أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حنان بديع - جرحي النازف -قصة ليست قصيرة




جرحي النازف -قصة ليست قصيرة


حنان بديع
كاتبة وشاعرة

(Hanan Badih)


الحوار المتمدن-العدد: 6358 - 2019 / 9 / 22 - 18:14
المحور: الادب والفن
    




إنه وجعي .. جرحي النازف ، أعجب كيف لجروحنا أن تنكأها المواقف الصغيرة لتعيدها حية ترزق بعد ممات ،
نزفر آهة الحسرة ، ثم نبيت النية على النسيان مجددا .
ترى هل هناك حياة بلا غصة حزن ؟
اليوم ترائي لي هذا، وكأن هناك بشرا لم يجربوا أحزاننا أو يعرفوها ، بشرا ليسوا مضطرين لتجرع معاناة لا داعي لها فقط لأنهم تربوا في مجتمعات متخلفة ..
شعرت بغصة عمرها أكثر من عشرون عاما ، نوبة وجع تنتابني بين الحين والحين ، انتابتني هذا المساء، حين كنا في زيارة لصديقة مثقفة قدمت لنا ابنتها الصبية على أنها مذيعة وإعلامية ناجحة ، قالتها بسرعة ، وبفخر خشية ألا ننتبه لهذا الانجاز والتميز..
قالت : مها تعمل مذيعة وهي الآن تقوم بالتدريب في هذا المجال .. يا إلهي ..
هناك إذن أمهات يختلفن كثيرا عن أمي !
أمي التي قذفتني من الطابق العاشر لأحلامي حين رفضت عملي في الاعلام بعد وفاة والدي ، تلك النظرة في عينيها ، لا أنساها، وكأنني أنوي العمل كراقصة في ملهى ليلي !
هناك أمهات اذن يفخرن ببناتهن ولا يخشين العار ؟
تأملت ابنتها الصبية ، كانت السعادة تطفو على سطح ملامحها الممتلئة ، ملامح تنطق بالفرح والرضى.. فرح ورضى كنت أفتقده في مثل سنها .. دون عوائق ، دون شبهات!

خجلت من شعوري، لكن المشهد نكأ جرحي الدفين مجددا ، أعادني سنوات للوراء وباتت الذكريات في لحظة تكرج كمسبحة انفرطت فجأة ..
في هذه المرحلة ، يبدأ الانسان في نبش ماضيه محاولا التصالح مع تاريخه، لكن الدروس تأتي متأخرة ولا تترك سوى حوافرها على سطح الذاكرة ..
ها أنا أقف طفلة في سن التاسعة ربما ، أمسك بأنبوب معدني يخرج من خزان الماء فوق سطح المنزل ، كان يصل بطوله حتى حدود رقبتي النحيفة ،فأتخيله ميكروفون بل ,اقف متحمسة أمام جمهوري المتخيل و.. الكثير من أحلام اليقظة التي كنت أدرك بحسي الطفولي الى أي مستقبل قد تقودني لو تحققت ..
ها أنا أقف في عمر العشرين خريجة جامعية تحلم بالغد الواعد، أرجو أخي الكبير أن يأتي معي لمقابلة عمل في التلفزيون وكانت تقضي قوانين أمي ألا أخرج بدونه ، أمي ترفض وأنا أقف مكسورة ، مكسورة النفس والروح ، أتجاهل الشعور بالعار الذي يمررونه لروحي ، كنت أشعر وكأني أشحذ حياتي من يد الغير لعلهم يتصدقون ..
وها انا أقف خلف باب غرفة نومي وأسمعها تقول لأخي حين رق قلبه على ما يبدو ( دعك منها ، لا تسمح لها بالعمل في الاعلام ، ستجلب لنا المشاكل ، الشهرة ،، ووجع الرأس !
و.. ها أنا أرجو أخي الأصغر مجددا ، جلسنا في مطعم كنت قد وفرت مصروفي الشهري لأدعوه ، بعض الدلال ، لعله يعاملني بالمثل.. علني أنتفع من لحظة خجل او تأنيب ضمير قد تنتابه..
إنه أخي الذي يصغرني بعام ، لن يكون هناك شعور بالتفوق، أكبره بل وتفوقت في مجموعي بالمرحلة الثانوية عليه ، كيف لا نتساوى ، مؤكد سيقول هذا حقك ، سيثلج صدري أن يعترف بحقي على أقل تقدير .. لا ، لكنه لم يفعل .
قال: سنسمح لك بالعمل ، بالتأكيد لن نقوم بالإنفاق عليك ، لكن ليس العمل الذي تختارين !
فكرت ، إنها الأنانية حينما تتجسد ، والثقافة الذكورية عندما تتجلى ، بل والازدواجية عندما تنحاز ..
وها أنا أذرف دمعة ساخنة واتسأل هل خطف القدر والدي مبكرا لأفقد السند والظهر ..هل كان سيهون عليه انكساري ودموعي هو أيضا ؟؟
لم يكن والدي صديقي على أية حال .. كنت الأنثى الوحيدة بين ثلاثة ذكور .. ثلاثة ذكور أعذرهم ، ليس الجميع يمكنه أن يتخيل ماذا يعني أن تكون مواطنا من الدرجة الثانية في الأسرة ..، أن تخدم الجميع دون أن يخدمك أحد، فالأولوية في الراحة ، التعليم والمصروف للأولاد الذكور ، ولم أكن لأراهن على دعم والدي في قراري إلا بكوني ورثت عنه حبه للأدب والشعر والتعاطي مع وسائل الاعلام ، كان شاعرا وكنت أدرك ماذا يعني أن يكون لديك ما تفعله ، تقوله ، تعبر عنه، ويعني لك الكثير .. كنت أتفهم بعض نواحي شخصيته .. ترى هل كان سيتفهم هو أيضا ؟ لا أعلم ..
ما دام قد رحل فلا معنى للأسئلة ؟؟
وها أنا استسلم للبكاء والاكتئاب لشهور طويلة مضت ، ها أنا مجرد فتاة تحمل شهادة البكالوريوس في الآداب وتذهب هنا وهناك للعمل في أي مجال بل وأي مكان ، عاملة بدالة ، موظفة في أي مكان شاغر ، أو سكرتيرة لمدير يحتاج من ترتب مواعيده وتقدم له الصحف صباحا ليقرأها ولا مانع من أن تقوم بإعداد القهوة والشاي اذا لزم الأمر!
بعيدا عن الأضواء ، عن النجاح ، عن الحياة .. بعيدا عن تحقيق الذات ، ، هل قلت تحقيق الذات، يا له من مصطلح يوحي بالترف !
وها أنا أقضي أكثر من ستة عشر عاما موظفة برتبة لا تعادل رتبة قريناتي الغير جامعيات ، لكنهن أكثر رضى مني ، كم مريح أن تحيا الحياة بلا أحلام أو أمنيات ..
ثم تخليت عن دراسة الماجستير في منتصف الطريق ، أدركت أن رحلة الحياة تحتاج أشياء أخرى غير الشهادات ، أشياء كنت أجهلها بطبيعة الحال .
لم يكن لي أن أعترض ، الفتاة المهذبة عليها أن تتخلى عن أنانيتها .. أن تراعي خاطر أمها ورأي وسلطة أخوتها الذكور ، بل وتوقعات كل افراد المجتمع الذي لم أكن متأكدة من عدد أفراده !
والآن بعد فوات الأوان ، ادركت أني كنت أحتاج فقط بعض الانانية للمطالبة بحقي وبعض الوقاحة للدفاع عنه..
كنت أشعر أحيانا وكأن أنوثتي عار وجودي يصعب احتماله ..
إنه الخوف من أنوثتي ، ولكي أطمئن الجميع ، كان علي أن أضمر أحلامي وطموحاتي ، فهي صفة ذكورية غير مرغوبة أحيانا.. وأن أقبل بأي عريس مناسب أو شبه مناسب .. لا يهم.
في هذا الماضي الذي أصبح يبدو الآن سحيقا، لم أجرؤ على التسبب بمزيد من الهموم لأمي الأرملة التي دفعت بالسلطة لأخوتي الذكور لتشعر فقط أنها بخير وأمان ..
أمي التي أحبها ، لا أرغب في أن أكون مثلها ، أم مثالية لكن بلا طموح ، لا يبدو أنها تشتهي لي الأفضل ، هي التي تحمد الله على اللاشىء أحيانا ، تشعرني بالذنب لأني أخبئ في صدري ثورة داخلية لا تشبهها في شيء .
عدت من هذه الزيارة التي طالت حتى منتصف الليل ، مختنقة بدموعي مجددا ، لا أقوى على النظر في عينيها ..
كيف لي أن أكرهها أو أحقد عليها ! يا للعار ؟
انسحبت مجددا الى غرفتي أجتر أفكاري وغصتي المفاجئة ، وهذا ما فعلت ..
لا خيار ..
ولم أعد أؤمن بأني مخيره ..
فليس جميعنا يحتاج أن يقاتل ويؤذي الآخرين ليحقق مشيئته .. فها هي ابنة صديقتي وقد حققت ما تشاء فقط لأن الحظ حالفها بأم ليست كأمي وأب ما زال على قيد الحياة وأخوة لا يبدو أنهم تربوا على أنهم الأفضل والأعلى درجة ..
أنا ألان شاعرة وكاتبة ، قضت عشرون عاما تكتب من وراء القضبان ، قضبان الوظيفة الروتينية ، لكي أشعر بأني ما زالت على قيد الحياة ولدي ما أقول حتى لو لم يكن هناك من يقرأ.. ودون ميكرفون.
بل و .. أكتب بحرية ، فأخوتي لم يعتادوا قراءة ما أكتب ، هم لا يحبون الأدب .. ولا يتذوقون جماليته .. لكني ما أزال أكتب .. لكي أرتاح أحيانا، وفي أحيان أخرى لا تسالوني لماذا لأني لا أعلم .
ولأني لا أعلم ، لم أعد أسأل الفنان لماذا يرسم والفيلسوف لماذا يفكر ، فحين أفعل ،أشعر وكأني أسال العصفور لماذا يغرد ..الم نخلق جميعا لنغرد بطريقتنا ؟



#حنان_بديع (هاشتاغ)       Hanan_Badih#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فيروس الطلاق
- كن أنانيا بما يكفي
- ثرثة فلسفية
- اين نحن من انسانيتنا؟
- الحب حقيقة ام وهم؟
- شوكولاته بالحليب - قصة قصيرة
- شوكولاته بالحليب- قصة قصيرة
- شعر
- الانوثة سؤ حظ
- أسدنا وأسدهم
- التعويض بالطلاق والزواج
- حين تتكلم العطور !
- إعترافات ديكتاتور !
- شيخوخة الروح
- المرأة مخلوق فضائحي
- مواصفات الشريك
- أهرب ولا تعتذر
- فلسفة الحرية وتبعاتها ..
- ذبابة القذافي
- فضيلة لا يقوى عليها سوى كبار النفوس


المزيد.....






- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حنان بديع - جرحي النازف -قصة ليست قصيرة