|
اعتذار
ماجد رشيد العويد
الحوار المتمدن-العدد: 1547 - 2006 / 5 / 11 - 10:59
المحور:
الادب والفن
لا بد من الحزن ولا مفر من الامتقاع . إن وجهاً ممتقعاً خير من وجه سادر الملامح . أبكي لبكائهم ، وأقطب الحاجب ، بل لعلي سأنخرط في النحيب أكثر منهم . هكذا ينبثق من جوف الحزن فرح التآزر والتواد ، وهكذا أدفع إلى آل الفقيد شعوراً بأن المصاب ليس مصابهم وحدهم ، وأن مشاركتي منبعها حب جارف لسجايا النائم تحت التراب . ولبعث مشاعري هذه انطلقت تحت الهاجرة أشارك في بناء السرادق ، وأصبّ في أفواه المعزين قطرات من القهوة المرّة ، وأدور عليهم بلفافات التبغ ، وأسقيهم ماء قراحاً يطفئ نار البطون اللاهبة . في المساء جلست متوسطاً السرادق ، أستقبل المعزين في حركة نشطة . عيناي تجولان في أنحاء المكان ، وتستقران عند جاري والد الفقيد . انتبهوا لن يفسد المأتم ، ولن تلقى الوفود المعزية غير الاستقبال اللائق ، والبهجة اللائقة بالجو المأتمي . وسيتم نثر القبل ، وتوزيعها على الخدود ، وسيكون لكل قبلة حد لائق ومناسب من الشجن . ولأن الناس درجات فسأعمل على إنتاج مقاسات متباينة من الترحاب . فإن كان المعزي بسيطاً أتركه حتى يقترب مني ثم أنهض ببطء لاستقباله ، وأحاول جاهداً منعه من تقبيلي بحجة أن بشرتي شديدة الحساسية . وإن كان متوسطاً في السلم الاجتماعي أنهض نهوضاً كاملاً ، وأشد على يديه ، وأدع فمي ينفرج عن ابتسامة محدودة . وأما من كان في أعلى السلم الاجتماعي ، فأهرول إليه وأستقبله عند المدخل ، وأجاهد لاستقباله قبل المدخل ، عند سيارته ، حال خروجه منها بالترحاب والقبل ، وعبارات لها مدلول عميق من مثل أن حضوره آنسنا ، وأنسانا مصابنا . الناس درجات ، ليس في الحركة فقط ، بل في الثبات أيضاً . هكذا جرى الحال .. حتى وصل سيادته . كنت أثناء وصوله أصافح رجلاً عادياً ، بزيّ مهترىء ، ووجه بائس . ولست أدري كيف تصادف وصوله ومصافحتي لهذا الفرد العادي الذي أصرّ على تقبيلي دون أن أملك منعه . وحالما انتهيت من قبول عزائه تقدمت من سيادته ، بعد أن مسحت يدي ببنطالي ، وبحركة لافتة للنظر ، صافحته واقتربت منه لأتم شعيرة العزاء بتقبيله . فوجئت بما هو غير متوقع . كنت كمن يغتسل بسوائل جسمه . تصبب عرقي واحمرّ وجهي وسال خجلي . أحسست لحظتها بأن آلافاً مؤلّفة من العيون تستقر في هيئتي الملتاثة ، والمضطربة ، فماذا أفعل لأداري خيبتي ؟ . إن الصدّ الذي قوبلت به بدا واضحاً للجميع . لقد أشاح بوجهه عني دون أن يدع لي فرصة تقبيله . وفي سرعة هائلة سحب يده من يدي قبل تمكيني من وضع يدي الثانية على يده ، دلالة الامتنان والرضا والتآزر . شعرت بالانهيار فتهاويت على مقعد قريب ، وأنخت رأسي ثم رحت بعد دقائق أرفع ببطء هامتي . ومن بين أصابع يدي راحت عيناي تلتقطان الوجوه المحيطة بي فرأيت ما رأيت ، وليتني لم أر ما رأيت . كانت الوجوه مصوبة نحوي في شماتة وتشف . أغلقت أصابعي فعدت لا أرى أحداً ، وأحاطني ظلام دامس . وأراحني غرقي في كتلة السواد المعتمة من توتري وانفعالي . حرت فيما أفعل حتى نضح الذهن فكرة مؤداها أن الهرب وسيلتي الوحيدة للنجاة من مأتم نفسي . وكان أن فعلت ، وتوسطت الشارع وتنفّست الصعداء . قلت لابد أن أعتذر لسيادتـه ، فلا ريب أنه أشاح بوجهه لأنني قبله كنت أصافح ذلك الهامشي الذي قبّلني عنوة . سأشرح له أن المآتم لها طقوسها . وسأقول له إنني في ضيق مما جرى ، وأنه على حق بأن أشاح بوجهه عني ، فربما يكون الرجل الذي قبّلني مريضاً فتنتقل عدوى المرض إليه عن طريقي . وسأقول له بأنني رهن الإشارة في كل ما يرتئيه … وبينما كنت مأخوذاً من هذا الخاطر تذكرت الرجل الرث ، فاشتد غضبي ، ولعنته علانية ، وبصوت عال ، آلاف اللعنات وقررت أني حالما أراه سأصفعه على خدّه حتى يسقط من الألم .
#ماجد_رشيد_العويد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رائحة في الذاكرة
-
كلمة في وداع الرجل الكبير
-
تحية إلى سمر يزبك
-
هل يجبّ انشقاق عبد الحليم خدام ما قبله؟
-
المطلوب محاكمة حزب البعث قبل خدام
-
الوهق
-
بانتظارهم
-
هل كانت الرقة رافداً من روافد العجيلي
-
ثقة مستعادة
-
صمت المثّال
-
حجر على صراط
-
طيبة
-
الموت الأصغر
-
السادن
-
على جناحي ذبابة
-
صيف حار
-
وأخيراً رأيته
-
العباءة
-
في الجحيم
-
في الليلة الأولى
المزيد.....
-
-كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟
...
-
مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان
...
-
الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل
...
-
فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل
...
-
-سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال
...
-
مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م
...
-
NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
-
لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
-
فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر
...
-
هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا
...
المزيد.....
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
-
الهجرة إلى الجحيم. رواية
/ محمود شاهين
المزيد.....
|