أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث حضارة عصر الرأسمالية















المزيد.....


من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث حضارة عصر الرأسمالية


عبدالله اوجلان

الحوار المتمدن-العدد: 1545 - 2006 / 5 / 9 - 10:18
المحور: القضية الكردية
    


إن المجتمعية " ظاهرة التحول إلى مجتمع" هي محصلة تراكم مجموعة قوى وتحولها إلى مصطلح في أعلى المستويات، لابد من تحليل هذا المصطلح. كيف يتجرأ الإنسان الذي يعتبر أضعف حيوان، على أن يصبح حاكماً لسائر قوى الطبيعة..؟ جواب هذا السؤال يكمن في المجتمعية، والسؤال الأهم هو: ما نوع الظاهرة التي تجعل المجتمع يقوّي الفرد الى هذا المستوى..؟ نجد في الطبيعة الكثير من المجموعات الحية منها أو الجامدة تتواجد في حيّز واحد. ولا يمكن الاستغراب من تواجد البشر على شكل مجموعات فيزيائية في حيّز واحد. لكن الشيء الذي يجب استغرابه هو: إن جميع المجموعات ـ عدا الإنسان ـ تخلق من ضمنها عناصراً يتميزون عنها بالقوة، ويكون كل واحد منهم على طبيعته، والتحول إلى مجموعات لا يخلق تمييزاً فيما بينها. فذرة الهيدروجين هي نفسها في كل مكان، والعشب في كل مكان يكون عشباً. والنمل هي هي، ونحن هنا لا نناقش الاختلافات الناجمة عن التطور الطبيعي، رغم أننا ندرك التفاوت الناجم عن الطبيعة بين أفراد المجموعات. ومهما تذكرنا هذه الخصوصيات فإنه لا يصح تشبيهها بالمجتمع الإنساني، فالخصوصية المجتمعية بذاتها تتضمن اختلافاً نوعياً كبيراً، فهي قبل أي شيء آخر خلاّقة إلى أبعد الحدود، ونستطيع بكل سهولة أدراك عدم وجود إبداع متطور لدى أية مجموعة حية بدءاً من النمل ووصولاً إلى القرود، بينما المجتمع الإنساني فإنه يكتسب تطوراً طردياً في الخلاّقية والإبداع في كل زمان.
أما السؤال الثالث الهام فيتمحور حول أولوية الفرد والمجتمع، فإلى أي مدى تكون المجتمعية في صالح الفرد، ومتى تنقلب ضده..؟ وعلى العكس إلى أي مدى تكون الفردية في خدمة المجتمع وضرورية له، وأين وكم تلحق الضرر بالمجتمع..؟ من الضروري تحليل العلاقة بي الفرد والمجتمع بشكل صحيح، ولا يمكن إلا أن نحتار أمام جهل الإنسان بمسألة مصيرية وتزوده بمعلومات محدودة ومليئة بالنواقص، وهذه تعد مشكلة على صعيد الاستقلال الذاتي للإنسان أو انفصاله أو اتحاده مع المجتمع، فتلك هي قضية تتطلب التحليل.
عندما نقوم بتعريف المجتمع الرأسمالي كمصطلح رئيسي، فمن الأهمية بمكان أن نقوم بتوجيه هذه الأسئلة الثلاثة، ودون التوصل إلى الإجابات الصحيحة سيبقى تعريف الرأسمالية سطحياً، وبناءً عليه ستتضمن كل جهود الاصطلاح والتنظير سلسلة من النواقص والضيق. وانطلاقاً من هذه الحقيقة فإنه بمقدار تحليل المجتمعية والقوة الناجمة عنها، و بمقدار تحقيق استمرارية هذه القوة وإبداعاتها المتزايدة، وادراك ما يكسبه الفرد وما يخسره من المجتمعية بشكل صحيح ومؤثر، نستطيع التوصل إلى تعريف صحيح للفردية في المجتمع الرأسمالي.
لقد اتضحت عدم كفاية التحليلات الاشتراكية التي جرت كتيار معارض ويدعي العلمية إلى حد كبير حول الرأسمالية. فالهزائم التي عاشتها الاشتراكية لم تنجم عن عدم عدالتها، بل لأنها لم تكن علمية بما فيها الكفاية، وبقيت تحليلاتها بعيدة عن استيعاب المجتمع بشكل عام، وبشكل خاص ثنائية الفرد ـ المجتمع، ولم تتمكن من تحطيم تفوق المجتمع الرأسمالي على المجتمع الاشتراكي، ولا تفوق الفرد الرأسمالي على الفرد الاشتراكي، حيث لعب نقص الوعي الصحيح والتخلف القائم دوراً أساسياً في الوضع.
يتطلب تاريخ المجتمعية استيعاباً رهيباً للفرد، وعندما نقول رهيباً لا نقصد الممارسات القمعية الفظيعة فقط، بل جوانبها الإيجابية والجذابة والممارسات الصحيحة بشكل متداخل ببعضه البعض. وما يمكن ملاحظته في تكوين المجتمع هو تأهيل الفرد عن طريق الترغيب والترهيب لإعداده الفرد من أجل العضوية. وهذا نضال لا هوادة فيه، فإذا لم يتم تلبية متطلباته سيتم التعرض لخسائر كثيرة الجوانب وعلى رأسها الموت. والأصح أن العيش يصبح ممكناً فقط بتلبية متطلبات العضوية في التجمع المعني، فإذا لم تجرِ تلبية ذلك حينها يصبح العيش مستحيلاً. ولا يستطيع الإنسان كأضعف حيوان أن ينقذ نفسه من الإبادة. إن فرخ أي طائر يستطيع أن يطير ويعيش خلال خمسة عشر يوماً، أما بالنسبة لصغير الإنسان، فلا تقل هذه الفترة عن عشر سنوات، وإذا ترك صغير الإنسان وحيداً سنراه أعجز في عقله عن ذلك الطير، وما ان يغدو عضواً في تجمع صغير للقبائل البدائية، يصبح قادراً على لعب دور الملكية على عالم الحيوان بمجمله. وبالنظر إلى هذا الوضع يمكن التعرف على مدى القوة الساحرة الخارقة التي يستمدها الإنسان من المجتمعية، و التي يجري التعبير عنها بمصطلحات الدين والإله في أشكال الفكر البدائي، أي ان ظهور الدين ومصطلحه الأساسي الإله، هي أول هوية اجتماعية للقوة المجتمعية الساحرة الخارقة، بل إن المجتمعية هي الألوهية بذاتها أو هي الانعكاس المادي لها، ولا يمكن الحديث عن انعكاس سلبي لهذا الموضوع، فالقوة التي ظهرت هي من المزايا التي تتميز بها الألوهية حقاً والتي تنم عن توفر الإمكانيات لكل أشكال الإبداع، فما الذي بقي ولم تخلقه المجتمعية..؟ قد يقال ان الإنسان لا يخلق من العدم، ولكن إذا عرفنا أنه لم يتأكد خلق شيء من العدم، عندها نستطيع فهم ألوهية الخلاّقية الاجتماعية بشكل أفضل.
وهذا يعني أنه بمقدار فهم القوة الكبيرة التي تمنحها المجتمعية، يتم تحميلها بشكل متزايد، وبذلك ينقذ نفسه من أن يكون من بين زواحف الطبيعة أو مخلوقا سلبياً فيها، أي كلما تطورت المجتمعية يتحول الإنسان إلى قوة حاكمة على كل الظواهر في الطبيعة، ولهذا نجد في المراحل البدائية للتاريخ مجتمعية متطرفة، تبدأ من شكل أدنى إلى شكل أعلى، وتتحقق القفزات من جزء إلى آخر باستمرار، ويتم التجاوب بتكوين الأشكال الاجتماعية اللازمة حسب المتطلبات وتجاوز العقبات والمشاكل التي تظهر. فرغم حدوث بعض الانقطاع والانقسام والإبادة، إلا أنها لم تكن بالقوة التي تستطيع إيقاف التوجهات واستمرار التعاظم والحصول على المزيد من القوة.
الميول كانت تتجه نحو الحصول وباستمرار على المزيد من القوة، وربما كان من متطلبات التطور الاجتماعي أن يبقى القديم الذي فقد مفعوله على شكل أنقاض أمام الجديد، فالقاعدة الأساسية هي صهر الفرد ضمن المجتمعية، ومع تقوية ظاهرة المجتمع فإن الأعراف المجتمعية تبقى هي السائدة دائماً رغم تناقضات وعلاقات الفرد مع المجتمع، والعرف هو بمثابة القانون للمجتمع، ومع تحول الأعراف إلى تقاليد متصلبة، ستتحول الى موقف مضاد من طاقة ومبادرة الفرد، وبعد مرحلة أخرى يغدو السبيل الوحيد الذي كان يضمن الأمن والحياة للفرد، أي المجتمع وأعرافه، قوة مقيدة تكبل ذلك الفرد.
لكن القواعد الرسمية للدولة جاءت متفوقة على الأعراف في المجتمع الطبقي، فهي تمارس العنف عند الضرورة لضمان الالتزام بها، وارتباط الفرد يتحول إلى شكل من الأسر و العبودية، و لا يعود الارتباط محصوراً في ظروف الإنتاج المادي للمجتمع فقط، بل سيهيمن على العالم الذهني والحسي للأفراد أيضاً، وسيتم مطلقاً قبول الظروف الإيديولوجية والمادية في جميع قطاعات المجتمع بشكل مقدس كانعكاس للنظام الإلهي، وكلما ازدادت إمكانيات الاستغلال الطبقي، ستترسخ علاقات التبعية بالضغوطات المادية والتعذيب من جهة، وبالترهيب المعنوي والميثولوجيات التبشيرية من جهة أخرى. وسيتطور حب الخلاص لدى الفرد وستبدأ مرحلة الهروب نتيجة وصول الثقل الاجتماعي إلى حالة انعدام التوازن، وسيتسارع الانحلال في المجتمع الذي يحاول فرض التبعية والعبودية عن طريق تجمعات جديدة مختلفة. إن الإنسان الذي كان يتحدث عن ألام واهنة في البداية تزداد شكواه، ويتجه نحو التمرد مع مرور الزمن، ويبدأ بالبحث عن إمكانيات المقاومة ضد قوى النظام الرسمي، ويقوم في هذه المرحلة بالبحث عن إله جديد ووحدات مجتمعية في هذه المرحلة بترسيخ الفروقات في الأذهان.
يكون المجتمع المعارض أقرب إلى الفرد، ومرحلة الحرية بإحدى معانيها هي التحرك المجتمعي الجديد، وهو البحث عن هوية إيديولوجية ونظام. فإذا استطاعت الإيديولوجيا والمجتمع الجديدين الاستمرار رغم النظام الذي تعارضه بتجربتها، واستطاعت إثبات إنتاجيتهما تخلقان حينها إمكانية الحلول محل النظام القديم، وسيبرز هذا التيار الذي تطور ضد النظام العبودي سواء كان من قبل الأديان التوحيدية أو على شكل طرق شبه فلسفية دينية، كتيار منقذ كما رأيناه في مثال عيسى المسيح. لقد استيقظ وجدان وذهن الفرد بعد المرحلة الطويلة للمجتمعية، فالتخلص من قيود الأعراف المجتمعية التي استمرت مئات الآلاف من السنين هو اعتراف بتوجه ظاهرة المجتمعية نحو التطرف، ولم يتوقف هذا التيار عند خلقه لنظام المجتمع الإقطاعي، وكان عشق الله والعشق الكلاسيكي في القرون الوسطى، يعبر عن هروب الفرد من المجتمعية المتطرفة وبحثه عن الحرية، ويؤكد البحث الكبير عن العشق، مدى العيش كمحكومين، بالهروب من المجتمع واللجوء إلى الله، على انتظار الخلاص عن طريق عشق الفرد، وسيستمر في هذا البحث الطرائق والفلسفة كجزء من هذه المرحلة، ولا يمكن لجم الفرد المتمرد بسهولة، وإن كانت الوسائل محدودة الأهداف خاطئة.
وعندما ننظر إلى الفردية التي تعتبر إحدى العوامل الأساسية التي خلقت الرأسمالية بهذا المفهوم، سنفهم مدى امتلاك الليبرالية البرجوازية لجذور تاريخية واجتماعية قوية، ونستطيع فهم أسباب عدم تفوق مجتمعية الاشتراكية العلمية أيضاً رغم عدالتها، وستبقى الليبرالية الفردية متفوقة على الاشتراكية طالما واصل المجتمع وجوده كنواة فولاذية، وعندما يتحقق تفتيت نواة المجتمع القديم، ستظهر الظروف التي تتيح إمكانية بناء توازن مثالي في علاقات المجتمع مع الفرد.
نتحدث هنا عن الاتجاهات التاريخية التي خلقت الرأسمالية على مستوى التعريف، ولا شك أن تيار الفردية يأتي على رأس تلك الميول، ويعود سبب استمرار آثاره قوية لمئات الآلاف من السنين، الى المجتمعية المتطرفة التي تم فيها صهر الفرد تقريباً، أما المجتمع فقد كان شبيهاً بنواة ذرة كبيرة ابتلعت الكتروناتها المحيطة بها، وتضخمت وتورمت وباتت نواة ذرة قابلة للانشطار، والفردية تلعب دور الجزيئة التي تقوم بإحداث الانشطار للنواة المنتفخة، وهكذا تشبه الفردية الجزيء الذي يدخل إلى النظام القائم ليتسبب في تفاعلات متسلسلة، وتلعب الفردية دور ذلك الجزيء الذي يسبب انشطار المجتمع القديم المهترئ والمتضخم، وتستمد الرأسمالية قوتها من هذا الانفجار المتولد، وبذلك يفتح الباب أمام نتائج تاريخية عظيمة.
إن الرأسمالية تستمد قوتها وطاقتها أساساً من صراع المجتمع الذي تعاظم وكبر على مدى مئات الآلاف من السنين، مع الفرد الذي تسبب في انشطار المجتمع. وهنا يكمن سر هذه الخلاّقية. ويمكن أن نفهم بإضطراد أن الاشتراكية العلمية كانت ضيقة التفكير حيال هذا الموضوع، وبخلقها لمجتمع يشبه المجتمع القديم كثيراً، لا بل أكثر منه صرامة غدت تتناقض مع ميول الحرية التي ادعتها بشدة.
إن تعريف ولادة المجتمع الرأسمالي والميول الفردية حسب الزمان والمكان يكتسب أهمية أكبر. فمثلما لا يمكن التفكير في مادة ما دون بعدي الزمان والمكان، والمجتمع أيضاً كظاهرة مادية يرتبط بقوة بعاملي الزمان والمكان، فأي تكوين اجتماعي لم ينته زمنه لا يمكن أن يزول. ولا يزول إلا بالوصول إلى تكوين المجتمع الذي سيخلفه، وعندها يكون قد حقق إمكانية التخطي اللازم، ودون تأمين ذلك لا يمكن تحقيق التحول، وحينها تولد ظروف الانصهار أو التشتت مما يعني نهاية حياته، أما إذا كانت مقاومته ناجحة فإنه سيستمر وسيدخل مرحلة التطور الطبيعي. لكن إذا فشل في ذلك سيخرج من كونه يمثل ذاته، والزمن الطبيعي للمجتمع يبقى مستمراً ما دامت التشكلات الطبيعية تتعاقب فيه، وبالنتيجة نرى أن المجتمع الناجح هو الذي يستطيع الوصول إلى روح الزمن، ويقوم بتحقيق متطلباته، وبناءً عليه فلا يمكن أن يتحقق القفز في تكوين المجتمعات من القبلية البدائية إلى الرأسمالية مطلقاً، فحتى لو تكاملت بعض القبائل البدائية مع الرأسمالية، فذلك لا يعني تخطي الأنظمة العبودية والإقطاعية الباقية في الوسط، بل على العكس تماماً، لأن هذه الأنظمة قد ملأت روح زمانها بشكل كامل وتركت مكانها للرأسمالية، فالأشكال القديمة ستستوعب من قبل الحديثة، ولا تستطيع الأنظمة القديمة حينها أن تتبع التسلسل الطبيعي المطلوب، وهنا يكمن الفرق بين التكوين والاستوعاب. ولا يستطيع أي تشكل مجتمعي الوصول إلى النضوج اللازم بهويته ما لم يعش روح زمانه. وفي هذه الحالة لا يمكن أن يتشكّل المجتمع الرأسمالي إلا نتيجة للتكوينات المجتمعية التي تعاقبت بالتسلسل، ليتحقق المجتمع الرأسمالي كحلقة نهائية لهذا التشكل، أينما عاشت وإلى متى استمرت الحلقات السابقة فالنتيجة تكون أن الرأسمالية هي الحلقة الأخيرة، حيث يستحيل التهرب من عامل الزمن كما أكدنا سابقاً، ومثلما لا توجد مادة بدون زمن، لا يمكن للأنظمة أيضاً أن تتشكل بدون زمن، ولا يمكن ضمها وإضافتها إلى بعضها.
يكتسب تقييمنا هذا أهمية كبيرة من زاوية أنه يتم تقديم الرأسمالية الأوروبية إلى الإنسانية كنمط اجتماعي ظهر في القارة الأوروبية مثلما ينبت الفطر من تلقاء ذاته، إذ تقوم الهيمنة الإيديولوجية الإمبريالية بمغالطة وتحريف علمي كبير في هذه النقطة بالذات، وتجري محاولة فرض أوروبا كنظام لا مثيل له ولا يمكن الوصول إليه، وليس مداناً لأحد وسيبقى مستمراً إلى الأبد، وكل المجتمعات التي تميزت بالشخصية الإمبريالية تبنت مواقف مشابهة دائماً عبر التاريخ، وكأن كل شيء يبدأ بها، وتجعل نفسها المركز الأساسي لكل شيء، وما الآخرون فما هم بنظرهم إلا إضافات أو امتدادات بسيطة لها بنظرها، هذه الرؤية تجعل التاريخ المجتمعي مبهماً، فرغم كل الطموحات العلمية فان وعي المجتمع لا يعتمد على مفهوم صحيح للتاريخ في يومنا هذا، وهذا يعني عدم تطور علم المجتمع بشكل صحيح، وككل ظواهر الطبيعة فلا ظاهرة بدون زمان، كلها تحمل آثار تاريخ الطبيعة، ويمكن الاستدلال على مدى وكيفية تكوينها بالتاريخ أي بالزمن، فلكل ظاهرة زمانها، ابتداءً من انفجار مجرة سماوية وصولاً إلى ولادة صوص دجاج من البيضة، ونظراً لأن المجتمعية هي ظاهرة مادية فهي مرتبطة بتكوين زمني، ولا بد من وجود تاريخ مجتمعي جاد حول: مكان تشكلها والمدة التي استغرقتها وما هي خصائص تكوينها، وأولوياتها ونتائجها، فعندما يتم طرح كل ذلك بشكل صحيح حينها يمكننا التحدث عن علم مجتمعي صحيح، وبناءً عليه يمكن الادعاء بأنه قد اكتسب الحق في أن يكون علماً مجتمعياً.
ويمكن تطوير تقييم مشابه بصدد البعد المكاني للمجتمعية، فالتشكل الاجتماعي يرتبط بالظروف المكانية إلى درجة وثيقة، وقبل كل شيء فإن الظروف الفيزيائية العامة التي يمكن أن يستند إليها النوع البشري هي الأساس، وإذا لم يتمكن الإنسان من العيش في القطب المتجمد أو الصحراء، فلا يمكن قط تكوين أشكال مجتمعية هناك، والأهم من ذلك، تستطيع التشكيلات المجتمعية الأولية التطور في المكان الذي تتوفر فيه ظروف الصيد والتجميع، ولا يمكن أن يتكون أي تشكل مجتمعي في المكان الذي لا يتوفر فيه ذلك، فالتشكل المجتمعي الأرقى كالمجتمع النيوليثي ظهر في الأماكن التي تتطور فيها النباتات المناسبة للزراعة بشكل طبيعي، وترويض الحيوانات، و بنفس الوقت يتطلب هنا وجود مجتمعات تعيش على الصيد، وتجمع النباتات كشرط أولي لذلك. أما الحقيقة الأخرى فإن كل هذه الظروف الأولية لا تتوفر إلا في أماكن محددة، فبدون تحقيق المرحلة النيوليثية التي تشكل حلقة كبيرة لا يمكن بدونها العبور إلى شكل المجتمع الطبقي، و يظهر التاريخ أن المجتمع القروي الذي تحقق في أودية دجلة والفرات والقوس الداخلي لطوروس وزاغروس، شكّل خطوة متطورة نحو ثورة المدن التي ترتبط بها ارتباطاً وثيقاً، لكن الحوض الأسفل لدجلة والفرات كان يمتلك إمكانات الري بالإضافة إلى بنية تربتها الخصبة، فكان المكان مناسب لثورة المدن، والتي تحققت هناك أولاً، فقد بدأت علاقات السلسلة الاجتماعية تدخل شكلاً أكثر تقارباً، حيث يتم العبور إلى تكوين المجتمع العبودي الطبقي بدلاً من المجتمع النيوليثي وسط ترابط ديالكتيكي للتكوين الجديد الذي يشكّل أحد الحلقات الأساسية أيضاً، فهذا التشكّل الجديد يتعايش مع ذاته وفي البعد المكاني على أوسع نطاق حتى يتعرض بتناقضاته الداخلية في نفس المكان إلى شكل اجتماعي جديد انطلاقاً من الخصوصيات التي طبعت تلك المرحلة بطابعها.
يجب التفريق بين الرئيسي والثانوي في أية ظاهرة مجتمعية، ويجب أن نعلم أن المركز الطليعي وأطرافه يشكلان تطوراً ضمن التكامل الديالكتيكي، ويجب استيعاب هذه الحقيقة التي تشكل قاعدة عامة في التشكلات الاجتماعية، وبدون ملاحظة أبعاد الزمان والمكان لا يمكن فهم هذه الحقيقة، فعلى الرغم من أن هذه هي الحقيقة، فإن قوة بعض المجتمعات على إظهار هويتها الإيديولوجية ـ لتي هي خصوصية عامة ـ على أنها أصيلة ومختلفة هي من الأسباب الرئيسية التي تعرقل السرد التاريخي بشكل صحيح، وبذلك تصبح المركزية الذاتية هدفاً للحرب الإيديولوجية، مما يدفعها إلى تضخيم نفسها وتنكر ما هو خارج عنها وتعتبر ذلك تفوقاً، وتعتقد أنها تحقق النجاح بمقدار ما تستطيع تحريف الحقائق، وقد استخدمت التشكيلات الاجتماعية منذ العصور الأولى وحتى يومنا هذا، هذه الوسيلة لأجل إعاشة نفسها، ففي الطوطمية، وترى كل مجموعة بأن الصنم الذي تعبده هو الأثمن والأغلى، ورغم أنها تلعب نفس الدور جوهرياً فان ذلك وصل إلى خطوة متقدمة مع الميثولوجيا، لأنها بذلك تستطيع ان تكتسب صلاحيات تمثل الآلهة التي تجلس في السموات، ونظراً لأن المدن هي مراكز اجتماعية مهمة ستظهر فيها الإله الحامي القوي للمدينة، ولتتحقق المركزية في النظام لابد من توحيد كثير من المدن، مما يدعو إلى ولادة مركزية بين الآلهة أيضاً، وبذلك يمكن الوصول إلى إمبراطورية كونية وهذا ما يهيأ الأرضية سياسياً للإله الواحد، أي ملك واحد على الأرض وإله واحد في السماء، وهذه الفكرة تبدأ باحتلال مكانها في الأذهان، ولما كان التطور على هذا النحو فإن المقاومات تبدأ داخل المجتمع الطبقي وخارجه لمناهضة هذا التوجه رغبة للاستمرار في تطوير تقاليدها ورموزها الخاصة بها ضمن علاقة الفعل ورد الفعل، وتستمر تطورات مشابهة في علاقات الإنتاج المادية، والتاريخ الإنساني بكل هذه الجوانب يشبه نهراً كبيراً تتوحد فيه كل الروافد ليستمر في تدفقه، والتاريخ يشبه قوة التدفق هذه في النهر، له مكان وزمان، وسيرغم على التجديد الذي يتناسب مع تدفقه من حيث الأرضية المناسبة والزمان المناسب والساحة المناسبة واللحظة المناسبة ليبقى مستمراً.
مثلماً لا يمكن للتيار ان يجري باتجاه قمة الجبل، فلا مفر من جريانه في الاتجاه المناسب له، بعد اكتساب قوة دفع، وهذا قانون فيزيائي، وفي البنى الاجتماعية أيضاً هناك نفس القانون ولكن وفق خصوصياتها. إن التاريخ الاجتماعي عضوية حية تمتلك القدرة على مواصلة طريقها كنهر عبر توحيد كل الروافد التي يمكنها التزود بها، وهي ظاهرة لها ذاكرة وأحلام وعقل وإرادة، والقضية هي تحديد المكان والزمان والمسافة التي تقطعها الروافد الأساسية للجريان وقوتها، والوصول إلى الوعي التاريخي الصحيح. ما نحاول القيام به هنا هو التأكيد على أن المفاهيم التي يتم فرضها على الإنسانية على أنها تاريخ صحيح ما هي إلا قسر إيديولوجي كبير يتناسى الشعوب والكادحين الذين قاموا بالمشاركة في خلق هذه القيم، وهو ما يؤثر على التاريخ سلباً، وبهذا المعنى نؤكد على أنه لا يمكن أن يكون تاريخاً صحيحاً، لذا فإن كتابة التاريخ تشكل أهم قضية علمية جادة في يومنا.
تظهر المراكز الإيديولوجية الطليعية للمجتمع الرأسمالي صاحبة الدور الأكبر في تطور العلوم، أهمية كبرى من أجل الإقناع بالتحريفات التي تنسينا البحث في تحريفات الماضي عند صياغة التاريخ. وكأن العصر النيوليثي الذي كان مركزه الهلال الخصيب والذي لعب دوراً طليعياً استمر عشرة آلاف سنة لم يقدم شيئاً للإنسانية، ولم يلعب دوراً في التاريخ الأوروبي والتطور المجتمعي الأوروبي، رغم أننا نعلم تماماً أنه ما كان بالإمكان الحديث عن الإنسانية وتطورها لولا وجود مبدعين في العصر النيوليثي، هؤلاء هم الذين أنشؤوا القرى السكنية وهم أول من طوروا الزراعة وتربية الماشية، ونشروها في جميع أنحاء العالم، فتطور المجتمع النيوليثي هو الذي مهد السبيل امام ظهور المجتمع الطبقي وكل حضارة العصر العبودي التي بدأت مع السومريين. ولا يمكن كتابة التاريخ دون اخذ ذلك بعين الاعتبار، فالأنشطة الخلاقة لهذه المرحلة و التي استمرت آلاف السنين تمتلك حصة أساسية في تكوين الخريطة الوراثية للإنسانية.
الحضارة الإغريقية الرومانية التي تمثل أساس الحضارة الأوروبية، وتمثل مرحلة الذروة للحضارة السومرية والمصرية، ومن هنا يتضح أن جميع التطورات التاريخية تؤكد أنه لا يمكن أن تتشكل هذه الحضارة بمفردها، فجميع الوسائل الحضارية الأساسية ابتداءً من المحراث إلى العجلات، ومن الكتابة إلى الرياضيات ومن الحديد إلى النحاس، ومن الزجاج إلى النسيج ومن الطاحونة اليدوية إلى طاحونة الماء، ومن أنواع النباتات الأساسية إلى استئناس الحيوانات، ومن العمارة إلى النحت ومن الشعر إلى الموسيقى ومن الميثولوجيا إلى الأديان التوحيدية، قد تم خلقها استناداً إلى الثورة النيوليثية للهلال الخصيب وللمصريين والسومريين، وتم استيعابها ونقلها بالطرق التي أثبتها التاريخ. و هذا النقل لم يتم فقط بوصول النظام النيوليثي إلى أوروبا في الألفية الخامسة قبل الميلاد، بل استمر نقلها حتى أعوام 1500 م، ولأخر مرة عن طريق قيم الحضارة الإسلامية، ويدخل في إطار هذا النقل الأشكال الذاتية للمجتمع حتى القيم الثقافية للبنية الفوقية والتحتية، حيث ان أوروبا لم تكن قد تخلصت من نمط حياة المجتمعات المتوحشة عندما تم نقل تلك القيم إليها.
إن هذا الشرح المقتضب يثبت أن أموراً عديدة استندت إليها الحضارة الأوربية ابتداءً من وسائل الإنتاج، وحتى أشكال الذهنية الأساسية وقيمها المعنوية و معتقداتها، قد تم تكوينها في ظروف مكانية وزمانية مختلفة. فالأبعاد المكانية والزمانية للحضارة هي قوة كبيرة لنقل القيم المتراكمة كالحبل الفولاذي الذي لا ينقطع ويمتلك خاصة التجديد في داخله، وإذا عبرنا عن ذلك بلغة ميثولوجية فإنها قوة إلهية.
إن التحديد الصحيح للقيم الحضارية السابقة التي أعدت ظروف خلق الحضارة الرأسمالية، منهج صحيح ليس فقط من زاوية علوم التاريخ الصحيحة، بل من زاوية حساب ما رفد نهر الحضارة الأوروبية من قيم ومعرفة، وسيكون تطوير تحليلاتنا ضمن هذا النهج مفيداً وذا قيمة تعليمية.



#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الخضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...


المزيد.....




- الأمم المتحدة تطالب بإيصال المساعدات برّاً لأكثر من مليون شخ ...
- -الأونروا- تعلن عن استشهاد 13750 طفلا في العدوان الصهيوني عل ...
- اليابان تعلن اعتزامها استئناف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئي ...
- الأمم المتحدة: أكثر من 1.1 مليون شخص في غزة يواجهون انعدام ا ...
- -الأونروا-: الحرب الإسرائيلية على غزة تسببت بمقتل 13750 طفلا ...
- آلاف الأردنيين يتظاهرون بمحيط السفارة الإسرائيلية تنديدا بال ...
- مشاهد لإعدام الاحتلال مدنيين فلسطينيين أثناء محاولتهم العودة ...
- محكمة العدل الدولية تصدر-إجراءات إضافية- ضد إسرائيل جراء الم ...
- انتقاد أممي لتقييد إسرائيل عمل الأونروا ودول تدفع مساهماتها ...
- محكمة العدل تأمر إسرائيل بإدخال المساعدات لغزة دون معوقات


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث حضارة عصر الرأسمالية