أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم إيليا - دوّامةُ النهر الكبير















المزيد.....



دوّامةُ النهر الكبير


نعيم إيليا

الحوار المتمدن-العدد: 6385 - 2019 / 10 / 20 - 16:17
المحور: الادب والفن
    


Für Lujain
1- ( الفاجعة )
الليل المهاجس، بالرغم من أنه مذ هبط، ما كان مريضاً متلحّفاً بدموس. كان أوضح ظلمتَه، سنا قمرٍ محلَّق لن يتلغّبَه طوال الليل أرقٌ ولا تسيار.
أمواج النهر الجائشة، المتلاطمة، الهادرةٌ في أذن الليل هديرَ شِقشقة ذي الغُلُواء في أذن المنكوب بالإصغاء إليه.
ديدبان الحراسة التركيُّ المدامر لليل بأمر من واجبه العسكري، ذو الخطو النقيل على ضفة النهر الثانية تلقاءَ وجوهنا.
القرية التركية (سِيدْرِه) المستلقية في حضن سهل تشقُّه طريق رُحاب في اتجاهين متعاكسين يربطان أقصى الغرب بأقصى الشرق. بيوتها المتراصة وجناح النوم المدفدِف فوق أسطحها مذ مرّ بها مليٌّ من الليل، وسهلها الفسيح الممتد خلف القرية البالغ في امتداده سفح جبل أكوم مجلبب بوقار من الدهر مرهوب.
منازل القرية الكردية السورية (كَهْ نيه دَوَارا) المتشحة بالظلمة بعد أن خبت مصابيحها قبيل انتصاف الليل، المنتصبة كالشواهد دكَّنتها جهومة ألغاز ليلةٍ مقمرة، على جانب من الهضبة المعنقة المطلة من حالقٍ على القرية التركية، وعلى وادي النهر الذي يرسم حداً فاصلاً بين قريتين، بل بين بلدين. والوادي العميق الذي كنا انحدرنا إليه من أعلى الهضبة انحدار لقمةٍ في حلق غرثان وقت وقوع الحدث في أول الليل.
ثياب (آرامَ) صاحبِنا الغريق المرتكمةٌ فوق الصخرة البهْمَة الملساء على خاصرة الدردور الرهيب، كالحيوان الأليف يرامق الدردورَ منتظراً بلهفة وقلق وفراغ صبر متى يظهر صاحبُه الذي انخلع منه فجأة وغاص في قلب اللجَّة، ثم لم يطفُ.
ونحن أصحابه الأربعة في الثَّبج.. في وسط موجودات الطبيعة هذه التي تكتنفُنا من كل حدب كالهواء. نعُبُّ في الذهول، نعُدُّ الحصى في وجوم! أذهاننا كغُلَّة الفجر إذ تتلطخ برطانة الكون وزمزماته الغامضة.
هولُ الفاجعة يميد بكياننا، يُرعِش ذُبالةَ وعينا بحقيقة ذواتنا، حتى لتوشك ذبالتُه أن تنطفئ.
ما نحن وهذا المكان؟!
من نحن؟
لسنا الآن (نحن) مثلما قد كنّا. لسنا الآن نحن الذين كنا قبل أن هوت أرواحنا إلى قاع الفاجعة.
نحن الآن شبهُ كلمةٍ أخطأ كاتب وضعَها في موقعها الملائم لها من جملةٍ في متن كتابه؛ فشاهَ منها وبها المعنى. نحن الآن ذراعٌ يبَّسها شللٌ داهم. نحن الآن جلد مُقْرَمَّط متقبّض معلوك. نحن الآن... كلا! بل نحن الآن، نبتٌ من ثُمامٍ، قد أمعنت الهشاشة فيه تنكيلا.
يكبّلنا العجز!
فمذ لطمت وعيَنا واقعةُ غرق آرامَ المفاجئةُ المدوِّخة اللامعقولة، فشا العجز في عظامنا، في عروقنا، في أدمغتنا، في خلايانا فُشُوَّاً بلغ من القوة والاستحكام حداً انهارت أمامه قدراتُنا جميعاً على إتيان فعلٍ، ولو واحداً، مما كان مستوجباً إتيانه من أفعال تقتضيها الواقعة اقتضاءً كاقتضاء الأسباب للنتائج.
ربما كان العسكريُّ التركي، ذاك الذي كان أول من ناوب في المحرس القريب من ضفة النهر المقابلة لنا، حاول بصيحاته وحركاته التي لم نكن نفقه دلالاتها ورموزها، وبلغته التي لم يكن بيننا من يتكلّمها أو يكنهُ شيئاً من المعاني المتناثرة من ألفاظها، أن يرشدنا إلى أمثل طرق التصرف حيال الفاجعة.
ولعل العسكريَّ الثاني الذي حلّ محلَّه في الخدمة، بعد أن جثم الليل وانتصف، أن يكون هو الآخر كرفيق سلاحه الأول، حاول - وهو يكلمنا أيضاً بين حين وحين، ويرسل لنا عن بعد بإشاراته المبهمة، وبلغته الأكثر منها إبهاماً - أن يرشدنا إلى ما يتعيّن علينا أن نجترحه لأنفسنا من مبادرات ضرورية لازمة.
أهو القدر ؟
القدر…!
لكأنّ فكرة القدر، حقيقةٌ واقعية لا ريب فيها. لكأن فكرة القدر، كتابٌ خطّه بالحق خالقٌ لحظة أنشأ خلقه فلا منجى، ولا مهرب، ولا محيص! وإلا فمن ذا الذي وسوس في صدر أبي آزاد في تلك الساعة، في تلك الدقيقة من الساعة، في تلك الثانية من دقيقة تلك الساعة، أن يودّعنا ويمضي لطيّته وقد خلا ذهنه كما خلا ذهننا تمام الخلو من إمكان أن تغدر بنا أفاعيل القدر ودواهيه؟
إن كان القدر هو الذي بثَّ في عطفه أن يتحرك لوداعنا ويمضي.. إن كان هو الذي أملى عليه بوسوسة منه شيطانية أن يفارقنا في تلك الثانية من الدقيقة من الساعة، فأيُّ شيء هو هذا الذي قدّر لعقولنا نحن ألا تتنبّه إلى أهمية وجود أبي آزاد بيننا، ونحن ليس بيننا من له قريب شأن بفكرة القدر كتاباً محتوماً، كما هو الشأن لدى هؤلاء الذين قد توغلت فكرةُ القدر في أدمغتهم بتأثير الأساطير الراجفة هاماتها من القدم؟
بلى، إنه لمما يثير الدهشة والاستغراب، ألّا يكون خطر لواحد منا، أنّا ما كان لنا من غنى عن وجود أبي آزادَ بيننا؛ فيقوم ليحول دون مغادرته إيانا في تلك الثانية...!؟
يا لَغفلتنا، يا لضعف حيلتنا، يا لانحطاط عزائمنا، يا لسوء تقديرنا… ألا تباً لنا! أفما كنا درأنا عن أنفسنا بعضاً مما عانته أرواحنا في ليلتنا الربداء، لو كان أبو آزاد ظلّ ملازماً لنا، لم ينسلّ من صحبتنا؟
أبو آزاد يتقن اللغة التركية. أبو آزاد، قام وانصرف عنا - وهو لا يعلم بحدوث الفاجعة - مضى في العشيّ إلى داره في القرية من بعد أن اطمأن، وبالأحرى من بعد أن طمأنّاه، ونحن لم نزل بعد سادرين في غفلتنا اللاهية، إلى أننا لن نحتاج إلى المزيد من خدماته.
لماذا لم يهوِ واحدٌ منا منطلقاً على الفور، حالما استيقنّا من غرق آرام صاحبنا، إلى دار أبي آزاد لإبلاغه بما حدث، وكل واحد منا مدرك أنّه الرجل الذي في وسعه أنْ يكون خير عون لنا في محنتنا، وأحسن الناس مرشداً، إذا ما بلّغ إليه أحدُنا نبأ ما حدث.
وقبل ذلك: لماذا لم يعنَّ لواحد وحيد منا أن يبادر إلى إخطار شرطة مخفر القرية الكردية (كَهْ نيه دَوَارا) بالواقعة؟ كه نيا دوارا، القرية التي كنا أمَمْناها للنزهة، والترويح عن النفس في أحضان الطبيعة البكر، وللتمتع بالتئام الصحبة بعودة آرام صديقنا المهاجر بعد غياب عنا طال أعواماً.
إنه العجز وقد صفّد أرواحنا خلف قضبان المفاجأة المهولة المذهلة التي لم تكن في حسباننا!
لولا ذلك، لولا أنّا كنا مصفدين مغلولين بالعجز في قبضة الفاجعة وهي تعصرنا عصراً كأننا الثوب مبلولاً؛ فلربما كان خطر لنا...كان خطر لواحد منا، أن يذهب في الوقت إلى أبي آزاد، فيطرق باب داره مستنجداً به مستعيناً بما لديه من خبرة وكفاءة، أو يذهب لإخطار الشرطة بالحادثة في مخفر (كه نيه دوارا) في أضيق الأحوال كي تتولّج أمرها عنا؛ فتنقذَنا - على الأقل - من هذا الخاطر المرعب المزلزل الذي كان كلما هدر في مخيلتنا، انقضّت منه أوصالنا: كيف لنا أن نقفل راجعين من رحلة الترفيه والإمتاع وعلى أكتافنا نعشُ آرام صاحبنا؟!
كيف لنا ذلك؟ إن الموت لأهون علينا من القفول، والنعش محمول على أكتافنا. أهون علينا أن تتخطّفنا كائنات فضائية من أن نكون نحن من ينعاه إلى أهله!
كيف لنا أن ننعاه؟!
نحن أصحابه، نحن أحباؤه، نحن أقرب الناس إليه بعد والديه، بعد أشقائه، بعد زوجه هؤلاء الذين لا ريب في أن قلقاً ماضياً كسكين الجزار يمزّق الآن أرواحهم شرَّ تمزيق بسبب تأخرنا في العودة.. لا ريب في أن يكون أرَّقهم حتى أنهكهم بالخواطر المخيفة، وعلى الأخص (سيمونِه – اشْمُونِي كار) زوج آرام التي لم تعتد على فوضى أجوائنا، ولا على استهتارنا بمواعيدنا المضروبة، ولا على استهانتنا بالخطط نضعها ثم لا نتعهدها بالتنفيذ في مواقيتها المحددة لها.
من نحن ليكون في وسعنا أن ننهض بهذا الأمر وهو أضخم من ضخام الصخور في هذا الجوار؟
من نحن ليكون في وسعنا أن نحمله على أكتافنا إلى ذويه خامد الروح، هامد الأنفاس!؟
من نحن ليكون في وسعنا، أن نفجر في أسماعهم هول حروف فاجعة مدمرة! من نحن لنستقبل وجوه أحبائه بنعي يهدّ الحيل هداً ولو جبلاً.
من نحن لنحمل على أكتافنا وِزْرَ جناية القدر ذي الشؤم واللؤم بصديقنا آرام وبنا؟
نحن عاجزون، نحن مرهقون... منتهكون، إنا لحائرون بائرون!
بأي وجه سنستقبل أهله؟ بأية عين سننظرهم؟ بأي لسان نخبرهم؟
لا...!
وما يَنْكينا ويحزُّ فينا بأشدَّ من كل ما اجتمع علينا من بلاء ومحنة، هو هذا الشعور الطافح بالذنب يجرفنا معه كما يجرف فيضٌ غثاءة... هذا الشعور الذي ينتظم كالطعنة الدبوب صميمَ ضمائرنا، فلكأننا احتقبنا الجرم بأيدينا، وما احتقبناه.
….
على أنه ينبغي الإقرارُ – إن صحّ أن يكون لفظ الإقرار صادف محلَّه هنا - بأن سبباً آخر غير العجز عجزِنا، وغير نكاية الشعور بالذنب فينا، كان يضمر ذاته خلف تصرفنا البليد المصفَّد بالعجز حيال الفاجعة.
كان ثمة شعاعٌ خفيّ مستتر من أمل جريح مهيضٍ يخامرنا. كنا نأمل من الدوَّامة التي ابتلعت صاحبنا فأنقصت بابتلاعه عددَنا؛ أن تقذف جثته من جوفها إلى سطح النهر المائج المرتجف. كنا ننتظر حدوث ذلك بين لحظة ولحظة. كنا نترقب بقلب لاهفٍ، لاهث بالرجاء لهاثَ عجوزٍ هِمّ بالٍ، أن تطفو جثته في موضع ما من النهر قريبٍ أو قَذَفٍ بعيدٍ عن الدوامة؛ فننتشلها ثم نحملها إلى ذويه، عائدين بها إليهم على وجع لا يطاق، على كره فظيع مقيت كأشد ما يكون المقت، من بعد إخطار الشرطة بالواقعة الفاجعة، كي تكون الشرطة أول المنبئين أهله بها بدلاً منا.
لكأن صديقنا (ميخا) تولى باتفاق صامت بيننا نحن الأربعة، أن يجسّد هذا المعنى؛ معنى الرجاء، معنى الأمل الذي كان يخامر قلوبنا، فيقهرنا على أن نحتمل قُرْحَ الانتظار فوق كل هذا الذي احتملناه مما رزئنا به في ليلتنا الربداء، في ليلتنا المنحوسة التي انقلب وجهها على حين بغتة انقلاباً عنيفاً صادماً مدوّخاً، وتنكّد فغدا كريهاً شنيعاً كتلك المأساة المعروفة التي وقعت في ليلة عرس سقط فيها العريس قتيلاً بطلقة طائشة من أحد المحتفين به من خلاّنه، وكان جوُّه قبل سقوط العريس مزدهياً بأفراح راقصة بهيجة، هازجاً بلذاتٍ حلوة رفيهة.
حركة ميخا الصامتة البكماء، وهي تجسد أملنا؛ أملَنا في خروج جثة صاحبنا من جوف الدوامة إلى السطح، لم يكن لها إلا أن يتسلل تأثيرها إلى وعينا فنلحظها رغم كثافة الغيم الذي كان يغشّي وعيَنا ويحجبه عن الإدراك.
لو لم نعِ غاية ميخا من حركته البكماء، لوقع في ظنّنا أنه يلتمس الدفء لنفسه بها. ولكن ميخا كان مثلنا لا يحس بالبرد في بطن الوادي العميق.
فإنَّا حتى تهوّر الليل، وانبثق الفجر، بتنا ونحن لا نحس البرد حيث مجرى الماء البارد، مع أن البرد في عمق الوادي ليلاً، ومع أولى نسائم الفجر، يلسع الجلد لسعاً حتى ليقفّ الجلد منه، ويزرقَّ لونه، ويرتعد. ويكون ذلك منه؛ أي من برد وادي النهر حتى في فصل الصيف الحار - ولقد خبرت ذلك بنفسي مرات - فكيف إذا اتفق وجود المرء في الوادي في بداية شهر أيار في سفح جبل ما زالت تتوّج ذروته بقيةٌ من ثلج أبت إلا أن تقاوم الذوبان، وهو لا يرتدي ثياباً تقيه من لسع برودته، كما اتفق ذلك لنا؟
ظلَّ ميخا طيلة الصدر الأخير من ليلتنا النكداء، يشطأ مائل العنق إلى جانب النهر صامتاً كالدَّيدبان المستوحد؛ يتمشّى على حافة النهر الصخرية منحدراً وإياه مسافة طويلة تجاوزت بطولها قرية (يَكْ خاني) السفلى القريبة قرب مرمى حجر منا؛ ثم لا يلبث أن يكرّ من هناك راجعاً إلينا، إلى القاعدة التي انطلق منها. حتى إذا بلغها - وهو يضرب أصدريه خائباً - عاد فانطلق منها كَرّةً أخرى إلى النقطة التي كان بلغها في انحداره.
هكذا دواليك حتى آذنتنا ديكةُ القرى القريبة منا والبعيدة بطلوع الفجر.
الفجر…!
وفي الفجر خلاصٌ للمكروبين من طغيان هواجس الليل. ولكن فجرنا، فجرٌ ليس كفجر سائر المكروبين. فجرنا الوليد ما أشرق علينا بالخلاص!
الفاجعة أشد وأدهى من أن يكون في مستطاع فجر وليد شقَّ لتوه أن يدحرج هولها عن صدورنا بإشراقة يسيرة منه رمادية. كل ما استطاع فجرنا أن يسديه إلينا، شيءٌ من رأفة لطَّفت قليلاً من إدِّ ما نكابده ونحن نُندَف بمِطْرَقهِ.
مدّ فجرنا لحواسنا جسراً إلى ضفة ثانية تقابل ضفتنا وجهاً لوجه، يعوم في جوّها ضوءٌ شحيح، ضوء خجول، مختلط، أغبش، يكاد - رغم تحلّيه بهذه الصفات - يذهب ضوءَ القمر المشرف على الأفول، ويمحو أثر النجوم اللامعة العالقة في أفلاكها.
وإنما بفضل هذا الضوء الشحيح المختلط، تمكنت من أن أقرأ ملامح أصحابي المنعكسة على سطح مرآته الغبشاء.
أتاح لي الفجر أن أقرأ ملامح أصحابي في ضوئه الأغبش، الخافت، الخجول. ولعله إذ أتاح لي ذلك، أن يكون أحبَّ أن يبدي لي عن جانب من محاسنه، أو لعله أحب أن يبدي لي عن جانب من مساويه.
تبيّنتُ ملامح أصحابي الثلاثة المنكوبين المفجوعين المنعكسة على سطح مرآة الفجر. رأيت ملامحهم أمست أكثر وضوحاً مما كانت عليه في ليلتنا قبل طلوع الفجر.
ملامح أصحابي، شبيهة بملامحي أكمل الشبه، وإن كنت لا أرى ملامح وجهي منعكسة على سطح مرآة الفجر، كما أرى ملامح أصحابي الثلاثة.
تتخايل ملامحُ الثلاثة لعينيَّ المجهدتين اللتين لم تخدع فيهما نعسةٌ رغم الإجهاد، وكأنها حيّ مدينة متقيِّضٍ، متهدّم، خرِبٍ... حيُّ مدينة دمّرته راجمات الفاجعة المرعبة تدميراً.
الفاجعة...!
غير أن الفاجعة إذ تدمّر المفجوعين توحّدهم في الوقت الذي تدمرهم فيه؛ فيكون للفاجعة وفق هذا الاعتبار معنيان متضادان يتنازعانها: النقمة، والنعمة، شأن كل أشياء الطبيعة: كالشمس تميت وتحيي، والمطر يجدي الزرع ويغرقه.
ويكون شأنها كشأن كل تصور يخطر في الذهن، كتصور الخلود في الآخرة، فإنه محوى لضدين: الفردوس، والجحيم. ويكون شأنها أيضاً كشأن العمل. فإن العمل، إذ يحرر العامل من ذل الفاقة ومسّ الحاجة، يستعبده بشروطه وتكاليفه الباهظة.
حين تجترح الفاجعة فعل التدمير، توحد المفجوعين، تصهرهم ثم تصوغهم في قالب واحد حتى ليبدو كلُّ واحد منهم، وقد خرج منه (من القالب) نسخةً تكاد تكون طبق الأصل عن نسخة الآخر.
ومع أن حقيقةَ توحيد الفاجعة للمفجوعين، لا تستثير العقل لشدة أُلْفتها وبداهتها، ولا تحرِّض الحواس على أن تلتفت إليها بانتباه وتركيز، فإنها ما إن لمعت في ذهني الملبّد على ضوء الفجر، حتى لمع معها انتباهي إليها.
على أن انتباهي إليها لم يدم طويلاً. فسرعان ما كمدت لمعته، وسرعان ما تلاشت كما تتلاشى لمعة البرق في أبرد السحاب.
في سحاب الشرود، وقد طبّق كلَّ جوانب ذهني، تلاشت لمعة انتباهي.
يشرد ذهني على غير إرادة مني. وقد أحسب الشرود انبثق عليه بتأثير تلك الحقيقة البديهية الخاملة؛ حقيقةِ التوحيد. فالحقائق البديهية الخاملة، في حسباني، لا يعرض لها دائماً أن تفقد كلَّ تأثير لها على النفس أو على الذهن.
أشرد...
يسرح بي الشرود خارج جوّ الفاجعة. بيد أني لا يفاجئني ألبتة أن يملك الشرود عليَّ أمري، أن يسرح بي خارج جو الفاجعة. ليس يبدهني في الوقت نفسه أنني لا أتعجب من استسلام ذهني للشرود. لست أعجب من أنني لا أحرك من قوى نفسي ما له منها أن يعوق ذهني عن السَّرْح البعيد، وما له منها أن يقيه من مسايرة الشرود في تداعياته وانهياراته الشبيهة بتداعيات وانهيارات تلّ من الرمل صدمته حركة من خارجه أو من داخله.
ويساير ذهني الشرود دون أن يخترقني من مسايرتي له شعورٌ بتأنيب الضمير قويٌّ أو ضعيف!
أساير شرودي، لست أردعه؛ لأن الشرود في علمي، وظيفة قهرية موكل بها إلى الذهن أن ينجزها. وربما كان حدثاً من أحداث النفس مما يجري داخل الذهن بحتمية: كحتمية الإنارة من القمر، وكحتمية التدفق من النبع، وكحتمية الظلام من الليل.
أجل، قد لا يكون من اللائق ألا يردع المرء ذهنه عن الشرود في خضم فاجعة شديدة الحلوك نهّاشة، ولكن المرء لا يملك في كثير من الأحيان، إلا أن ينصاع لأمر كأنه صادر من فطرته المستنسخة على شريطه الوراثي.
ولأني أعوّل على هذه الحقيقة العلمية المجربة؛ فلا غرو أن ينعدم شعوري بالحرج من شرودي:
لا أتحرج إذ أعلن جهراً أنني ليس عندي أنه من غير اللائق أن ينقاد ذهني - وأنا في غمرة الفاجعة - لفكرةٍ أو لتخيل أو لذكرى تنتشله من بحرها الملتطم، ومن جوها المتراكب المكفهر.
لا أتحرج عندما لا أخفي أنني لا يعتريني إطلاقاً تأنيبٌ من ضميري، حين يقذفني الشرود خارج الخط الدائري للفاجعة.. لا أتحرج – بتعبير أوضح - حين أُظهِر أنني لا يمسني من شرودي، وأنا في جو الفاجعة، شعورٌ بالذنب تُجاه الصداقة القوية النبيلة الصادقة الجميلة التي تربطني بالفقيد.
وأكاد أجزم أن هذا الشعور الذي قد قرّ في نفسي، هو الذي يحظّر ضميري عن إرغام ذهني على الإقامة الدائمة في قلب الفاجعة إكراماً للفقيد، ومراعاة لموقعه الحميم مني.
ولكن لماذا لا أحس أمرَ شرودي، وأنا في قلب الفاجعة، أمراً قبيحاً معيباً مستكرهاً كراهة اللفظ الهجين؟
ألأنه طبع من طبائع الإنسان، ولذلك لست أحس أنه قبيح، ولا أحس أنه مما يخلق بي؟ ألأنه كذلك؛ فلذلك لا أملك بإزائه إلا أن أكون غير كاره له، أو مستخذٍ منه؟
الحق أنه كذلك!
ولو يقال لي في الاعتراض على هذا الحكم الصادر عني: "ما كل غريزة أو سجية أو فطرة من فطر الطبيعة البشرية، يصح للعاقل أن يسايرها" فسأقول:
"هذا رأي سليم، ما ظلّ بين قوسين يحصران الشرود باعتباره مسألةً أخلاقية لا يسوغ انتهاكها“.
لا يجوز للعاقل أن يساير كل غريزة من غرائزه أو فطرة من فطره في كل ظرف وفي كل موقف، لأن بعض الغرائز، يكون في هذا الظرف، كما يكون في ذياك الموقف مهلكاً أو ضاراً أو مشيناً فاضحاً.
ولكن الشرود ما عساه أن يكون في قلب الفاجعة؟
هل للشرود في قلبها إلا أن يكون مفيداً نافعاً؟
هل للشرود إلا أن يكون فيه بعض علاج للمفجوع يكسر حدة احتقانه النفسي، ويحفظ له توازنه الضروري كيلا تذهب الفاجعة به إلى حيث لا قبل له باحتمال مشقات الفاجعة المهلكة؟
وما أحسبني مخطئاً في هذا! إن تجربة المفجوع تؤكد أن المفجوع - مهما تعظم فجيعته - لا يعدم لحظة يشرد فيها ذهنُه، وينأى عن فجيعته قهرَ إرادته ورغبته.
ولي من تجاربي ما يثبت أن المفجوع، لا يملك إلا أن يشرد في قلب فاجعته. تجاربي هي الدليل على أن الشرود، قاعدة مطّردة نافعة يستهدي بها أو به الذهن في نشاطه وفاعليته إبان الفواجع والمحن، وإبان ما شاكل الفواجع أو حاذاها من تصاريف الدهر وتقلباته، كما يستهدي الذهن بقاعدة التركيز نقيضِ الشرود في أحوال أخرى مغايرة تقتضي التركيز من كل بد.
ما أكثر المرات التي شرد فيها ذهني في محطات حياتي المتناصية!
كنت أشرد - وأنا تلميذ - في دروس التاريخ. أشرد كثيراً في الحصة الأخيرة من برنامج الدروس اليومي، حتى لو قد كانت هذه الحصة، حصةَ اللغة الفرنسية التي كنت متفوقاً فيها؛ إذ كنت أتقنتها في صغري اتقاناً يعود الفضل فيه إلى جدي، لا إلى ما كنت أتمتع به أنا من موهبة فطرية، ومن اجتهاد.
تندَّى بعطر الخلد ثرى جدي، وتندى ثرى جدتي بعطره أيضاً!
كنت أحب جدتي "عدد حبيبات الرمل المنكثب في تل عظيم" عبارة فصيحة لُقنتها من عمي في وصف حبي لجدتي. كان لساني يتعثر بها، يرتبك من ثقلها وأنا أهتف بها كلما سألتني جدتي: „ وكم تحبني؟" سؤالها الذي كانت تلقيه في أذني، عندما يلذ لها أن تناكد جدي بشهادتي أن حبي لها أوفر من حبي له.
أحببت جدتي حباً لم يعتره فتور حتى آخر يوم من أيام حياتها. كان يخيل إلي أن جدتي تحبني أكثر من حبها للآخرين، حتى أكثر من حبها أخويّ جان وريمون اللذين يصغرانني، فيزيد ذلك من حبي لها.
وهي وإن لم تكن مؤثرة تأثير جدي في بناء مستقبلي، وفاعلة في إرشادي، وتنظيم حياتي العملية، فإن قلبي كان أشد لصوقاً بها.
في سنواتها الأخيرة بعد وفاة جدي المحزنة، أجهدها المرض فأقعدها عن القيام إلى كثير من حاجاتها. كان من نتائج ذلك المرض المقعِد أنّ أمي زادت أعباؤها بتوليها مهمة العناية بها.
ومع أن عمتي (أنطونيا) التي تسكن بعيداً عنا في حي (السبيل) أعربت عن استعدادها، بل عن رغبتها بأن تتولى عن أمي هذه المهمة، لكن أمي رفضت رفضاً لا يقبل الاستئناف رغبة عمتي في أن تتولى عنها مهمة العناية بجدتي.
لأنني كنت براً بها أكثر من الجميع، وخير من يسعى في تدبير شؤونها التي بات يشق عليها تدبيرها، أطلقت عليّ جدتي لقب (عكّازة النانا ) وما زلت أخاطب بهذا اللقب في محيطنا الدائر بالأسرة، كلما جمعتني بأفراد أسرتي جوامع الشوق والأنس والواجب.
لم تستطع جدتي أن تتحرر من شعورها المستبد بها أنها كانت تظلم جدي في حياته ظلماً ما كان مستحقاً له. كانت تنخرط في نوبة من البكاء توجعني، كلما مرت ذكراه في خاطرها. عند ذاك أحاول أن أهدِّئها.. أحاول أن أقنعها بأن جدي كان في غاية الرضا عليها، سعيداً بحياته المشتركة معها حتى آخر نسمة من حياته. أقول لها بتكرار ممل: "نانا، أنت واهمة، لو لم يكن جدي منك في غاية الرضا وفي غاية السعادة، لشكا يوماً من ظلمك المتوهم".
قد أحاول أن أذكرها بأن جدي مات ميتة محسودة، بأنه مات بالسكتة القلبية، وهو منتصب القامة، سليم الأعضاء، لم يتهدَّج خطوه، لم يعانِ مرضاً يوجعه، ولا عانى عجزاً يقعده، ولا نظر إليه شاب يافع من هؤلاء الذين فسدت ضمائرهم، وأعمى الجهل بصائرهم، فقال في نفسه وكأنه خالد إلى الأبد في ثوب اليفاعة: "أي خير في أن يحيا هرم قد ساء وجودُه في الدنيا؟". ولكن محاولاتي، ما كانت تنتهي إلى الغاية المرجوة منها.
والدتي كنَّتُها، كان لها رأي آخر مختلف عن رأيي في تشخيص حالتها النفسية تمام الاختلاف. كان الرأي عند أمي أن الشعور بالذنب ليس في الحقيقة هو الذي يؤلمها، وإنما غياب جدي عنها هو الذي يؤلمها؛ فبغيابه عنها فقدت الجدة معاني الحياة الجميلة التي كان جدي يملأ بها حياتَها. باتت حياتها في غيابه قفرة خالية من المعاني. ولكني لم أكن أجاريها في هذا الرأي بالرغم من أنه رأي لا يعدم الصواب؛ فغياب جدي عنها أحدث بالفعل شرخاً عميقاً في حياتها، بيد أنه مع ذلك لم يكن - في رأيي - علة هذا الشعور بالذنب الذي لم تكن أمي تلحظه، ولا أدري السبب. إن الهفوات والأخطاء التي ارتكبناها في ماضينا، تظل تطاردنا بغم وكآبة كما تطاردنا بها وساوسنا القهرية حتى نهاية عمرنا.
ماتت جدتي وشعورها بالذنب تجاه جدي مستوطن في عقلها، جارٍ مع الدم في نيط قلبها.
أذكر أني بيدي، بأطراف أصابع هذه اليد، أطبقت جفنيها المصطبغين بصفرة قاتمة على عينيها الزجاجيتين. عندما أطبقتهما، رأيت دمعتين – قد يكون تهيّأ لي أني رأيت دمعتين - انزلقتا إلى تجويفَي مقلتيها، والتمعتا كألماستين. ومن يدري! فلعل دمعتيها كانتا آخر تعبير منها عن ذلك الشعور المريض بذنب اقترفته - في وهمها - بحق جدي! وربما تكونان أيضاً، انحدرتا من فرحة اللقاء به في الآخرة، وهو الاعتقاد الذي كانت جدتي على يقين ثابت من تحققه بعد وفاتها.
في طفولتي كثيراً ما كان جدي يتظاهر بالغيظ مني، حينما ينفضح أمامه ميلي إلى جدتي ميلاً أرحب من ميلي إليه. كان إذا ما رآني وأنا أتمتّك رَأْمَها كما يتمتَّك رضيع ثدي أمه، هددني وتوعدني بألفاظه المسجلة الخاوية من معانيها الحقيقية: "أولى لك، أيها الشقي، يا عفريت، يا عكروت!" ثم يتبع تهديده باستفسار مستنكر موبّخ كأن يقول: " أولى لك! أوَتحب جدتك أكثر مني؟".
فإذا رآني أنقلب بوجهي عنه هرباً من غضبته المفتعلة، ورآني أتمرغ به في صدر جدتي الفائض بالحنان، نبج صوته علي واشتد، وأسمعني صوتَ غضبته المفتعلة بإيقاع فخم ضخم: "وعلامَ تحبها؟ أاا؟ ماذا تلقى عندها مما لستَ تلقاه عندي؟ أخ منك يا عكروت، إنك لجاحد مثل جدتك... "
فما تسمع جدتي ذلك منه، حتى يتسربل وجهها بعبوس شهر شباط وقتامته - ولا يحول دون أن يتعبّس وجهها، أنها كانت على دراية تامة من أن جدي لا يبغي من كلامه الفظ في ظاهره سوى المزاح والمداعبة والتحبب - وحتى تسوق إليه بكثير من الخشونة والتهكم، ردَّها الصارم على (دعابته) البريئة من كل ما له أن يغضب حقيقةً: „ لو كان له منك ولو نتفة من خير، ما أحبني أكثر منك".
فيحتج جدي عند ذاك وقد تبدلت سحنته، وتطايرت شظايا تعجبه من عينيه المفتوحتين على وسعهما: " أأنا الذي لا خير يأتيه مني؟"
" أجل، ومن سواك إن لم تكن أنت؟"
ترد جدتي بنبر محتشد بالثقة، ثم يأخذ لسانها المولع بقلب حسناته عيوباً، يروّي على سجيته رغبتَها الدائمة في مشاكسته: " قل لي: ما خيرك عليه؟ أهو هذا العنت الذي يصيبه منك؟ تعنِتُه على الدرس والتلقين، وتريده بعد هذا العنت أن يؤثرك عليّ بحبه؟ ألا عشنا واشتفنا ! جَدٌّ لا يدع لحفيده أن يلهو ويمرح كسائر الأطفال، ثم يبغي أن يحبه حفيدُه أكثر من حبه لجدته. لااا، ويخمش خدَّه بلحيته هذه التي تشبه مكنسة زبَّال البلدية، ثم ينزعج ويحتج ويغضب ويحسد جدته، إذا كره حفيدُه أن يضمه إليه، وكره أن يبوسه من خده الطريء كقالب من الزبدة".
فيبتسم جدي، يتلمس ذقنه الحليقة، ثم يرد بلهجة من يظن أنه ظفر بخصمه: „ ولكن ذقني حليقة يا امرأة، ألا ترين أني حلقتها في التوّ؟ هه.. أوَتخمش ذقنٌ محلوقة في التو خده أيتها الذكية؟"
بتهكم لاذع ترد جدتي عليه مفندة منطقه الذي لا يبدو أنه أربكها: „ وبماذا حلقتها؟ أليس بالمقص الذي يجزّون به صوف الغنم؟ يلّلا، يللا، اذهب إلى المرآة وانظر لحيتك فيها ثم عد إلي... قال حليقة، قال ".
ولأن جدي كان يحبها حباً متين الأسباب، جميل الصياغة والسبك، صادقاً كل الصدق، لم يكن يقابل ردودها المستفزة المناكفة بردود مماثلة لها. كان جدي يضمّ جناحَه عنها، مستكيناً لها بوداعة هِرّ مخصي. وربما أملح سمعَها بغزل بديع الفن، رشيق اللفظ، لذيذ المعاني يتخيَّر أبياته مما استقر في ذاكرته القوية من زجل شعراء لبنان المتفوقين.
جدي كان محباً للزجل، بل كان مغرماً به غرام العاشق مع أن الزجل في بيئتنا الحلبية، ليس هو من الفنون التي تطرب لها أذن الحلبيين التي اعتادت منذ نشأتها على سماع ألوان خاصة من الغناء كالموشحات والقدود والقصائد والمواويل الثقيلة ثقل وجباتهم التقليدية المشهورة من المحاشي والكبب، حتى ليعتري أسماعَهم الكلالُ حال أن يقرع صيوانها ما يخالف إيقاعات هذه الألوان من الغناء والنشيد، وما يخالف ببنائه عن أبنيتها، وما يشط بلحنه وسُلَّم نغماته عما ألفته أسماعهم من ألحان ونغمات.
وهو الأمر الذي كان يطلق لسان أمي في ثلبهم: "قوم يصح القول فيهم: بَطِنون، مولعون باللذات الحسية، مهووسون بالنغم الثقيل الرصين“.
أمي لأنها لم تكن حلبية تعيّر الحلبيين بأنهم قوم ليس لهم ما يفخرون به سوى الغناء الثقيل، والمأكولات المتخِمة.
فإذا صادف أن كانت عمتي أنطونيا حاضرة، انبرت بدورها فسلقت الحمصيين بلسانها المرهف. تجمع عمتي كل عيوب الدنيا وتصبها على رأس الحمصيين. وليس نادراً أن تروي فيهم النكات التي تضحِك عليهم السامعين ضحكاً صاخباً. أحياناً تعجز أمي عن ضبط نفسها عن الإغراق في الضحك حين تسمع نكات عمتي في أهل حمص.
جدي كان يحفظ الكثير من أزجال هؤلاء الشعراء ذوي الموهبة العجيبة النادرة، ويصدح بها في أسماره على مدار الفصول بصوته الرخيم، ولا سيما في فصل الشتاء في ليالي متعه البريئة الساهرة حين يُطلب منه ذلك بإلحاح. وربما أنشدها، ولم يطلب منه إنشادُها، بعد أن تكون نشوة الخمر ضرَّجت خديه، وهدَّلت شاربيه.
سمعت جدي أكثر من مرة يصف بأسلوبه المولع بإحداث الدهشة والإعجاب لدى سامعيه، الحفلةَ الزجلية، أو المباراة الزجلية كما كان يسميها تلك التي شهدها بالمصادفة لأول مرة في حياته في بلدة من لبنان تدعى (بْدَادُونْ). كانت تلك هي الحفلة الأولى التي يحضرها جدي أثناء وجوده في دولة لبنان رقيباً في خدمة الجيش الفرنسي أيام الانتداب. ولا يني جدي يكرر توكيده - كلما عرضت المناسبة - على أصدقائه ومعارفه أو علينا وعلى الأغراب، أنه إنما منذ تلك المباراة الرائعة المدهشة، شغفت روحه بالزجل، وهامت به إلى الأبد ذائقتُه.
من أعجب وأجمل ما امتاز به جدي من الخصال، أنه لم يكن يظهر المبالاة بما يسمع من أقاويلهم فيه تلك التي كانت تصوره زوجاً طائعاً خانعاً هشَّ الرجولة خاضعاً بمذلة معيبة لسلطة جدتي (الرَّجُلة) خضوع المواطن لسلطة الحكومة، ولو جارت عليه، بل كان يتلقاها بتسامح المقتدر. يرد عليهم، وهو يبتسم ابتسامة المفكر ، بمثل قوله: "مودة النساء واستحسان الدَّلّ منهن فضيلة، ولا ذل في فضيلة"
أو بمثل قوله الذائع: " طاعة النساء والخضوع لهن من المحبة، ولا تعمر البيوت إلا بالمحبة“
أو بمثل قوله: „ إنما الرجولة أن تحب امرأتك حتى المذلة والخنوع والعبودية“.
جدي في علاقته الزوجية بجدتي، كان صنفاً فريداً بين الرجال، بخلاف ما كان عليه في علاقاته الخارجية مع الناس. علاقاته الخارجية، كانت تتحكم بها روحه العسكرية المسيطرة. كل الذين عرفتهم من أبناء جيله، لم تكن فيهم هذه السجية. هؤلاء كانوا إذا ما خرجوا مع نسائهم، مشت نساؤهم خلفهم، تفصلهن عنهم مسافة قد تتجاوز المتر والمترين، بعكس جدي الذي كانت جدتي تشبك ذراعها بذراعه سائرة بجانبه بهامة مرفوعة، وخطوة محكمة، وهما في طريقهما إلى الكنيسة، أو إلى السوق، أو في طريقهما إلى زيارة عائلات صديقة من الحي. وأكاد أجزم أن لو كانت هذه السجية في واحدٍ من أقران جدي، فإنه ما كان له أن يجرؤ على إشهارها.
أبي أيضاً لم يكن يشبه جدي في هذه المزيّة.
لم يرث والدي عن جدي، للأسف الشديد! أن يكون رقيق الطبع، نقيّ السيرة، دافق العاطفة، ليّن الجانب بإزاء أمي دائماً. وهو السبب الذي ستكون له نتائج - وإن قلّت – شديدة المرارة، ما إخال أن الزمن سيستطيع يوماً أن يحلِّي مرارتها الراسبة في حفر الذاكرة الغائرة؛ ذاكرتِنا نحن أبناءه الثلاثة.
في مرة آبَ والدنا إلى البيت بعد مرافعة له في المحكمة الابتدائية وقت تناول الطعام (والدي محام). كانت أمي فرغت للتو من طهو الطعام، وتجهيز المائدة.
جلسنا إلى المائدة. لكنا ما كدنا نهمُّ حتى فوجئنا به يرمي الملعقة من يده في صحنه الفارغ، ويطلق صرخة كاللكمة في وجه أمي :
- ما هذا؟ العمه! أفي كل يوم نفس الطعام... نفس الطعام؟
ثم يهب من كرسيه خلف المائدة، وهو في تلك الحال من الهياج المجهولة علته من قبلنا، ليأخذ سمته المتعرج إلى غرفته، فيتوارى خلف بابها بعد أن يصفقه صفقة ترتج منها قلوبنا.
امتقع وجه أمي، تلفتت إلينا بحركة عصبية عجزت عن إخفائها عنا، سألتنا:
- اسمعوا يا أولاد، من منكم يذكر آخر مرة أكل فيها هذه الوجبة؟
أجابها ريمون وهو أصغرنا:
- ما أكلناها منذ أكثر من عشرة أيام.
عند ذاك ضبطت أمي أعصابها، أمرتنا:
- يللّا، كلوا. والدكم ليس جائعاً. لو كان جائعاً حقاً، لأكل دون تذمر أو احتجاج. الجائع يأكل ولو قبضة مكنسة.
قامت بعد ذلك فدخلت المطبخ محنية الرأس بخاطر مكسور. وقمت أنا أيضاً فلحقت بها. رأيتها خلف المجلى تجهش للبكاء. عنَّ في صدري المتوجع لها أن أواسيها، قلت لها بصوت أوشك أن يختنق في حنجرتي من التأثر:
- ربما خسر القضية الموكلة إليه، وأراد أن يفشّ خلقه بك وبطعامك اللذيذ.
لكنّ أمي، ما حاك في صدرها شيءٌ من قولي هذا. لم يبدر منها ما يوحي إلي بأنها اكترثت بما قلته لها أقلَّ اكتراث. على أن ما بدا لي من عدم اكتراثها بكلامي، لم يدفعني إلى التراجع، تابعت:
- قد يكون هدَّه التعب. من يتعب كما يتعب البابا، يكن لأتفه الأسباب مستعداً للشجار.
ردت وهي تتناول كأساً بيدها المضطربة:
- أوَتعتذر له؟ وما ذنبي أنا؟ ما ذنبكم أنتم إن خسر قضية في المحكمة، وإن هدّه التعب هدَّاً؟
وإذا بي أتساءل:
- فلمَ إذاً فجر غضبته أمامنا؟ أي سبب هو هذا الذي حمله على ذلك؟
التفتت نحوي بوجها المضرج بحمرة الانفعال، قالت لي بلهجة آمرة ذات معنى لم أدركه في الحين:
- اذهب إليه واسأله عن السبب… اسأله من تكون صاحبة القضية التي خسرها!
وكأن أمي تنبهت إلى أن الماثل أمامها هو أنا ابنُها، حين كبحت لسانها عن الانطلاق إلى مدى أبعد من المدى الذي بلغه بانطلاقته الأولى. وسرعان ما مالت بلسانها نحوي بزجرٍ قارص:
- عد إلى المائدة، هيا ! لماذا قمت عنها؟
ولكني لم أزدجر.. عزّ علي أن أتركها قبل أن أجبر خاطرها المكسور، فعاندتها:
- لن أعود إليها إلا وأنت معي.
حين مضت أيام على هذه الحادثة، في مناسبة لم أعد أذكر ما الذي أفضى إليها، كما لا أذكر كيف كانت تفاصيلها، أدركتُ معنى قولها الذي زلّ به لسانها أمامي، وهي في سورة انفعالها: „ اسأله من تكون صاحبة القضية التي خسرها".
لا أنسى أنني بعد مرور أيام، أدركت ما كان خفي علي مما تضمنه كلام أمي ذاك وقت أن نطقت به من سرٍ أثار في نفسي مشاعر متضاربة، وأنني أفشيته.. أخبرت به (لميا) وأنا أتوقع أن تدهش لميا من الخبر. ولكن لميا، لدهشتي، لم تدهش من الخبر، ولم تأسف. قالت لي لميا بمبالغة فاترة:
- أنت آخر من علم. كل سكان حلب على علم بما بينها وبين أبيك.
- من هي؟
هتفت بها مستعلماً بصدر حرج أشد الحرج. فردت علي لميا، بل سألتني:
- لماذا ترغب في أن تعلم من هي؟ هل ستنتقم منها لو علمت؟
- لن أنتقم منها. ما هذا الذي تقولينه بحق المسيح!؟ أحب أن أعلم من هي وبس.
- وأبوك؟
- ماذا عنه؟
- ألن تزعل منه؟
- أزعل منه؟! ماذا يفيد أن أزعل منه؟
فجأة وهي ترمقني بنظرتها المستبطنة:
- لو كانت أمك في مكان أبيك…
فزعقت بها قبل أن تتم كلامها:
- كفى! إلا أمي.
رسمت لميا بسبابتها الطويلة علامة السكوت على شفتيها:
- هس، اهدأ ! اقصد أن بين الزوجات من قد يخنَّ أزواجهن. فلماذا لا تستفظع خيانة الأزواج، كما تستفظع خيانة الزوجات؟
ألزمني سؤالها بالتفكير. ثوان مرت على سؤالها، قبل أن أتمكن من العثور له على جواب يناسبه:
- ربما، ربما خسرت المتزوجة، إذا خانت زوجها، كلَّ شيء بخيانتها له حتى حياتها في بعض الأحيان، أما الزوج الخائن، فماذا يخسر؟
- يخسر قلب زوجته.
ورأيت وجه لميا يتلون بمشاعر من عدم الارتياح، وهي تضيف بنبر ساخر امتزجت فيه خيبة أمل مرة.
- ما أنت إلا ابن بيئتك.
فيما بعد سعيت بدافع التعاطف الطبيعي مع أمي مثل كل الأبناء الذين على الأغلب يقفون في صف أمهاتهم مؤيدين لهن ضد آبائهم إذا دبّ الشقاق بين الفريقين، وبدافع الانتقام لكرامتها، سعيت أن أزدري فعلة أبي وأدينها، لكني أخفقت في سعيي.
ظلت فعلة أبي في نظري وميزاني فعلة يسيرة، هينة، تافهة، لا تستدعي عقوبة الازدراء والإدانة. بل قد أكون في لا شعوري أو في عقلي الباطن، تباهيت برجولته التي اجتذبت إليها عشق امرأة ثانية غير أمي. وقد أكون تخيلت نفسي في مكانه أخوض مغامرة الخيانة الزوجية المحفوفة بما هو أبعد من خطر الفضيحة، فأعشق امرأة ثانية في السر والخفاء وتعشقني الثانية، فيزداد بهذا العشق رصيدي من حب النساء، ومن متع المغامرات السرية المبددة رتابة الحياة الزوجية.
لا أستبعد ذلك، فأنا في نهاية الأمر ذكر قد صممته الطبيعة على هواها لا على هوى النساء فقط، كما هو مثبت في نظرية التطور لداروين وتلاميذه من بعده.
إن الذكر في بيئتنا، على رأي لميا – وهو رأي أغلب النساء والرجال أيضاً - ينساق مع رغباته الخاصة بحرية أوسع من حرية الأنثى.
وفي عرف الذكر من أبناء بيئتنا تسمو قيمة الذكورة على قيمة الأنوثة؛ ولهذا السبب، فإن من حق الذكور لدى هؤلاء أن يتمتعوا بالخصلة التي تكاد تجدب من الاكتراث بكرامة الشريك، وتجدب من الاكتراث برباط الوفاء تقصُّه الخيانة الزوجية بمقصها الحاد.
بدأ جدي يجرِّس في أذنيَّ أصوات اللغة الفرنسية، وأنا بعد غض يحبو. فلما استقام عودي، تولى أمر تعليمي مبادئ قراءتها وكتابتها بجده وصبره المعهودين. فما اتسعت مِرّتي قليلاً، حتى أخذ يتعقبني فيها خطوة خطوة. وبلا تهوّد جعل يحضُّني على إتقانها لغةً للمحادثة، ثم جعل يستحثني بلا كلل على المخر في قاموس آدابها بمثابرة واجتهاد ما ينبغي لهما، في عقيدته، أن يحل بهما انقطاع، مهما تعظم التحديات والموانع.
كان يبتاع لي كتباً لمشاهير أدبائها من مكتبة (انطوان تلّيسِه) في (العَبّارة) بوسط المدينة. وهي المكتبة الوحيدة في حلب المتخصصة – إن جاز التعبير - ببيع الكتب والمجلات الأوروبية التي تسمح بها الرقابة الحكومية بلغاتها المتعددة: الفرنسية، الانجليزية، الألمانية، الروسية، الاسبانية.
لم يكن جدي يراعي أن تكون الكتب التي يبتاعها لي من مكتبة انطوان تلِّيسِه على مستوى قدراتي العقلية، وأنا في تلك الأعوام من عمري الغض. كان في رأيه أن عقل الطفل يمتاز من عقول كبار السن بالمرونة والليونة والحدَّة والنشاط والقدرة على الاستيعاب. فمهما تعسر المعلومات والفوائد الأدبية على عقله وتتعقد، فإنها لا تستعصي عليه ولا ترهقه.
ولا ينسى جدي وهو يشرح ذلك لمن ينكر عليه إرهاقي بمثل تلك الكتب أن يتمثل بالحكمة القديمة المأثورة: (العلم في الصغر…) على الرغم من أن هذه الحكمة ليست عند التأمل فيها، طَبَقاً للحالة التي كان يشرحها جدي للمنكر صنيعه.
وما زلت تحت إشراف جدي أمخر في قاموس آداب اللغة الفرنسية؛ حتى أمسيت بشهادة معارفي، وبشهادتي أنا – وأعلم أنه ليس حسناً أن أشهد لنفسي – أمسيت بحَّاراً شديد المراس، لا يرتوي شغفه بالمخر في قاموس آدابها.
بيد أن الجهد المبذول من جدي إن كان أثمر فيّ أنا ثمراً طيباً، فإنه لم يثمر في شقيقيَّ جان وريمون. كره شقيقاي كلاهما أن يتعلما اللغة الفرنسية مفضلين عليها اللغة الانجليزية، رغم كل الإغراءات التي كان جدي يسخو بها على كليهما.
ولعلي أذكر أنني كنت أشرد حتى في الكنيسة أيام الآحاد، وأنا أصلي مع المصلين بحرارة دونها حرارة الصيف في عزِّه.
ما أنسَ لا أنس شرودَ ذهني، وأنا أشهد جنازة خالي (عازار) الذي كنت أحبه وأؤثره، بمقدار ما كنت – ولا أزال - أحب أمي أخته وأؤثرها. كنت سائراً مع السائرين في الجنازة الخارجة للتو من الكنيسة، حين لاح لي قدّ لميا بين النساء في ساحة الكنيسة. وفي الحال تملص ذهنيَ الفاجرُ الماكر الداعر مني بغتة، وأخذني إليه أخذ المختلس.
راح اللعين - وأنا بين ذلك الجمع الخضمّ المزدحم بالندب والتفجع والنحيب الشاخب - يتحسس بمجون صفيق رقيع خليع لأطول من خطفة من الزمن ردفها العبْلَ؛ ردفَ ( لَمْيَا ) حبي الأول.
لميا لهفي، لُهابي، عطشي، جوعيَ الفتّاك في صدر شبابي. لميا مرعى الخيال خيالي في مراحل متعاقبة متوالية من مراحل عمري الجاري.
لمياء باسيل جرمانوس.
هذه التي كادت أن تكون خطبي فشريكة عمري فرفيقة حياتي إلى نهاية الحياة، لولا أنها اختارت ألا تنتظرني، حتى أتخرج من الجامعة، وأنهي خدمة العلم.
كيف تأتّى...



#نعيم_إيليا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرسالات السماوية
- صيغة التنزيه، برهان الطعن في المنزَّه
- نحن لا نخلق المعنى
- في حقيقة أن الأشياء تتغير ولا تتغير
- محاورة النرجسي
- وقول النصارى إله يضام
- الردُّ على ابن حزم في مسألة تحريف الكتاب المقدس
- مأزق العلمانية
- ما بين الدين والأفيون من ضروب التشابه
- حقيقة ما جرى في قرية الفردوس
- مشكلة المعرفة لدى ايدن حسين. (دحض المثالية)
- ياء ميم، ياء ميم الست مريم وصاحبها كريم
- خالق الموجودات
- مارس وفينوس
- حَدُّ المادة وأصلها
- صلوات حب على مدار العام 2
- صلوات على مدار العام 1
- في البدء كان الكلمة 2
- في البدء كان الكلمة
- رجع الكلام على ما تقدم من القول في المعنى


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم إيليا - دوّامةُ النهر الكبير