أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ابراهيم منصوري - قراءات في 10 نقاط للخطاب الملكي ليوم 21 غشت 2019 بمناسبة الذكرى السادسة والستين لثورة الملك والشعب















المزيد.....



قراءات في 10 نقاط للخطاب الملكي ليوم 21 غشت 2019 بمناسبة الذكرى السادسة والستين لثورة الملك والشعب


ابراهيم منصوري

الحوار المتمدن-العدد: 6328 - 2019 / 8 / 22 - 10:14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


• تمهيد:

القى الملك محمد السادس خطابا رسميا يوم الثلاثاء 21 غشت 2019، بمناسبة الذكرى السادسة والستين لثورة الملك والشعب (Révolution du Roi et du Peuple). رغبة منا في توضيح مضمون الخطاب الملكي وبناء قراءات حول مراميه، يسرنا في السطور أدناه أن نتناول محتواه في عشر نقاط رئيسية، علما أننا نعتبر هذا الخطاب من أهم خطابات الملك محمد السادس وأقواها منذ اعتلائه عرش المملكة سنة 1999.

1. استحضار الثورة ومواصلة الجهاد الأكبر: الاحتفال بثورة الملك والشعب ليست مجرد سرد للتاريخ واستحضار لذكرى وفاء الملك والشعب لمبادئ الوطن والدولة. إن الاحتفال بهذه الذكرى يهدف إلى مواصلة الثورة على مختلف الجبهات من أجل تقدم ورقي المغرب اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، طبقا لمقولة محمد الخامس المأثورة: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر".

2. المقاربة التشاركية للتنمية وأهمية التنسيق بين مختلف الفاعلين: قال ملك البلاد في خطابه إنه يجب اعتبار المواطن عنصراً رئيسيا في صلب التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي يجب علينا تحقيقها والحفاظ على مكتسباتها في إطار مقاربة تشاركية ومندمجة (Approche participative et inclusive). ويعني هذا أن التنمية لا يمكن تحقيقها والحفاظ عليها إلا بتضافر جهود جميع الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين بمن فيهم الفاعلون المؤسساتيون وشبه المؤسساتيين وغير المؤسساتيين (Acteurs institutionnels, quasi-institutionnels et non institutionnels). إلا أن الإشكالية تكمن في كيفية التنسيق بين فسيفساء متنوعة من الفاعلين للحفاظ على الاتساق العام (Cohérence d’ensemble) للمبادرات والبرامج الإنمائية، وذلك من أجل اجتناب الدور السلبي لمجموعات المصلحة (Groupes d’intérêt) التي قد تعارض السياسات العمومية التي لا تخدم مصالحها الضيقة.

قد تكون نوايا المسؤولين في أعلى هرم السلطة حسنة، لكن أولئك المسؤولين ليسوا هم الذين يعمدون إلى التطبيق المباشر للسياسات العمومية التي تتم صياغتها، بل تُناط مسؤولية التطبيق إلى متدخلين متعددين على طول هرم السلطة من القمة إلى القاعدة، بحيث أن موظفا مهما ضعفت سلطته داخل الهرم يمكن أن يقف حجر عثرة أمام تنفيذ وتتبع وتقييم السياسات (Implémentation, suivi et évaluation des politiques ). وفي هذا الإطار، تظهر أهمية قدرة الحكومة على المستويين المركزي والجهوي على صياغة وتنفيذ ومتابعة البرامج الإنمائية كما على التنسيق بين الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين والسياسيين حتى لا يتباطأ مسلسل تنفيذ البرامج أو يتم التخلي عنها في آخر المطاف.

يبدو في هذا الصدد أن هناك مفارقة بين أهمية جودة الحكامة (Qualité de la gouvernance) من جهة وتنفيذ وتتبع السياسات العمومية الرامية إلى التمية الاقتصادية والاجتماعية، بمعنى أن السياسات العمومية نفسها تهدف إلى تحسين منظومة الحكامة بينما تشكل هذه الأخيرة عنصراً هاما في تنفيذ وتتبع هذة السياسات. ولذلك، فإن صياغة وتنفيذ أي نموذج تنموي يستوجبان التوفر على مستوى محترم من الحكامة.

3. عن الغاية من تشكيل اللجنة الملكية للنموذج التنموي: وماذا بعد؟: قرر ملك البلاد إحداث ما أطلق عليه اسم "اللجنة الملكية للنموذج التنموي الجديد" (Commission Royale pour le Nouveau Modèle de Développement) التي ستوكل إليها مهام ثلاثة تتمثل في إعادة التقويم والاستباقية والاستشراف (Réajustement, anticipation et prospective)، بمعنى دراسة مكامن الخلل في النموذج التنموي الحالي والسعي إلى البحث عن الحلول الملائمة لتصحيحها مع الأخذ بعين الاعتبار لمجموعة من المتغيرات الاقتصادية والغير اقتصادية حاضراً ومستقبلا (الاستباق والاستشراف). وبما أن الملك يسعى إلى صياغة وتنفيذ نموذج "مغربي-مغربي" صرف مع ضرورة تملكه (Appropriation) واقتراح آليات ناجعة لتفعيله وتنفيذه وتتبعه (Opérationnalisation, exécution et suivi)، فمن الضروري العمل على الانتقاء الأمثل لأعضاء اللجنة بحيث يكونون متضلع في ميادين عملهم ويتحلون بالوطنية الحقة مع العمل على تنويع انتماءاتهم، خاصة على المستوى الفكري.

ويرى ملك البلاد في هذا الإطار أن النموذج التنموي الجديد يصبو إلى بناء قاعدة صلبة لانبثاق عقد اجتماعي جديد (Nouveau contrat social)، إلا انه أكد أن الدولة لا تستطيع لوحدها إنجاح النموذج التنموي الجديد، بل لا بد في ذلك من تآزر جهود فاعلين متعددين من الدولة ومؤسساتها إلى المواطن العادي، مروراً بالقطاع الخاص (Secteur privé) والهيئات السياسية والنقابية والجمعوية. وفي هذا المضمار، نذكِّر بأهمية تحسين آليات التنسيق بين هؤلاء الفاعلين من أجل تجنب حروب الاحتكاك (Guerres de friction) بينهم، والتي غالباً ما تميز تنفيذ السياسات والبرامج العامة؛ بحيث أن مجموعة من الأطراف المعنية (Parties prenantes ) قد تتفق مع آراء الفاعلين الآخرين عند صياغة السياسات لتعارضها في ما بعد بطرق مباشرة أو غير مباشرة ، مع بداية مسلسل التنفيذ والتتبع (Implementation and Monitoring)، وخاصةً مع اعتقادهم أن تلك السياسات تمس مصالحهم الشخصية من قريب أو بعيد.

ويندرج هذا السلوك عموماً في ما يسمى في أدبيات الاقتصاد السياسي (Political Economy) بالعقلانية الإجرائية (Rationalité procédurale) التي يتسم بها المغاربة على غرار نظرائهم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (Middle-East and North Africa : MENA)، بمعنى أنهم، على عكس مواطني البلدان الديمقراطية المتقدمة، لا يتوفرون على الرشادة الموضوعية (Rationalité substantive) بالمعنى الذي أورده الاقتصادي وعالم الاجتماع الأمريكي المعروف هيربرت سيمون (Herbert Simon)، بحيث أن مواطنينا كما مسؤولينا وسياسيينا يتسرعون في قبول صياغة السياسات قبل معارضتها عند التنفيذ والتتبع. ومن هنا تتبين أهمية التكوين المعرفي والشخصية والذكاء لدى رئيس الحكومة ووزرائه وموظفيه المتموقعين على طول الهرم الإداري والدور المركزي للإشارات التي يتم إطلاقها من أعلى هرم السلطة إلى قاعدتها، ومدى قدرة السلطة التنفيذية على التنسيق بين كل المتدخلين من أجل كبح جماح مجموعات المصلحة (Interest-Seeking Groups).

4. القرى وضواحي المدن في صلب مسلسل التنمية الاقتصادية والاجتماعية: ذكَّرَ ملك البلاد بخطابه الأخير بمناسبة عيد العرش، والذي حدد فيه معالم النموذج التنموي الجديد الرامي إلى تحمل المسؤولية في سبيل الإقلاع الاقتصادي والاجتماعي الشامل. وفي هذا الإطار، استحضر الملك في خطابه بمناسبة الذكرى السادسة والستين لثورة الملك والشعب، الجهود التي بذلها المغرب بإطلاق مشاريع تنموية شاملة في سبيل تقدم البلاد والحدّ من الفوارق الاجتماعية، خاصة على صعيد القرى وضواحي المدن. وأكد في هذا الشأن أهمية خلق أنشطة مُدِرّة للدخل والشغل (Activités génératrices d’emploi et de revenu) وتسريع الولوج إلى الخدمات الأساسية (Accès aux services de base) وتحسين ظروف التمدرس (Scolarisation) ومحاربة الهشاشة (Lutte contre la précarité).

ذكر الملك هنا بالغلاف المالي البالغة قيمته الإجمالية 50 مليار درهم، والذي يرمي إلى تحسين الظروف المعيشية للمواطنين في القرى وضواحي المدن. ويلاحظ في هذا الإطار أنه رغم بعض النتائج الإيجابية، ما زالت مجموعة من المشاكل قائمة، بما فيها تنوع الفاعلين وتناقض تدخلاتهم وهدر الأموال وضعف النجاعة المالية وتواضع العائدات المالية للمستفيدين من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية والمحسوبية التي ما زالت تقاوم العدالة في التوزيع وإعادة التوزيع (Répartition et redistribution)، بالإضافة طبعاً إلى محدودية الأغلفة المالية المرصودة للتنمية القروية (50 مليار درهم على امتداد ست سنوات، أي ما يقارب 870 مليون دولار أمريكي فقط لكل سنة، مقسمة على مداشر وقرى كثيرة تعيش درجات متفاوتة من الفقر والتهميش والإقصاء).

إننا لا ندعو هنا إلى تحميل الدولة أكثر مما تستطيع أن تتحمّل من أعباء مالية إضافية، طالما أن هناك إكراهات مالية لا بد من أخذها بعين الاعتبار، في ظل مديونية عمومية تزيد استفحالاً خارجياً وداخلياً. إلا أنه يبدو من الأمثل الاعتماد على شراكة من نوع رابح-رابح (Partenariat Win-Win) بين القطاعين العام والخاص، او حتى بين الدولة والقطاع الخاص من جهة والمستثمرين الخواص والمؤسساتيين الأجانب (Investisseurs privés et institutionnels étrangers) من جهة أخرى، طالما أن القرى والجبال المغربية تزخر بفرص استثمارية هائلة (Higher Investment Opportunities)، خاصة على الأصعدة الفلاحية والسياحية والبيئية، كما على مستوى الصناعات الغذائية وتثمين المنتوجات المحلية (Valorisation des produits de terroir).

5. سبل التنمية القروية: عن تآزر الدولة والقطاع الخاص: في نفس الإطار، ركز ملك البلاد على أهمية التنمية القروية (Développement rural) الشاملة، مذكرا بضرورة الاستغلال الأمثل للأراضي السُّلالية ومعترفاً أن الدولة لوحدها لا تستطيع رفع كل التحديات في مجال التنمية القروية؛ إذ لا بد من دور فعال للقطاع الخاص في العملية التنموية في القرى كما في المدن وضواحيها، خاصةً عن طريق الاستثمار في الفلاحة والمهن والخدمات المرتبطة بها، مع مراعاة التنسيق بين القطاعات الإنتاجية من فلاحة وسياحة قروية وتجارة محلية، مع تشجيع المبادرة الخاصة (Initiative privée) والتشغيل الذاتي (َAuto-entreprenariat).

وفي هذا الإطار، لا بد من الإشارة إلى أهمية تنسيق الجهود بين كافة الفاعلين والأطراف المعنية بالتنمية القروية، مع الحفاظ على مبدأ تكافؤ الفرص ونبذ المحسوبية والرشوة وهدر المال العام والمساعدة على بناء مشاريع مدرة حقاً للشغل والدخل عوض الانكباب على تفعيل مشاريع ذات مردودية ضعيفة ولا تساهم بما يكفي في تخفيف الهشاشة والفقر والإقصاء الاجتماعي ، علما أن توفير الموارد المالية لا يكفي لتحقيق التنمية القروية الشاملة، ما دامت بعض الأطراف تتصرف في الميزانيات المرصودة دون عقلانية ومن غير دراسات مستفيضة لجدوى المشاريع الإنمائية ودون الانصياع لمعايير المردودية الاقتصادية الحقة.

6. عن التكوين المهني والاندماج المهني للشباب: خصص ملك البلاد في خطابه بمناسبة الذكرى السادسة والستين لثورة الملك والشعب حيزا هاماً لأوراش التكوين المهني في المغرب، مع إبراز أهميتها في الإدماج المهني للشباب وصون كرامتهم، خاصة في القرى وضواحي المدن. وتتضح في هذا الإطار الرؤيا الصائبة للملك، طالما أنه فهم أن الاعتماد على الفلاحة وحدها لا يكفي لتحسين الوضعية الاقتصادية والاجتماعية لسكان البوادي الذين يهاجرون مداشرهم في اتجاه المدن، مما ينجم عنه اكتظاظ حضري وانتشار السكن غير اللائق واستفحال الجريمة، بحيث أن الحلّ يكمنُ في نهاية المطاف في تنويع مصادر الدخل (Diversification des sources de revenu) للساكنة القروية وبناء مدن صغيرة على أطراف القرى والمداشر، على غرار ما يحدث في البلدان المتقدمة التي تسعى إلى تحسين أوضاع القرويين وتخفيف الازدحام على المراكز الحضرية الكبرى والمتوسطة.

يرى الملك في خطابه أن التنمية الشاملة في المغرب لن تتحقق إلا بتكوين ملائم لحاجيات سوق العمل وكفيل بالإدماج المهني للشباب في النسيج الإنتاجي، مما يبين أهمية التكوين المهني الناجع كقاطرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. ويتضح هذا الطرح من خلال ما قاله الملك عن شهادة الباكلوريا كعامل مساعد على الحصول على تكوين ملائم للاندماج المهني والاستقرار الاجتماعي، وليس كامتياز محفز على ولوج الجامعات والمعاهد العليا. وعلى نفس المنوال، نتذكر ما قاله المغفور له الملك الحسن الثاني في إحدى خطاباته الرسمية، عندما شدّد على أهمية التكوين والعمل اليدوي: "الّلي مَا يعْرف يطيّب عشَاتُو ويصبّن كسَاتُو، الْموت احْسن لُو من حياتُو".

ويبدو أن الملك محمد السادس عبر عن نفس الفكرة بطريقته الخاصة عندما قال بأن التكوين المهني والعمل اليدوي عاملان مهمان في إدماج الشباب، مبيناً المفعول المنتظر للتكوين المهني على ازدهار الصناعة التقليدية التي يتوفر فيها المغرب على مزايا نسبية (Avanatges comparatifs) والصناعات الغذائية (Industries alimentaires) والمهن المرتبطة بها، والتي تمكن من تثمين الخيرات الفلاحية (valorisation des biens agricoles)، مع العمل على تركيز هذه الصناعات في مناطق إنتاجية بعينها حسب مؤهلات كلّ جهة. كما أن الملك لم ينْسَ الإشارة في خطابه إلى ضرورة تكوين كفاءات أحسن في ميادين السياحة والخدمات والمهن الجديدة للمغرب (Nouveaux métiers du Maroc)، خاصة في صناعات السيارات (Industrie automobile) والطائرات (Aéronautique)والتكنولوجيا الحديثة (Modern Technology).

تجدر الإشارة في هذا المضمار إلى أن تنويع مصادر الدخل بالاعتماد على تنمية شاملة للقطاعات الاقتصادية الثلاثة، أي قطاعات الفلاحة والصناعة والخدمات (Agriculture, industrie et services)، لن يستطيع تخفيف الفوارق المجالية (Disparités spaciales)، وذلك نظراً لاختلاف المؤهلات بين جهات المملكة، مما يستدعي تبني مقاربة استباقية للمزايا النسبية، بمعنى أن جهات معينة يجب أن تمكن جهات أخرى من التخصص في إنتاج سلعة أو خدمة ما، ليس على أساس المزايا المطلقة (Avnatages absolus)، ولكن بالاستناد إلى المزايا النسبية لكل جهة.

أما بالنسبة للمهن الجديدة للمغرب، فينبغي تركيز التكوين فيها ليس فقط على تخريج يد عاملة أقل دربة أو تقنيين متوسطين، بل يجب الانكباب أيضاً على تكوين أطر عليا من مهندسين وخبراء أكفاء، وإلا فإن صناعات السيارات والطائرات والتكنولوجية الحديثة لن تُبْقِي َفي المغرب إلا قِيَماً مُضافةَ ضعيفة (Faibles valeurs ajoutées)، مع تأثيرها المتواضع على نِسب النمو الاقتصادي وتوازن ميزان الأداءات الجارية (Balance des paiements courants)؛ خاصة أن الملك ركز على أن دور التكوين المهني لا ينحصر في توفير فرص الشغل بل يتعدى ذلك إلى تأهيل المغرب لرفع تحديات التنافسية (Défis de compétitivité) ومواكبة التطورات العالمية في شتّى المجالات. كما يجب على صانعي القرار في البلاد أن يعملواْ على تحسين معدل اندماج (Taux d’intégration ) هذه الصناعات حتى لا يبقى المغرب مجرد ورشات لتركيب قطع غيار (Ateliers de montage des pièces de rechange) السيارات والطائرات والمعدات التكنولوجية.

7. دور الطبقة الوسطى في التنمية والتماسك الاجتماعي وآفاق تقويتها: أثار الملك نقطة هامة تتعلق بدور الطبقة الوسطى (Classe moyenne) كقاطرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والتماسك الاجتماعي (Cohésion sociale) والاستقرار (Stabilité) في مجتمع شبهه ببيت متكامل البنيان، تعتبر الطبقة الوسطى نواته الصلبة (Noyau dur : Hard Core)، بينما تشكل الطبقات الأخرى بقية مكوناته. ونظراْ لأهمية الطبقة الوسطى في بناء المجتمع، يرى ملك البلاد أنه يتوجب علينا العمل على صيانة مقوماتها وتوفير الظروف الملائمة لتقويتها وتوسيع قاعدتها ورفع آفاق الترقّي منها وإليها.

تبقى الإشارة هنا إلى أن للطبقة الوسطى دوراً آخر لا يقل أهمية عن مساهمتها في التنمية والتماسك الاجتماعي والاستقرار، ويتمثل في قدرة هذه الطبقة على خلق النُّخب (Création d’élites) وجذب الشرائح الأقل غِنىً في اتجاهها، في إطار حركية اجتماعية متواصلة (Mobilité sociale continue). كما أن الملك ركز في خطابه على أن تقوية الطبقة الوسطى لن تتحقق إلا بالارتفاع المضطرد للنمو الاقتصادي على المديين المتوسط والطويل، والذي من شأنه أن يخلق الثروة ويساعد على عدالة توزيعية محترمة.

وبالفعل، بينت الدراسات التاريخية أن توسع قاعدة الطبقة الوسطى في بلدان كثيرة إنما مردُّهُ إلى التراكم المضطرد للثروة (Accumulation soutenue de la richesse) على مدى سنين طويلة، مع ما يرافق هذا التراكم من استثمار وتشغيل وإنتاج (Investissement, emploi et production) ، عِلماً أن البلدان التي حاولت تبني إعادة توزيع المداخيل (Redistribution des revenus) في ظل نسب نمو ضعيفة ومتدبدبة وصلت إلى الحدّ الذي أصبحت فيه تعيد توزيع النُّدْرة (Redistribution de la pénurie).

يبين هذا الطرح بما لا يدعُ مجالاً للشكّ أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية كظاهرة نوعية (Phénomène qualitatif) لا يمكن ان تتحقق إلا باضطراد نسب نمو اقتصادي مرتفع على فترة زمنية طويلة نسبياً، بحيث أن تراكم الثروة الناجم عن النمو الاقتصادي كظاهرة كمية (Phénomène qunatitatif)، تنجم عنه تحولات نوعية اجتماعيا ومعرفيا وثقافيا، فتتغير العقليات وتتحول نظم القيم؛ ولذلك فقد قال المفكر الكبير عبد الرحمان ابن خلدون: "إِنَّ الشَّيْءَ إِذَا تَعَدَّى حَدَّهُ انْقَلَبَ إِلَى ضِدِّهِ"، بمعنى أن النمو الاقتصادي كظاهرة كمية تؤدي إلى التنمية كظاهرة كيفية.

8. عن معضلة النمو الاقتصادي وتبعيته للتقلبات المناخية: أية آفاق؟: قال الملك في خطابه إن المغرب قد حقق نسب نمو اقتصادي لا بأس بها، إلا أن ترتيب الدّول في هذا المضمار لا يراعي الفوارق الموجودة بين البلدان المنتجة للنفط والغاز وتلك التي لا تتوفر عليهما؛ مما يعني أن المغرب، رغم عدم توفره على هذه الموارد الطبيعية الإستراتيجية، استطاع الصمود اقتصاديا رغم تبعات الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية.

يلاحظ أن المغرب قد استطاع فعلاً أن يحقق نسب نمو اقتصادي تقارب في متوسطها السنوي4% ، وذلك منذ بداية الألفية الثالثة، أي منذ اعتلاء الملك محمد السادس عرش المملكة. إلا أنه يجب التذكير بأن المغرب لم يستطع الحفاظ على هذا المعدل المتوسط إلا بتوالي سنوات سِمانِ من حيث انتظام التساقطات المطرية (Précipitations pluviométriques) وبالتالي تحسُّن القيمة المضافة للقطاع الفلاحي (Valeur ajoutée du secteur agricole) الذي ما زال يؤثر بقوة في النمو الاقتصادي، وما معدل النمو الاقتصادي المرتقب للسنة الحالية المتسمة بضعف نسبي لهطول الأمطار، إلا دليل قاطع على تبعية اقتصادنا للحكامة الإلهية (Gouvernance divine)، حيث أن الناتج الداخلي الإجمالي بالأسعار الثابتة (PIB aux prix constants) لن يتزايد هذا العام إلا بنسبة ضعيفة تحوم حول معدل 2,5%.

بالاستناد إلى هذه الملاحظة الهامة، يمكن أن نقول إن رحمة السماء (Manne du ciel) تمارس نفس وظيفة تقلبات أسعار المحروقات في السوق العالمية، بحيث ان تساقط وانتظام الأمطار خلال السنة يمكن من تحقيق نسبة نمو اقتصادي معتبر بنفس الشكل الذي ينجم عن انتعاش أسعار النفط والغاز ارتفاع في نمو اقتصاديات الأقطار المصدرة لهما. بِناءً على ما سبق، وطبقاً لما قاله ملك البلاد في خطابه الأخير، فإنه من الأهم تجاوز المُعِيقات التي تحُول دون تحقيق معدلات نمو اقتصادي عالية ومستدامة (Taux de croissance économique élevés et soutenables)، والتي بدونها لا يمكن خلق ثروة كافية لتحسين الرفاه والرخاء الاقتصادي والاجتماعي.

9. بطء في تفعيل الجهوية المتقدمة: نحو إدماج كفاءات جديدة: خصص ملك البلاد حيزا هامّاً من خطابه بمناسبة الذكرى السادسة والستين لثورة الملك والشعب لتفعيل الجِهوية المتقدمة (Régionalisation avancée). وركز في هذا الصدد على ضرورة التطبيق الأمثل للجهوية المتقدمة واللاتمركز الإداري، بغية الرفع من مستوى الاستثمار الترابي (Investissement territorial) والعدالة المجالية (Equité spaciale). وفي هذا الإطار، ركز الملك محمد السادس على أن ملفات عديدة متعلقة بالجهوية الموسعة ما زالت تعالج بالمراكز الإدارية بعاصمة المملكة رغم كل المجهودات التي بذلت في السنوات الأخيرة وتوفر كل النصوص القانونية اللازمة لتفعيل هذا الورش الإنمائي الهام؛ قبل ان ينتقد بشدّة البطء والتأخر الحاصلين في إنجاز المشاريع، بل شدد على أن المسؤولين يتخلون أحياناً عن مشاريع تمت صياغتها ولم تنجز قط،، مستدعياً الحكومة إلى إعطاء الأسبقية لهذا الموضوع في الآتي من الأيام.

في هذا الإطار، نستحضر ما قلناه أعلاه عن العقلانية الناقصة (Bounded Rationality) لدى صانعي القرار ونزوعهم إلى رشادة إجرائية سلبية، بحيث أنهم يتحمسون إلى صياغة المشاريع الإنمائية ويتقبلونها شكلاً ومضمونا، إلا أنهم غالباً ما يتخلون عنها عند التنفيذ. ولهذا فإن ملك البلاد أثار في خطابه نقطة مهمّة تتعلق بضرورة إيجاد كفاءات مؤهَّلةٍ جهويا ومحلياً، وذلك من أجل تفعيل أمثل لأوراش الجهوية المتقدمة (Advanced Regionalization)؛ لأن المسؤولية المشتركة تستدعي حل المشاكل العالقة وقد وصلنا إلى مرحلة لا تقبل التردُّد وارتكاب مزيد من الأخطاء.

لقد أثار الملك محمد السادس في هذا الصدد إشكالية عويصة تتمثل في ضعف كفاءة الأشخاص المنوط بهم تفعيل الجهوية بطريقة أنجع وأقل استهلاكا للوقت وللموارد، مع تمخضها عن نتائج غير مرجوة. لقد حان الوقت فعلا لإعادة النظر في كفاءاتنا الإدارية والتنظيمية إذا أردنا قطع أشواط بعيدة على درب التنمية الاقتصادية والاجتماعية. أما إذا لم نلتزم بإيلاء المسؤولية لمن يستحق تحملها فإن مشروع النموذج التنموي الجديد لن يكون إلا حِبْراُ على ورق.

10. ضرورة الاستفادة من التعلُّم الاجتماعي لتصحيح مسار التنمية: ركز ملك البلاد في خطابه الأخير على فكرة هامة مفادها أننا لا يجب أن نخجل من نقاط ضعفنا ومن الأخطاء التي شابت مسارنا في جميع المجالات؛ بل يجب أن نستفيد منها كدروس كفيلة بتقويم الاختلالات وتصحيح المسارات السابقة. وفي هذا الإطار، ذهب ملك البلاد إلى أن الاستفادة من أخطائنا هي في الحقيقة جهاد أكبر يرمي إلى الاستجابة للتطلعات المشروعة لعموم المواطنين.

إن أهمية استقاء الدروس من تجارب سابقة وغير مرضية تدخل في الحقيقة في ما يمكن أن نسميه التعلُّم الاجتماعي (Apprentissage social : Social Learning). ولكن، للأسف، قلما يتعظ مسؤولونا في الحكومة المركزية بالرباط كما على المستويين الجهوي والمحلي، من تجاربهم السابقة؛ بل إن صانعي القرار لا يتوفرون غالباً إلا على عقلانية ناقصة (Rationalité-limit-ée : Bounded Rationality)، بتعبير الأكاديمي الأمريكي الشهير هيربرت سَيمون. وفي هذا الإطار، تتضح أهمية إيلاء المسؤولية للأشخاص ذوي الكفاءة في مجالات تخصصهم، مع إخضاعهم لمساطر واضحة من حيث المساءلة والمحاسبة (Reddition des comptes : Accountability). أما في حالة ما إذا تواصل توظيف وتعيين أشخاص أقل كفاءة فإن النموذج التنموي الجديد نفسه لن يعطي ثماراً تُذْكر، إن على مستوى الصياغة أو على صعيدي التنفيذ والتتبع. وقد أشار ملك البلاد إلى هذه النقطة المركزية في خطابه الأخير بمناسبة عيد العرش.

• خواتم :

كانت هذه قراءات موجزة في الخطاب الرسمي الذي ألقاه الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى والسادسة والستين لتربعه على عرش المملكة. على العموم، يتبين من قراءاتنا للخطاب أن صياغة وأجرأة النموذج التنموي الجديد لا يمكن أن يعطيا ثمارهما على المديين المتوسط والطويل إلا بالتوفر على كفاءات عالية على طول هرم السلطة، بالإضافة إلى ضرورة تآزر جميع الفاعلين المؤسساتيين وشبه المؤسساتيين وغير المؤسساتيين، بمن فيهم المواطن العادي.

إن مسلسل التنمية الاقتصادية والاجتماعية فيه من التعقيدات ما لا يخطر على بال الإنسان العادي؛ وبالتالي فإن تحقيق التنمية المستدامة لا يمكن أن يتأتى إلا بتحولات جذرية في بنيات المجتمع، بحيث أن صياغة نموذج تنموي ما هي في الحقيقة إلا عامل مساعد على التغيير، بشرط التوفر على الكفاءات اللازمة لذلك.

تبقى الإشارة في الأخير إلى أن ما ينطبق على النموذج التنموي يسري كذلك على الجهوية المتقدمة التي تستوجب التوفر على الكفاءات كما على التعاون المثمر بين كافة المتدخلين، كما توحي بذلك تجارب بلدان قطعت أشواطا بعيدة في هذا المضمار، مع العلم أن التربية والتعليم الصحيحين يكونان أساس التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلدان على مر العصور؛ ومن ثمة وجب التذكير بأهمية تصحيح الاختلالات التي تشوب منظومتنا التعليمية والتكوينية والتي قد تدفع المرء إلى اعتبارها في عداد القطاعات المريضة. هذا هو الواقع المرّ، فلنتمسّك بالتعلُّم الاجتماعي (Apprentissage social) ولنغير المسار بشكل إيجابيّ قبل فوات الأوان.



#ابراهيم_منصوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تقرير بنك المغرب السنوي لعام 2018 في 15 نقطة أساسية مع ملاحظ ...
- مقابلة ما بعد الوفاة مع سمير أمين Posthumous Interview with ...
- مقابلة ما بعد الوفاة مع سمير أمين Posthumous Interview with ...
- مقابلة ما بعد الوفاة مع سمير أمين Posthumous Interview with ...
- التساقطات المطرية، مردودية الحبوب والنمو الاقتصادي في المغرب ...
- أهمية مزج السياسات الماكرو-اقتصادية لتحقيق الاستقرار الماكرو ...
- أهمية مزج السياسات الماكرو-اقتصادية لتحقيق الاستقرار الماكرو ...
- أهمية مزج السياسات الماكرو-اقتصادية لتحقيق الاستقرار الماكرو ...
- مقابلة ما بعد الوفاة مع سمير أمين Posthumous Interview with ...
- أهمية مزج السياسات الماكرو-اقتصادية لتحقيق الاستقرار الماكرو ...
- مزج السياسات الماكرو-اقتصادية لتحقيق الاستقرار الماكرو-اقتصا ...
- عَن الْعَالِمِ الْجَلِيلُ تُومَاس الْكِيوَّر: قِصَّةٌ وَاقِع ...
- مقابلة ما بعد الوفاة مع سمير أمين Posthumous Interview with ...
- مقابلة ما بعد الوفاة مع سمير أمين Posthumous Interview with ...
- مقابلة ما بعد الوفاة مع سمير أمين Posthumous Interview with ...
- مقابلة ما بعد الوفاة مع سمير أمين Posthumous Interview with ...
- مقابلة ما بعد الوفاة مع سمير أمين Posthumous Interview with ...
- مقابلة ما بعد الوفاة مع سمير أمين Posthumous Interview with ...
- مقابلة ما بعد الوفاة مع سمير أمين Posthumous Interview with ...
- الاقتصادي الأمريكي إرفينغ فيشر يتحدى زوجته السكيرة


المزيد.....




- كاميرا مراقبة ترصد لحظة اختناق طفل.. شاهد رد فعل موظفة مطعم ...
- أردوغان وهنية يلتقيان في تركيا السبت.. والأول يُعلق: ما سنتح ...
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا القصف الإسرائيلي
- الدفاع الروسية تكشف خسائر أوكرانيا خلال آخر أسبوع للعملية ال ...
- بعد أن قالت إن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة.. أستاذة جا ...
- واشنطن تؤكد: لا دولة فلسطينية إلا بمفاوضات مباشرة مع إسرائيل ...
- بينس: لن أؤيد ترامب وبالتأكيد لن أصوت لبايدن (فيديو)
- أهالي رفح والنازحون إليها: نناشد العالم حماية المدنيين في أك ...
- جامعة كولومبيا تفصل ابنة النائبة الأمريكية إلهان عمر
- مجموعة السبع تستنكر -العدد غير المقبول من المدنيين- الذين قت ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ابراهيم منصوري - قراءات في 10 نقاط للخطاب الملكي ليوم 21 غشت 2019 بمناسبة الذكرى السادسة والستين لثورة الملك والشعب