بلا جفاء، بلا حَيف...
كان الصد منها أملس كالخمرة المعتقة على الطريقة الفرنسية. ما تخلله من تلكم المعاني الجهمة الغليظة الكريهة الشائعة في منطوق الصدِّ الوجيع، ولا معنى واحد من معانيها. وما أنا ممن يفري كذباً، أو يبالغ حين يجهر بهذا الذي كان من أمر صدّها.
على أن جرحي، مع كل هذا الذي اتسم به صدُّها من أفانين الجمال وطرائف الابتكار غير المألوف إلى حد الشذوذ، أغدق من طعنة الصدّ صدِّها.
ترنحت حين تلقيت طعنة صدها.
طعْنة لميا أذهلتني عن السداد، طيَّرت من رأسي ما كان فيه من الرشاد.
وأمسيت منها في حال أشبه في ظاهرها بغيبوبة السكر؛ فما تمالكت أن اقترفت الهفوة التي ما كان يجدر بي على الإطلاق أن أقترفها، حين تساءلت في دخيلتي:
" أي جنون…!؟ تلفظني لميا من حياتها هكذا من دون أن تتفطَّن إلى أنها (برضاها) إنما أمست امرأة لن تزفَّ بخاتم ربها ؟!“
كان تساؤلي هفوة بالغة الجسامة فاضحة! حتى إني ليخطر لي الآن أن هفوتي تلك، لعظمها، لو كان لها أن تبلغ أذن (غرس النعمة) في لحده؛ لأسرع غرسُ النعمة إلى تدوينها في سجل هفواته النادرة، لا يرده عن ذلك علمُه - وهو في لحده مقيم منذ قرون - أني لست من الأمراء، ولا من ذوي المقامات والرياسات والجاه، ولا ممن طارت شهرته في فضاء الشعر، أو حطت في مجالس اللهو والمجون والغناء.
أنا الذي ما كنت أجهل حقيقة لميا، أنيّة لميا، طبيعة لميا، جوهر لميا.. أنا الذي كان على عرفانٍ محيطٍ لا يشوبه نقص كعرفان الصوفيّ بإلهه.. أنا الذي كان على عرفان مغلق الدائرة بكلّ َعَرَض من أعراض جوهرها، بكل لازم من لوازمه.. أنا الذي حرث لميا ظهراً وبطناً بذلك العرفان أعواماً، وحرثته لميا بعين ما حرثه بها، كيف له من بعد كل تلك المعرفة المستفيضة المتسعة الشاملة، أن يتساءل بشأن (لمياهُ) تساؤلاً ما كان إلا مزلاً وقحاً مريباً !؟
يا للعار!
ما الذي كان دفعني في تلك اللحظة المشؤومة إلى أن أتساءل ذلك التساؤل المزلَّ الوقح المريب؟
ما الذي كان أجاز لي أن ألصق بلميايَ صفة (الرضى) المثلوجة الغثة الوقحة؟
فإن للفظ الرضى معنىً لا يتحقق في الموصوف به إلا من بعد أن يكون الموصوفُ به أظهر التردّدَ، والتفكر، والتمنّع قبل أن يرضخ في النهاية ويرضى. ولا يتحقق في الموصوف به إلا إذا أغرى الموصوفَ به إغراءٌ ما من خارج ذاته لا سبيل له إلى مقاومة جاذبيته أو سلطته عليه؛ إغراء يحمل الموصوف بالرضى حملاً على الرضى.
أفكانت لميا من اللواتي يساومهن لهيبُ العشق، فينزلن له عن (رضاهن) من بعد تمنّع وتردد وتفكير وإقناع، حتى جاز لي أن أحسب الرضى صفة لائقة بها؟
أكانت لميا من اللواتي ينزلن للعشق عن تمنعهن، إذا ما العشق أغواهن بأشراك سحره، وضلالات فتنته ليحقّ لي أنا أن ألحق بجوهرها صفة الرضى؟
... قطُّ!
ما كانت لميا من هؤلاء اللواتي ينزلن للعشق عن تمنعهن.
كانت لميا هي الشعلة، كانت هي اللهيب، كانت الضرامَ والسعير في خلواتنا التي في أتّونها كان وعينا يحترق، ويمسي رماداً في طرفة عين. فإذا نحن، ونحن في بؤرة الضرام، والشعيل، ليس فينا مما يربطنا بالعالم وأشيائه المفردة، ومعانيه المدركة، سوى ذلك الإحساسِ الطاغي باللذة الخالصة النقية المطهَّرة من كل شائبة من شوائب الوعي والتعقل.
وأنا لغرارتي، كنت أتوهم أني إذ كشطت عنها ختم العسل، قد ضمنت لنفسي أني امتلكتها.. ضمنت أنها ستكون لي، لي وحدي على مدى الأيام أيامي.
ولقد أقمتُ على هذا الوهم زمناً طال، لم أزل عنه، أو أتنحى حتى أطل علي يومُ نحسي الكريه؛ هذا الذي أطلقتْ فيه لميا على قلبي رصاصةَ النبأ الراعد الصاعق المزمجر الحارق الفئيد، هذا النبأِ الذي سرعان ما سيستفزني من بُلَهْنيةِ الوهم إلى شقوة اليقظة، ويطوّح بي بعيداً عنها بعيداً إلى حيث تباريح وجدٍ منهِكة!
كنت غَمْراً جاهلاً ساذجاً أبله. كنت في حال كأنها حال الغريق إذ يتشبث بثُمامة... كحال الطفل مغبوناً بين يدي أمه. وكان صوتي، وأنا أتمتم في تلك اللحظة الفريدة اللعينة حدثَ الاختراق الصبيغ بالدم على مسمع منها، خفيضَ النبر راعشاً محتقناً، وكانت دموع القهر، توشك أن تتحيّر في مقلتي:
- لميا... ؟
ولما تمكنت بعد الجهد من أن أفرغ تمتمتي في أذنيها اللتين كانت أرهفتهما كيلا يفوتها – في ظني – شيء منها يفسد فهمها لمرادي، رأيت ثغرها يفترّ عن ابتسامة هادئة التمع فيها إشفاق سِيطَ بهزء لطيف وإنكار يسير. وإذا ببنانها التَّرِف الرخص يمتد بأسرع من مهلة حسو العصفورة للماء إلى خدي الملتهب؛ فيتلمَّس بحنان أحسسته منعشاً كالحنان الذي كان ينساب من راحة جدتي وهي تتحسسني، على الرغم من أن لميا في تلك اللحظة، كانت – وهي الأريبة – استكشفت، ولا بد، أبعادَ هفوتي الشنيعة.
حنانها - وقد استبان لحواسي على تلك الصفة – كان له تأثير قوي على حواسي حتى كاد من فرط تأثيره فيها أن يستجرّ من قلبي ما كان احتبس فيه من دمع غزير مضغوط. ولا تسلم الذاكرة من الخطأ. قد أكون أحسست أناملها في تلك اللحظة، وهي تتلمس خدي، خشنة صلبة خامشة لا حانية كالدفء الناعم في جو بارد، أو حانية كراحة جدتي. لست موقناً يقيناً ثابتاً من حقيقة ذلك الإحساس.
ولم يطل بي حتى سمعتها تعقّب على تمتمتي الخفيضة الغبية البلهاء، وقد ائتلق في عينيها ذلك الشعاع الذي كنت أعرف طبيعته خير معرفة، ذلك الشعاعُ الذي كنت أفهم معانيه من اللمحة الأولى أحسن الفهم، ويسحرني... شعاعُ كبريائها المضمَّخ بوعيها الجريء المستهين بكل العراقيل - مهما تعظم - الرافضِ بسُخْرٍ وشجاعة نادرة كلَّ مُواضعةٍ لا تروق لها، وكلَّ مقدار من المقادير مما ليس له ثقل في موازينها:
- أوَتظنني عاجزة عن زيارة الطبيب؟
- ...
- لست عاجزة، ولكني مع ذلك لن أزور طبيباً.
سألتها ببلاهة:
- فكيف سيخفى عنه الأمر؟
- لن يخفى عنه شيء، سأصارحه بكل شيء.
- تصارحينه!؟
- إي، أصارحه. ما لك؟ ما لعينيك جحظتا هكذا وكأن ثعباناً طلع فجأة عليك؟!
هتفتُ بصوت شبيه بضُغاب أرنب:
- لماذا يجب عليك أن تصارحيه؟ ما الذي سيخسره إن أنت لم تصارحيه؟
- لن يخسر شيئاً.
- فلماذا تصارحينه إذاً؟
- لو كنتَ فكرتَ، لكنت فهمت. فكّر!
كدت أحرد عليها كالطفل، وأضرب قدمي بالأرض:
- لن أفكر، ولا أحب بعد أن أفهم !
وكان من حق لميا، بلا شك، وهي تراني وقد طغى بي ذلك الانفعال السخيف، أن تكلح في وجهي. ولكن لميا لا تكلح في وجهي. يصرفها عن الكلوح في وجهي رقة مفرطة في الطبع، وتهذيب أكثر إفراطاً. لا تأخذ لميا حقَّاً لها مني سلبتُه منها، يمكن أن يكون في أخذها له تأثير مزعج علي، أو ضار بي ضرراً نفسياً على أي وجه من الوجوه.
قبضت لميا ما بين حاجبيها قبضاً كادت عيني ألا تلمحه، ثم قالت متسائلة بلهجة خلت من التوبيخ. ولا أغلو حين أزعم أن قولها كان خالياً من التوبيخ، أو مما يضارع التوبيخ في معناه:
- أترضى لي أن أتزوج بمن يرى معنى خطيراً في شيء تافه كهذا الشيء؟ - وأشارت بأصبعها إلى مكان الشيء الذي نعتته بالتفاهة - أأنا منهن في نظرك؟ أأنا من اللواتي يقششن كلَّ رُمام؟
أطرقتُ:
- ل…
وسكتُّ، لم أملك أن أرد بسوداء ولا بيضاء. أسكتني أن أدركتُ أني أخطأت لا مرة واحدة، بل مرتين: أخطأت حين جال في خلدي ذلك التساؤل الصدئ الغبيُّ المهين، وأخطأت حين جهرتُ به على مسمع منها بلفظ مقرف مجحف بغيض كلما نقر باب ذاكرتي، اشمأزَّ منه عقلي، وعضّني بسببه شعور مستحرٌّ بالندم.
كيف لكبرياء لميا أن تمسَّه يدٌ أو نيّة بسوء؟!
ولولا أني أدرك – أكنت أدرك هذا فيما مضى أيضاً؟ - أن لكل شيء جانبين: جانب سلبي، وآخر إيجابي: فحين أشعر أن الخطأ مني مثير للاشمئزاز والندم، فإن شعوري بذلك، إن هو إلا الدليل يعزّز يقيني بأن ضميري ما يزال حياً لم يمت. لولا بقاء ضميري حياً، لما كان ضميري استشعر الاشمئزاز والندم من الخطأ الذي ارتكبته. أعني: لولا أني أدرك إدراكاً فعلياً حقيقة أن لكل شيء جانبين، لكنت من جراء عدم إدراكي لهذه الحقيقة، منيت بعاهة نفسية غائرة مستديمة، ما أظن إلا أنها كانت ستحطم أسباب عيشي جميعاً، كما يتحطم قدح على رصيف الشارع قذفت به يدٌ غاضبة من الطابق الثالث.
- لست منهن، أأنا منهن؟
وأخذت لميا تتفحصني كما تتفحّص فكرة غامضة مسطورة في كتاب فلسفي، قبل أن تستأنف:
- أما أنا فلا أرضى. لا أرضى أبداً أن أكون شريكة رجل تأسره تفاهاتٌ تغيظني.
فإذا بنِخاب قلبي إثر قولها هذا يختلج فجأة برفّة من أمل، وإذا بلساني يتحرر من عقاله:
- لميا، فإن صارحتِه فانسحب وعدل، فهل تعودين إليّ؟ هل ستنتظرينني؟
فشصَت لميا إلي ببصرها، ثم أجابت بحسم وحزم:
- لن أنتظرك !
- وإن عدل؟
- وإن عدل.
واسترسلت وهي تهز كتفيها معبرة عن استهانتها بالأمر:
- فليعدل، فلينسحب أوَخلت الدنيا من الرجال؟
- فإن خلت منهم؟
- ليست تخلو…
كرّرتُ بيأس:
- لميا، فإن خلت؟
ضوّأت بابتسامة محياها الجميل وقالت:
- ليس بالزواج وحده يحيا الإنسان.
- والعنوسة؟
مطَّت شفتها السفلى:
- ما لها؟ أليست خيراً من زواج فاشل؟
توجعتُ:
- ولكنك تحبينني. لميا، ألا تحبينني؟
- أحبك، غير أني لن أنتظرك.
- يا ألله... لمه ؟!
- ما أدراني؟ هل أدري أنك لن تتغير بعد طول انتظار؟
- أنا ؟!
- إي، أنت.
- أبداً...
- منذا الذي لا يتغير؟ حسناً، قد لا تتغير، ولكن ماذا لو نشبت الحرب، وأنت في الخدمة؟ ألا يحتمل حينئذ – لا قدر الله - أن تقع أسيراً، ويطول أسرك؟
- بلى! وقد أسقط قتيلاً. لماذا لم تقوليها؟ ولكني أحبك ... أموت ولا أراك زوجة لرجل آخر!
- وأنا أيضاً أحبك. أيراودك الشك في حبي؟ لكني لن أموت إذا رأيتك زوجاً لامرأة أخرى.
- إذن فأنت لا تحبينني، لو كنت تحبينني، لمتِّ. كيف ترينني زوجاً لامرأة أخرى ولا تموتين كما أموت أنا لو رأيتك...؟!
- هه. ما أخف منطقك... عُصافة في المهبّ! لكأنك لم تفد شيئاً من كل هذا الذي تقرأه. اسمع، لو رأيتك صرت زوجاً لامرأة أخرى، فقد صرتَ لها زوجاً بملء اختيارك، بملء حريتك، بملء رغبتك. ولأني أحبك أرضى عن اختيارك ورغبتك، وأحب لك الحرية. فإن متُّ بسبب اختيارك لامرأة أخرى، فقد حكمتُ عندئذ على نفسي بأني أحب نفسي أكثر من حبي إياك. هذا منطقي. هل فهمت الآن منطقي؟
لم أستسلم لمنطقها، ماحكتها:
- إنك لا تحبينني. لو كنت تحبينني حقاً، ما قبلت أن تكوني لرجل آخر؟
شمخَتْ بأنفها:
- لن أكون لرجل آخر. سأكون شريكة رجل آخر.
ثم ضحكت لميا ضحكتها الفاتنة صادقة غير عابثة غردت:
- يا أهبل، يا مجنون! أنا أحبك. وسأحبه هو أيضاً كما أحبك أنت، ما لم يتراجع عن عزمه بعد المصارحة، أو بعد الاعتراف. أتحسب قلبي كالسرير المفرد يضيق على اثنين معي؟ أبداً، قلبي لم يصنعه صانع ليكون سريراً مفرداً يضّجع عليه شخص واحد. قلبي سرير واسع كالفضاء، لا تبصر العين له حافة. فكيف يضيق على حبين معاً؟
شكوت:
- وماذا ينفعني أن يكون قلبك كالسرير الواسع وسع الفضاء لا يضيق على حبَّين معاً؟ ماذا ينفعني أن تحبيني مع حبك له، وأنت بعد القران ستدسين حبَّك لي في قلبك، وتغلقين قلبك دوني؟ أين انتفاعي بحبك؟
- انتفاعك؟! لست أنت الذي ينتفع. أنا التي تنتفع من حبي الذي كالسرير الواسع. ألا أنتفع به؟
- وأنا؟
- ما أنتَ؟ أنت؟ أمم، سأفلفلك هكذا ( وحاكت في غنج ومرح بيد بسطتها وأخرى قبضتها، حركةَ الفلفلة هذه التي تمهّرت بأدائها النساءُ تعبيراً منهن عن معنى الإغاظة والتشفي ) سأفلفلك بالهجر، سأفلفلك بالحرمان، سأفلفلك باللوعة كيما يبقى حبُّك لي متأججاً مثل شعلة عبّاد النار.
شكوت ثانية بأنَّة جريحة:
- لميا، أوَتستعذبين ظلمي؟
- لست أستعذبه.
- فهل أصدقك؟
- صدّقني!
- كيف أصدقك، وأنت تستعذبينه بالفعل؟
انتهرتني، ضربت صدري بقبضتها اللينة:
- كفَّ عن التظلّم. اسكت وبس…! لست أستعذب ظلمَك. أستعذب أن تظل تحبني، كما أحبك.
سقط في يدي! أطرقتُ مبلبل الخاطر والحسّ والشعور.
كانت لميا تتأملني. حين رفعت إليها وجهي.. كانت تتأملني بنظرة لاح لي فيها ومضة خافتة من رأفة مشفقة، وأسى شفّاف.
وما هي حتى انقضت عليّ فضمتني إلى صدرها بعنف المراهقة وهياجها المفترس، فإذا نحن في أقل من ثانية، كما نحن في كل مرة يجمعنا الشيطان فيها.
في أقلَّ من ثانية واحدة، أضحينا معاً مادة ذائبة في دورق تذوب فيه أصلب المواد وأقساها معدناً.
كم طال بنا ونحن نغلي غليان السائل المعدني في دورق التذويب والصهر؟
لست أذكر – وهل لمن كان ذائباً منصهراً أن يذكر؟ - كم طال بنا الغليان بحساب تكتكات الزمن، وتردد أنفاسه المنتظمة. بيد أني ما زلت أذكر أنها وشوشتني مباشرة بعد أن فصلتني عنها.. ما زلت أذكر أنها ما إن تحقق لها أن تسلخني منها، حتى همسَتْ في أذني همسة كأنها نفثة الصهد: „ ستهتم بدراستك، أليس كذلك؟ عدني أن تهتم بها، يلّلا عدني…! "
ولأني أفهم لغة لميا، فهمتُ معنى الطلب؛ فهمتُ لماذا طلبت مني أن أهتم بدراستي في همستها الصهدية.
كان طلب لميا على معنى الرجاء.
وكان الرجاء منها مبللاً بعاطفة أمّ وقد ألقت برخمها على طفلها النائم فوق صدرها.
لكنّ إدراكي معنى الطلب، طلبِها، ما كان تحقق حال حدوثه. كان علي أن أتجرع حركات الزمن البطيئة أياماً طويلة مريرة قبل أن أدرك معنى الطلب.
تأخر فهمي للمعنى الكامن في طلبها، كما تأخر قبل ذلك فهمي لمعنى الطلب في قول أمي يوم أن خاصمها أبي على المائدة، وقمت أنا منتدَباً عن نفسي لمراضاتها وجبر خاطرها: "اسأله من هي صاحبة القضية التي خسرها في المحكمة الابتدائية ؟“.
أكان مستقبلي هو الذي يقلق لميا، حتى جعلها القلق تهمس في أذني همستها الصهدية تلك طالبة برجاء أن أعدها بأن أهتم بدراستي؟
أبداً !
فلميا لم يكن يقلقها أمر مستقبلي. ما قلقت يوماً على مستقبلي لميا. وما أقلقها مستقبلي في ذلك اليوم أيضاً. رجاؤها كان أن أتسلّى عن فاجعة الصدود بالانهماك في الدرس؛ لأنها – وأنا أعلم الناس بمقاصدها التي اعتادت أن تعبر عنها بلفظ موارب - كانت تخشى أن تمزقني مخاليب الوجد، ولوعة الصد والهجران، إن أنا لم أتسلَّ بالدرس عنها.
ولست أنحي باللائمة على ذهني أن أبطأ في فهم ما أرادته لي لميا من رجائها الهامس الحار.
من السخف أن أفعل ذلك؛ فإنه ليس من غير الطبيعي - وأنا في تلك الحال من القحط الروحي، والبأس المستفحل - ألا أفهم الطلب بالمعنى الذي أرادته لي إلا بعد مرور أيام على نطقها به.
ولكن هل كنتُ وعدتها بالاهتمام بدراستي؟ هل كنت وعدتها بأني سأسلو عن تباريح صدّها، وقتَ أن طلبت مني برجاء كالصهد أن أسلو عنها؟
قد…
قد أكون فقدت في لحظة رشادي، فوعدتها بذلك.
وقد أكون وعدتها بذلك: فإما بلفظٍ مسموع، وإما بإيماءة خديجة مرتجفة.
وقد أكون وعدتها بذلك في خبيئة نفسي بغير لفظ، ولا إيماء.
على أن وعدي لها في الحالين، في الجهر وفي الخفاء، ما كان له - لو كنت حقاً وعدتها به في الحالين - إلا أن يكون مستحيل التحقّق والتنفيذ، كما هو مستحيل التحقق والتنفيذ، وعدُ الطفل بالقمر.



#نعيم_إيليا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دوّامةُ النهر الكبير
- الرسالات السماوية
- صيغة التنزيه، برهان الطعن في المنزَّه
- نحن لا نخلق المعنى
- في حقيقة أن الأشياء تتغير ولا تتغير
- محاورة النرجسي
- وقول النصارى إله يضام
- الردُّ على ابن حزم في مسألة تحريف الكتاب المقدس
- مأزق العلمانية
- ما بين الدين والأفيون من ضروب التشابه
- حقيقة ما جرى في قرية الفردوس
- مشكلة المعرفة لدى ايدن حسين. (دحض المثالية)
- ياء ميم، ياء ميم الست مريم وصاحبها كريم
- خالق الموجودات
- مارس وفينوس
- حَدُّ المادة وأصلها
- صلوات حب على مدار العام 2
- صلوات على مدار العام 1
- في البدء كان الكلمة 2
- في البدء كان الكلمة


المزيد.....




- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم إيليا - دوَّامةُ النهر الكبير (2)