أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عامر حميو - موظف خارج ملاك الوزارة ... قصة قصيرة.














المزيد.....

موظف خارج ملاك الوزارة ... قصة قصيرة.


عامر حميو

الحوار المتمدن-العدد: 6334 - 2019 / 8 / 28 - 01:56
المحور: الادب والفن
    


أنا مجبر على ارتداء الملابس الرثّة، وإن بُليت وما عادت تصلح، أبلدتها بغيرها، وهذه إن كانت مهندمة توجب عليّ أن أدعكها وسادة لي لليلة كاملة، ثم أفتق جوانبها قليلاً وأرتديها في الصباح. أمّا لو شدّتني الرغبة للتنعم ولبس الثياب النظيفة، فما عليّ غير أن أفعل فعل البنت الشابة التي تقفل عليها باب غرفتها، وتستعرض ثيابها أمام صورتها في المرآة.
وأشقّ ما أجبر عليه في أول الصباح أنني أنتبه لتصفيفة شعري، وأحرص أن يكون شعري مبعثراً كأنني طفل خرج لتوه من عراك صاخب. أقدامي إن كانت نظيفة فعليّ أن أجرها خلفي كل صباح لتغبرّ بما تثيره من غبار حولهما، ونعلاي لا ألتفت للمعانهما، وأحرص دوماً أن أتركهما مساءا عند عودتي لغرفة الصفيح، بعيدتان عن صنبور المياه ليبقيا على اتساخها إلى صباح اليوم التالي.
أحلم بما يحلم به كل الناس.
أحلم بحياة مرفّهة، وبالعيش في بيت نظيف، وفي ركوب أحدث موديلات السيارات. أحلم مثلهم في الارتباط بفتاة أتخيّل شكلها الجميل كل ليلة أنهي بها يوم عملي، وإن رغبت مثلهم التنعّم بوجبة عشاء فاخرة، فأنا لا أسمح لنفسي بارتياد أفخر المطاعم وأشهرها، بل يتوجّب عليّ أن أبتعد عن محل سكناي ومكان عملي، قدر ما أستطيع، ثم وسط دهشة عمّال المطعم الفاخر آخذ ما أرغب بأكله تلك الليلة، وأنا أخبئه بين طيات ملابسي الرثة، كأنني سارق يريد سد جوع بطنه على غفلة من العيون، رغم أنني دائماً ما أدس للعامل الذي سلّمني كيس أكلتي، إكرامية يحلم أن يمنحه إياها أغنياء المدينة.
هي لحظة تباهٍ دائماً ما أرغب أن أعيشها مع عامل المطعم، لا تستمر غير لحظات قصيرة، لحظات تستغرق مدة الزمن التي يحتاجها عامل المطعم ليمد لي يده بالطعام، وسؤاله عن ثمنه، ثم قولي له:
- خذ، واترك الباقي لك.
دهشة تلمع بتقطيب ما بين حاجبيه، وارتعاش لا يستغرق غير ثوان معدودة على شاربيه. فيهما مرة أقرأ امتناناً منه أفتقده بين الناس على فعل أؤديه، ومرة أقرأ فيه احتجاجاً على مهانة يشعر بها إذ تكون الإكرامية ممن هو مثلي! لكنها في النهاية، وبين هذا الفعل وذاك، تبقى لحظة تباهٍ وانتشاء تجتاحني حد البكاء. فيها أحن لآدميتي، وأثور لكرامتي المهدورة تحت إغراء الطمع.
بتوالي الوقت على عملي نسيت الكثير من قدرتي على الاستجابة للاستفزازات من حولي. نسيت أن أرد الشتيمة، ونسيت أن تثيرني السخرية، ونسيت أن يثبت جسمي متماسكاً على قدميه لو دفعتني يد شاب قوية بعيداً عنه، ولو أردت الحق فأنا لم أنس، بل كنت أتناسى مثل هكذا مشاعر. فلقد تعلّمت لكي أستمر بالجَلَد والصبر علي أن لا ألتفت كثيراً لما يجري بداخلي، وشيئاً فشيئا ماتت ثورة العمر فيّ عندما استطعت أن أقتل الكرامة خنقاً بين أصابعي.
قُتِل والدي في الحرب. قُتِل في ذات السنة التي تخرّجت بها من الجامعة، وفي اليوم التالي لموته صحوت على حقيقة أنني مسؤول عن عائلة تتكوّن من أم كبيرة في السن وأربع فتيات، أكبرهن شارفت أن تتجاوز سن الزواج وما من رجل يتقدّم لخطبتها، فهي بالإضافة لدمامة وجهها، هي تنحدر من أسرة كان ربها يعمل اسكافياّ، بالكاد يسد رمق أسرته من جهد يومه. بناته ألزمهن البيت من أجل أن يصرف على تعليمي، عسى أن أساعده بشيخوخته لو تخرجت وصرت موظفاً حكومياً.
وفي يوم قبل سنين مضت، قرّرت بلحظة عناد، بعد أن يئست من ايجاد عمل، أن تكون وجهتي إلى صخب العاصمة، ولحظتها أذكر أنني قلت على مسمع من والدتي وأخواتي:
- لن أعود هذه المرة إلّا وقد عملت.
في العاصمة عشت التشرّد بعينه، فبعد أن صرفت آخر درهم بجيبي، عشت يومين كاملين دون أن تدخل بطني لقمة أكل واحدة، ومن وجع الجوع قدحت الفكرة في ذهني، وتراقصت أحلام الغنى والرفاهية لشكل الحياة التي ستعيشها أمي وأخواتي الأربع.
فبسبب جوعي اكتشفت أن التسوّل مهنة لا تحتاج لآلة تندثر أجزائها، ولا هي مهنة تجارة تحتاج إلى رأس مال قد تفقده لو خسرت. في العوز تشفق عليك الناس وأنت تستعطيهم، وفي الرخاء تثير شفقتهم وعطاياهم، فيها لا يبلى من جسدك غير تورّم قدماك من أثر السير الطويل، وبها أنت سيدك ساعات يومك، فلا أحد يجبرك على الالتزام بوقت ولا التقيّد بنظام. فقط أنت مجبر على شكل من الحياة العلنية توحي للناس أنك تعيش الفقر والفاقة الشديدة.
ومن يومها وأنا أعمل متسوّلا طيلة أيام الأسبوع، أنا باختصار شديد أعمل موظفاً لكنني خارج ملاك أية وزارة! وفي أخر يوم من كل أسبوع أسافر لأمي وأخواتي، وفي قبضتي رزمة نقود يحلم بها الخريج الذي كنت، لو حدثت معجزة وأصبح موظفا حكوميا!.

(عامر حميو/ روائي وقاص عراقي)



#عامر_حميو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حلم... قصة قصيرة.
- الغبي... قصة قصيرة.
- (ليلة الدخول) ميثولوجيا الشعوب المضطَهَدة.
- الاستعارة والتشبيه والمجاز الروائي...نهاية المومس نموذجا على ...
- ليلة المعاطف الرئاسية رواية جيل المستقبل التي لا تلتفت للجيل ...
- الرواية الواقعية ونقود أهل الكهف
- خرابة وجذع شجرة ووليد غزالة وحيد
- رائحة المعطف
- عندما تصبح الرواية مُدوَّنة لحلم طال انتظاره
- ( حكايات البلبل الفتّان بين جرأة الطرح وخجل التجنيس الأدبي)
- منعطف الرشيد رواية عالم صاخب بالحياة لقاع مدينة اسمها بغداد.
- رواية عصير أحمر لشذى سلمان...رومانسية موجعة.
- استنطاق الشخصية الروائية ومحاكمتها لقارئها عند إسماعيل فهد إ ...
- (ذاتية العنوان وفلسفة المتن القصصي في أريج أفكاري لفلاح العي ...
- الحكواتي والروائي
- السيدة التي جعلت في بهار إشكالية إقحام وفبركة


المزيد.....




- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عامر حميو - موظف خارج ملاك الوزارة ... قصة قصيرة.