أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود الصباغ - البحث عن إسرءيل: مناظرات حول الآثار و تاريخ إسرءيل القديمة(6)















المزيد.....



البحث عن إسرءيل: مناظرات حول الآثار و تاريخ إسرءيل القديمة(6)


محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)


الحوار المتمدن-العدد: 6230 - 2019 / 5 / 15 - 23:36
المحور: القضية الفلسطينية
    


مملكتي إسرءيل ويهوذا :اسرائيل فنكلستين
أود في هذا الفصل التعامل بإيجاز مع أربع حلقات من تاريخ إسرءيل. على الرغم من أنها تغطي فترات زمنية مختلفة-من القرن العاشر ق.م إلى أواخر القرن الثامن ق.م-،وعلى الرغم من أنها وقعت في مناطق مختلفة من أراضي إسرءيل ويهوذا فهي في مجملها مرتبطة بعضها ببعض في سلسلة من الأحداث وذات أهمية حاسمة لفهم تاريخ مملكتي إسرءيل و يهوذا.
إن لم يكن هناك مملكة عظيمة متحدة في أيام داود و سليمان، فما هي طبيعة الكيان الإقليمي الإسرءيلي الأول في المرتفعات الشمالية؟ تظهر أنماط الإستيطان في المرتفعات في أواخر العصر الحديدي الأول(أواخر القرن الحادي عشر و معظم القرن العاشر) تراتبية توطنية أكثر تقدما و تشي بإنتاج اقتصادي أكثر تطورا، التي يمكن تحديدها في عدد متزايد من المواقع من خلال زراعة البستنة في المرتفعات, وذلك على نقيض الفترات السابقة. غير أنه لا يوجد أي دليل مباشر في السجل الأثري على وجود تنظيم سياسي في المرتفعات. و ثمة ظاهرة تبين أحد أبرز الخصائص الأكثر وضوحا لمواقع العصر الحديدي الأول في المرتفعات هو بقاؤها مأهولة دون انقطاع في معظمها- أكثر من 90 % من حوالي 250 من المواقع التي تم تسجيلها-في العصر الحديدي الثاني.الاستثناء الوحيد لهذه الظاهرة يتمثل في مجموع المواقع المهجورة في أواخر العصر الحديدي الأول و أوائل العصر الحديدي الثاني، وهذا يعني أنه ومنذ منتصف القرن الى أواخر القرن العاشر ق.م وجدت هذه المواقع في منطقة تقع شمال أورشليم مباشرة قرب جبعون و بيتئيل, وهو المكان عينه الذي ذكرته قائمة المستوطنات التي استولى عليها الفرعون شيشنق الأول في حملته على فلسطين في النصف الثاني من القرن العاشر ق.م . وعلى النقيض من تركيز المواقع في هذه المنطقة،فثمة أجزاء من مواقع المرتفعات مفقودة من القائمة. وأخص بالذكر هنا أورشليم و منطقة الهضاب و جنوبها, يستثنى منها موقع واحد ربما, يقع شمال السامرة- المنطقة ذات الكثافة السكانية الأكثر في منطقة الهضاب في العصر الحديدي الأول. أحجم فراعنة مصر في فترة الدولة الحديثة عن اختراق منطقة الهضاب من مرتفعات كنعان ذات التضاريس الاستثنائية الوعرة و الكثيفة بالاشجار و المعادية بذات الوقت. لذلك يمكن القول أن مسيرة شيشنق الأول في النصف الثاني من القرن العاشر ق.م ضد شعوب هذه المنطقة تعد استثناءً فضلا عن عدم رجحان أن تكون أورشليم هدفاً للحملة. و بناء على ذلك يحتاج المرء أن يتساءل عما جذب انتباه الفرعون المصري لهذا الجزء البعيد نسبيا من الهضاب الذي لا يتمتع بأهمية جيوسياسية حقيقية؟
الجواب المنطقي الوحيد هو أن المنطقة المحيطة بجبعون كانت محور كيان سياسي إقليمي ناشىء قويا بما يكفي لتهديد المصالح المصرية في المنطقة. وينبغي أن يكون السؤال التالي، هل لدينا أي دليل في المصادر الأدبية من أواخر العصر الحديدي عن بنية إقليمية تتركز في محيط جبعون؟ الدليل الوحيد الممكن هو وصف الكتاب لعهد الملك شاؤول وسلالته. قائمة شيشنق الأول والوصف الكتابي للمشيخة الشاؤولية يشيران إلى ذات الشيىء في منطقة المرتفعات، ويشير كلاهما , بدرجة ليست أقل أهمية,-من بين كل الأماكن-إلى منطقة نهر يبوق[ نهر الزرقاء] في شرق الأردن. فتذكر قائمة شيشنق مجموعة من أربع بلدات تقع على طول نهر يبوق، و هي منطقة لم تكن قط موضع اهتمام ذي بال لفراعنة مصريين آخرين. و من الصعوبة أن يكون مطابقة منطقة جبعون مع نفس هذه المنطقة مجرد مصادفة. فما لدينا هنا هو حالة فريدة حيث" يتكلم الجميع اللغة ذاتها" أي مصدر تاريخي غير كتابي هام و علم الآثار و الكتاب على حد سواء. و لابد لي أن أشير هنا إلى أن التأريخ التقليدي لشيشنق الأول و الملكيات الإسرءيلية المبكرة لا يقف عائقا في وجه مثل هذا الإقتراح.فقائمة شيشنق و الوصف الكتابي للسلالة الشاؤولية قريبان بما يكفي للسماح لوضعهما في النصف الثاني من القرن العاشر ق.م
وربما وضع مؤلف الكتاب حملة شيشنق ( بالنسبة له شيشق) في السنة الخامسة من حكم رحبعام لأسباب لاهوتية، وتحديدا من أجل سلسلة قصصه عن إثمه و عقابه: الملوك الآثمين يذلون بحملات عسكرية من الخصوم الأجانب. وكما سأحاول أن أظهر في ما بعد، ربما تكون التقاليد الشفوية للدولة الشاؤولية التي حفظت في سفر صموئيل،وصلت إلى يهوذا في أواخر القرن الثامن ق.م، بعد سقوط المملكة الشمالية عن طريق اللاجئين الذين يعودون بأصولهم إلى المرتفعات الشمالية لأورشليم- المحور القديم للمشيخة الشاؤولية. وقد تكون الذكريات حول حدود الكيان السياسي الشاؤولي في المرتفعات حفظت في سفر صموئيل الثاني 2 : 9 الذي يرى أن ابنه ايشبوشيث نودي به ملكاً على"جلعاد وعشوريت ويزرعيل وإفرايم وبنيامين وكل إسرائيل " وعادة ما يؤخذ هذا الوصف على أنه ذكرى تاريخية حقيقية لأراضٍ حكمت من قبل الشاؤوليين،ولعل هذا ما يفسر عدم استخدام مصطلحات الملكية المتأخرة وعدم توافق الوصف مع أي واقع تالي في تاريخ إسرءيل. وقد يكون سيطرة الأسرة الشاؤولية على كامل المرتفعات الشمالية بأكملها مع ملحق في هامش وادي يزرعيل سببا وراء اختراق شيشنق الأول للبلاد من منطقة المرتفعات. و ما يوضح صعوبة تفسير الذاكرة عن هذه الأحداث في سفرصموئيل الأول،هو موت شاؤول في معركة في جبل جلبوع وعرض جثته على سور بيت شان، المعقل المصري القديم في الوادي. كما أنه يسلط الضوء من ناحية أخرى على الإشارة الغريبة للفلستيين في معركة جلبوع. لا يمكن لأي جيش فلستي متحد أن يسير إلى بيت شان في أواخر العصر الحديدي الأول . ويحتفظ الكتاب المقدس بذكرى قديمة عن وجود عسكري مصري بمساعدة قوات الدويلات الفلستية. ولكن , وبحلول الوقت الذي دونت فيه هذه المادة، كانت مصر قد انسحبت من كنعان منذ زمن طويل تاركة الفلستيين كواقع تهديد وحيد. وينبغي النظر إلى ظهوركيان إسرءيلي في المرتفعات الشمالية وحملة شوشنق الأول باعتبارهما مؤشرات للتطور الاجتماعي المميز في تاريخ إسرءيل القديمة. بيد أنه سرعان ما انهار هذا الكيان الإسرءيلي المبكر ولم يدم الوجود المصري طويلا. وهذا ما فتح الطريق لبروز كيان إسرءيلي آخر أكثر قوة وتنوعا. ولكن العملية جرت في منطقة المرتفعات إلى الجنوب من منطقة الشاؤوليين.
الدولة العُمْرية في شمال إسرائيل
بلغت المملكة الشمالية اكتمالها الواضح كدولة في أيام حكم الأسرة العُمْرية في أوائل القرن التاسع ق.م. ويشهد على ذلك النص الكتابي وعلم الآثار. يذكر الملك الآشوري شلمنصر الثالث "آخاب الإسرءيلي" كمنافس قوي له في معركة قرقر في غرب سوريا في العام 853 ق.م . ويروي نقش ميشع من القرن التاسع ق.م كيف غزا العمريون أراضي مؤاب، كما يذكر نقش تل دان -الذي كتبه على الأرجح حزائيل ملك دمشق- أن إسرءيل استولت على أراض من آرام في زمن سابق. على الصعيد الأثري، تنعكس مهارات و قوة العُمْريين في العمليات المعمارية التي قاموا بها. فقد بنى العُمْريون قصرين أو ثلاثة قصور حجرية في مجدو. و تم التأكد في السامرة ويزرعيل وحاصور على وجود خصائص مماثلة لتلك العمارة الضخمة و العمليات واسعة من تسوية الموقع و الردم بالأتربة. و يعد قصر السامرة الصرح الأكبر والأكثر إتقانا في العصر الحديدي في المشرق. فلم يكن ظهور إسرءيل في الشمال مجرد بدعة , ويمكن تتبع مؤشرات الإستمرارية في كنعان خلال الألفية الثانية في كل جانب تقريبا من الجوانب الثقافية للمملكة الشمالية. و ما هو أكثر أهمية، أن سامرة القرن الثامن ق.م تماثل ما كانت عليه شكيم في القرن الرابع عشر ق.م، و المتمثل في إقامة دولة إقليمية تضم الهضا و الوديان. و قدقمت أنا و نعمان نداف في الآونة الأخيرة بتعيين أوجه التشابه الوثيقة من الناحية الجغرافية والتاريخية بين محاولات توسع لابايو،حاكم شكيم في عصر العمارنة، وتلك التي قامت بها السلالة العُمْرية في المملكة الشمالية. كانت إسرءيل الشمالية ،دولة متعددة الأوجه وهي بذلك تختلف عن الدولة- "يحمل سمات أقدم من الأمة" أو القبيلة كما وجدنا ذلك لاحقا في يهوذا. وتتألف من النظم الإيكولوجية المختلفة و من سكان غير متجانسين. تشير وفرة الأدلة الأثرية والتاريخية إلى أن تلال السامرة قلب أراضي الدولة و مقر العاصمة كانت مسكونة من قبل لأحفاد سكان رعويين و سكان مستقرين من الألفية الثانية ق.م. في السهول الشمالية من يزرعيل إلى وديان الأردن، ويتألف سكان الريف أساساً من عناصر محلية وعناصر السكان الأصليين، أي الكنعانيين الريفيين. و تؤكد عمليات المسح والتنقيب على حد سواء على استمرارية استيطانية مثيرة في الوديان الشمالية منذ الألفية الثانية وصولاً الى القرن الثامن ق.م. وتتجلى هذا الإستمرارية ثقافياً بشكل رائع في العبادة الشهيرة الموجودة في تعنك، وفي عمارة المواقع الريفية، وفي طبيعة المواقع المركزية مثل مجدو التي ظلت تميز بعض المواصفات لكنعان الألفية الثانية، على الأقل في مخططها .
سعت السلالات المؤسسة للدول الساعية للتوسع الإقليمي في الأراضي المجاورة إلى تثبيت شرعيتها بطرق عدة و هذا ما نلحظه في التنوع الإثني و الحضاري في المملكة الشمالية الذي يتضمن عناصر فينيقية وآرامية في الشمال الغربي والشمال الشرقي، و في حالة السلالة العُمْرية كان لهذا الأمر أهمية خاصة لأنه،ظهرت في الوقت نفسه دولة قوية منافسة في دمشق المجاورة. و ينبغي أن تكون المهمة الأكثر أهمية على أجندة المملكة الإسرءيلية الشمالية متمثلة في ضبط سكان الوادي" الكنعاني"و حدود المناطق الشمالية. في الواقع، أصبحت الوديان الشمالية العمود الفقري للاقتصاد في إسرءيل الشمالية. فالذي يسيطر عليها يمكنه الاستفادة من الإنتاج الزراعي للأودية، والإستفادة من القوى العاملة في الأعمال العسكرية، والسيطرة على بعض الطرق التجارية المهمة في المشرق. و ينبغي أن ينظر في ضوء هذين الموضوعين لعملية بناء مواقع حصينة في وادي يزرعيل في مجدو ويزرعيل،على الحدود مع آرام دمشق في حاصور،و على الحدود مع فيليستيا في جازر،و طبقا لنقش ميشع في مؤاب(وظاهريا و على ما يبدو علم الآثار أيضا) (في ياحاز[ التي هي ربما خربة المدينة الثمد ]) . و تم بناء هذه المواقع الحصينة كمراكز إدارية أو دفاعية للسيطرة على المناطق السكنية "غير الإسرءيلية" في الدولة الحديثة وخدمةً لبروباغاندا و احتياجات الأسرة الحاكمة في المرتفعات. غير أن هذا ليس سوى حلقة قصيرة نسبيا في تاريخ البلاد. فقد تغيرت الظروف السياسية في منتصف القرن التاسع ق.م بصورة كبير, و الإنقطاع القصير بسبب الضغط الآشوري القادم من الغرب، و تنامي مكانة آرام أدى إلى انهيار الدولة العمرية. وهذا بدوره مهد الطريق لصعود أول"دول قومية" حقيقية إلى الجنوب، مملكة يهوذا.
صعود يهوذا و حزائيل ملك دمشق
اختلفت يهوذا عن إسرءيل اختلافا كبيراً، لا سيما في الإحساس بأنها كانت حقيقة دولة قومية متماسكة ديموغرافيا. وكانت التلال الجنوبية بشكل عام و أورشليم بشكل خاص خلال القرن العاشر و أوائل القرن التاسع ق.م لاتزال تتضمن ما يمكن أن نصفه بأنه واقع سياسي و إقليمي و ديموغرافي "شبه عمارني": بمعنى قرية فقيرة نسبيا، حكمت أورشليم مرتفعات جنوبية ذات تعداد سكاني قليل جداً. وقد ظهرت البوادر الأولى لقيام الدولة في يهوذا خلال القرن التاسع -بالتأكيد بالنسبة إلى ما نعرفه عن السلسلة التي كانت سائدة بخصوص العصور البرونزي الحديث-الحديدي الأول-أوائل الحديدي الثاني-. وتأتي معظم الأدلة لهذه المرحلة المبكرة-كما هي تبدو مجزأة- من محيط يهوذا، وهما شفيلة في الغرب ووادي بئر السبع في الجنوب. ففي شفيلة ثمة موقعين يتمتعان لأهمية خاصة وهما لخيش وبيت شيمش. لقد كانت لخيش "المدينة الثانية" في يهوذا، وأهم مركز إداري في منطاق الوديان المنخفضة. وقد أظهرت الحفريات بأن القصر و التحصيانت بنيت أولاً في القرن التاسع ق.م . وكشفت الحفريات الأخيرة في بيت شيمش عن نظام تحصينات واسع و كثيف ومنظومة مياه متقنة. و تبدو الأبنية فيها معاصرة لتحصينات المرحلة الأولى في لخيش. كما تم الكشف عن موقعين يهوذيين في وادي بئر السبع –عراد و بئر السبع- تم تحصينهما أيضا لأول مرة في القرن التاسع . كما يمكنا ملاحظة الإشارات الأولى لأنشطة عمرانية مميزة في أورشليم يبدو أنها تعود للقرن الثامن ق.م . وقد عثر على مجموعتين من الأبنية المتقنة و المعرووفة باسم " المدرجات، المصاطب"، و البناء الحجري المدرج. وشيدت هذه الأبنية على المنحدر الشرقي من مدينة داوود، بالقرب من نبع جيحون، من أجل ترسيخ و تثبيت المنحدر و تسهيل عملية البناء لمبان ضخمة على سلسلة التلال. ويمكن تفسير اللقى الأخيرة من المراحل الأصلية للبناء الحجري المدرج- كنوع من غطاء يلتف حول بعض المصاطب القديمة-، كما عثر على الأواني الفخارية المصقولة الحمراء التي تعود لأوائل العصر الحديدي الثاني. وهذا يعني أن البناء قد شيد خلال القرن التاسع-أو بدايات القرن الثامن ق.م . و هو أبكر بناء مفصل من حتى الآن في القدس. وربما يعود تاريخ ما تبقى من الجدران الأثرية التي اكتشفت مؤخرا من قبل إيلات مزار فوق البناء الحجري المدرج إلى نفس الفترة، على الرغم من أن تاريخا أحدث قد يكون ممكناً .
ما الذي أدى إلى الظهور المفاجئ ليهوذا في القرن التاسع؟
يمكن للعملية أن تكون ابتدأت في وقت مبكر من القرن التاسع، عندما كانت يهوذا تحت السيطرة الإسرءيلية الشمالية. و ينبغي للأسرة العمرية،التي انخرطت في أعمال توسع عسكري في الشرق والشمال الشرقي, أن تكون قد سيطرت على النظام السياسي الهامشي اليهوذي إلى الجنوب منهم. في الواقع, وفي ما يبدو أنها شهادة تاريخية موثوقة، وبشكل غير مباشر تدعم نقش تل دان، يكشف سفر الملوك الثاني أن العمريين حاولوا الإستيلاء على يهوذا، وربما حتى ضمها، وذلك من خلال زواج ملكي "ديبلوماسي" بزواج الأميرة عثليا و الملك الداوودي يهورام. تمكنت إسرءيل لبضعة عقود في النصف الأول من القرن التاسع من إقامة مملكة متحدة فعلية امتدت من دان في الشمال إلى بئر السبع في الجنوب.غير أن هذه المملكة حكمت من السامرة و ليس من أورشليم . ولكن كل هذا تغير مع سقوط العُمْريين تحت ضغط آرام دمشق في أربعينيات القرن التاسع ق.م حين قام حزائيل ملك أرام بغزو المملكة الشمالية، واستعاد أراض في شمال شرق البلاد وفي جلعاد، وتدمير العديد من المراكز الإسرءيلية في الوادي و حصر الملوك الشماليين في إقليم محدود في المرتفعات حول السامرة. ونتيجة لذلك، خفت قبضة المملكة الشمالية عن يهوذا، وعاد يهوىش الذي يزعم أنه داودي إلى السلطة في أورشليم إثر انقلاب هناك, وليس بأقل أهمية من ذلك تلك الأحداث التي وقعت في ذلك الوقت في شفيلة. شن حزائيل حملة عسكرية على السهل الساحلي، وحاصر جت و فتحها. و كشفت الحفريات الأخيرة التي قام بها آرين مائير في تل الصافي في غرب شفيلة-موقع جت القديمة-عن أدلة مثيرة عن هذه الأحداث. كانت جت في القرن التاسع ق.م مدينة ضخمة تمتد على مساحة حوالي أربعين هكتارا. كما تم الكشف عن نظام حصار متطور شمل خندقاً عميقاً من حولها ربما يعود لحزائيل. كشفت الحفريات داخل المدينة عن تعرضها لحريق و دمار تام لم تتعاف منه, و بهذا تكون صورة الوضع كالتالي , في الشمال عانت إسرءيل من ضعف شديد بسبب الإعتداءات الآرامية , بينما في الغرب تعرضت المدينة الفلستية القوت جت للدمار على يد حزائيل , مما أتاح ليهوذا اغتنام هذه الفرصة السانحة في النصف الثاني من القرن التاسع ق.م فتمددت نحو الغرب و بنت مراكز إدارية في لخيش و بيت شيمش . ولكن التغيير الأبرز كان في الجنوب حيث حدث الإنتقال من حالة شبه "عمارنية" إلى دولة إقليمية في تلك الفترة في أعقاب الانهيار المؤقت للمملكة الشمالية و تدمير جت القوية.
يهوذا القفزة العظمى إلى الأمام
استمر الوضع الذي وصفته للتو عن الإشارات الأولى لقيام دولة في يهوذا، خلال بداية القرن الثامن. وبعد عدة عقود، كانت المملكة الجنوبية تعيش حالة ثورة . نمت أورشليم في أواخر القرن الثامن لتكون أكبر مدينة في البلاد بأسرها. وأحيطت بنظام كثيف من التحصينات التي تتألف من جدارين على المنحدر الشرقي من مدينة داود, وجدار بسماكة سبعة أمتار على التلة الغربية. تم تأمين المياه عن طريق نفق سلوان القادم من نبع جيحون إلى بركة تجميع في الطرف الجنوبي من وادي تيربويون الذي يفصل بين تلال مدينة داود من جهة التلة الغربية، وهو الموقع الذي كان أكثر سهولة بالنسبة لسكان العديد من الأحياء في المدينة الجديدة لجهة الغرب. ومن الناحية التفصيلية بدأ ظهور القبور المنحوتة في الصخر ،مما يدل على وجود نخبة ثرية.
في الهضاب الجنوبية، وكذلك في الهضبة إلى الشمال من أورشليم، ازدادت بشكل بشكل مثير أعداد التوطنات والمساحة الإجمالية المبنية والأمر ذاته ينطبق إلى حد كبير على شفيلة ووادي بئر السبع. ووصلت يهوذا في أواخر القرن الثامن إلى ذروة التوسع الإقليمي و السكانيى .و تجلى هذا في التنظيم العالي لبلدات الريف جيدة التخطيط، مثل بئر سبع (السوية الثانية،وتل بيت مسريم (السوية A). و يشار إلى المستوى العالي من التنظيم ليهوذا أواخر القرن الثامن عن طريق خطوط عدة أخرى من المعطيات مثل النقوش الأثرية-في نفق سلوان و على واجهة قبور سلوان- التي ظهرت في هذا الوقت، فضلاً عن العديد من الأختام، و الدمغات وزيادة الكسر الفخارية بشكل كبير, كما تظهر الأوزان الموحدة لأول مرة , وجرار التخزين الملكية [للملك lmlk] كم عثر على دمغات دمغات المسؤولين على بعض الجرار مما يشهد على وجود جهاز بيروقراطي متقدم. وأخيرا، كانت هذه الفترة هي الوقت المناسب لنمو اقتصاد يهوذا بشكل لافت. فقد أنتج الفخار بكثافة للمرة الأولى وانخرطت يهوذا بدرجة كبيرة في إنتاج زيت الزيتون الذي تسيطر عليه الدولة في شفيلة.
و في فترة قصيرة جدا لا تتعدى النصف الثاني من القرن الثامن ق.م نمت يهوذا إلى دولة بيروقراطية للغاية. و يبدو أن اثنين من الأحداث الخطيرة حفزا هذه التطورات. الأول هو دمج المملكة في الاقتصاد الآشوري العالميي، والذي من المفترض أن يكون قد ابتدأ في ثلاثينيات القرن الثامن, في أيام الملك الآشوري تغلات بلصر الثالث و آحاز ملك يهوذا و استمر خلال فترة سقوط المملكة الشمالية 722-720 ق.م, وشاركت يهوذا بدء من 732 ق. م في التجارة العربية بإشراف و هيمنة آشورية. وكان هذا هو السبب الرئيسي لتحقيق إزدهار وادي بئر السبع على طول الطرق القادمة من جزيرة العرب إلى موانىء البحر المتوسط عبر أدوم، والتي كانت هذه التجارة تتحول إلى المخازن التجارية الآشورية. و في وقت ما ، على ما يبدو بعد دمار أشدود وظهور عقرون في أيام سرجون الثاني،لا بد أن يكون زيت الزيتون اليهوذي قد تم بيعه لآشور و لعملاء آخرين ربما عبر مركز إنتاج زيت الزيتون في عقرون.
حدث آخر لا يقل أهمية وقع على جانب هذه التطورات بعد سقوط المملكة الشمالية. و الظاهرة الرئيسية-و التي لا يمكن تفسيرها إلا على خلفية الازدهار الاقتصادي-كان النمو المفاجئ لسكان أورشليم على وجه الخصوص، ويهوذا بشكل عام. ففي عقود قليلة فقط من أواخر القرن الثامن ق.م ،نمت أورشليم في الحجم من نحو خمسة هكتارات إلى حوالى ستين هكتارا و ازداد عدد السكان من حوالي 1000 نسمة أكثر من عشرة آلاف. ونمى أيضا سكان الريف اليهوذيين نموا مثيرا. وزاد عدد المستوطنات في منطقة الهضاب إلى الجنوب من أورشليم من 35 في العصر الحديدي الثاني A إلى نحو 120 في العصر الحديدي الثاني B أو أواخر القرن الثامن. كما ازداد العدد في شفيلة من حوالي 20 إلى نحو 275. ولتقدير أن عدد سكان يهوذا تضاعف في غضون عقود قليلة فقط في القرن الثامن سيكون تقويما متواضعا، بل ربما بأقل من ذلك. و لايمكن تفسير هذه الزيادة المفاجئة في عدد سكان يهوذا باعتبارها نمواً طبيعياً أونتيجة هجرة سلمية من المناطق المجاورة. السبيل الوحيد المعقول لتفسير هذا النمو الديوغرافي غير المسبوق هو النظر إليه كنتيجة مباشرة لتدفق اللاجئين من الشمال بعد غزو آشور لإسرءيل في العام 722 ق.م. واستمر مثل هذا النمو في أورشليم والهضاب الجنوبية على الأرجح بقدوم موجة ثانية من اللاجئين الذين وصلوا بعد الدمار الذي أحدثه سنحاريب في شفيلة اليهوذية ووادي بئر السبع في العام 701 ق.م .كل هذا يعني أن "قفزة كبيرة إلى الأمام" في التركيبة السكانية في يهوذا وقعت في فترة قصيرة جدا من الزمن، بين 732 ق.م (ربما 722 ق.م أساساً) و 700 ق.م (أو بعد بضع سنوات تالية). وخلال عقدين أو ثلاثة عقود كانت يهوذا تعيش حالة ثورية تماما .وتحولت من دولة معزولة وقبلية من حيث التكوين إلى دولة قومية متطورة، ومندمجة تماما في الاقتصاد الآشوري العالمي . و لا يقل أهمية عن هذا ملاحظة أن التغيير في التعداد السكاني الملحوظ من يهوذيين"أنقياء" (محض يهوذيين) إلى مزيج من اليهوذيين و الإسرءيليين السابقين. و ليس بعيدا عن الواقع الاقتراح الذي يقول بأن نصف سكان يهوذا في أواخرالقرن الثامن إلى أوائل القرن السابع كانوا من أصل إسرءيلي. ولعل نظرة فاحصة على نتائج المسح الأثري في المرتفعات ستشير إلى أن العديد من الإسرءيليين الذين انتقلوا إلى يهوذا جاؤوا من المنطقة الواقعة بين أورشليم وشكيم. وهي المنطقة التي يمكننا الكشف فيها عن انخفاض هائل في عدد من التوطنات خلال الإنتقال من القرن الثامن ق.م حتى الفترة الفارسية أو القرن الخامس ق.م. وحتى لو كانت الفترة الطويلة بين خطي البيانات هذه شهدت تقلبات عدة، فمن الواضح أن السامرة الجنوبية تعرضت لضربة ديموغرافية قوية في أعقاب غزو آشور للمملكة الشمالية . ويدا على ذلك, في الواقع، بعض الإشارات المتقطعة في مواقع تعود لإسرءيل المهزومة حيث قام الىورين بنقل المبعدين من إسرءيل و توطينهم في بلاد ما بين النهرين.
و يبدو أن هذه القرائن تشير إلى الجزء الجنوبي من المملكة الشمالية على وجه التحديد، وجوار بيت إيل في المنطقة التي أتت منها غالبية اللاجئين الشماليين إلى يهوذا. وربما يكون العديد من الإسرءيليين قد فروا من هذه المنطقة خوفاً من الترحيل، واستقر في مكانهم مجموعات أجنبية. ولاشك أن هؤلاء اللاجئين الإسرءيليين جلبوا معهم إلى يهوذا تقاليدهم المحلية. والأكثر أهمية،لا بد أن يكون حرم بيتئيل قد لعب دوراً هاماً في طقوس عبادتهم. وكذلك الذكريات والأساطير عن سلالة شاؤول، التي نشأت أصلا من هذه المنطقة، ربما لعبت دوراً أساسياً في فهم تاريخ و هوية الاجئين الشماليين, و ينبغي لمثل هذا الواقع الديموغرافي أن يفرض على يهوذا تحدياً للقيادة كحاجة أصبحت ملحة أكثر من ذي قبل لتوحيد هذين القطاعين من المجتمع، اليهوذيين والإسرءيليين في كيان واحد. والمشاكل الرئيسية التي تحتاج إلى معالجة هي على الأرجح-كي لا نقول تقاليد غريبة ومعادية-العبادات المختلفة و التقاليد الشمالية للشماليين الذين استقروا في يهوذا. في الواقع، ركز الملك حزقيا ونخبته في أواخر القرن الثامن في الدولة الجديدة على حصرية هيكل أورشليم كمركز للعبادة وحصرية حكم سلالة الملك داود.
ويتم تذكر حزقيا في الكتاب باعتباره واحدا من أكثر الملوك الصالحين، الذين نفذوا عملية إصلاح دينية شاملة في يهوذا. وقد ناقش البعض تاريخية هذا الإصلاح، فقبل بعضهم به على أنه وصف موثوق فس حين اثار البعض الآخر شكوكاً أو رفضاً تاماً لاعتبارات نصية بحتة. ليس لدينا معلومات مباشرة عن التغييرات المحتملة التي أجريت على هيكل القدس في هذه الفترة، لأنه لا يمكن الوصول إليها من قبل الآثاريين حيث تقع تحت المقدسات الإسلامية في الحرم القدسي. ومع ذلك، هناك أدلة في بعض المراكز النائية من المملكة بأن تغييرات جذرية في طبيعة العبادة العامة قد حصلت بحلول نهاية القرن الثامن. والحفريات في ثلاثة مواقع مختلفة هي عراد وبئر السبع ولخيش يبدو أنها كشفت عن أدلة تعود للقرن الثامن ق.م عن دور و أماكن العبادة ، التي أبطلت قبل نهاية هذا القرن. وليس أقل أهمية من ذلك أن نلاحظ أن أيا من المواقع العديدة في القرن السابع وأوائل القرن السادس التي تم الحفر فيها في يهوذا أظهر أدلة على وجود دور عبادة. و يبدو من المعقول القول بأنه مع حلول نهاية القرن الثامن ق.م تم إلغاء المقدسات الريفية اليهوذية ربما كجزء من محاولة لتركيز عبادة الدولة في أورشليم. ومع كل هذا, ينبغي النظر إلى هذه العملية باعتبارها ثمرة دوافع اجتماعية واقتصادية وسياسية،أكثر منها ثمرة دوافع دينية بحتة الهدف منها على الأرجح هو تعزيز عناصر توحيد الدولة-أي السلطة المركزية للملك وللنخبة في العاصمة-, وإلى إضعاف القيادة العشائرية الإقليمية القديمة في الريف. و لايقل أهمية عن هذا ضرورة التعامل مع تقاليد العبادة الشمالية التي جلبها اللاجئون الإسرءيليون إلى يهوذا, لعل أهمها تلك الخاصة بمعبد بيتئيل، ويقع كما كان في وسط قرى أجدادهم. و يبدو أن حل حزقيا كان فرض حظر على كل مقدسات ومزارات ريف يهوذا و معبد بيتئيل على حد سواء-باستثناء وحيد هو المعبد الملكي في أورشليم.
تركيب التاريخ المبكر للسلالة الداودية على هيئة نص مكتوب كان أداة أخرى في "إعادة صنع" يهوذا. و قسّم أهل الإختصاص العلماء هذا التاريخ (من سفر صموئيل الأول 16 حتى سفررالملوك الأول 2) إلى قسمين سرديين رئيسيين: هما تاريخ ارتقاء داود للعرش وتاريخ البلاط أو الخلافة. و يحتوي كلاهما على معلومات تتعلق بأسرة شاؤول أول سلالة شمالية حاكمة،و لاتحتوي هذه المعلومات على معاني تبجيل أو إطراء للملك داود , بل تتضمن إدعاءات مضمرة ضد مؤسس سلالة أورشليم عن تعامله مع الفلستيين؛ وخيانة رفاقه الإسرءيليين، وتحميله مسؤولية موت أول ملك لإسرءيل؛ فضلاً عن موت شخصيات رئيسة أخرى لها علاقة بشاؤول ،كما تعرض هذه المعلومات مرويات تظهر مؤسس سلالة أورشليم -أي داود- بأنه مذنب لاقترافه جرائم قتل و أفعال خاظئة. وتتعاطى معظم هذه الاتهامات مع مواضيع متعلقة بالشاؤوليين والشمال. ويؤرخ معظم الباحثين هذه المرويات إلى زمن يعود للقرن العاشر ق.م أو بعد ذلك مباشرة، ويجادلون بأن تدوين هذه المرويات تم لإضفاء الشرعية على داود وسليمان. وكان الهدف من هذه التقاليد تفسير الكيفية التي جاء بها داود إلى السلطة، ولماذا خلفه سليمان في أورشليم الذي لم يكن الأول في خط العرش.
ولكن لماذا ترك المؤلفون والمحررون من بعدهم لاحقاً تلك القصص السلبية والاتهامات ضد الملك داوود في النص؟
اقترح البعض أن حيثيات الكثير من المواد المكتوبة كانت بمثابة اعتذاريات-لمواجهة هذه الادعاءات، ولتبرئة الملك داوود من أي أخطاء و لشرح "ماقد حدث فعلا" طبقا لوجهة نظر سلالته. و تستمد الفكرة التي ترى بأن القرن القرن العاشر هو القرن الذي تم فيه تجميع النص الكتابي من تصور أوسع بأن فترة حكم سليمان كانت فترة استثنائية من التنوير تم خلالها تدوين الأعمال التاريخية العظيمة في أورشليم وهذه القصة اتكأت بدورها على الوصف الكتابي لإمبراطورية سليمانية كبيرة-قضية أخرى، من الاستدلال الدائري-. وكما أكدت بالفعل أكثر من مرة، أظهر علم الآثار أن عملية إقامة دولة كاملة في يهوذا لم تتطور إلا في أواخر القرن الثامن ق.م .و هذا يتضمن ظهور نخبة تعرف القراءة والكتابة و نشاط على مستوى الكتابة. ورغم مرور أكثر من قرن على الحفريات الأثرية في القدس التي لم تترك تلاً مهماً تقريباً في ريف يهوذا فإن هذه الحفريات فشلت في العثور على أي نقش مميز قبل هذا الوقت.
نظرية الدفاع (أو الاعتذاريات) هي أيضا إشكالية إلى حد ما لأنها فشلت في التعامل مع السؤال الأساسي: لماذا ينبغي أن يتعاطى الكاتب مع هذه الاتهامات بأي حال من الأحوال؟ ففي امبرطورية داودية-سليمانية عظيمة، يمكن للكاتب أن يتجاهل ببساطة هذه القصص والسؤال الجوهري في تأريخ و فهم القصة في المراحل المبكة للأسرة الداودية ينبغي أن يكون سؤالا عن أنسب فترة تلائم بشكل أفضل لتجميع ملحمة تأخذ في الاعتبار التقاليد السلبية الشمالية عن مؤسس سلالة أورشليم, بكلام آخر, ما هي الفترة الأكثر احتمالا التي يتصدى فيها مؤلف هو بلا شك يهوذي لهذه التقاليد بصياغته لاعتذاريات لعدم إكانية تجاهل أو تحجاوز أو حتى القضاء على مثل هذه التقاليد؟
سيكون الجواب على هذه السؤال مناسباً, من ناحية, لما نعرفه عن معرفة القراءة والكتابة في يهوذا، وهذا يعني، أنه من الصعوبة بمكان أن يكون في أي وقت قبل النصف الثاني من القرن الثامن، ومن ناحية أخرى، لا يمكن أن تؤرخ هذه النصوص الكتابية بفترة متأخرة جداً، لأنه من الواضح أنها حررت خلال أواخر القرن السابع عن طريق ما يسميه لأهل الاختصاص الكاتب أو المدرسة التثنوية. ونحن عندما نضع جميع هذه العوامل على خلفية الوضعية التاريخية الأوسع, تكون الفترة الأكثر منطقية هي أواخر القرن الثامن بعد سقوط المملكة الشمالية. وهو الوقت الذي تضخم فيه عدد سكان يهوذا بشكل كبير، ليتضمن عدد كبير من اللاجئين الإسرءيليين. وبالتوازي مع مركزية العبادة اليهوذية في أورشليم، لا بد أن تكون العائلة المالكة اليهوذية وحاشيتها قد انخرطت في برنامج تعزيز سلطة الأسرة الحاكمة عبر توحيد الجنوبيين مع الشماليين و التفافهم حول الملك داود. ولتحقيق هذه الغاية، كانوا بحاجة إلى تجسير الروايتين حول الأيام المبكرة للسلالة الحاكمة: أي تقاليد جنوبية داعمة لداود، مؤسس السلالة وسليمان باني معبدها وكذلك التقاليد الشمالية المستنكرة. وكما أشرت للتو، ينبغي أن يكون الكثير من الشماليين الذين يعيشون في يهوذا قد أتوا من السامرة الجنوبية. وهي المنطقة التي ظهرت فيها المشيخة الأولى حيث من المرجح أن التقاليد الشاؤولية كانت مازالت مؤثرة، ولذا، وكما حاولت يهوذا استيعاب مختلف الدوائر الاجتماعية والسياسية للتوفيق بين التقليديين وبدلاً من تجاهل الاتهامات الشمالية، فقد ضمنهم المؤلف (أوالمؤلفين)في التاريخ الرسمي، ولكن الأسبقية في نهاية المطاف منحت للتقاليد الجنوبية التي برأت داود من الأفعال الخاطئة تقريباً. وقد عزز الدفاع العظيم للتوفيق بين الجنوبيين والشماليين في يهوذا. وعلى هذا النحو فقد عزز برنامج سلطوي لإبراز الإيديولوجية الإسرءيلية [القومية]. وكانت هذه هي اللحظة التي ظهر فيها لأول مرة مفهوم عموم إسرءيل، وكان خلف هذا المفهوم حملة لتوحيد "كل إسرءيل" داخل حدود يهوذا ( ظهرت إيديولوجية"كل إسرءيل"، بما في ذلك أراضي المملكة الشمالية السابقة في وقت ما في الكتابات التثنوية في القرن السابع ق.م ).وكان هذا أيضا نقطة انطلاق لأكثر من ثلاثة قرون من النشاط التأليفي نتج عنه التاريخ الكتابي لإسرءيل كما نعرفه .
..................
المملكة المنقسمة : تعليقات على بعض القضايا الأثرية : عميحاي مزار
عرفت المملكة المنقسمة (والتي تطابق معظم العصر الحديدي الثاني) بفضل البحوث الأثرية الواسعة في إسرائيل والأردن. وقد سهلت المسوحات السطحية لعملية تحليل أنماط الإستيطان وموقع أنواع المواقع المختلفة مثل البلدات والمزارع والقلاع وأبراج المراقبة و المنشآت الزراعية, كما ساهمت البحوث الأثرية في المناطق القاحلة في النقب وصحراء يهودا في تسهيل دراسة التاريخ الدقيق للاستيطان في هذه المناطق الهامشية. وهناك عدد كبير من عمليات التنقيب في مختلف أنواع المواقع أسفرت عن معطيات وفيرة حول جوانب كثيرة من الثقافة المادية في إسرائيل ويهوذا وفي أراضي جيرانهم وفتح ىفاق مواضيع بحثية جديدة ممكنة لجوانب كثيرة من الثقافة المادية في المنطقة تشمل و إن بصورة جزئية أنماط الاستيطان،والديموغرافيا،وتخطيط المدن،ونظم التحصين،والهندسة المعمارية للمباني العامة والمساكن،وأنظمة المياه، وتقنيات البناء،والجوانب المختلفة للاقتصاد القديمة المنخرطة في التجارة على الصعيدين الداخلي والدولي،الزراعة واستخدام الأراضي،والمدرجات،وأنظمة الري،قطعان الماشية،والصناعات مثل النسيج وإنتاج الزيت،إنتاج الفخار وتوزيعه،والمعدات والأدوات المنزلية، والصناعات المعدنية. كما يمكن إعادة بناء المعتقدات الدينية، والدين الرسمي والشعبي، وطقوس العبادة جزئياً على الكشوفات التي أظهرت المعابد، وأماكن العبادة المحلية، و الأعمال المختلفة للفن الذي يحافظ على رمزية وأيقونية هذه المجتمعات القديمة. و يمكن لعادات الدفن أن تخبرنا عن المعتقدات بالخوارق والبنية الإجتماعية. و قد أصبح متاحاً لأول مرة عدد كبير من النقوش، بما في ذلك الأختام المدرج وظهور الدمغات، والنووايس، والنقوش على الحجر، والجدر المجصصة والأواني الفخارية، فضلا عن المنجم الحقيقي للمعلومات عن اللغة، أي الأسماء الشخصية، والإدارة،و الإقتصاد، وديانة إسرءيل، وبشكل خاص يهوذا خلال القرنين الثامن و السابع و يمكن لكل هذا في كثير من الحالات أن يكون متعلقاً باللقى التي تمت بصلة إلى النص الكتابي أو لجزء كبير منه و الذي دوّن على الأرجح خلال هذه الفترة. هذه البيانات الأثرية الغنية تقدم رؤية بانورامية لمجتمع إسرءيلي ويهوذي ولثقافة هذا المجتمع، ناهيك عن جيرانهم. في الواقع، إن إعادة بناء هذا المجتمع وخلفيته الاقتصادية، والتطور الجيوسياسي راهناً يظهر تحدياً كبيراً للبحوث الأثرية الحديثة المتعلقة بهذه الفترة. فحتى الآن لا يزال الخلاف قائماً حول بعض الموضوعات الرئيسية ،على الرغم من الكميات المتزايدة من البيانات والإتفاق العام بين الباحثين حول قضايا كثيرة. وفي حين أن العقود الماضية من البحث تمكنت من حل بعضا من السجالات الرئيسية الدائرة حول الماضي، فالعديد من الأسئلة الجديدة ظهرت على السطح على مدى عدة سنوات. ومن الأمثلة على ذلك الجدل بين ما يدعون المعتدلين و التصحيحيين بخصوص حجم مدينة أورشليم، التي كانت موضوع سجال حامي الوطيس خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي. إن أعمال التنقيب في التل الغربي من القدس منذ العام 1968 أظهرت أن أورشليم كانت مدينة كبيرة بمساحة تصل إلى نحو سبعين هكتاراً، ولكن مثل هذا التوسع لم يحدث قبل القرن الثامن، وهكذا نجد أن كلا الجانبين في هذه المناقشة كان صحيحاً جزئياً.
وخلال السنوات الخمس عشرة الماضية[منذ تسعينيات القرن الماضي] ظهر سجال جديد, دار هذه المرة حول أورشليم في القرن العاشر و وكذلك إعادة الجدل القديم بشأن كرونولوجيا المواقع اليهوذية في القرنين الثامن و السابع : و كانت النقطة المركزية في هذا النقاش تدور حول تاريخ تدمير السوية III في لخيش. وفي حين أشارت أولغا توفنيل في تقريرها النهائي عن أعمال التنقيب في لخيش إلى أن سبب التدمير يمكن عزوه إلى سنحاريب في العام 701 ق.م، يرى وليم أولبرايت و أتباعه أن هذه السوية ومواقع أخرى متشابه في الفخار تعود إلى الموجة الأولى من الغزو البابلي المفترض في العام 597 ق.م. كان لرأي أولبرايت تأثيرا على الدراسات الأثرية العديدة ليهوذا لسنوات عدة. ولكن الأعمال المتجددة للتنقيب في لخيش من قبل دافيد أوسيشكين، فضلا عن تنقيباتي في تل البطش(تمنة الكتابية) أتت لتؤكد وجهة نظر توفنيل بصورة قاطعة، وبالتالي تصحيح خطأ أولبرايت و أتباعه في فهم تطور الثقافة المادية في يهوذا. و على الرغم من كل هذا، برزت تساؤلات جديدة وسجالات فيما يتعلق أساسا بحالة يهوذا في القرنين التاسع وأوائل الثامن. ولذلك في حين أن الكثير من معرفتنا عن هذه الفترة باتت ثابتة ومقبولة لدى لجميع، فإن مسائل أخرى مهمة لا تزال مثيرة للجدل. وسيكون من المستحيل تغطية ولو جزء صغير من هذه القضايا السجالية المستجدة حديثا هنا. وبناء على ذلك سوف أقيد نفسي بمسألة ظهور إسرائيل ويهوذا كدولتين مستقلتين في القرن التاسع، ووضع يهوذا في القرنين الثامن والسابع، وطرح أمثلة عن الأحداث قصيرة الأجل مقابل العمليات طويلة الأجل علم الآثار الاسرائيلي.
إسرائيل ويهوذا في القرن التاسع ق.م
يفصل بين خراب أورشليم على يد نبوخذنصر (586 ق.م) وظهور مملكتي إسرءيل و يهوذا ككيانات سياسية مستقلة أكثر من ثلاثة قرون (تؤرخ تقليديا حوالي 930 ق.م أو في وقت ما بعد ذلك)، وكما أشرت في الفصل الرابع، فإن الوجود الفعلي للملكة المتحدة أصبح مؤخراً مدعاة للتشكيك والمساءلة، وإذا لم يكن هناك مملكة متحدة فلا يوجد, بطبيعة الحال, انقسام لمثل هذه المملكة إلى دولتين مستقلتين، وبدلاً من ذلك, وكما اقترح إسرائيل فينكلشتين، ظهرت كل من إسرائيل ويهوذا في وقت لاحق، وفي أوقات مختلفة. أنا لا أزال متمسكا بمفهوم المملكة الإسرءيلية المتحدة في القرن العاشر ق.م، وأستند على دقة السرد الكتابي بشأن إنشاء المملكتين الإسرءيليتين بعد فترة قصيرة من المملكة المتحدة. و مما لا شك فيه، أن هاتين المملكتين لاقتا مصائر مختلفة جداً: فمرّت المملكة الشمالية بتغيرات متعددة للعائلات الحاكمة و استمرت في الوجود نحو قرنين، حتى دمرت على يد الآشوريين في ضربتين في الأعوام 732 ق.م (غزو الجليل)و 722 ق.م (تدميرالسامرة العاصمة). من ناحية أخرى استمرت يهوذا لأكثر من 300 سنة خضعت خلال هذه الفترة كلها لحكم سلالة واحدة (بيت داود). و وتختلف الظروف الجغرافية والبيئية لكلا المملكتين اختلافاً بيناً إلى حد كبير. فقد اشتملت مملكة إسرءيل على أراضٍ واسعة ضمت مرتفعات السامرة، وأجزاء من السهل الساحلي، ووادي يزرعيل، ووادي الأردن، والجليل، وأحيانا،بعض أجزاء من شرق الأردن. أما يهوذا، فقد كانت أصغر من ذلك بكثير واقتصرت على المناطق الوعرة ذات التضاريس القاسية للتلال اليهودية، وشفيلة، والنقب الشمالي، وصحراء اليهودية. وبالتالي كانت الموارد الاقتصادية للملكتين متباينة، فكان لدى المملكة الشمالية وفرة من الأراضي الخصبة ومصادر المياه، وتتحكم بصورة شاملة بالطرق الرئيسية في البلد، بما في ذلك الطريق التي تربط مصر بسوريا و ما بين النهرين، والوصول المباشر إلى الساحل، والطرق التجارية مع فينيقيا، وسوريا، وشرق الأردن . بينما كانت يهوذا أكثر عزلةً، ومحدودة الموارد الاقتصادية، كما أن العاصمة أورشليم تقع في منطقة الهضاب بعيداً عن الطرق الرئيسة والحقول الخصبة والموارد في المنطقة. وأجبرت الصحارى المحيطة بيهوذا من جهة الشرق والجنوب على حماية نفسها من المهاجمين الرحل أو المحافظة على علاقات اقتصادية معهم. وإلى جهة الغرب منعت الدويلات الفلستية لاسيما جت (حتى تدميرها في أواخر القرن التاسع) وعقرون (بشكل أساسي خلال القرن السابع) يهوذا من الوصول إلى طرق التجارة الدولية الذي يمر على طول السهل الساحلي، فضلا عن حرمانها من الوصول إلى البحرالمتوسط. ومن جهة الشرق،كانت سحراء اليهودية ووادي الأردن ووادي عربة يفصلون المملكة عن دولاً معادية و منافسة مثل عمون ومؤاب وأدوم .
مملكة إسرءيل الشمالية :
يقر معظم أو جميع الباحثين على وجه العموم بمكانة المملكة الشمالية كدولة إقليمية قوية في القرن التاسع ق.م، نظراً لأن مثل هذه المكانة موثقة على هذا النحو في مختلف المصادر المختلفة المكتوبة في الشرق الأدنى القديم و التي تعود للقرن التاسع، والوصف الشديد الأكثر إيحاء ما جاء به نقش شلمنصر الثالث الذي عثر عليه في موقع الكرخ Kurkh ,والذي يصف فيه الملك آخاب كعضو مهم من قوة التحالف التي شاركت في معركة قرقر في وسط سوريا في العام 853 ق.م.حين حاول الحلفاء في قرقر وقف الجيش الآشوري غضون المراحل المبكرة من التوسع الآشوري نحو الغرب. وتم الإشارة إلى آخاب في هذا النقش كقائد لألفين من العربات ولعشرة آلاف من جنود المشاة في المعركة ضد آشور. ورغم أن هذا العدد قد يكون من قبيل المبالغة الدعائية، فإنه ينبغي ملاحظة أن آخاب تم ذكره بوصفه يمتلك أكبر عدد من العربات بين الحلفاء المذكورين في النقش. كما تم تسجيل غزو آخاب لشمال مؤاب شرق البحر الميت في القرن التاسع في نقش تذكاري لميشع ملك مؤاب عثر عليه في موقع ديبون، ويصف النقش بالتفصيل المنطقة الواقعة شمال نهر أرنون، التي كانت تحت السيطرة الإسرءيلية في السنوات السابقة، ويحتفل بذكرى تحرير هذه المنطقة من هذه السيطرة. والأمر الأكثر ترجيحاً هو أن يكون يهورام، آخر ملك من سلالة عُمرْي هو ملك إسرءيل المذكور في نقش تل دان. كما ذكرت المسلة البازلتية السوداء لشلمنصر الثالث ياهو المؤسس التالي لأسرة حاكمة في الشمال ،كملك مستسلم للملك الآشوري (وبصورة تهكمية،تمت الإشارة إليه على أنه"ياهو بن عُمْري"). و استمرت إسرائيل في الازدهار خلال القرن الثامن، لاسيما خلال عهد يربعام الثاني حتى غزوها المفاجىء و احتلالها النهائي من قبل الآشوريين.
فتحت عمليات التنقيب في السامرة ويزرعيل نافذة على المعيش الذي تتضمنه القصص الغنية المذكورة في كثير من الأحيان في أسفار الملوك و المرتبطة بهذين الموقعين. وهي تؤكد على شروع آخاب وربما أعضاء آخرين من السلالة العُمْرية خلال القرن التاسع ق.م عمرانية هائلة على نطاق واسع ,مما تتطلب تتطلب كميات كبيرة من المواد الأولية اللازمة للبناء، وإدارة مركزية وتخطيط، والعديد من العمال المهرة والحرفيين. و عثر في كل من السامرة ويزرعيل على مرفقات كبيرة مستطيلة شيدت وأحيطت بجدار مزدوج مع باحة فسيحة في الوسط وكانت هذه التحويطة في يزرعيل محصنة أيضا عن طريق خندق محفور في الصخر فرض عزلة هذا المرفق عن المناطق المحيطة به. كما عثر في السامرة على بقايا القصر الملكي و كشف فيه عن تفاصيل داخل محفوظة بصورة جيدة و محاطة بجدار لهذا المرفق الملكي . و كان من أبرز ملامح العمارة الملكية , استخدام الحجارة المربعة المنحوتة بصورة رئيسية على شاكلة الطراز المعروف بالأسلوب الأيوني البدائي Proto-Ionic، وأرضيات سميكة من الجير للباحات التي قد تكون مستوحاة من أنماط فينيقية (على الرغم من أنه من الصعوبة بمكان إثبات أنها فينيقية تامة نظراً لعدم وجود حفريات). ويتجلى التأثير الفينيقي(الصوري) في المملكة الشمالية بالإضافة إلى الأنشطة العمرانية، من خلال المصنوعات اليدوية المختلفة مثل صناعة الفخار عالي الجودة، والتماثيل الطينية ولاسيما تلك المطعمة بالعاج المنحوت بإتقان على الأثاث المرصع بها التي عثر عليها في السامرة. وكانت هذه التماثيل منحوتة على طراز فينيقي نموذجي وتتضمن مشاهد دينية وأسطورية مصرية-فينيقية، مثل شخصية"امرأة على النافذة،" بأشكال نباتية محورة، وهلم جرا. مثل هذه الأمثلة تعبر عن صلات وثيقة بين شمال إسرءيل وصور، المدينة الفينيقية الأهم من ذلك الوقت، ويمكن ربطها بالوصف الكتابي لزواج آخاب بإيزابيل ابنة ملك صور. و هكذا تدعم الأدلة الأثرية من السامرة ويزرعيل بوضوح مكانة إسرءيل الشمالية كدولة إقليمية تحتوي على قصور، ونخبة اجتماعية، وإدارة مركزية، وقوة اقتصادية وعسكرية مهمة. و كشفت الحفريات في عدد من المدن الرئيسية الأخرى في المملكة الشمالية مثل دان، حاصور، طبريا، ومجدو، ويقناعم، و تعنك، وبيت شان، ورحوف و دوثان و تل الفارعة (ترصة) وشكيم ودور وجازر، فضلاً عن المسوحات السطحية في الجليل ومرتفعات السامرة و عمليات التنقيب في مواقع قرى، ومزارع و قلاع، كل هذا كشف عن وجود مملكة مزدهرة ذات نظام توطن كثيف تراتبي ومعقد، ونمو سكاني هائل، وعلاقات تجارية دولية موسعة، وتقليد فني مزدهر، بالإضافة إلى الإستخدام المتزايد للكتابة خلال القرنين التاسع والثامن. وعلى سبيل المثال فإن عملي في تل رحوف كشفت عن وجود مدينة جيدة التخطيط مبنية على مساحة تقدر بحوالي 10 هكتارات، والتي كانت خلال القرنين العاشر والتاسع في ذروة تطورها نظراً لأنها كانت على علاقات اقتصادية مع فينيقيا وقبرص، واليونان. وبخلاف إسرءيل الشمالية، فالإطار الزمني بالإضافة إلى العمليات التي أدت لظهور يهوذا مازالت مثار خلاف بين العلماء .
واصلت يهوذا نموها وفقا لوجهة النظر التقليدية،وتماشيا مع السرد الكتابي خلال القرنين العاشر و التاسع بتحولها من جزء من المملكة المتحدة إلى دولة مستقلة إلى جانب إسرءيل شريكها الشمالي. و تعرضت إعادة البناء هذه إلى انتقادات من قبل الباحثين الحاليين، لاسيما إسرائيل فنكلشتين، الذي يزعم بأن يهوذا لم تكن ذات أهمية حتى القرن الثامن، و في واقع الأمر حتى سقوط السامرة عام 722 ق.م عندما وجد العديد من اللاجئين الشماليين طريقهم نحو أورشليم و بقية يهوذا. وطبقا لهذا الرأي فإن ملوكاً مثل رحبعام، و آسا،و يهوشافاط،و عزيا، ليسوا سوى شخصيات أدبية أوحكام محليين ضئيلي الأهمية. و تستند حجج هذه المزاعم على تقدير العدد المحدود المفترض للمستوطنات وعدد السكان، والإفتقار إلى بنية معمارية مميزة من القرن التاسع تشغل السويات في يهوذا، والضعف المفترض لأورشليم خلال هذا الوقت، والإفتقار إلى النقوش وموضوعات النخبة. و لا يوجد في اعتقادي ما يبرر وجهة النظر هذه. فأولا هي تتناقض مع الإشارة إلى يهوذا كدولة بحكم وراصي كما يرد في نقش تل دان "بيت دود"، التي كانت حليفة للمملكة الشمالية في الحرب ضد حزائيل ملك دمشق حوالي 830 ق.م. و هذا النقش وحده كاف لاستنتاج أن يهوذا كانت بالفعل قوة هامة في المنطقة ابتداء من منتصف القرن التاسع ق.م. زبينما يمكن للبعض الزعم أنه في ذلك الوقت، وبعد حكم عثليا في أورشليم، كانت يهوذا تابعة لإسرءيل،فإن مثل هذا الادعاء لا يمكنه أن ينكر أنها كانت دولة. ربما العُمْريين لديهم سبب وجيه للسيطرة على هذه الدولة. و ثانيا، تؤكد في اعتقادي آثار يهوذا، وفقا للأدلة الواسعة من عدد جيد من المواقع المستكشفة في تلال اليهودية وشفيلة والنقب الشمالي، وجود دولة يهودا في القرن التاسع. وتروي هذه الأدلة قصة النمو التدريجي والتطور بدءً من أواخر القرن العاشر ق.م.. وعند هذه النقطة قد يتساءل المرء، كيف يمكن أن يصل الآثارييون إلى مثل هذه الإستنتاجات المتناقضة؟ ويكمن الجواب جزئياً في التحقيبات الآثارية المختلفة المستخدمة، وكذلك في التأويلات المختلفة للغاية لذات البيانات الأثرية. و من أجل فهم دقيق لعلم الآثار في يهوذا، ينبغي على المرء استخدام الكرونولوجيا التقليدية المعدلة التي اقترحتها أنا (انظر الفصل الرابع)، وفقا لاستمرار فترة العصر الحديدي الثاني A من حوالى 980 الى حوالى 830 قبل الميلاد وفهم الظروف الخاصة للاستمرارية الثقافية في يهوذا لتلك الفترة الزمنية. وعلى عكس شقيقتها الشمالية، لم تعان يهوذا من أي هجمات عسكرية شديدة حتى غزو سنحاريب سنة 701 ق.م، ولم تتأثر أورشليم بشكل ملحوظ حتى بذلك الغزو .
ويشير عدم وجود طبقات الدمار ومتانة المباني الحجرية الضخمة في مرتفعات يهودا وشفيلة إلى أن المباني الحجرية نفسها كانت قيد الإستخدام لفترة طويلة من الزمن. وهناك أيضا أقدمية معتبرة في إنتاج الفخار في يهوذا: كانت التغيرات متدرجة , وتغطي فترة طويلة من الزمن. هذه الأقدمية للثقافة المادية في يهوذا أعمت عيون الآثاريون الذين يرغبون في تحديد مفصل لتطور الثقافة المادية ليهودا في القرن التاسع كمقابل لتلك الثقافة الموجودة في القرون السابقة أو في وقت لاحق. ويبدو أن المدن والبلدات التي تم تأسيسها في أواخر القرن العاشر أو القرن التاسع استمرت في الوجود بتغير طفيف حتى أواخر القرن الثامن عندما دمر سنحاريب العديد منها. و يمكن البرهنة على ذلك في أورشليم وبيت شيمش ولخيش وتل بيت مرسيم، وغيرها من المواقع حيث تنسب سويات توطن قليلة في هذين القرنين.
استمر استخدام المباني الحجرية الضخمة في أورشليم لفترة طويلة. كما أن البناء الضخم الذي كشفتا إيلات مزار في الآونة الأخيرة في مدينة داود ربما كان قلعة ملكية وبقي كمبنى حجري مدرج ضخم استمر في الاستخدام خلال تلك الفترة و مر بتغيرات وإضافة جدران جديدة،جنبا إلى جنب مواقع السكن التي شيدت فوق الجزء السفلي للدعامات الحجرية المدرجة، وعثر على سويات العصر الحديدي الثاني A (من القرن العاشر إلى القرن التاسع) في جميع أنحاء مدينة داود، ويمكن أن تنسب إلى كل من القرنين العاشر والتاسع (أو إلى أي منهما). و أحدث الإكتشافات في مدينة داود (من قبل رايخ و شوكرون) كشفت عن أنقاض و حطام مبكر تمتلء به البرك المحفورة في الصخر جنوب نبع جيحون. واحتوت هذه البرك إلى عدد كبير من عظام الأسماك بالإضافة فخار القرن التاسع، فضلا عن أكثر من 130 ختم دمغة على سدادة فخارية ( لإغلاق الحاويات و أوراق البردي). لاتحتفظ هذه الدمغات بأي نقوش لأنها ربما سبقت اختراع الأختام المنقوشة التي تحمل اسم المالك، وهو ما أصبح شائعا في يهوذا واسرءيل منذ القرن الثامن فقط. ويمتاز العديد من الأشكال الزخرفية على الموجودة على أختام أورشليم بأسلوب فينيقي، تشير إلى التأثير الفينيقي على يهوذا خلال القرن التاسع. كما عثر على أختام مماثلة وأختام الدمغات في مواقع أخرى في إسرءيل،مثل تل رحوف،في سويات القرنين العاشر و التاسع مما يشير إلى وجود إدارة مركزية وتجارة منظمة،ينبغي أن نتوقع أنها تعود إلى دولة ناشئة.
أما خارج أورشليم ،فتشير الدلائل من مواقع مختلفة في يهوذا إلى وجود دولة في القرن التاسع ق.م. فقلعة عراد في النقب الشمالي على سبيل المثال شيدت في السوية XI على قمة أنقاض قرية تعود للسوية XII والتي ترتكز -كما رأينا في الفصل الرابع- على الحقبة السليمانية, أي القرن العاشر, ومن ثم فهذه القلعة المبكرة يمكن أن تؤرخ للقرن التاسع, ويليها ثلاث سويات من عمليات إعادة البناء و التغيير، بلغت أوج التدمير العنيف في السوية VIII، التي يجب أن تؤرخ ,بحسب اتفاق الجميع, بحوالي 700 ق.م. وبالتالي يوفر موقع عراد نقطة انطلاق ملائمة لدراسة كرونولوجيا الفخار اليهوذي. ويدل التطابق التام تقريبا لفخار السويات X-VIII على أقدمية إنتاج الفخار في يهوذا. واستنادا لتأريخ عراد وبمقارنة مجاميعها الفخارية بمجاميع من مواقع أخرى، يمكننا الاستنتاج أن السوية V في لخيش تأسست خلال القرن العاشر ق.م واستمرت في النمو خلال القرن التاسع ق.م (السوية IV) (وذلك على النقيض من استنتاجات أوسيشكين الذي ذكره في تقريره, ولكن بما يتفق مع وجهة نظره السابقة بشأن هذه المسألة). في هذا الوقت أصبحت لخيش المدينة الثانية من حيث الأهمية بعد أورشليم، و تضمنت على قلعة ملكية أو قصر في وسطها و تحصينات تتألف من جدارين للمدينة وكان يتم الدخول للمدين عبر بوابة ذات ست حجرات محصنة جيداً. كما شملت السنوات الأولى من البحوث الآثارية على أعمال حفر غير معروفة بما فيه الكفاية تمت في مواقع أخرى في يهوذا أو أن تلك المواقع تم حفرها مؤخرا فقط وعلى نطاق ضيق , وبالتالي تحتاج الأدلة لتحليل كامل نظرا لعدم كفايتها, ومع ذلك، تشير الأدلة القائمة إلى أن التحضر( بما في ذلك العمارة العامة) والتحصينات، ونظم إمدادات المياه كانت خصائص معروفة في المدن اليهوذية في القرن التاسع ق.م مثل بيت شيمش، وتل بيت مرسيم وبئر السبع، وهذا يدعم وجود دولة في يهوذا في ذلك القرن. وينبغي أن نأخذ في الحسبان أحد المزاعم التي نادى بها دعاة النزعة التصحيحية ضد وجود دولة يهوذية و المتمثل في عدد المستوطنات و السكان في يهوذا خلال القرنين العاشر و التاسع ق.م , وتستند وجهات نظر التصحيحيين, في أي حال، على تأويلات المسوحات السطحية في المناطق التي تمت التوطن فيها بصورة مستمرة لمعظم فترة العصر الحديدي. ولكن مثل هذه التأويلات تعاني من العديد من المشاكل المنهجية, نظرا لصعوبة العثور على على ما يكفي من الأدلة من مراحل التوطنات أثناء عمليات المسح السطحي للمواقع التي تمت توطنها بصورة مستمرة خلال عدة قرون, إذ يتطلب الأمر القيام بعمليات حفر ممنهجة .
وفي الواقع، هناك ثمة تقويمات بديلة مختلفة لعدد المواقع والتقديرات السكانية ليهوذا في القرن التاسع ق.م. و تشير دراسة رئيسية عن مرتفعات يهودا قام بها آفي عوفر إلى نمو بطيئ وتدريجي للسكان خلال الفترة الممتدة من القرن الحادي عشر إلى القرن الثامن. وكشفت أعمال الحفر العرضية في مواقع يهوذية أخرى، على سبيل المثال، الموقع الكبير في موزا غرب القدس عن وجود توطن مستمر منذ القرن العاشر أو التاسع وحتى فترة التدمير البابلي في أوائل القرن السادس ق.م ، وربما يكون هذا حال غيره من المواقع التي لم تنقب بعد أيضا . وباختصار،إن تحليلا شاملا للقى ينفي الإدعاء القائل بأن يهوذا لم تظهر كدولة حتى أواخر القرن الثامن، و في حين أن يهوذا ليست دولة غنية مثل نظيرتها الشمالية وذات كثافة سكانية وتوسع عمراني أقل منها بكثير، فإن الأدلة لا تبرر وجود دولة مميزة بما يكفي ليتم ذكرها في نقش حزائيل المكتشف في تل دان. و لذلك، فالإشارات الكتابية التي تصور يهوذا كدولة من القرن التاسع لاينبغي إهمالها باعتبارها إشارات غير موثوق بها.
مركز يهوذا خلال القرنين الثامن والسابع ق.م
في أعقاب الغزو الآشوري لإسرءيل الشمالية في 722 ق.م واستسلام الدويلات الفلستية لاحقاً. وقفت يهوذا وحدها كدولة مستقلة في المنطقة. وأدى -لاحقاً- تمرد حزقيا الفاشل ضد سنحاريب إلى القضاء على الدولة بأكملها تقريبا. و أصبحت أجزاء كبيرة من يهوذا مقفرة بسبب الغزو الآشوري في العام 701 ق.م، ولكن أورشليم نفسها لم يتم فتحها. وبعد فترة وجيزة، وتعافت سهوذا خلال السنوات الأخيرة من حكم حزقيا وابنه منسّى في القرن السابع ق.م ودخلت عصرها الذهبي حيث تمتعت بإزدهار مطّرد خلال النصف الأول من القرن السابع،أي في الفرتة التي سيطرت فيها آشور على معظم الشرق الأدنى القديم. وبرغم بقاء يهوذا مستقلة في حينهو فقد كانت دولة تابعة لأشور. واستمر ازدهار يهوذا لفترة طويلة بعد تراجع سيطرة آشور حوالي 630 ق.م, في عهد الملك يوشيا. تزقف اظدهار يهوذا مع تمدد الإمبراطورية البابلية بقيادة نبوخذ نصر الذي بلغ ذروته بتدمير أورشليم ويهوذا في العام 586 ق.م.
نمت أورشليم و يهوذا خلال القرن الثامن بصورة كبيرة و زادت المدينة في المساحة العمرانية و في عدد السكان و بلغ حجمها مع حلول نهاية القرن الثامن حوالي 70 هكتارا.
أضف الى هذا مجال الأحياء السكنية خارج أسوار المدينة و المقدرة بحوالي 10 -20 هكتار، وأصبحت أورشليم في هذا الوقت واحدة من أكبر المدن في المشرق كله. لقد كانت المدينة الكبرى الوحيدة في المنطقة التي لم يتم فتحها من قبل الآشوريين، و بعدد سكان يقدر بحوالي 10-12 ألف شخص، فقد كانت تضاهي جميع السكان في بقية يهوذا, فمعظم المدن والبلدات الأخرى في يهوذا لم تكن تزيد مساحته عن ثلاثة هكتارات باستثناء لخيش التي كانت تصل مساحتها إلى نحو ثمانية هكتارات. هذا التباين في الحجم وعدد السكان بين أورشليم وبقية يهوذا كان يعني أن أورشليم كانت مدينة-دولة فعلية يتركز فيها غالبية سكان الدولة (كما هو الحال في بعض المجتمعات الحضرية الحديثة). ولغة الكتاب المقدس بتكراره لعبارة "أورشليم ويهوذا"( [ 12 لِذلِكَ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: هأَنَذَا جَالِبٌ شَرًّا عَلَى أُورُشَلِيمَ وَيَهُوذَا حَتَّى أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْمَعُ بِهِ تَطِنُّ أُذُنَاهُ.] " سفر الملوك الثاني 21 :12, وكلك سفر إرميا 52 : 3 [3 لأَنَّهُ لأَجْلِ غَضَبِ الرَّبِّ عَلَى أُورُشَلِيمَ وَيَهُوذَا حَتَى طَرَحَهُمْ مِنْ أَمَامِ وَجْهِهِ، كَانَ أَنَّ صِدْقِيَّا تَمَرَّدَ عَلَى مَلِكِ بَابِلَ.] ) يوضح هذا الوضع الخاص لمدينة أورشليم عن بقية مدن يهوذا, و قد كان توسع أورشليم باتجاه التلة الغربية، أي سلسلة التلال إلى الغرب من وادي تيروبيون حيث يوجد اليوم الأحياء الأرمنية والممسيحية واليهودية في المدينة القديمة.
ولكن متى حدث هذا التوسع؟
أشار ميغان بروشي في العام 1972 و تبعه آخرون (لاسيما إسرائيل فنكلشتين)، إلى أن نمو أورشليم يعود إلى وصول الكثير من لاجئي المملكة الشمالية بعد سقوطها في العام 722 ق.م، أي في عهد حزقيا. ولكن من المشكوك فيه أن يكون هذا هو التفسير الوحيد أو حتى الرئيسي لمثل هذا النمو و التوسع. لقد كانت التلة الغربية في طور التوطن بالفعل قبل القرن الثامن، نظرا لأن الجدار الضخم للمدينة -الذي ينسب لحزقيا- و الذي تم بناؤه هناك طمس المباني السابقة له, ومن المرجح أن بناء هذا الجدار تم قبل حزقيا و قبل العام 722 ق.م، بيد أننا نفتقر, في الحقيقة, إلى أية إمكانية لتأريخ هذه المباني المبكرة على نحو أكثر دقة. ومن المعقول الإفتراض أن عدداً معيناً من اللاجئين الإسرءيليين استقروا في أورشليم بعد العام 722 ق.م، ولكن ليس لدينا أية وسيلة لتقدير أعدادهم و ويبقى الإفتراض أنهم كانوا قوة كبرى في تطوير أورشليم في أواخر القرن الثامن في حدود التخمين ليس إلا. و ينتصب في موقع في رامات راحيل (بيت هاكيريم الكتابية؟)، المبني على على سلسلة من التلال المطلة على أورشليم إلى الجنوب منها ينتصب معقل عسكري يعود لأيام حزقيا، كما يتضح من وجود عدد كبير من الأختام الملكية التي عثر عليها هناك. وتم خلال القرن السابع تشييد قصر في هذا الموقع يطل على أورشليم و بيت لحم. يشبه في مخططه و زخرفته المعمارية(وإن على نطاق أضيق) تلك الموجودة في قصر السامرة الذي دمر قبل عدة عقود. ويبدو أن واحداً من ملوك يهوذا (ربما منسّى؟) حاول إعادة البريق للسامرة من خلال بناء هذا القصر.
شيدت المزارع خارج أورشليم، وكذلك في تلال اليهودية حول أورشليم، وفي النقب الشمالي وفي صحراء اليهودية، والتي لم تستوطن قبل القرن السابع، أم في الغرب , فقد خشرت يهوذا إقليماً هاماً في شفيلة نتيجة لعمليات عقابية من قبل الآشوريين تلت حرب العام 701 ق.م. هذه الأراضي ربما زرعت بأشجار الزيتون، التي وفرت مادة صناعة الزيت اليهودي الهامة خلال القرن الثامن. ويبدو أن السيطرة على بساتين الزيتون اليهودية تم نقلها من قبل الآشوريين إلى عقرون الفلستية، التي ازدهرت خلال القرن السابع وورثت دور يهوذا كمنتج رئيسي لزيت الزيتون. وربما وجدت يهوذا بعض التعويضات الاقتصادية من خلال تطوير التجارة مع الجنوب والشرق. ويدل على هذا النشاط في بناء القلاع والمحطات على طول الطرق المؤدية إلى النقب والبحر الأحمر وأدوم وعلى طول البحر الميت، والتي تتعلق ربما بتجارة البخور الناشئة التي تعود بأصلها إلى اليمن وجنوب الجزيرة العربية، قلاع حاصيفا (في منتصف وادي عربة) وقادش برنيع (على الحدود بين النقب وشبه جزيرة سيناء) لعبت على الأرجح دوراً مهماً في هذه التجارة، لأنها تسيطر على الطرق الرئيسية المؤدية إلى طريقين رئيسين نحو البحر الأحمر. ويبدو أن استخدام الجمال لعبور الطرق الصحراوية أصبح شائعا خلال هذه الفترة وسهل مثل هذا النوع من تجارة المسافات الطويلة. وثمة مكانين فريدين للعبادة، يقع الأول بالقرب من مدخل قلعة حاصيفا والآخر هورفات قتيميت (في النقب الشمالي جنوب غرب عراد) وتقع على الطريق الشرقي، وقد تم الحصول فيهما على مجاميع غنية لمواضيع عبادة طينية غير عادية،بما في ذلك الوجه البشري مصبوب على مناصب فخارية، مناصب أخرى التي يمكن أن تستخدم لحرق البخور، وتصاوير فنية أخرى من الصلصال بأشكال مختلفة. أماكن العبادة المدهشة هذه والأعمال الفنية غريبة على يهوذا وربما تكون قد بنيت واستخدمت من قبل الأدوميين،وبالتالي يدلل هذا على الإختراق الأولي للأدوميين باتجاه وادي العربة و النقب الشمالي وانخراطهم في التجارة.
وبدلا من ذلك، بنيت أماكن العبادة هذه على الأرجح من قبل سكان محليين آخرين، وربما من أصول بدوية، الذين انخرطوا في تجارة بعيدة المدى. معرفة الكتابة انتشرت خلال القرنين الثامن و السابع، كما يتضح من النقوش المختلفة. ويعد نقش سلوان في القدس ومراثي الدفن في قرية سلوان، وأجزاء قليلة من النقوش التي عثر عليها في القدس دليل على وجود شكل كتابة نقشي (حجري) في عاصمة يهوذا. نقوش أخرى تشمل نصوص أدبية وصلوات مكتوبة على جدران جصية (في كونتيلة عجرود وتل ديرعلا، وكلاهما يقعان خارج يهوذا)، وابتهالات محفورة على تمائم الفضة، ونقوش قصيرة محفورة على أواني فخارية وكهوف صخرية، ومجموعة من الرسائل المكتوبة بالحبر على شظايا قدور فخارية، من لخيش وعراد، ومواقع عديدة أخرى، وأختام منقوشة على الحجر ودمغات على سدادات كانت تختم فيها وثائق البردي غير المحفوظة، وحتى أجزاء صغيرة من أوراق البردي حفظت في صحراء يهودا الجافة.وهذا ليس سوى غيض من فيض أو قمة جبل الججليد كما يقال، حيث أن معظم المواد المكتوبة تم تدوينها على مواد قابلة للتلف، مثل الرق والبردي. هذه المواد الغنية كتابياً توفر كمية لا تصدق من المعلومات عن كثير من جوانب الحياة اليهوذية, وهي ليست سوى وجه واحد من وجوه النشاط الفكري القوي غير المعتاد في يهوذا، لاسيما في أورشليم في أواخر القرن الثامن واستمرت حتى نهاية النظام الملكي اليهوذي. فهي الفترة التي تمت فيها كتابة أجزاء كبيرة من النصوص الكتابية، وتمفصل اللاهوت التوحيدي اليهوذي وتوطيد القوانين الدينية بين جماعات النخبة للكهنة و القادة الروحيين تركزت حول المعبد في أورشليم،كما يدل على ذلك الكثير من النصوص النبوية ونصوص تدوين التاريخ في الكتاب العبري .
الأحداث قصيرة المدى و العمليات طويلة المدى في إسرائيل و يهوذا
يوحي البحث الآثاري بنوعين رئيسين من أدلة استقصاء الماضي، وهما الأدلة التي لها صلة بالأحداث في الأجل القصير، والأدلة التي تلقي الضوء على التطورات على المدى الطويل داخل المجتمعات البشرية. في علم الآثار الكتابي، النمط الأول من الأدلة يمكن في كثير من الأحيان أن يكون ذو صلة مباشرة بتاريخ السرد الكتابي وغير الكتابي، على سبيل المثال, عمليات البناء الملكي المعروفة من الكتاب، والأحداث العسكرية المعروفة من النصوص الكتابية و غير الكتابية. التهديدات العسكرية والهجمات على الممالك الإسرءيلية واستجابة تلك الممالك إلى هذه التهديدات هي مثال واحد من الأحداث على المدى القصير.و مثال على العمليات على المدى البعيد هو تطور الديانة الإسرءيلية. و الأدلة الأثرية التي تتعلق بالعمليات طويلة المدى تمكننا من إعادة بناء التغيرات عبر الزمن في كثير من جوانب الحياة, مثل النظم الاجتماعية والسياسية والخصائص التاريخية والجغرافية مثل الطرق والحدود الإدارية، اقتصاد الكفاف والضرورة والفن، والحرف، وأساليب العيش و الحياة والدين والإيمان، والإيديولوجيا. كل من الأحداث قصيرة الأجل والعمليات طويلة الأجل تقف كبؤرة البحوث الأثرية المتعلقة بالملكية الاسرائيلية ويمكن أن تكون وثيقة الصلة بالنصوص الكتابية.
الأحداث قصيرة الأجل : علم آثار الحرب
بعض من الأحداث الكبرى ذات الطابع العسكري التي تمت الإشارة إليها في الكتاب في ما يتعلق بالملكية المنقسمة يمكن الكشف عنها من قبل علم الآثار بقدر كبير من اليقينية. وثمة مثال من القرن التاسع ألا وهو هجمات حزائيل، ملك دمشق حوالي 830 ق.م،في الشمال، طبقة الدمار الشديدة التي وضعت حدا لازدهار مدينة رحوف في وادي بيسان ووضع حدا للمرفق الملكي في يزرعيل ربما لها صلة بهذا الحدث. والحريق الهائل الذي وضع حدا لعظمة المدينة الفلستية جت (تل الصافي) في شفيلة يناسب ذكر غزو جت من قبل حزائيل (سفر الملوك الثاني 12 : 18). ومن ثم تختفي المدن من الإشارة الكتابية المتأخرة. و يذكر نقش تل دان معركة ضد يهورام بن آخاب ملك إسرءيل و آخازيا ملك يهوذا (على النحو المذكور بعبارة بيت دود، وإن كانت أسماء الملوك غير محفوظة بشكل جيد وتم إعادة طريقة بناءها بشكل كبير). في هذه الحالة، وكذلك من نقش شلمنصر الثالث الذي يصف آخاب في معركة قرقر، تستكمل النقوش غير الكتابية معلومات تاريخية جديدة غير معروفة في المرويات الكتابية أو تختلف عما ورد في هذه المرويات كما تضيف هذه النقوش أيضاً صلاحية الإطار التاريخي العام للقرن التاسع كما هو معروف لنا من النص الكتابي، على الرغم من أن إشارات في هذه النقوش قد تكشف عن عدم اكتمال السرد الكتابي، وبعضها يعاني من تشوهات حدثت في عملية انتقاله. وقد تم الكشف عن الإستجابات المحلية للتهديدات الآشورية عن طريق البحث الأثري. ابتداء من منتصف القرن التاسع، بنى الإسرءيليون و جيرانهم أنظمة تحصين ضخمة كانت مشابه أيضا، لما هو موجود في شمال سوريا المعاصرة، و هي تشتمل على جداران ضخمة للمدينة مع أبراج بارزة، في كثير من الأحيان مع جدار ثاني على منحدر التل. كما أضيفت الخنادق المائية و المنحدرات الأرضية أو الحجرية في بعض الحالات. وكانت بوابات المدينة ضخمة و تحتوي على أربع أو ست غرف حراسة. منعت الدفاعات الخارجية الإقتراب المباشر لمبنى البوابة. مثل هذه التحصينات كان القصد منها مقاومة المجانيق وآلات الحصار الأخرى المستخدمة من قبل الجيش الآشوري.
وجد نظام فريد ومتطور لشبكات المياه في المدن الإسرءيلية لتوفير المياه للمدن في زمن الحصار. ومثل هذه الأنطمة غير معروفة خارج إسرءيل وتنوعها في المدن الإسرءيلية يعكس درجة من البراعة والمهارة والهندسة، وقدرة المجتمع وقادته لتنفيذ الأشغال العامة الكبرى.لعل أشهرها هو نفق حزقيا في القدس بطول يصل إلى 512 مترا في الصخر الغاية منه جر المياه من نبع جيحون إلى داخل المدينة.أنظمة أخرى أدت إلى المياه الجوفية تحت المدينة(مثل"بركة"جبعون وشبكة المياه في حاصور) أو إلى ينبوع أو غيره من مصادر المياه(في مجدو ، بئر سبع ، ونفق جبعون).
المجمعات الضخمة المستقرة في مجدو، المقصود منها حفظ خيول العربات العسكرية، هي مثال آخر على الجهود الملكية للدولة للحفاظ على القوة العسكرية. على الرغم من أن بعض العلماء لا يوافق على مطابقة هذه المباني كإسطبلات، وأظهرت دراسات عدة أن هذه المطابقة هي الأكثر إقناعا. كان من الممكن استيعاب نحو 450 حصان في هذه الإسطبلات، التي تشغل نحو أربعين بالمائة من المساحة الداخلية للمدينة المحصنة مجدو. وهذا يؤكد المستوى العالي من التنظيم العسكري والأولوية التي توليها المملكة للحفاظ على قوتها العسكرية. تم تأريخ هذه الإسطبلات من قبل معظم العلماء إلى وقت آخاب في القرن التاسع ق.م، وهو الملك نفسه الذي لعبت عرباته دوراً هاماُ في معركة قرقر المذكورة أعلاه. وأما إسناد هذه الإسطبلات ليربعام الثاني من القرن الثامن،كما اقترح فنكلستين فيعد أقل احتمالا، وإن يكن ممكنا. الهجمات العسكرية الآشورية في الثلث الأخير من القرن الثامن تقدم أمثلة وافرة عن العلاقات المتبادلة بين النصوص الكتابية و المصادر الآشورية المكتوبة و علم الآثار. استخدام قوة هائلة ومنظمة جيدا عسكرية متطورة مجهزة بمجانيق القذف، استطاع الآشوريين، غزو، وضم و إلحاق، وحكم أجزاء كبيرة من الشرق الأدنى القديم. وفي العام 732 ق.م قام تغلات بلصر الثالث بغزو الجليل، وفي العام 722 ق.م سقطت السامرة وانتهت مملكة إسرءيل الشمالية. تم ذبح سكانها، أو ترحيلهم، أو فروا إلى يهوذا. وبعد سنوات قليلة، وتحديدا في العام 701 ق.م استسلمت المدن الفلستية أشدود وعسقلان وغزة وعقرون لآشور. وبدأ حزقيا ملك يهوذا، تمردا ضد آشور بمساعدة من مصر، "القصبة المكسورة" كما إشعيا عنها بالرمز. وتعرضت يهوذا لهجوم من قبل سنحاريب الذي فتح 46 مدينة وفقاً لنقوشه، بما في ذلك لخيش، المدينة الثانية من حيث الأهمية في المملكة. وتركت أورشليم وحدها لم تفتح. الطبقات الثقيلة المدمرة في العديد من مواقع القرن الثامن بسبب عمليات الغزو هي دليل على النجاح الآشوري. الإستيلاء على الجليل ووادي يزرعيل في العام 732 ق.م على يد تغلات بلصر الثالث يؤكده علم الآثار في شكل طبقات الدمار في جميع المواقع الرئيسية التي تمت فيها عمليات التنقيب، بما في ذلك دان، حاصور، طبريا، وبيت شان،وتل رحوف، ومجدو، ويقنعام, ودور. الفتح النهائي للمملكة الشمالية في العام 722 تؤكده مواقع السامرة و ترصة ( تل الفارعة)، وكذلك في مواقع ثانوية مثل خربة المرجمة. وهجرت الكثير من هذه الأماكن عقب الغزو الآشوري تماشياً مع الصورة الكتابية والسجلات الآشورية عن المذابح والطرد الجماعي للسكان. لقد أتيحت لي الفرصة لحفر طبقتين من هذا الدمار في بيت شان،حيث تم الكشف عن وجود مسكن يعود للقرن الثامن احترق في العام 732 ق.م. كما عثر على العديد من الأواني الفخارية والقطع المنزلية في طبقة الدمار وتلى ذلك هجرة البلدة. وفي أعمالنا التنقيبية في تل رحوف الذي يبعد ثلاثة أميال الى الجنوب من بيسان، تم الكشف عن جدار المدينة بعرض تسعة أمتار من الطوب، الذي يبدو أنه قد تم بناؤه على عجل خلال القرن الثامن.
ربما كان المقصود منه الوقوف في وجه ضربات المجانيق. وقد اكتشفنا أيضا أدلة على وقوع مذبحة بسبب العثور على هياكل عظمية بشرية ملقاة في طبقة تدمير منزلين. في كل من هذه المواقع، أعقب الغزو الاشوري فترة قصيرة من الإستيطان العشوائي الذي تلاه بدوره هجرة أو فجوة طويلة في الاستيطان كشف في تل رحوف، القبور التي شملت على فخار آشوري ربما تعود إلى الجنود أو المسؤولين الذين خدموا في الحصون الآشورية التي لم يتم الكشف عنها بعد, كتلك التي اكتشفت في حاصور و أماكن أخرى.
غزو سنحاريب ليهوذا في العام 701 ق.م. هو أحد أحداث العصر الحديدي الموثقة جيداً. ويمكن للنصوص الكتابية والنقوش الآشورية والجداريات الآشورية والأدلة الأثرية من يهوذا أن تتكامل في صورة واحدة شاملة. في يهوذا، شملت الإستعدادات للغزو الآشوري تحصين أورشليم وحفر نفق حزقيا في الصخر-كلا الأمرين تم ذكرهما في السجلات الكتابية- . وللدفاع عن المدينة ضد مجانيق سنحاريب قام حزقيا على الأرجح بتشييد جدار عرضه سبعة أمتار و طوله نحو ثلاث كيلومترات طولا،(عثر على أجزاء منه في الحي اليهودي في المدينة القديمة). وقد تم إزالة مبان سابقة أثناء بناء الجدار،الأمر الذي يستدعي كلمات أشعيا[10 وَعَدَدْتُمْ بُيُوتَ أُورُشَلِيمَ وَهَدَمْتُمُ الْبُيُوتَ لِتَحْصِينِ السُّورِ.سفر إشعيا (22 : 10)]. كما ذكر مشاريع حزقيا المائية في عدة نصوص كتابية (ملوك ثاني 20 : 20: 20 وَبَقِيَّةُ أُمُورِ حَزَقِيَّا وَكُلُّ جَبَرُوتِهِ، وَكَيْفَ عَمِلَ الْبِرْكَةَ وَالْقَنَاةَ وَأَدْخَلَ الْمَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَمَا هِيَ مَكْتُوبَةٌ فِي سِفْرِ أَخْبَارِ الأَيَّامِ لِمُلُوكِ يَهُوذَا؟) و (إشعيا22 : 10 -11 :10 وَعَدَدْتُمْ بُيُوتَ أُورُشَلِيمَ وَهَدَمْتُمُ الْبُيُوتَ لِتَحْصِينِ السُّورِ.11 وَصَنَعْتُمْ خَنْدَقًا بَيْنَ السُّورَيْنِ لِمِيَاهِ الْبِرْكَةِ الْعَتِيقَةِ. لكِنْ لَمْ تَنْظُرُوا إِلَى صَانِعِهِ، وَلَمْ تَرَوْا مُصَوِّرَهُ مِنْ قَدِيمٍ.) و(أخبار ثاني 32 : 30 : 30 وَحَزَقِيَّا هذَا سَدَّ مَخْرَجَ مِيَاهِ جَيْحُونَ الأَعْلَى، وَأَجْرَاهَا تَحْتَ الأَرْضِ، إِلَى الْجِهَةِ الْغَرْبِيَّةِ مِنْ مَدِينَةِ دَاوُدَ. وَأَفْلَحَ حَزَقِيَّا فِي كُلِّ عَمَلِهِ.). و في الحقيقة, نفق حزقيال معروف جيدا لنا ونقش سلوان عثر عليه على مقربة من نهاية النفق يصف بلغة عبرية شعرية زاهية اللحظة التي التقت فيها في منتصف الطريق من النفق مجموعتين من العمال الذين كانوا ينحتون الصخور من جانبي مدينة داود. وفي الآونة الأخيرة، حاول اثنين من الباحثين التصحيحيين إرجاع تاريخ هذا النقش إلى الفترة الهلنستية، ومع ذلك يعتبر هذا مثالاً متطرفاً على الإفتراضات العبثية في الدراسات التاريخية المتعلقة بإسرءيل القديمة. وكانت تحليل الكربون المشع التي أجريت مؤخرا على الجص الموجود في جدران النفق قد أرجعت عمر النفق إلى القرن الثامن ق.م، وحقيقة أنه قد حفر من قبل مجموعتين من العمال الذين التقوا في نقطة المنتصف، تماما كما هي مذكورة في النقش، تم التثبت منها من خلال علامات حفر الأزاميل على جدران النفق , ويعد هذا النفق دليلاً على براعة غير عادية و قدرة هندسية لأورشليم القرن الثامن.
ثمة اكتشاف هام يمت بصلة إلى تنظيم يهوذا في خضم استعداها للثورة ضد سنحاريب وهو آلاف الجرار المتشابهه في الحجم (بسعة حوالي خمسة وأربعين لتراً)، والشكل، وتركيب الفخار, وما نسبته نحو عُشْر هذه الجرار تقريبا كان مختوما بخاتم ملكي يحمل عبارة "ل م ل ك lmlk" [للملك] و واحد من أسماء أربعة أماكن (حبرون، زيف، سوكوه، ممشت). و في حالات أقل،أحد مقابض جرة كان مختوما بخاتم موظف، وقد ذكر اسمه واسم أبيه. حوالي ألفي ختم مدموغة بعبارة " ل م ل ك" [ للملك] معروفة اليوم. و قد عثر عليها بصورة أساسية في"منطقة الحرب"، أي في مناطق أورشليم وشفيلة حيث دارت المعارك ضد الآشوريين في العام 701 ق.م. استخدمت هذه الجرار على الأرجح لتخزين وشحن المواد الغذائية وتدل على استعدادات شاملة للحرب من قبل حزقيا وضباطه. غزو سنحاريب خلف وراءه سلسلة من المدن المدمرة. ومن بين هه المدن ت توثيق بشكل جيد غزو مدينة لخيش و فتحها بصورة أفضل من خلال المصادر الكتابية (سفر الملوك2 18: 14- 17)، والمصادر الآشورية، والإكتشافات الأثرية في لخيش نفسها. وتشمل المصادر الآشورية نقوشا تفصيلية ضخمة ونقوش جدارية عظيمة في أعمق غرفة في قصر سنحاريب في نينوى. وتصور النقوش جدران المدينة، ومتاريس الحصار، وتفاصيل مختلفة عن الجيش الآشوري، بالإضافة إلى اليهوذيين المهزومين الذين أعدموا أو الذين اقتيدوا للمنفى مع أسرهم. وكشفت عمليات التنقيب في لخيش فقط عن متاريس حصار آشورية لم تكن موجودة من قبل، بالإضافة إلى بقايا أسلحة وقطع تتعلق بالحرب. و يمكن حدس الجهد الذي بذله المدافعون عن المدينة من خلال بناء سور دفاعي داخلي مقابل المتاريس الآشورية. و فعليا المدينة الوحيدة في الشرق الأدنى القديم التي تم حفظها بعيدا عن الغزو الآشوري كانت أورشليم, و يعزو الكتاب ذلك إلى معجزة إلهية (الملوك 2، 19 : 35). في الواقع، أنقذت المدينة بفضل تحصيناتها الهائلة وربما بسبب الأحداث في آشور، التي أجبرت سنحاريب على التخلي عن حصاره قبل الأوان. الرسم الموجود في قصر سنحاريب عن حصار لخيش في الغرفة الأكثر أهمية في قصره في نينوى و حجمها الكبير ربما تشير إلى الإحباط الذي شعر فيه الملك لعدم قدرته على قهر أورشليم.
وقد نستطيع التخمين بأن عرض غزو لخيش في قلب القصر الآشوري كان شكلا من أشكال التعويض عن فشل الآشوريين في أورشليم و نوع من التشويه الدعائي، نظراً لأن لخيش كانت بلدة صغيرة إذا ما قورنت مع غيرها من المدن التي غزاها الآشوريين في جميع أنحاء الشرق الأدنى القديم.
وسيكون من المثير للاهتمام أن نتخيل ماذا كان ليحدث لو نجح سنحاريب في تدمير أورشليم. عالم الآشوريات الإسرائيلي حاييم تدمور ألمح إلى أن مصير يهوذا ربما يكون مشابهاً لما حصل للمملكة الشمالية قبل نحو عشرين عاماً, أي مجازر وترحيل سوف يؤدي إلى وضع حد ليهوذا كدولة مستقلة. في حدث كهذا، لنا أن نتخيل أن التطور الهائل والإنجازات الثقافية ليهوذا في القرن السابع وأوائل القرن السادس لن تحدث. في مثل هذه الحالة، ربما ما كان الكتاب المقدس ليوجد قط، ولن تتطور اليهودية كما هي عليه الآن، ناهيك عن المسيحية والإسلام!
الغزوات البابلية لفلستيا ويهوذا بين 605 و 586 ق.م.كانت أكثر تدميرا من الغزوات الآشورية. وقد تم تحديد حرائق عنيفة في عسقلان، وعقرون، وتمنة(تل البطش)، وأورشليم, ولخيش، وبقية يهوذا. في القدس،أحد المنازل المحترقة على المنحدرات الشرقية لمدينة داود يحتوي على مجموعة من حوالي 53 ختم دمغة على سداد فخارية كانت تختم بها وثائق بردي مطوية. وكما في أماكن أخرى في يهوذا، معظم نهايات الأسماء كانت تحتوي على اللاحقة "ياهو"، وأحدها هو شخص معروف في سفر إرميا، وهو جمارياهو بن شافان، الكاتب في بلاط يهوياقيم ملك يهوذا ([10 فَقَرَأَ بَارُوخُ فِي السِّفْرِ كَلاَمَ إِرْمِيَا فِي بَيْتِ الرَّبِّ فِي مِخْدَعِ جَمَرْيَا بْنِ شَافَانَ الْكَاتِبِ، فِي الدَّارِ الْعُلْيَا، فِي مَدْخَلِ بَابِ بَيْتِ الرَّبِّ الْجَدِيدِ، فِي آذَانِ كُلِّ الشَّعْبِ.] إرميا 36 : 10).و قرأ بَارُوخَ بْنَ نِيرِيَّا ،مساعد إرميا، في بيت الرب قرأ نبوءة إرميا عن أورشليم.تم العثور مؤخرا على سدادة فخارية أخرى باسم شخص معروف من سفر إرميا عثر عليها فوق أساسات مبنى كبير إلى الشمال الغربي من المبنى الحجري في مدينة داود في القدس. وهي تشير إلى يهوحال بن شلامياهو [1 وَسَمِعَ شَفَطْيَا بْنُ مَتَّانَ، وَجَدَلْيَا بْنُ فَشْحُورَ، وَيُوخَلُ بْنُ شَلَمْيَا، وَفَشْحُورُ بْنُ مَلْكِيَّا، الْكَلاَمَ الَّذِي كَانَ إِرْمِيَا يُكَلِّمُ بِهِ كُلَّ الشَّعْبِ .... (إرميا 38 :1)]،وهو أحد أربعة رجال من المسؤولين الذين اتهموا إرميا بارتكاب جرائم، مما أدى إلى سجنه في حوض مليء بالطين في أيام صدقيا قبل وقت قصير من سقوط أورشليم.
عثر على رسائل لخيش،وهي رقائق فخارية عددها 18 في بواة المدينة لخيش، وتحكي قصة الأيام الأخيرة ليهوذا. في سطر واحد شهير يسجل الكاتب "إننا نراقب[ النار] الإشارات من لخيش. . . لأننا لا نستطيع أن نرى عزيقة".وقد اعتبر هذا من قبل العديد على أنه رسالة كتبت أثناء الأيام الأخيرة قبل سقوط لخيش بيد البابليين و تستدعي ما ورد في سفر إرميا 34 : 7.[ 7 إِذْ كَانَ جَيْشُ مَلِكِ بَابِلَ يُحَارِبُ أُورُشَلِيمَ وَكُلَّ مُدُنِ يَهُوذَا الْبَاقِيَةِ: لَخِيشَ وَعَزِيقَةَ. لأَنَّ هَاتَيْنِ بَقِيَتَا فِي مُدُنِ يَهُوذَا مَدِينَتَيْنِ حَصِينَتَيْنِ.]. ومن الجدير ذكره أن أورشليم و معظم يهوذا تحولت إلى خرائب لعقود عدة في أعقاب الغزو البابلي . و يمكن التأكيد على استمرارية الحياة خلال الفترة البابلية فقط في أرض بنيامبن شمال أورشليم ,وهذا يتفق مع الأدلة الكتابية المتصلة بجدليا بن أحيقام وعدة إشارات في سفر إرميا تلمح إلى هذه الإستمرارية لسكان يهوذا في هذه المنطقة بالذات.
العمليات طويلة المدى : قضية الدين الإسرائيلي
يشير هذا المسح الظاهري السطحي إلى دقة إطار السرد الكتابي بخصوص الأحداث التاريخية قصيرة المدى إلى حد ما ويمكن إما تأكيدها أو فحصها و تصحيحها في ضوء البيانات الأثرية. غير أن مثل هذه الأحداث القصيرة المدى و سجلاتها الأثرية ليست سوى جانب واحد من جوانب المشروع الآثاري. ويكرس جزء كبير من البحوث لإعادة بناء العمليات طويلة المدى المتعلقة بمختلف جوانب الحياة. وقد أصبحت الجوانب الاجتماعية والاقتصادية لإسرءيل القديمة وجيرانها خلال العصر الحديدي الثاني من مواضيع البحث الواسع في السنوات الأخيرة، مما أسفر عن دراسات عدة تحيل تاريخ التوطن والزراعة و التقنية والتخطيط الحضري والعمران، وغيرها من جوانب الحياة. وتقوم العديد من الأطروحات التي نشرت مؤخرا و المتعلقة بذات المواضيع (مثل الدين، والبنية الاجتماعية، والحياة اليومية في إسرءيل القديمة) على البحوث الميدانية الواسعة، والتي كشفت عن معطيات جديدة. ومن غير الممكن في هذا السياق حتى التطرق بإيجاز لمثل هذه القضايا.ولذا سوف أقصر نفسي على جانب واحد فقط، وبالتحديد، ديانات إسرءيل ويهوذا ,وهو موضوع نوقش باستفاضة في دراسات عدة مؤخرا، من بينها الكتب الشاملة لكل من: زيوني زيفيت، وراينر ألبيرتز،ووليم ديفر.
كان لكل دولة إقليمية من دول العصر الحديدي إلهها الرئيسي الخاص بها: ملكون في عمون،كموش في مؤاب، قوس في أدوم، يهوه في إسرءيل و يهوذا. عثر على أسماء خاصة منقوشة على أختام و دمغات وغيرها من الوثائق المكتوبة في يهوذا (معظمها يعود للقرن الثامن وما بعد) تتضمن في حالات عدة اللاحقة الدينية"ياهو"، بينما في إسرءيل الشمالية كانت اللاحقة الشائعة هي"يو". و كلاهما يعكس الإيمان في إله إسرءيل، يهوه، الإله القومي للمملكتين على حد سواء. بيد أنه يمكننا أن نجد في المملكة الشمالية أسماء تنتهي يلواحق تشير إلى أسماء ألهية نهانية مثل بعل ،حيث التركة القديمة الكنعانية في إسرءيل كانت أقوى منها في يهوذا. وفي الواقع،اشتمل سكان المملكة الشمالية على العديد من السكان الأصليين الكنعانيين الذين سكنوا شمال الوديان الرئيسية. وبالإضافة إلى ذلك، كانت إسرءيل تقع تحت تأثير قوي من فينيقيا القريبة. وعند تحليل المصادر الكتابية بالغضافة إلى اللقى الأثرية يتبين لنا أن مرور الديانة الإسرءيلية بمراحل عديدة من التطور. وقد عرفت عبادة يهوه جنبا إلى جنب مع قرينة له اسمها عشيرة من نقوش موقع كونتيلة عجرود، وهو حصن يعود للعام 800 ق.م يشبه بنية القلعة يقع في الجهة الشرقية من صحراء ء سيناء.و يجثم هذا هذا الموقع غير العادي والنائي على الطريق الرئيس بين غزة والبحر الأحمر، ويبدو أنه استخدم كمحطة، فضلا عن كونه مركز نشاط ديني استخدم على ما يبدو من قبل أفراد ينمون لإسرءيل و يهوذا على حد سواء،نظرا لأن الموقع يكشف عن بقايا فخارية تمثل كلا المملكتين,وعثر في الموقع على نقوش بالحبر و رسومات جصيّة جدارية ، وكذلك العديد من جرار الفخار و حوض حجري، يحتوي صلوات و أدعية وابتهالات. و يظهر الجمع المماثل ليهوه و عشيرة في نقش عثر عليه في كهف خربة الكوم في شفيلة (مكيداه الكتابية؟) حيث يظهر نقشا مكرسا ليهوه و" عشيرتـ ه " أو ربما يكون نقش صلاة. و يعكس مثل هذا الجمع لى الأرجح لاهوتا يختلف كثيراً عن الديانة التوحيدية الخالصة كما هي محفوظة لنا في الكتاب العبري. وتبين هذه الأدلة على استمرارية قوية للديانة الكنعانية، حيث كان إيل رئيس البانثيون[الكنعاني] وعشيرة رفيقته. وفي حين تم إدانة عبادة عشيرة من قبل أنبياء أورشليم، فهم يمثلون على الأرجح لاهوتا جديدا بدأ بالظهور في أواخر العهد الملكي بين النخبة الفكرية لأورشليم، في حين أن الدين الشعبي المعتمد من قبل الشعب كان تقليدياً أكثر، ومحتفظاً وحافظاً للأفكار و المعتقدات الأصلية المتجذرة في الديانة الكنعانية .
وتحتوي القلعة المهيبة في عراد في النقب الشمالي التي تحمي الحدود الصحراوية والطرق المؤدية إلى أدوم منذ القرن التاسع ق.م على المعبد اليهوذي الوحيد الذي اكتشف حتى الآن وهو عبارة عن قاعة واسعة تحتوي على محراب, ينتصب بداخله حجرين (masseboth)، أحدهما أكبر من الآخر، وأمامها مذبحين للبخور, ووجد في الباحة أمام القاعة مذبح تضحية. ربما يدل وجود الحجرين المنتصبين المتعلقين بمذبحي البخور على عبادة يهوه و زوجته عشيرة، كما هو الحال بالنسبة للنقوش المذكورة أعلاه. ويرى يوحنان أهاروني، أن معبد عراد يعود إلى الفترة الممتدة من القرن العاشر حتى القرن السابع، واقترح أن المعبد تضرر خلال إصلاح حزقيا الديني وخرج من الإستخدام خلال الإصلاح الديني ليوشيا في أواخر القرن السابع، وكان يعتقد أن يكون هذا مثال ساطع على العمل الميداني الأثرية التي يوضح المقاطع الكتابية الشهيرة. ولكن للأسف، التحاليل الحديثة جدا للسويات الأثرية في عراد و الكرونولوجيا قادت زئيف هيرتسوغ للشك في هذه العلاقات المتبادلة، و اقترح هيرتسوغ الآن أن المعبد كان قائما قبل زمن حزقيا وخرج من الإستعمال حتى قبل وقته. هذا الاستنتاج، الذي فكك الارتباطات الكتابية لآهاروني، لا بد من تقييمه في نهاية المطاف عن مقارنته بتقرير العملية الإستكشافية المفصل(الذي لم ينشر بعد).
المعبد الشعبي الوحيد الضخم تم استكشافه بعيدا إلى الشمال في إسرائيل هو الذي عثر عليه في تل دان، والذي تم تعريفه من قبل أبراهام بيران، باسم معبد (بين بموت) تم نصبه من قبل يربعام الأول في نهاية القرن العاشر ق.م, وباعتباره واحدا من اثنين من المراكز الدينية التي كان القصد منها أن تكون منافسة لمعبد أورشليم ( [28 فَاسْتَشَارَ الْمَلِكُ وَعَمِلَ عِجْلَيْ ذَهَبٍ، وَقَالَ لَهُمْ: «كَثِيرٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تَصْعَدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ الَّذِينَ أَصْعَدُوكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ».29 وَوَضَعَ وَاحِدًا فِي بَيْتِ إِيلَ، وَجَعَلَ الآخَرَ فِي دَانَ.30 وَكَانَ هذَا الأَمْرُ خَطِيَّةً. وَكَانَ الشَّعْبُ يَذْهَبُونَ إِلَى أَمَامِ أَحَدِهِمَا حَتَّى إِلَى دَانَ.31 وَبَنَى بَيْتَ الْمُرْتَفَعَاتِ، وَصَيَّرَ كَهَنَةً مِنْ أَطْرَافِ الشَّعْبِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ بَنِي لاَوِي.]" سفر الملوك الأول 12 : 28 -31"),وحتى لو كان هذا التأريخ الدقيق الأساسي لمعبد تل دان موضع شك وتساءل، فإن وجود هيكل رئيسي في دان خلال القرنين التاسع والثامن أمر لا يرقى إليه الشك. وملحق المعبد على هيئة منصة بنيت من الحجارة التي تدعم المعبد، والتي قد تكون احتوت على "العجل الذهبي" المذكور في سفرالملوك الأول 12 : 29. وقد عثر في الفناء الواسع مقابل واجهة المعبد على مذبح تضحية بأربعة قرون، وتعد هذه الأخيرة جزءا أساسيا من المذبح في الكتاب[المقدس].
استخدمت الغرف الفرعية في جانب غرفة المذبح لطقوس ووظائف عبادة أخرى. وكان قد عثر على مذابح مشابه بأربعة قرون مبنية من الحجارة المربعة"المداميك" في بئر السبع واستمر في نشاطه في وقت ما خلال القرنين التاسع والثامن ق.م . وفي وقت لاحق، وربما خلال فترة حزقيا، تم تفكيكه واستخدمت حجارته كمواد بناء. وهذا يشير شيوع هذه المذابح ذات الحجارة المربعة في إسرءيل و يهوذا في القرنين التاسع والثامن. ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ أنه في كلتا الحالتين،تم تشييد المذابح من حجارة مقطوعة بصورة جيدة، خلافا للشريعة الكتابية التي تشترط أن يبني مذبحا من حجارة مقطوعة. و يمكن مقارنة العجول الذهبية المشار إليها في الكتاب كموضوع عبادة رئيسي في دان و بيت إيل،بالملائكة في معبد أورشليم. وربما هم يرمزون بقاعدة التمثال لإله إسرءيل غير المرئي، على غرار التصوير الكنعاني والآرامي لإله العواصف الذي يقف على ثور.
وكما لوحظ في الجزء الثاني، يظهر الثور الشاب في موقع عبادة، "موقع الثور" في شمال السامرة و يعود للقرن الثاني عشر ق.م.و يظهر مذبح الفخار (المعروف باسم"نصب العبادة" الذي يعود للقرن العاشر ق.م ) و الذي عثر عليه في تعنك المذكورة أعلاه ثور أوعجل تحت قرص الشمس المجنح في الجزء العلوي من تصوير أربعة مستويات. في الطبقة الدنيا هناك آلهة عارية, اقترح البعض أن المشهد يظهر مزج بين إله إسرءيل (الذي يرمز له بالعجل و القرص المجنح ) والإلهة عشيرة.
تم العثور في مواقع متعددة على أدلة على أماكن عبادة محلية وأماكن عبادة قرب بوابات المدينة أو في المناطق المفتوحة داخل المدينة، مثل دان، تل رحوف، مجدو والسامرة، ولخيش. وتم الكشف عن استخدام الحجارة المنتصبة أو"مصبوت"كما ترد في الكتاب في العديد من هذه الأماكن، على سبيل المثال في بوابات المدن في دان وبيت صيدا (المدينة الآرامية الكبيرة إلى الشمال من بحيرة طبريا [ربما تكون عشيروت]). كانت الحجارة المنصوبة مرفوضة, مثلها مثل عبادة الألهة عشيرة ,من قبل الأنبياء باعتبارها رمزا لعبادة (كنعانية) غريبة.ولكن وجودهم في هذه المواقع يشير إلى أن هذه الحجارة المنتصبة كانت شائعة في كل من إسرءيل ويهوذا.وعثر على العديد من التمائيل الطينية لنساء عاريات عثر عليها في كل من إسرءيل تمت على الأرجح بصلة للعبادة الشعبية لعشيرة. كان الرسم في المملكة الشمالية، وكذلك في فيليستيا،طبيعياً، مع التشديد على العناصر الجنسية والأسلوب الفني هو من صلب الفن الكنعاني وربما هو مستوحى من الفن الفينيقي المعاصر. وكانت التماثيل التي ظهرت في يهوذا خلال القرنين الثامن و السابع منمقة أكثر. وفي حين أن شكل الرأس بدى طبيعياً، فقد كان بقية الجسم يظهر على هيئة دعامة، ربما مثل جذع شجرة، التي ترمز لعشيرة و تظهر هذه التماثيل بيدين عادة ما تكون داعمة للثديين البارزين. كما وجدت المئات من شقف التماثيل في القدس تؤرخ للقرن الثامن حتى أوائل القرن السادس تشير إلى رواج عبادتها في المدينة، ناهيك عن أماكن أخرى في يهوذا في الوقت الذي كان فيه الأنبياء في أورشليم يعظون ضد عبادة عشيرة. وكانت تماثيل النساء العاريات أيضا من مواضيع الزخرفة على المذابح الفخارية من القرن العاشر كتلك التي عث عليها في تل رحوف و بيلا. وتميزت هذه المذابح بوجود أربعة قرون في الغالب مثل المذابح الحجرية التي وجدت مواقع عدة و استخدمت لحرق البخور أو لتضحيات صغيرة، ينبغي أن ينظر لها على أنها جزء من الدين الشعبي في ذلك الوقت. وفي حالات قليلة كانت هذه المذابح مزخرفة بإتقان مثل المذبحين العائدين للقرن العاشر الذين تم العثور عليهما في تعنك و التي تظهر الجذور الغنية لفن الأيقونة الكنعاني.
يكشف هذا الإستعراض الموجز عن أن الدين الإسرءيلي رغم أنه تركز على الإله القومي يهوه، فإنه تأسس, خلال معظم فترة الحقبة الملكية على الأساطير الكنعانية، والمعتقدات، وطقوس عبادة، وآلهة كبيرة عبدت جنبا إلى جنب مع الإله الذكوري الرئيسي. وجرى تغيير كبير في أواخر القرن الثامن و القرن السابع في أورشليم وما حولها تمثل بمركزية العبادة في أورشليم. و تبين النقوش والقطع المتعلقة بطقوس العبادة أن التوحيد الإسرءيلي كان نتاج عملية طويلة وتدريجية. وتعتبر أورشليم في عهد يوشيا من قبل عديدين كمكان وزمن توطد فيه الدين اليهوذي وأصبح جوهر التطورات اللاحقةالتي طرأت على اليهوذية التوحيدية كما نعرفها اليوم ، وهو التطور الذي تبلور أكثر خلال فترة السبي وما بعد السبي .
يمكن لعلم الآثار أن يعرض مقترحات فقط بخصوص ازدهار ديني و لاهوتي شديد، وأنشطة أدبية في القرن السابع ق.م. و النصوص الأدبية التي عثر عليها في الواقع في أعمال الحفريات والتي تؤرخ للقرن السابع هما نسختين من دعاءات البركة ( سفر العدد 6 : 24 – 25 ). وأحد أكثر الصلوات اليهودية أهمية اليوم. وقد عثر غابريل براكي على قطعتين من رسائل مصغرة لتعويذات فضية صغيرة والتي كانت من بين لقى غنية في مغارات دفن في وادي هنوم في القدس، وهي تشير إلى أن هذه النصوص كانت معروفة جيدا في أورشليم قبيل نهاية الملكية. بالإضافة إلى ذلك، عثر على رسالة عبرية في الحصن الساحلي هاشفياهو متسادا تدل على معرفة مباشرة للقوانين الإجتماعية( التشريع) المذكورة في سفر التثنية 24: 12 – 13 ,و التي تحظر أخذ آخر قطعة من ملابس الفقير، ولذلك فقوانين التوراة كانت معروفة جيدا ومستخدمة في الحياة العملية في القرن السابع.
خاتمة
لقد قيدت نفسي في هذه الدراسة الوجيزة لمواضيع عدة قليلة، مع أن آثار العصر الحديدي الثاني لديها الكثير مما تقدمه في ما يتعلق بالمجتمع والحياة اليومية والاقتصاد والتقنية والعلاقات الدولية والفن والعديد من القضايا الأخرى والتي تمت بصلة إلى مملكتي يهوذا وإسرءيل، فضلا عن جيرانهم الفلستيين والفينيقيين والآراميين والعمونيين والمؤابيين والأدوميين. وبات الكثير معروف عن الحضور الآشوري والبابلي في البلاد. و تعدد المكتشفات المتعلقة بهذه الموضوعات خلال السنوات الأخيرة, وهي في بعض الأحيان باهرة، مثل النقش الملكي الذي يعود للقرن السابع ق.م و الذي عثر عليه في معبد عقرون(تل مقني)، و الذي يشير ا إلى خمسة أجيال من الملوك، بالإضافة إلى اسم كبير آلهة هذه المدينة الفلستية المتأخرة (ربما يمكن أن تقرأ Ptgyh )



#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول الآثار و تاريخ إسرءيل القديمة(5 ...
- ربيع الشام و الحرب على السوريين
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول الآثار و تاريخ إسرئيل القديم(4)
- تمرين في الاقتصاد: متلازمة بومول
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول الآثار و تاريخ إسرئيل القديم(3)
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول الآثار و تاريخ إسرئيل القديم(2)
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول الآثار و تاريخ إسرئيل القديم(1)
- علم الآثار السياسي و النزعة القومية المقدسة(5)
- علم الآثار السياسي و النزعة القومية المقدسة(4)
- Il Postino ساعي بريد نيرودا: مجاز الوعد بوصفه خذلان
- علم الآثار السياسي و النزعة القومية المقدسة(3)
- علم الآثار السياسي و النزعة القومية المقدسة(2)
- المملكة المنسية: تاريخ مملكة إسرءيل في ضوء علم الآثار(7)- ال ...
- المملكة المنسية: تاريخ مملكة إسرءيل في ضوء علم الآثار(6)- ال ...
- المملكة المنسية: تاريخ مملكة إسرءيل في ضوء علم الآثار(5)- ال ...
- علم الآثار السياسي و النزعة القومية المقدسة(1)
- المملكة المنسية: تاريخ مملكة إسرءيل في ضوء علم الآثار(4) -ال ...
- المملكة المنسية:تاريخ مملكة إسرءيل في ضوء علم الآثار(3)-الفص ...
- المملكة المنسية:تاريخ مملكة إسرءيل في ضوء علم الآثار(2)-الفص ...
- المملكة المنسية: تاريخ مملكة إسرئيل في ضوء علم الآثار(1)


المزيد.....




- فيديو رائع يرصد ثوران بركان أمام الشفق القطبي في آيسلندا
- ما هو ترتيب الدول العربية الأكثر والأقل أمانًا للنساء؟
- بالأسماء.. 13 أميرا عن مناطق السعودية يلتقون محمد بن سلمان
- طائرة إماراتية تتعرض لحادث في مطار موسكو (صور)
- وكالة: صور تكشف بناء مهبط طائرات في سقطرى اليمنية وبجانبه عب ...
- لحظة فقدان التحكم بسفينة شحن واصطدامها بالجسر الذي انهار في ...
- لليوم الرابع على التوالي..مظاهرة حاشدة بالقرب من السفارة الإ ...
- تونس ـ -حملة قمع لتفكيك القوى المضادة- تمهيدا للانتخابات
- موسكو: نشاط -الناتو- في شرق أوروبا موجه نحو الصدام مع روسيا ...
- معارض تركي يهدد الحكومة بفضيحة إن استمرت في التجارة مع إسرائ ...


المزيد.....

- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ
- أهم الأحداث في تاريخ البشرية عموماً والأحداث التي تخص فلسطين ... / غازي الصوراني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود الصباغ - البحث عن إسرءيل: مناظرات حول الآثار و تاريخ إسرءيل القديمة(6)