أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - المِلزَمة















المزيد.....

المِلزَمة


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 6318 - 2019 / 8 / 12 - 19:32
المحور: الادب والفن
    


كان قد بدأ الاتحاد السوفيتي بالانهيار والتفكك عندما وصل الدكتور محي الدين شيخ قليعة إلى الجامعة عائداً من بعثته الدراسية في جامعة أرمينيا الحكومية للهندسة، المنحة الذي حصل عليها عن طريق الحزب القائد بصفته أخ لشهيد وبتزكية من شخص مسؤول. حين دخل يومئذ إلى القاعة رقم 207 في الطابق الأول من كلية الهندسة الميكانيكية في جامعة تشرين، كانت محاضرته الأولى ستدور حول مدخل إلى آلات الرفع والنقل لطلاب السنة الرابعة.

لم يختلف دخول محي الدين إلى قاعة المحاضرات عن دخول من سبقه من محاضرين، بدت عليه ملامح التعب والفقر واليأس والإحباط، ملامح من سقط في حفرة عميقة دون أمل في الخروج منها، ملامح من تزوج متأخراً ولم يجهّز بيته وعفشه بعد، بدا هرماً، بشاربه الثخين، بصلعته وبقايا شعر رأسه الذي تلوّن بالرمادي، بدا طيباً بشامته التي أخذت مكانها الصحيح في خده الأيمن، بذقنه التي لم يتكلف عناء حلاقتها منذ يومين على الأقل، بنظارته ذات الإطار العظميّ العريض التي شبكها في جيب قميصه وبيديه السميكتين التي تعودتا على العمل في الحقول.

دخل المحاضر المستجد محي الدين بجسده العريض وقامته متوسطة الطول، بحذائه الأسود القديم، ببنطلونه القماشي الأسود وبقميصه الأبيض بعد أن أحاط ياقته بمنديل أبيض ليحميه من التعرُّق والاتساخ تاركاً أزراره الثلاثة الأخيرة مفتوحة ليظهر منها طرف قميصه الداخلي وبعضاً من شعر صدره الكثيف، وكان قد شمَّر أكمام قميصه عن ساعديه القويين، دخل وأصابع يده اليمنى تقبض بخجل على مقبض حقيبة سامسونايت سوداء موضة تلك الأيام، وصل إلى منبره مستعجلاً وكأنّه أراد أن يختبئ خلفه ليتجنب عيون الطلبة التي تتفخصه، وضع الحقيبة التي بدت خفيفة على سطح طاولة المنبر، حيّا الطلاب بغموض ابن قرية، فتح الحقيبة باتجاهه في الوقت الذي صعد أحد الطلبة الفضوليين إلى السبورة، لا لتنظيفها فقط بل أيضاً لإلقاء نظرة على حقيبة المحاضر الجديد وكأنّه راهن أصدقاءه على محتواها، الحقيبة التي شغلته كما شغلته وسحرته من قبل الحقائب السامسونايتية لمن سبقوه، نظر الطالب إلى محتوياتها خُلْسةً وابتسم كمن يحقق هدفاً في مرمى خصومه.

عندما رجع الطالب إلى مقعده خجل من فضوله ومما رأت عيناه اللتان اعتادتا رؤية الشيء نفسه، خجل من ظروف المحاضرين ووجعهم وفقرهم وعوزهم، خجل من بساطتهم وخوفهم ورعبهم، خجل من خجلهم، لم يرَ في السامسونايت مراجع علمية بلغةٍ أجنبية كما يعتقد الطلاب، لم يرَ موديلات ونماذج ولا رسوم أو مخططات هندسية، لم يرَ أوراقاً مهمة عليها خربشات محاضر وباحث، لم يرَ أفلاماً عن الآلات، كان كل ما لمحته عيناه عبارة عن برتقالة واحدة، قضوضة زعتر برغيف خبز، علبة طباشير بلونٍ واحد، إسفنجة، علبة سجائر، دفتر/ملخص مكتوب بخط اليد لطالب قديم عن مضمون المادة نفسها التي سيحاضر فيها، لعله هو دفتره خاصته، الذي خبأه من أيام الدراسة وكأنّ الزمن لم يتغير وكأنّ المحاضر لم يكن يوماً في بعثة دراسية.

لم يستخدم المحاضر لوح السبورة ولا الطباشير، لا في ذاك اليوم ولا في الأيام اللاحقة، وضع الدفتر القديم أمامه وراح يقرأ منه معتقداً أنّه يشرح درساً لطلاب على أبواب التخرج، وكان لا ينسى طبعاً أن يحشر بين الجملة والأخرى كلماته الفقيرة وباللهجة المحكية (وهكذا كما تعرفون وسبق أن شرحته لكم يا أبنائي .. وكذا ومذا وشغلات وعملات من هذا النوع ...) وكأنّه قد ابتكر وسيلة ديداكتيكية فريدة من نوعها لإيصال معلومات نوعية المحتوى وشديدة التعقيد.

لمّا نهض الطالب الفضولي من مقعده وسأله ذات مرة مستفسراً عن الأهمية الامتحانية لبعض المقاطع النظرية المُمَلّة والركيكة، حدَّق المحاضر محي الدين إلى الطالب بعيني صقر وكأنّه يسبر كنه فريسته قبل أن ينقضّ عليها ثم أجاب بعد برهة تأمل بطريقة لا تخلو من الحكمة: "روح واشتغل يا ابني فقطار العمر ماض والحياة لا تدوم لأحد". ثم أغلق حقيبته وغادر القاعة كرجل مهم.

بقي الطالب الفوضوي الفضولي مشغولاً بكلمات المحاضر لسنوات طويلة، في البدء ضحك عليها واستهتر بها، حوّلها إلى نكتة مع مرور الأيام أخذ يرويها لمعارفه، وما زالت تشغله إلى الآن، بل بدأ مع انقضاء السنوات يشعر وكأنّها تحمل فعلاً في طياتها فلسفة لا يفهمها إلا من يحاضر في جامعات تلك البلدان.

عندما نطق المحاضر بفلسفته الغريبة والمريبة في تلك الساعة كان قد باع نفسه قبل بدء المحاضرة للشيطان جبران مقابل ثلاثة أطنان من الحديد ليتمكن من سقف بيته الصغير في ضيعته البعيدة. عزاؤه الوحيد أنّه لم يكن الأول ولا الأخير الذي باع ضميره مقابل أطنان الأسمنت أو الحديد أو سيارات الرمل والبحص أو العزائم وإعارة السيارات الحديثة، ولم يكن الشيطان جبران هو الوحيد ولا الأخير الذي اشترى بماله الأسود ذِّمَّم هؤلاء.

مازال الطالب الفوضوي يذكر ابن دفعته ميمون جبران الذي سيلمع نجمه لاحقاً كواحد من أهم الأسماء المافيوزية في الوطن. نادراً ما كان يزور المحاضرات، لكنه لم يستغن عن زيارة المحاضرة الأولى والأخيرة من كل فصل دراسي. كان يجلس هادئاً في المقعد الأول، يرتدي كما العادة سترة شامواه بنية أو سوداء، قميصَ حريرٍ أبيض مكوي بعناية، بنطلونَ جينز أزرق أو أسود، حذاء ماركة دو-ري-مي، وقد حَنْجَرَ ذقنه السوداء، في رقبته جنزير من ذهب، في أصبع يده خاتم ضخم من الفضة وفي معصم يده ساعة أنيقة بمينائها الدائري الأبيض الذي تتوسطه صورة الرجل الحديديّ، ذلك النوع من الساعات التي لم يغفل أي إنسان عن معناها وأهميتها.

كان يجلس ومن خلفه طالبان ممن ينظمون له أموره الدراسية ويعملون لحسابه سواء في فندقه الخاص أو في شركته التجارية أو منزله أو محلاته. يبقى ميمون جبران جالساً بكل أدب وهو يراقب ما يحدث أمامه وحوله بصمت كمحلِّل نفسيّ، يشقل بعينيه الجاحظتين المحاضر، فأر التجربة الجديد، من أخمص قدميه إلى صلعة رأسه وهو يحيك في ذهنه السعودي خطته القادمة لتدجين المحاضر وضمه إلى مزرعته.

بعد أسبوعين أو أكثر من زيارته الأولى لحضور المحاضرة يسمع الطلاب بأن المحاضر قد حصل على حقه سلفاً، على جرعة الدواء التي يحتاجها من إسمنت أو حديد أو مواد بناء او وساطات في الدوائر الحكومية.

لم يكن لدى جبران الوقت لقراءة المحاضرات الفارغة ولم يكن لديه القدرة على فهمها بل لم يكن لديه لا الوقت ولا القدرة حتى على حفظ أجوبة الأسئلة الامتحانية التي تصله إلى بيته مكتوبة بخط اليد. كان يصل إلى الجامعة قبل ساعة من موعد الامتحان، يجلس في سيارته الحمراء أو السوداء الفارهة تاركاً أبوابها مفتوحة للتهوية وأجوبة الأسئلة وحلول المسائل بين يديه، وفي المقعد الخلفي يجلس صبياه الطالبان غسّان وعفيف.

حدث أن اعترض الطالب الفوضوي مراراً على سلوكه الأناني، حدث أن تكلم بصوت عال عن الفساد الذي عشعش عميقاً في صدور أعضاء الهيئة التدريسية، وحدث في أحد المرات أيضاً أن أوقفه الطالب المافيوزي ميمون جبران لحظة خروجه من باب الكلية، يومها فتح باب سيارته ونزل منها متحدّياً ومعترضاً طريقه، من سيارة مجاورة نزل فريق عمله، خاطبه جبران بمودة واحترام: ما الأمر معك يا أحمد؟ لماذا تثير هذه الضجة حولي؟ أنت تعرف بأني لا أتنافس معك ولا أطمح بأخذ مكانك الأول في الدفعة، لكنني أريد قطعاً أن أكون في المرتبة الثانية كي أحصل على شهادتي الجامعية لأنني أسعى لاستخدامها في عملي فأنا كما تعلم أمتلك شركة استيراد وتصدير، وإذا لم أكن من الثلاثة الأوائل فلن أحصل عليها قبل خمسة أعوام، وهذا قد يعرقل عليّ نشاطاتي التجارية وأسفاري، لذا عليك ألا تقلق على وضعك وتذكّر أنني لست الوحيد الذي يشتري ضمائر أعضاء الهيئة التدريسية لهذه الكلية أو الكليات الأخرى بل نحن كثر. ثم قبض على مسكة باب سيارته الجانبي، فتحه وقال له: اِركب يا أحمد، سأريك ما لا يمكن أن يخطر على ذهنك، سأريك حقيقة من تظنهم مجبرين على بيع ضمائرهم، سأريك كيف هم الآن بانتظاري في حديقة الفيلا، يغسلون الخضار والفواكه واللحوم ويحضّرون المشاوي والسَّلَطَات، لم يأتوا لوحدهم بل جاؤوا مع نسائهم، سأريك كيف أجلس لأشرب الويسكي وأنا أتحدّث إلى نسائهم، بينما هم مشغولون بالشوي والثرثرة والقهقهات، عمن تدافع يا أحمد؟ لماذا تُرهق نفسك؟ الجميع مُلَوَّث وفاسد، تعال اصعد وشاهد هؤلاء بأم عينك، لكل واحد منهم سعره الخاص، دعنا نصير أصدقاء، سأساعدك على المزيد من النجاح.

أجابه الشاب الفوضوي أحمد: حقيقة لا أكرهك ولست حاقداً عليك ولست ضدك كشخص بل أنا ضد مؤسسة الفساد بأكملها وثائر عليها. شكره أحمد على دعوته واِعتذر عن عدم تلبيتها ومضى في طريقه وهو يبربر: يعدونك بالنجاح والدعم ويشحِّمون لك الطريق غير المُعَبَّد كي تتزحلق معهم إلى مستنقع التلوُّث ومعسكر الفساد.
**



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صلولين
- نشرة أخبار
- كيف صار المُهَنْدِس كاتباً -2-
- كيف صار المُهَنْدِس كاتباً -1-
- ملعب مقبرة الشهداء
- كيف لا ترون؟
- من شبَّ على شيءٍ شاب عليه
- كيف تتكلم؟
- يوسف وفهيمة
- سجائر غارغويل
- قانون الكُنَافَة
- لماذا تركض؟
- السَفَّاك
- شمعة ديوجين
- وكنا ندخن الرَّوْث
- الفيل الأسود
- جريمة في ستراسبورغ - فلم كامل
- جريمة في ستراسبورغ - 9 - النهاية
- جريمة في ستراسبورغ - 8 -
- جريمة في ستراسبورغ - 7 -


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - المِلزَمة