أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الحاج صالح - نُورا














المزيد.....

نُورا


محمد الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 6290 - 2019 / 7 / 14 - 04:27
المحور: الادب والفن
    


ابنةُ عمي "نورا" عذابي وبلواي في الصغَر. خرجتْ مشلولةً، وماتَ والداها وهي ابنةُ ستّ سنين، إثر حادث سيّارة. فتكفّلها جدّي. أو فلْنقلْ تكفلتْها العائلةُ، إذْ لم يكن جدّي ليسمحَ لأيّ من أعمامي المُتزوجين أوْ أبي بالانفصالِ عن البيت الكبير.
"الأرض كبيرةٌ وتحتاجُ للعمل. في حياتي لن ترثوني. متى متُّ افعلوا ما تريدون" يقولُ جدي دائماً. فيردّد الجميعُ "بعيد الشر!".
مشكلتي تتضاعفُ ما إن يأتي الصيفُ، حيث يذهبُ الجميعُ رجالاً ونساءً للعمل في حقول القطنِ، حتى الأطفالُ الرضّع يحملونهم بسلال القصب مع "زوّدات" الطعام، ويتركون نورا وديعةً لديّ مع الكثير من الوصايا الحازمة من جدّي الذي لا ينسى أبداً أنْ يختتمَ وصاياهُ بالجملة التي لا تتغيّر: "حطّها بعينك. هي عروسك في المستقبل" فأنْقهرُ وأخجلُ، وتبدأُ هي بالدلال: "دخيلكْ اسحبْ فراشي عن الشمس". "دخيلكْ اعْطني حسوةَ ماء". "أعطني رغيف خبز"... في البداية كنتُ أُراعيها خشيةً من قسوةِ جدّي الذي لم يتركْ طبيباً إلا وعرضها عليه. كلّ الأطباء أجمعوا أن أعصابَها سليمةٌ وأنّ الأمر غير مفسّرٍ إلا بالصدمة التي تعرضتْ لها. شيئاً فشيئاً رحتُ أكرهُها، وأتحيّنُ الفرصَ كيْ أنتقمَ منها. ما إن يغيبوا بعيداً بين شجيراتِ القطن حتى أقومُ بتعذيبها. أسحبُ فراشَها من الظلّ إلى الشمس. أشعلُ عود قطنٍ وأنفخُ عليه وأُقرّبه من عينيها فتشرعُ هي بالزحفِ متراجعةً على مؤخّرتها، وتحوَلُّ عيناها، وتصرخ: يا جدي ياجدي,,, يريد أن يحرقني...
وعندما يعودون تبدأُ بالشكوى والولولةِ التي تجدُ دائماً صداها لدى جدّي.
مرّةً ارتقيتُ شجرةَ التوتِ الضخمة، ومن الأعلى تفنّنتُ في إزعاجِها. أقتربُ منها وأنا متعلقٌ بغصنٍ وتحتي غصنٌ إلى أن يمسَّ الغصنُ السفلي رأسها، عندها أشرعُ بالقفزِ فوق الغصن مثل قرد، والأوراق والفروع الصغيرة تتلاعب، وتخمشُ، وتتعلّقُ بشعرها، بينما هي تستعطفُني وتبكي، ثمّ تهددني بجدي وتبكي، وأنا أزداد انتقاماً. يا حدي. يا جدي. وأنا أكزّ على أسناني وأتقافزُ فوق الأغصان، وللأوراق حفيفٌ، وثمارُ التوت تتساقطُ على فراشها. ياجدّي. يا جدي.
لمّا شكتْني إلى جدّي زادتْ كذباً: "يا جدّي ركب على الشجرة... و.... من فوق بلّل ثيابي!". الكذّابة! صحيحٌ أنني فعلتُها من فوق الشجرة، لكنْ من الناحية الأخرى بعيداً عنها حيث تتطاولُ الأغصانُ لتصلَ إلى أوّل أشجارِ الرّمان. صرخَ جدّي غاضباً: "تعال يا جرو... كلّه إلا قلّة الأدب!". أردتُّ أن أكذّبُها، لكنّ خوفي ربطَ لساني. يومها رأيتُ جدي يومئُ نحو أعمامي وزوجاتهم وإلى أمّي بإشارات تعني إنه لا يريد لأحدٍ أن يتدخّل. ربطني إلى جذعِ شجرة التوت بحبلٍ وهو يقول بصوتٍ عالٍ: مَنْ يفكُّهُ أو يعطيه ماءً قبل الصباح سأربطُه بدلاً عنه. تخيّلتُني طوالَ الليلِ مَربُوطاً إلى الشجرة والدنيا ظلامٌ والكلابُ تعوي من بعيد، ونظرتُ إلى أمّي وهي تكادُ تجهشُ في البكاء، فبكيت بكاءً مرّاً صار بعيد قليل جعيراً، وأحسستُ أنني سأتبوّلُ على نفسي بعد لحظاتٍ... حينذاك رأف جدّي بي وضمّني وعيناه تغرورقان بدموع لم يرد لها أنْ تسقطَ، ومع ذلك حذّرني: " ابنة عمّك... ما لها غيرك... سيحرقُك اللهُ بنار جهنم إن فعلت مرة أخرى ما فعلت". أردتُ أن أحلفَ أنني كنتُ بعيداً عنها، لكنّ الكلام غابَ عنّي كما لو كنتُ أخرساً.
فجأةً... وبعد أيامٍ من ربطي إلى شجرةِ التوت ظهرَ لنا "عثمانُ" المهبولُ قادماً من البعيد وهو يتمايلُ بمشْيتِهِ اللولبيّة. قلتُ مُتظاهراً بالخوف "جاء عثمان المهبول. سيقتلُنا ويلقي بنا في البئر". نظرتُ بطرفِ عيني، ورأيتُ الخوفَ يتملّكُها. زدت " أنا سأهربُ وأتركك وحدك". تشبّثتْ بثوبي وهي تصرخ "لا. لا... دخيلكْ.... أبوس رجلكْ". عثمانُ رجلٌ درويش مشوّه الساقين و القدمين. ينترُ قدميْهِ في المشي كما لو أنّه ينتشلُهما من الطين، وفمُهُ مائلٌ إلى جهةً يسيلُ منها لعابٌ دائمُ الجريان، وصوتُه يحمحمُ كما لو أنِه يحملُ حملاً ثقيلاً. كان يتقدّمُ نحونا بصورتِهِ هذه، عندما التقطتُ حجراً وقذفتُه نحوه، وفي الوقت نفسه تملّصتُ من نورا، وانْطلقتُ راكضاً وأنا أسمعُ خلفي خفقَ الأقدام وحفيف الثياب بأوراقِ شجيرات القطن. لم أكن خائفاً في البداية، لكنّ استمرارَ الصخب خلفي جلب لي الخوفَ، وبتُّ أحسُّ بعثمان وركضِهِ المتعثّرِ يكادُ يدهمني ويقبضُ عليّ.
المفاجأة كانت أنني رأيتُ نورا، وأنا أرتفع إلى كتفيْ جدي، تركضُ وتلفتُ إلى الخلف، بينما الجميعُ يهلّلون ويركضون نحوها. وعثمان المهبولُ من بعيدٍ يشيرُ أيضاً بأيدٍ مجنونة فَرِحَة... لم أدركْ، إلى أن درستُ الطبّ، أنّ نورا كانت مُصابةٌ بشلل هستريائي زال فجأةً بسبب الرعبِ الشديد من عثمان!



#محمد_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -خالي- المصابُ بضخامة البروستات
- عمليّةٌ قيْصريّة في غرفة الغسيل
- أنا صوابي براسي
- حكاية من حكاية
- في أول صندوق زبالة
- هناك في الأسفل
- أنا والأفاعي
- حتى تقطيع الخبز
- الحشوة
- غيبهم الزمنُ
- المثقف التقليد، الذي هو أنا
- حكاية. مطر دث
- هل هزمت الثورةُ السورية فعلاً؟
- الشوايا
- بين العاصمة أوسلو ومدينتنا
- لومٌ من بعض الأصدقاء الأكراد
- ملحمة حلب الكبرى أم هي ابراهيم اليوسف
- الساروت والعرعور. جرس إنذار عالي الصوت.
- وحدة المعارضة السورية بين الجهود والتمترس
- لماذا يُنتقد المجلسُ الوطني؟


المزيد.....




- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
- أفلام فلسطينية ومصرية ولبنانية تنافس في -نصف شهر المخرجين- ب ...
- -يونيسكو-ضيفة شرف المعرض  الدولي للنشر والكتاب بالرباط


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الحاج صالح - نُورا