أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال التاغوتي - السندباد البحري: البحث عن الجذور















المزيد.....

السندباد البحري: البحث عن الجذور


كمال التاغوتي

الحوار المتمدن-العدد: 6311 - 2019 / 8 / 5 - 09:49
المحور: الادب والفن
    


كانت الجزيرة مجرد حلم للإنسان، والإنسان الوعي المحض للجزيرة. (جيل دلوز)

علامة مرقومة على مسطح الخطاب العربي تدور في فلكها سمات عديدة، لعل أهمها ومركز الثقل فيها السفر. وإذا كان الترحل موضوعا أساسيا في الأدب العربي، شعرِه وسردِه، فإن الجزيرة بوصفها طرازا ثابتا في مغامرات السندباد البحري تُعَد من العناصر المبتدعة؛ فهو – أعني بطل

الحكايات – لا يغادر بغداد، النقطة المرجعية لحركته، إلا ليحُلّ بجزيرة أو أكثر يغالب فيها الهلاك ويشهد من العجائب والغرائب ما لا عين رأت. يعلن السندباد في حكايات ألف ليلة وليلة انشقاقه عن المألوف وكفّه عن الثبات في فضاء واحد. أجل إن تعلقه بموطنه مدينة السلام شديد، ولكنه ما إن

يعود إليه حتى يحزم أمره ويشد الرحال نحو المجهول؛ الحافز الظاهر هو الاتجار، غير أن لذة الاكتشاف وقهر العادي من الحوافز الأساسية الدافعة للسفر والمجازفة بالنفس والنفيس، وبذلك تكون الحكاية أثمن غُنم يغنمه الرجل من رحلاته. إنها رأسمال رمزي يعضد ذاك المادي، وبهما يسترجع

السندباد وجاهته وينحت في وجدان المحيطين به وجهه. إن حركته في الماء، أي في فضاء عدواني يفقد فيه الجسد ثباته فيصير فريسة للاضطراب والقلق. لذلك تتعلق النفس بجزيرة، موضع ناتئ في مسطح أملس يعانق فيه العمق السطح؛ وهذا الموضع منفصل عن "اليابسة" لكنه في الآن نفسه

ينفصل عن البحر ويرسم حدوده الخاصة. غالبا ما تكون الجزر في حكايات السندباد البحري منزلا للاستراحة من عناء المياه وعنادها الأبدي، غير أن البطل يواجه فيها ألوانا من الخطوب تضعه دائما على مشارف الموت؛ ومن ثمة تلوح الجزيرة في المغامرة مخاتلة مراوغة، فهي من جهة

تبعث الأمل في النجاة من الغرق/الموت لاسيما وأن الجزر تكون عامرة إما بالناس أو بكائنات غريبة أو بالثمرات، وهي من جهة أخرى تفاجئ النازل بها بأخطار أشد وطأة من العباب؛ والسندباد يلذ له رؤيتها تتعرى أمامه بكل رائع مريع فيها. إنها أرض أخرى قضى عليها البحر بالتشرذم

والتشتت، لكنها تجابه هذا القدر الجغرافي بصلابتها وبما تحدثه من شرخ في استرسال المياه واتصاله. فهي تذكر بالنشأة الأولى. والسندباد البحري في رحلاته المتكررة إنما يبحث دائما عن البدايات الجديدة؛ ولنا في الرحلة الأولى عينة تمثل هذا المسار. فهو يشير في بداية حديثه إلى الفقد: يفقد

والده، ثم أمواله نتيجة سفهه وضعف تجربته، إذ كان غرا لم تعركه الأيام. يقول: "... ثم إني رجعت إلى عقلي وأفقت من غفلتي فوجدت مالي وحالي قد حال وقد ذهب جميع ما كان معي... " (ص.83) ومن أجل استرجاع مكانته يقرر السفر بحرا تاجرا بين تجار آخرين. فالنية معقودة على

تدشين بداية جديدة تمكنه من النهوض من كبوته. ويسترسل الراوي في سرد مغامرته لتلقي به الأقدار على جزيرة "كأنها روضة من رياض الجنة" (ص.84) ؛ بيد أن الحكاية تشهد منعرجا حادا، إذ يتفطن صاحب المركب إلى الحقيقة، فيصيح منذرا مُنبّها: "إن هذه الجزيرة التي أنتم عليها ما

هي جزيرة وإنما هي سمكة كبيرة رست في وسط البحر فبنى عليها الرمل فصارت مثل الجزيرة وقد نبتت عليها الأشجار من قديم الزمان فلما أوقدتم عليها النار أحست بالسخونة فتحركت وفي هذا الوقت تنزل بكم في البحر فتغرقون جميعا ..." (ص.84) فيستجيب البحارة ولكن هيهات، فالسمكة

الكبيرة تتحرك فعلا وتذهب بمن كان عليها. ويتمكن السندباد من النجاة بفضل قصعة تعلق بها حتى أرست به الأمواج على جزيرة أخرى لتنفرج الأزمة. هذه المغامرة تكشف ما ينتظر المبحر من كوارث، كما أنها تحثه على ترك مجال للشك فيما تدركه الحواس، وتعظه ليعتبر فيتخلص من شرك

الأوهام. فالجزيرة الملعونة لا يمكن أن تكون مستقرا ولو إلى حين، إذ شُبِّه للسندباد وصحبه أنها "يابسة" تقهر البحر وتتحمل الإنسان وما يصنعه، لكن النار – باعتبارها أعظم اكتشافات البشر وعنصرا من العناصر الأربعة المتصارعة – تهتك الحجاب عن "الجزيرة" اللعوب، وتجبرها على

الظهور والتجلي للوعي. وعلى هذا السمت تقيم الحكاية الأولى تناظرا بين الإقامة على الأرض [ مدينة بغداد ] وبين الإقامة على ظهر جزيرة زائفة. فهي مثال مصغر للحياة الدنيا كما تجلوها التصورات العربية الإسلامية بما هي دار غرور ومتاع إلى حين؛ والاستقرار فيها من باب الغفلة عن

قبولها للزوال والفساد. وقد سبق للسندباد أن جرب الثراء فاعتقد في دوامه، لكنه استيقظ في النهاية على الفجيعة حين حلت به كارثة العوز والفقر. كذلك هو شأنه مع الجزيرة الزائفة. وما المفارقة القائمة بين وصفها في ملامستها الأولى وبين وصف صاحب المركب إياها عند استجلاء حقيقتها إلا

دليل على رخاوة المكان وميوعة المنزل، رغم قدم "الجزيرة" زمانا، وقدمها هذا يجعلها نسخة مصغرة من الأرض اليابسة المسترسلة هندسيا، فهي تضاهيها صلابة – في الظاهر – وخيرات تشبع حاجة الكائن البشري وشهوته من جهة، وتضاهيها هشاشة تجعلها قلُـَّبا لا تستقر على حال. إنها

كارثة يتفتح فيها وبها الوعي عن إدراكٍ للعالم أصيلٍ، "فكارثة ما، توجد بعد الأصل لأنه يجب أن يكون هناك منذ الأصل ولادة جديدة" (جيل دولوز)؛ فخلف الحكاية تتراءى قصة الطوفان القرآنية، ويتجلى ذلك من خلال جملة من المؤشرات تتعلق بالجزيرة المزيفة: المؤشر الأول – كما سبق

وأشرت – قِدَمُها واكتظاظها بالملذات حتى أن الراوي شبهها بروضة من رياض الجنة، وهذا المؤشر يجعلها قريبة بالأرض المحفوفة بالشهوات، والثاني بكارتها إذ يبدو أنها لم تطأها رِجْل من قبلُ، والثالث فعل الإنسان فيها أعني إشعال النار للطبخ، وللنار دلالة سلبية في هذا المجال خاصة وقد

اقترن بإشباع شهوة البطن، والرابع انقلاب الوضع عبر التهديد بالغرق. إنها كارثة شاملة في سياقها من الحكاية، فالجزيرة هي العالم بالنسبة إلى البحارة. يبتني على ذلك أن نجاة السندباد وبعض البحارة الآخرين (أعني أولئك الملتحقين بالمركب) قائمة على الانتقاء، وما تعرُّضُ البطل للغرق

وإشرافه على الهلاك إلا تطهير له كي يولد من جديد حاملا وعيا مغايرا ستصقله الحكايات والمغامرات تباعا. إن السندباد برحلته الأولى ينسلخ عما كان، ويدشن مرحلة بديلة للكارثة فضل في تشكلها؛ ذلك أنه يقرر منذ الآن مواجهة الخطوب وتحديها، أي أنه يقرر تجاوز شرطه البشري

والانفلات من قبضة المألوف والعادي. إن الجزيرة – السمكة تعيد قصة العالم الأكبر كما صاغته أساطير الشعوب، فتجمع بين الكون حيث تمتزج العناصر الأربعة لتشكل نتوءا هو كالجرح في صدر البحر، وبين الفساد حيث تتشتت تلكم العناصر ذاتها لتعود كلها إلى الجذر الأول: أعني الماء.

والسندباد المسكون بالترحال يستوي طاقة تجبر الجزيرة على البوح بسرها الدفين لتنتصب عارية أمام الوعي البشري. هكذا ترسم هذه الجزيرة الوهمية مستقبل البطل في علاقته بالمكان والفضاء عموما؛ فَــليشرع السرد إذن في نسج شباكه والإيقاع بالجزر واحدة تلو الأخرى ناحتا وجه السندباد

المسكون بالرغبة في معانقة الجذور.

*المصدر: ألف ليلة وليلة، المجلد الثالث، مكتبة الجمهورية العربية
*المرجع: Gilles Deleuze - L île déserte et autres textes, Edition préparée par David Lapoujade , Edition minuit, Paris, 2002



#كمال_التاغوتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خصرها
- ذاكرة البحر
- انتهاك الحدود في أقصوصة الكراسي المقلوبة (رضوان الكوني)
- شجرةٌ
- رَقِيم
- على صدْرِها
- اغتيالُ شَمعَةٍ
- تنقيح
- الحبّ في غياهب القمع
- جماليات الفظيع: قراءة في قصيدة أبي تمام
- hell-space
- ذكريات
- عِلاجٌ وَحِيدٌ
- الضمير
- المُعلِّمُ
- عمرية: أفق نهدٍ
- متى تعودين
- تَضَارِيسُ الليْلِ
- على شاطِئِ الأَمْسِ
- خلعْنَا القبيلة (رسالة تأبط شرا إلى عروة بن الورد)


المزيد.....




- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال التاغوتي - السندباد البحري: البحث عن الجذور