أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يحيى نوح مجذاب - العاملة الصغيرة














المزيد.....

العاملة الصغيرة


يحيى نوح مجذاب

الحوار المتمدن-العدد: 6331 - 2019 / 8 / 25 - 02:30
المحور: الادب والفن
    


شعرُ سبط يتهادى شلّال زنبق، يضوع بعطر الصّباح النَّدي.
بنطال ضيّق فاحم السواد يغطي عمودي رخام فاجر البياض.
كانت تقفز أمامه كفراشة ملونة بين المياسم والبتلات الناعمة.
صغيرة بحسد كامل روته شلّالات الجبال السامقة، ووجه امتزجت فيه براءة الأطفال، وشيء من مكر الدهاقين. بعض حَبّ الشباب النّاعِم بان بخفوت على صفحتي خدّيها غير أن نصاعة بياضها الباهر ما زال يسطع.
كانت توظِّب قطع الملابس الجديدة وزجاجات العطر ومنحوتات الآبنوس وترصّها في أمكنتها على الرفوف والأصونة الخشبية الصّلدة، وهي تُهَمهِم مع نفسها بنغمات موسيقية هي خليط من مقامات السيكاه والكرد والصَّبا؛
( كَمْ يَرْدِلي سَمْرَة قَتَلتيني ...خافِي مِن ربِّ السَّما وَحْدي لا تخَلَّينِي )
( امان.. امان.. جانم.. امان )
عندما اقترب منها ليسألها عن معروضاتها أجابته بصوت خفيض، ولهجة غريبة مزجت فيها كلمات لأكثر من لغة، وفي ختام كل جملة كانت ترسم ابتسامة عريضة بشفتيها وعينيها معاً وهي تنظر اليه بمقلتين مغرورقتين بدمع لزج شفاف، وأنفاس تتصاعد مع وجيب قلبها الفتي.
تحرّكت كثيراً ونطّت بأقدامِ شبه عارية بين الفازات والأباجورات وبروشات العرائس البيضاء.
قميصها الزّهري الشّفاف ينسدل نحو الأسفل وهو يغطي أعلى بنطالها، وطيّاته الناعمة تتماوج مع انعكاسات زجاج النوافذ الغارقة بالضوء اللامع المُبهر. كانت تختلس النظر إليه بين الفّينة والأخرى وقد غمره الهدوء، وسيّالات متوالية من حلم أخرس يسبر أعماقه وهو يرقب بشغف هذه اللوحة الإنسيّة المصنوعة من عصارة الحياة بقوتها التعبيرية كأنها رُسمت بريشة الرسام الهولندي رامبرانت.
كم تُرعبه وتستهويه هذه النظرة الطويلة العميقة المستكشفة الغاطسة في مجاهيل الجمال ! هذه النكهة من جمالها الآري جبلي في صبغته، وقد لقّحته رياح الصحراء بغرابتها وطلاسمها المبثوثة في عمق الواحات الخضراء.
اقترب منها أكثر وأشار لها بإصبعه نحو ذلك الشيء المرتفع العالي؛ فستان عرس أبيض موشَّى بأحجار كريمة ذات ألوان منسقة متدرجة بطيف الشمس من الأحمر الأرجواني حتى الأزرق الفيروزي. لم يكن في خلده أبداً شراء بدلة عرس في يوم ما، لكنها فكرة شيطانية قدحت في ذهنه وحطّت كالصاعقة لحظة إلهام علوي طاغِ هبط عليه أَسراً عقله بعد أن استوطنت هذه المخلوقة الشهية حنايا قلبه دون استئذان وعشعشت كالقدر.
أحضرت السّلالم المعدنية البيضاء واقتربت من الرفوف المرتفعة.
تسلقت الدرجات بخفة لعينة. كان موج العطر الممزوج برائحة جسدها الساليسية ينساب من ثناياها نحو خيشومه منضاعاً، وقد انزلق إلى عقله الباطن ليطرق أسراره الخفية.
اليوم يودِّع عقده الرابع من سنين خاوية خطفته جسداً وعقلاً في غمرة العمل ونظريات رأس المال التي لم يجني من ورائها شيئاً سوى محافل الايتيكيت التي خطفته من نفسه ليغرق في مجتمع مخملي متصنع لم يحبه قطً حيث كانت كل خطواته وسكناته محسوبة بالقيراط.
عندما أحضرت البدلة وهي تمشي مشية غنج أشاح ببصره نحو الجدار الملون بلوحات الفنانين وأغمض عينيه مستلهماً كل قدراته، وحين اقتربت منه همس لها قائلاً: ضعي الثوب على جسدك، جرّبيه على مقاسك إن كنت لا تمانعين. نظرت إليه باستغراب غير أن شيئاً ما بداخلها كان يدفعها للقبول. مرت الدقائق ثقيلة بطيئة بعد أن دخلت غرفة تغيير الملابس. كان ينظر إلى الباب كلما سمع هسيساً أو وقع أقدام، وفي اللحظة التي أطلت عليه من وراء الستار وهي ترتدي حلة العرس لم يستطع أن يتمالك نفسه وهو الرجل الذي قد فاته القطار وصحى اليوم من غفوته. تقدّم إليها بخطوات ثابتة وسحب جسدها إليه كما لو كان يقودها إلى حلبة الرقص. كانت كفها تنام بتؤدة وسلام في يده. سارا بهدوء نحو الباب الخارجي. لقد كانت مأخوذة بهذا السحر الذي لفها من سمت رأسها حتى أخمص قدميها، مذهولة بالانجذاب نحو هذا المخلوق الذي لا يقل عنها جمالاً. لقد صُعقت ولم تحر جواباً حين طلب يدها هكذا دون مقدمات أو سابق معرفة. قالت له وقد انخطف لونها: هل أنت جاد بما تقول؟ فأنا لم أفكر بالموضوع وما زلت بعد صغيرة. كان قراره مفاجئاً ليس لها فقط بل له أيضاً، لكنه برّر كل شيء ببساطة وواقعية، فالرباط المقدس لا يحتاج إلاّ لرجل وامرأة ومشاعر واحاسيس. استجابت له واستسلمت، ولم يكن بوسعها أن تفعل شيئاً سوى إكمال ما بدأه. كتبت ورقة استقالتها على عجل وسلمتها لمديرها المذهول وودّعت زملاء العمل وأرسلت رسالة قصيرة لأهلها من هاتفها الخلوي ببنوط داكنة كبيرة قائلة لهم:
اهلي الأحبة سأتزوج هذه الليلة فقد بلغت بالأمس التاسعة عشر.
قبلاتي لك أمي الحبيبة..
وسامحني يا أبي لأني لم أستطيع ان أؤجل قَدَري.



#يحيى_نوح_مجذاب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مخروط الزمن
- لا يفقهون تسبيحاً
- ومضة الحياة
- توأما السماء
- العقل الأعزل
- الفَيلسوفة الرّاقِصة
- متاهة الوجود
- أنثيات البحر
- بائع الكروت
- الأخرق
- هرطقات في مفهوم الوجود
- سيلُ العَرِم
- الهجرة نحو العالم الآخر
- بلاط الضوء
- بوّابة القيامة
- سماواتُ الغَسَق
- القيامة الآتية
- السرداب
- صفحة القمر
- غيبة في المجهول


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يحيى نوح مجذاب - العاملة الصغيرة