أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمد عبده أبوالعلا - هل خَدَعَنا ديكارت فعلا طَوَال ما يقارب أربعة قرون؟ قراءة نقديَّة في كتاب (أقنعة ديكارت العقلانيَّة تتساقط) للخُشْت















المزيد.....

هل خَدَعَنا ديكارت فعلا طَوَال ما يقارب أربعة قرون؟ قراءة نقديَّة في كتاب (أقنعة ديكارت العقلانيَّة تتساقط) للخُشْت


محمد عبده أبوالعلا
(Mohamed Abdou Abulela)


الحوار المتمدن-العدد: 6384 - 2019 / 10 / 19 - 22:46
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


بالرغم من أنَّ كتاب "أقنعة ديكارت العقلانيَّة تتساقط" يقع في 68 صفحة فقط (شاملة صفحات المصادر والمراجع التي تبدأ من صفحة 59)، إلا أنَّ هذا الكتاب، أو بالأحرى الكتيب، ينطوي على فرضية في غاية الخطورة؛ في حالة ثبوت صحتها، سيكون كل ما قرأناه عن ديكارت، سواء باللغات الأجنبية أو اللغة العربية، محض أوهام. فبحسب الدكتور الخُشت، ليس ديكارت، حقا، أبا الفلسفة الحديثة الذي جعل نور العقل الفطري حجر أساس مشروعه الفلسفي كما تعلمنا منذ نعومة أظافرنا. فالدكتور الخُشت يزعم أنَّ ديكارت ليس فيلسوف الوضوح والتميُّز والعقلانية الخالصة، وأنَّ العقلانية الديكارتية ليست سوى ’’قناع مراوغ أخفى ديكارت وراءه اتجاهاته اللاهوتية التي لا تخرج عن كونها عقائد المسيحية وقد ارتدتْ لباس الفكر الخالص وتقنَّعت بأقنعة العقلانية الحديثة‘‘(1).
يستند الدكتور الخُشت في زعمه هذا إلى أنَّ مبدأ ديكارت الشهير، المتمثِّل في "الذات المفكِّرة"، لم يكن بالقوة والرسوخ بحيث يشكِّل مبدءا كافيا بذاته لاستنباط نسق فلسفي متكامل تتوالى فيه سلسلة الحقائق. ويدلِّل الخُشت على ذلك باستعانة ديكارت بمبدأ "الإله الكامل الصادق" لمعالجة قصور أو عدم كفاية مبدأ "الذات المفكرة".
فبحسب الدكتور الخُشت، الفكر (= الذات المفكرة) عند ديكارت ليس كافيا بذاته، بل بحاجة دوما إلى ضمان إلهي؛ وبذلك يكون يقين الفكر لاحقا منطقيا على يقين الصدق الإلهي، وليس العكس كما يوحي بذلك الكوجيتو الديكارتي. وهكذا يرى الدكتور الخُشت أنَّ ديكارت يردّ الوضوح والتميُّز (العقليين) في منهجه إلى مصدر إلهي، وليس إلى الفكر الخالص (أو العقل المجرد).
يقول الخُشت نصا في هذا الصَّدد، محاولا نسف منهج ديكارت من جذوره: ’’من الجليّ إذن أنَّ الضمان الإلهيّ حاضر في اللحظة الأولى من لحظات بناء المنهج الديكارتي، أعني لحظة تحديد معيار اليقين المعرفيّ، مما يستوجب إعادة النظر في مدى مصداقية إعلان ديكارت عن كون الكوجيتو حقيقة أنطولوجية معرفية أولى راسخة تكتسب شرعيتها من داخلها‘‘(2).
المفارقة في زعم الخُشت هنا، أنه بالرغم من تأكيده على عدم كفاية مبدأ "الذات المفكرة" عند ديكارت، يقرّ بوجود نصوص ديكارتية تشير صراحةً إلى أنَّ "الفكر"- وحده- هو سبيل النجاة الفلسفية الكافي بذاته دون حاجة إلى ضمان إلهي. لكن الخُشت يقوم بالقفز على هذه النصوص دون أيّ ردّ عليها مكتفيا بوصف النسق الديكارتي بأنه ينطوي على دَوْر منطقي(3).
بوجه عام، يعتقد الخُشت أنَّ ديكارت كان يخضع في تفكيره لبواعث لاهوتية معيَّنة، بما في ذلك تفكيره في المسائل العلمية. بحسب الخُشت، لقد أقحم ديكارت الميتافيزيقا في مسائل طبيعية بحته، وذلك عندما وضعها (أي الميتافيزيقا) قبل الطبيعيات وجعلها الأصل ونقطة المبتدأ لسائر العلوم(4).
في الواقع، إنَّ الدكتور الخُشت يقف في قراءته لديكارت عند ظاهر النصوص الديكارتية دون محاولة النَّفَاذ إلى ماورائها. فمن المعلوم أنَّ ديكارت يكتب بلغة خاصة أشبه- إذا جاز التعبير- بالشَّفْرَة؛ واستخدامه لهذه اللغة لم يكن بمحض إرادته، بل أمْلَتْها عليه الظروف الدينية والسياسية للبيئة والعصر اللذين عاش في كنفهما.
إنَّ لغة ديكارت تصطبغ بصبغة لاهوتية واضحة يجب عدم الانخداع بها، لكن- للأسف الشديد- انخدع الدكتور الخُشت بهذه الصِّبغة إلى درجة أنه لم يتردَّد في وصف ديكارت بأنه "حليف للكنيسة"(5)، وأنه ’’تلميذ اليسوعيين الذين قاموا بدور خطير في مقاومة الإصلاح البروتستانتي هادفين إلى تجديد الكنيسة الكاثوليكية‘‘(6).
ليس الدكتور الخُشت وحده الذي انخدع بالصِّبغة اللاهوتية للغة ديكارت، فهناك عدد من شُرَّاح ديكارت قد وقعوا أيضا في نفس الفخ، لكن عدد هؤلاء قليل جدا، فضلا عن أنهم غير مشهورين. أما كبار شُرَّاح ديكارت، سواء الأجانب أو العرب، فقد نبَّهوا مرارا وتكرارا إلى عدم الانخداع بالمظهر اللاهوتي لتعبيرات وأفكار ديكارت الفلسفية والعلمية. ليس هذا فحسب، بل بذلوا جهدا عظيما لإزالة الركام اللاهوتي عن النسق الديكارتي للكشف عن عناصره العقلانية والثورية، تلك العناصر التي كانت سبب استشعار ديكارت الخطر على حياته في موطنه فرنسا. ففرنسا وقتئذٍ كانت تَتَّبع المذهب الكاثوليكي المتعصِّب؛ وهو ما دعا ديكارت إلى مغادرة فرنسا والعيش في هولندا ذات المذهب البروتستانتي الأكثر تسامحا وحرية. حتى في هولندا ’’كان [ديكارت] يغيِّر منزله باستمرار ويعيش متواريا عن الأنظار إلى حدٍّ كبير لكي يكتب ويفكِّر بحرية‘‘(7).
في هذا الصَّدد، يذهب الدكتور فؤاد زكريا إلى أنَّ ديكارت، شأنه شأن كثير من فلاسفة القرن السابع عشر، كان يتعمَّد أنْ يحجب الكثير من آرائه، وألا يصرِّح بما يعتقد أنه يثير غضب السلطات المسيطرة في ذلك الحين، تلك السلطات التي كانت تتمثَّل في القوى التقليدية، وعلى رأسها الكنيسة التي كان رجالها يشغلون المناصب الرئيسة في الجامعات، وكان لهم نفوذ هائل على السلطات الحاكمة(8).
إذن، بحسب الدكتور فؤاد ذكريا وغيره، فإن ظروف العصر الذي عاش فيه ديكارت هي التي أمْلَتْ عليه مجاملة- أو بالأحرى نفاق- الأوساط اللاهوتية، ومن ثمّ استخدام لغة ذات مظهر لاهوتي في التعبير عن آرائه الفلسفية والعلمية. لقد وصلت الضغوط على ديكارت وبلغ الخوف منه مبلغه إلى حدّ أنه تراجع عن نشر رسالته الشهيرة "العالم"، وذلك بعد أنْ ترامت إليه أنباء عن إدانة جاليليو ومثوله أمام محكمة التفتيش والكنيسة الكاثوليكية في روما عام 1633، حيث كان ديكارت يأخذ في رسالته بالنظام الفلكي الكبرنيكي، وهو نفسه النظام الذي أخذ به جاليليو وأدين بسببه أمام محكمة التفتيش.
كان [ديكارت] يكتب وإحدى عينية على الحقائق التي يريد التعبير عنها، بينما العين الأخرى على رجال الكنسية وأساتذة اللاهوت في الجامعات. فرسائله تحتشد بعبارات التحوُّط والتخوُّف من غضب السلطات، بل إنه يقدِّم إلى أحد تلاميذه، وهو ريجيوس (Regius) درسا عمليا في كيفية منافقة الجهلاء ذوي النفوذ من أجل اتقاء شرهم، وتقديم التعاليم الجديدة إليهم بطريقة ملتوية غير مباشرة حتى لا تصدمهم. ومعظم ما كتبه عن الأخلاق المؤقتة (morale provisoire) إنما هو نموذج حي للرغبة في "التَّقِيَّة" والابتعاد عن شر أصحاب السلطان بمداراتهم والاستسلام لأوامرهم(9). وبالرغم من ذلك، فإن ديكارت في آخر كتاب له نُشر قبل وفاته بشهور (أواخر عام 1649)، وهو كتاب "انفعالات النفس"، قد جاهر بأنَّ السيادة في مجال الأخلاق يجب أنْ تكون للعقل وحده. فها هو يقول نصا: ’’[يجب] علينا أنْ نعود إلى التجربة ونستخدم العقل كي نميِّز بين الخير والشر فنعرف القيمة الحقيقية لكل منهما كي لا نأخذ أحدهما ونحن نظنه الآخر، ونلهث بشدة وراء لا شيء‘‘(10).
في الواقع، وعلى ضوء ما سبق، نستطيع أنْ نقول إنه لا وجود حقيقي لهيمنة لاهوتية دينية على النسق الديكارتي، وأنَّ وجود الذات المفكرة في هذا النسق له الأولوية المنطقية على وجود الله وكونه صادقا. فإثبات وجود الذات المفكرة عند ديكارت يسبق منطقيا إثبات وجود الله، وليس العكس كما يذهب الدكتور الخُشت. وهذا ما أكدَّ عليه برتراند رسل بقوله: ’’في هذه القضية ["أنا أفكر إذن أنا موجود"] وَجَدَ ديكارت نقطة البداية الواضحة والمتميِّزة للميتافيزيقا، وهكذا استنتج أنه كائن مفكِّر، مستقل تماما عن العناصر الطبيعية، ومن ثمّ مستقل عن الجسم أيضا، ثم انتقل ديكارت إلى وجود الله‘‘(11). كما أكدّ على ذلك أيضا جيمس كولينز بقوله: ’’اتفق ديكارت واسبينوزا وليبنتس على أنَّ سلامة العقل الإنساني أمر يمكن الدفاع عنه ضد هجمات الشك، وأنَّ المنهج العلمي يمكن أنْ يتكيَّف داخل فلسفة تجعل الأولوية لهذا العقل في تسوية القضايا‘‘(12).
فبالرغم من الأهمية التي تحتلها فكرة الإله في فلسفة ديكارت، فأنَّ هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أنَّ فلسفة ديكارت كانت دينية في بنائها أو إلهية المركز. ففكرة الله في مذهب ديكارت تخدم أغراض المذهب ذاته، حيث لا تمثِّل هذه الفكرة أكثر من مجرد حلقة في برنامج شامل يهدف إلى تقويض مذهب الشك عن طريق بناء تفسير عقلي للواقع. وهكذا يتخذ ديكارت موقفا وظيفيا من الإله، ذلك الموقف الذي كان يميِّز الحركة العقلية في عصر العبقرية على حدّ تعبير كولينز(13).
إذن الميتافيزيقا الديكارتية هي مجرد خطوة تمهيدية في طريق العلم، ’’أي أنَّ مهمتها هي تذليل عقبات معيَّنة كان من الممكن أن تَحُول دون ظهور العلم أصلا. وبعد أن تنتهي مهمة الميتافيزيقا، يبدأ دور العلم‘‘(14).
من هذا المنطلق، تختلف الميتافيزيقا الديكارتية عن الميتافيزيقا التقليدية. فعلى خلاف الميتافيزيقا التقليدية، تتصالح الميتافيزيقا الديكارتية مع العلم الطبيعي والتفسير العقلي للواقع. على سبيل المثال، لا يوجد تعارض في الميتافيزيقا الديكارتية بين وجود الله وكونه كاملا يتمتع بالقدرة المطلقة وبين التصوًّر التطوُّري الآلي للعالم والإنسان؛ في حين تعادي الميتافيزيقا التقليديةَ جميع التفسيرات التطوُّرية الآلية، سواء للعَالَم أو الإنسان، وتدافع، في المقابل، عن التفسير الغائي الذي يرتكز على فكرة أنَّ العالم والإنسان يسيران وفق غايات إلهية محدَّدة.
وحين أراد ديكارت أنْ يعبِّر عن موقفه من فكرة الغائية، لم يقدِّم هذا الموقف بطريقة مباشرة، وإنما عرضه من خلال تعبيرات ذات مظهر لاهوتي، وإنْ كانت النتيجة المستخلصة منها علمية إلى حدّ بعيد. فهو لا ينكر الغائية إنكارا مباشرا، بل يؤكد على عكس ذلك أنَّ الكون يخضع لغايات إلهية، ولكن هذه الغايات تخفى علينا؛ لأن عقولنا البشرية عاجزة عن استيعابها، ومن ثم فلا بدّ أنْ نعامل الطبيعة "كما لو كانت" خالية من الغايات [...] إن ديكارت ينضم في الحقيقة إلى صف المفكرين الذين ينزعون الغائية عن الكون؛ وإنْ كان يغطي آراءه بقشرة لاهوتية لا يصعب على العقل الناقد كسرها(15).
مما سبق، نجد أنَّ فلسفة ديكارت- على خلاف ما يذهب الدكتور الخُشت- لم تكن مجرد خادمة للدين المسيحي (تحديدا المذهب الكاثوليكي). فعلى خلاف الميتافيزيقا المدرسية، تحاول الميتافيزيقا الديكارتية الكشف عن مبرِّرات (أو مسوِّغات) الوجود. إنها تهتم بالذات التي تَعْرِف والتي تقرِّر الوجود أكثر مما تهتم بالموضوع الذي يمكن أنْ يُعْرَف أو يكون موجودا. وعليه، فإن الذي يضفي على الميتافيزيقا الديكارتية يقينها ليس هو طبيعة موضوعها، بل الطريق الذي يسلكه الذهن في طلبها على حدّ تعبير عثمان أمين(16).
في واقع الأمر، إنَّ الثورة الفكرية التي أحدثها ديكارت، والتي خلقت إجماعا (أو حتى شبه إجماع) عليه باعتباره "أبا الفلسفة الحديثة"، لا تتمثَّل في النتائج أو الآراء الفلسفية والعلمية التي توصَّل إليها، بل في المسلك أو المنهج الذي اتبعه للتوصُّل إلى هذه النتائج، ذلك المنهج الذي تطلَّب منه الابتعاد عن المنهج السائد في فلسفة العصور الوسطى. وهذا ما أكدّ ريتشارد شاخت حين ذهب إلى أنَّ منهج ديكارت في التفكير منهج راديكالي يحمل في طياته إعلانا باستقلال الفلسفة عن الكنيسة. إنَّ النتائج التي اهتدى إليها ديكارت حول طبيعة الله ووجوده، وحول العالم النفسي، لم تكن تحمل في ثناياها شيئا من الهرطقة، بل كان الأمر عكس ذلك تماما. فما يصح اعتباره هرطقة، فعلا، هو إشارته إلى أنَّ الأحكام الخاصة بهذه القضايا لا يجوز أنْ ترتقي إلى مرتبة الحقائق إلا إذا أمكن برهنتها برهانا عقلانيا، أي بالاستناد إلى مدركات واضحة متميِّزة. فديكارت يشير هنا، بشكل غير مباشر، إلى أنَّ الوحي لم يَعدْ مصدرا كافيا للإيمان بوجود الله وخلود النفس. وكان هذا هو سبب قلق ديكارت الدائم من الكنيسة(17).
إذن الميتافيزيقا الديكارتية لم تكن مجرد تسليم أعمى بقضايا لاهوتية كما يعتقد الخُشت، بل عِلمًا ينبغي التحقُّق من نتائجه عن طريق الحدس والاستنباط العقليين. فها هو ديكارت نفسه يقول نصا: ’’لقد كان رأيي دائما أنَّ مسألتي الله والنفس أهم المسائل التي من شأنها أنْ تُبَرْهَن بأدلة الفلسفة خيرا مما تُبَرْهَن بأدلة اللاهوت‘‘(18).
كان منهج ديكارت ذا طبيعة ثورية من هذه الناحية. ’’ومن هنا لم يكن من المُسْتغرَب أنْ تجد مؤلفات ديكارت مكانا مضمونا على قائمة الممنوعات لدى الكنيسة‘‘(19).
والخُشت نفسه أشار إلى جوانب من حياة ديكارت الفكرية تؤكد أولوية سلطة العقل عنده على سلطة ونفوذ رجال الكنيسة، لكنه- للأسف الشديد- لم يأخذها على مَحْمَل الجِدّ. على سبيل المثال، تحدث الخُشت عن انتقاد أحد اللاهوتيين لنظرية ديكارت في المادة بسبب تعارضها مع الاعتقاد المسيحي في تحوُّل الخبز والخمر في القربان إلى جسد المسيح ودمه تحوُّلا حقيقيا(20). كما أضاف قائلا: ’’لم يُضمِّن [ديكارت] في بنية نسقه الفلسفي أسرار الكنيسة السبعة، ولا أسرار التجسُّد والتثليث والصلب، ولكن فلسفته جاءت مُبَرْهِنة على العقائد الكبرى. وربما يكون السبب في ذلك أنه وَجَدَ من المستعصى عقلانيا- حتى على المستوى الظاهري المتقنِّع- تسويغ وإدراج تلك العقائد النوعية المسيحية الكاثوليكية في بنية نسق فلسفي يزعم لنفسه العقلانية المنهجية‘‘(21).

خاتمة

على ضوء ما سبق، وعلى خلاف ما ذكره الدكتور الخًشت في كتابه " أقنعة ديكارت العقلانية تتساقط"، نؤكد أنَّ ديكارت هو "أبو الفلسفة الحديثة"، الذي وَضَعَ حجر أساس المنهج العقلي في التفكير وأقام عليه مذهبا عقلانيا في جوهره لاهوتيا في مظهره. فديكارت مفكر عقلاني بامتياز، وليس مفكر لاهوتي كان كل همَّه توظيف الفلسفة في تبرير العقائد المسيحية. إنَّ الصدق الإلهي عند ديكارت ليس هو المصدر المباشر لليقين، بل يحتاج ذلك إلى وسيط هو العقل الذي منحنا الله إياه لتكوين الأفكار الواضحة والمتميِّزة.
أما بالنسبة لإصرار القليلين جدا من شرَّاح على وصف ديكارت بأنه مفكر لاهوتي، فإننا نرى أنَّ ذلك يعود إلى وقوعهم في أَسْر العقلية الحدّية التي لا تؤمن إلا بقاعدة واحدة في معالجة جميع المشكلات، أقصد قاعدة "إما ... أو ...". فهؤلاء الشرَّاح، بهذه العقلية الحدّية، يضعون النزعتين العقلانية والإيمانية دائما على طرفي نقيض، في حين أنَّ هذا غير صحيح بالضرورة، حيث يتوقف ذلك على طريقة التَّمثُّل الذهني لدى كل شخص للدين، ومن ثم تصوُّره أو تأويله الشخصي لفكرة الله سبحانه وتعالى. فالإيمان الديني، من المنظور الديكارتي، لا يتعارض مع نور العقل الفطري الموجود داخل كل إنسان، بل إنَّ هذا النور ذاته هو الهبة الإلهية الكبرى التي يمكن عن طريقها توجيه الإرادة على المستوى الأخلاقي، وتكوين الأفكار الواضحة والمتميِّزة على المستوى المعرفي.


الهوامش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- محمد عثمان الخُشت، أقنعة ديكارت العقلانية تتساقط، القاهرة: دار قباء، 1998، ص 11.
2- المرجع نفسه، ص 17.
3- انظر المرجع نفسه، 28.
4- انظر المرجع نفسه، ص 37.
5- المرجع نفسه، ص 51.
6- المرجع نفسه، ص ص 55.
7- هاشم صالح، معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا، بيروت – لندن: دار الساقي، ط 1، 2010، ص 129.
8- فؤاد زكريا، آفاق الفلسفة، بيروت: دار التنوير - المركز الثقافي العربي، ط 1، 1988، ص 145 (بتصرُّف).
9- المرجع نفسه، ص 147.
10- رينه ديكارت، انفعالات النفس، ترجمة وتقديم وتعليق: جورج زيناتي، بيروت – لبنان: دار المنتَخَب العربي، ط 1، 1993، ص 84.
11- برتراند رسل، حكمة الغرب: الفلسفة الحديثة والمعاصرة، ترجمة: فؤاد زكريا، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، طـ 2، جـ 2، 2009، ص 67.
12- جيمس كولينز، الله في الفلسفة الحديثة، ترجمة فؤاد كامل، الفاهرة: مكتبة غريب، 1973، ص 84.
13- انظر المرجع نفسه، ص ص 84 – 85.
14- فؤاد زكريا، آفاق الفلسفة، ص 136.
15- المرجع نفسه، ص 142.
16- مقدمة كتاب التأملات في الفلسفة الأولى لديكارت، ترجمة وتقديم وتعليق: عثمان أمين، تصدير: مصطفى لبيب، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2009، ص ص 9 – 10.
17- انظر ريتشارد شاخت، رواد الفلسفة الحديثة، ترجمة: أحمد حمدي محمود، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997، ص ص 14 – 15.
18- رينيه ديكارت، التأملات في الفلسفة الأولى، ترجمة وتقديم وتعليق: عثمان أمين، تصدير: مصطفى لبيب، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2009، ص 39.
19- برتراند رسل، حكمة الغرب: الفلسفة الحديثة والمعاصرة، ص 70.
20- انظر محمد عثمان الخُشت، أقنعة ديكارت العقلانية تتساقط، ص ص 57 – 58.
21- المرجع نفسه، ص 56.



#محمد_عبده_أبوالعلا (هاشتاغ)       Mohamed_Abdou_Abulela#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من سيرة باحث أكاديمي (قصص قصيرة حدثت بالفعل)
- الأدب والسياسة على هامش كتاب الخيال السياسي لعمار علي حسن


المزيد.....




- نقار خشب يقرع جرس منزل أحد الأشخاص بسرعة ودون توقف.. شاهد ال ...
- طلبت الشرطة إيقاف التصوير.. شاهد ما حدث لفيل ضلّ طريقه خلال ...
- اجتياج مرتقب لرفح.. أكسيوس تكشف عن لقاء في القاهرة مع رئيس أ ...
- مسؤول: الجيش الإسرائيلي ينتظر الضوء الأخضر لاجتياح رفح
- -سي إن إن- تكشف تفاصيل مكالمة الـ5 دقائق بين ترامب وبن سلمان ...
- بعد تعاونها مع كلينتون.. ملالا يوسف زاي تؤكد دعمها لفلسطين
- السيسي يوجه رسالة للمصريين حول سيناء وتحركات إسرائيل
- مستشار سابق في -الناتو-: زيلينسكي يدفع أوكرانيا نحو -الدمار ...
- محامو الكونغو لشركة -آبل-: منتجاتكم ملوثة بدماء الشعب الكونغ ...
- -إيكونوميست-: المساعدات الأمريكية الجديدة لن تساعد أوكرانيا ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمد عبده أبوالعلا - هل خَدَعَنا ديكارت فعلا طَوَال ما يقارب أربعة قرون؟ قراءة نقديَّة في كتاب (أقنعة ديكارت العقلانيَّة تتساقط) للخُشْت