أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف بمناسبة الأول من أيار 2006 - التغيرات الجارية على بنية الطبقة العاملة وحركتها النقابية والسياسية - هنري فيبير - في الستالينية والبيروقراطية















المزيد.....



في الستالينية والبيروقراطية


هنري فيبير

الحوار المتمدن-العدد: 1537 - 2006 / 5 / 1 - 11:39
المحور: ملف بمناسبة الأول من أيار 2006 - التغيرات الجارية على بنية الطبقة العاملة وحركتها النقابية والسياسية
    


(1) ميول الحركة العمالية إلى التبقرط
«نحن لا نستغني عن الموظفين في الرأسمالية وفي ظل سيادة البورجوازية. فالرأسمالية تضطهد البروليتاريا وتستعبد جماهير الشغيلة. وفي الرأسمالية تكون الديموقراطية مقيدة، مضغوطة، بتراء، يشوهها المحيط الذي تخلقه عبودية العمل المأجور وفاقة الجماهير وبؤسها. ولهذا السبب، وما من سبب آخر، يفسد الموظفون منظماتنا السياسية والنقابية (أو بالأصح يظهرون ميلا إلى الفساد) من جراء المحيط الرأسمالي ويظهرون الميل إلى التحول إلى بيروقراطيين أي إلى أشخاص ذوي امتيازات منفصلين عن الجماهير ويقفون فوقها, هذا هو جوهر البيروقراطية. وما لم تصادر أملاك الرأسماليين، ما لم تسقط البورجوازية، يظل حتما شيء من «التبقرط» عند موظفي البروليتاريا أنفسهم» [2] .
(لينين –الدولة والثورة)

1-لا حركة عمالية مستقلة بدون متفرغين متخصصين

يتميز الصراع الطبقي في ظل النظام الرأسمالي بكونه لا يضع وجها لوجه طبقات اجتماعية لها امتيازات بصفات مختلفة (مثلا العامة والأشراف في روما القديمة، والبرجوازية والأرستقراطية في المجتمع الإقطاعي)، بل طبقة سائدة كليا (اقتصاديا وسياسيا وأيديولوجيا)، هي البورجوازية، وطبقة مسودة كليا، هي البروليتاريا. وتظهر نتائج السيطرة البرجوازية على الطبقة العاملة حتى في طرق نضال هذه الأخيرة ضد الوضع القائم: فمن المستحيل عمليا أن يصبح المناضلون العمال قادة فعالين مع بقائهم يعيشون يوميا وضعهم كبروليتاريين.

وتقتضي ممارسة الوظائف القيادية في صراع الطبقات أوقات فراغ وملكة نظرية تتماشى بصعوبة مع الوجود اليومي المنهك في المصنع. وقد اضطرت الطبقة العاملة، المتوخية تأمين فعالية منظماتها، إلى أن تبكر كثيرا في إسناد مهمة حصرية إلى أفضل مناضليها، تتمثل في دفع نضالاتها وتأطيرها. إن قيادة الصراع الطبقي أصبحت إلى حد كبير نشاطا متخصصا يتطلب اختصاصيين. وكان نمو الحركة العمالية بحد ذاته يقتضي أن يتكون داخل المنظمات العمالية جسم من المناضلين المحترفين، «جهاز من موظفي البروليتاريا»، ذوي الخبرة بمشاكل صراع الطبقات والقادرين بالتالي على الوصول بهذا الصراع إلى نهاية ظافرة.

2-الاحتراف النضالي والترقي الاجتماعي

ان يصبح مناضل عمالي متفرغا للحزب، أو للنقابة، يمثل موضوعيا بالنسبة له ترقيا اجتماعيا لا جدال فيه: فهو إذ «يترك الانتاج» يستبدل العمل الشاق، وعدم الاستقرار في العمل، وتعسف رب العمل، بنشاط أغنى وأكثر اعتبارا بما لا يقاس. صحيح أن جهاز الحزب يتعرض لمخاطر القمع البرجوازي، ولكن في دولة ديموقراطية، إذا استثنينا فترات الصراعات الطبقية المكثفة، فإن الحركة العمالية المعترف بها والمحمية دستوريا لا تتعرض للاضطهاد. إن الوصول إلى مركز المتفرغ في إطار الديموقراطية البرجوازية يمثل بالنسبة لكل مناضل عمالي انعتاقا فرديا حقيقيا. وهذا دافع هام من دوافع تعلق معظم المناضلين المحترفين تعلقا شديدا بوضعهم، وهو أيضا من دوافع التحفظ الذي يبدونه حيال عودتهم المحتملة إلى الإنتاج.

3-الميول إلى التبقرط

إن وجود جسم من المناضلين المحترفين، هذا الوجود الذي لا بد منه داخل الحركة العمالية العالمية، يشتمل على مخاطر أكيدة. فمن المشروع التخوف من أن ينفصل العمال السابقون شيئا فشيئا عن الجماهير وأن يتصرفوا لا بوصفهم «خدام» مجموع البروليتاريا، بل بشكل رئيسي كـ«خدام» لشرائحها ذات الامتيازات التي يشكلون هم أنفسهم قسما منها (أنظر تطور الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية، مثلا).

ولكي نكون أكثر دقة نقول أن وجود جهاز واسع من المتفرغين يعرض التنظيمات العمالية لخطرين مرتبطين الواحد بالآخر ارتباطا وثيقا:

ففي الدرجة الأولى، وعلى الصعيد التنظيمي، تنطرح مشكلة الديموقراطية الداخلية، فالحزب قد شكل الجهاز بهدف الفعالية. ولكن الوضع الخاص للقاعدة العمالية، يمكن الجهاز من الخروج من الحدود الصارمة لدوره الخاص به: فمن «خادم» للحزب قد يتحول إلى سيد له. يكفي أن لا تتخذ الاحتياطات التنظيمية الكافية، وأن يساهم الجهاز بعض الشيء في ذلك، حتى يمكن التخوف من أن يفلت جهاز الحزب (جزئيا أو كليا) من رقابة الحزب، وأن لا يعود مركز القرارات السياسية الحقيقي خلايا الحزب الممثلة في مؤتمراته وكونفرانساته القومية، وإنما أن يصبح محصورا بالجهاز، وأن تصبح قاعدة الحزب، بالتالي، جمهور مناورة للكوادر القيادية (أنظر الأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية والستالينية). إن الميول إلى التبقرط (إذا انتصرت) على الصعيد التنظيمي، تصبح مميتة بالنسبة للديموقراطية العمالية.

وعلى الصعيد السياسي، يمكن للجهاز أن يصبح مركزا لمواقف وتصرفات وتنظيرات خطرة تماما.
فالبروليتاريا تنتزع من البورجوازية خلال الطراع الطبقي جملة من المكاسب الجزئية التي لا تمس جوهريا سيادة الرأسمال، ولكنها تسمح بتحسين حقيقي لظروف معيشة الشغيلة. ومن جراء ذلك لا يعود للبروليتاريا قيودها وحدها لتخسرها، وإن بقي أمامها عالم تربحه. فهي قد تخسر على وجه الخصوص تعاونياتها وصناديقها المشتركة ونقاباتها وحزبها وصحافتها أي، بكلمة، تنظيماتها الطبقية التي تستمد منها قوتها. ويقع على عاتق القيادات العمالية أن تقوم باستمرار خلال الصراع بتقدير المخاطر الكامنة في خطوة إلى الأمام قد تهدد المكتسبات القائمة، وان تتحمل مسؤولياتها. ذلك أن حماية ما تم اكتسابه، والنضال بحزم للاستيلاء على السلطة مع المخاطرة بالهزيمة والقمع المضادين للثورة، هما هدفان متناقضان يفرضان القيام باختيار في حقبات معينة. إن الجهاز يميل على الدوام، بسبب وضعه كتجمع فرعي ضمن الطبقة العاملة له امتيازات، إلى القيام بهذا الإختيار من جانب واحد، وذلك باتجاه محافظ يقوم على إخضاع استلام السلطة من قبل الطبقة العاملة لمستلزمات الدفاع عن المنظمات القائمة (أنظر كيف أن الاشتراكية-الديموقراطية الأوروبية تنكرت عام 1914 لالتزاماتها الطنانة في مؤتمري بال وشتوتغارت وضحت ببرنامجها السياسي في سبيل بقائها كحزب جماهيري شرعي. وانظر أيضا استراتيجية البيروقراطية السوفياتية التي تجعل انتشار الثورة العالمية خاضعا لمتطلبات الدفاع عن الاتحاد السوفياتي).

إن جهاز الحركة العمالية في الغرب هو مرتع مثالي لتفشي النزعة البيروقراطية المحافظة، إن بسبب دوره في صراع الطبقات أو بسبب وضعه المتميز بالنسبة لمجمل البروليتاريا. فالتنظيم يصبح في أعين البيروقراطيين العماليين هدفا في ذاته، لا مجال لتعريض وجوده للخطر بالدخول في أعمال «مغامرة» ستثير حتما بطش الطبقات المالكة. والنهاية المنطقية لنزعة الجهاز المحافظة هذه هي السعي وراء طريقة معينة للاندماج ضمن المجتمع البورجوازي. وينعكس ذلك على الصعيد السياسي بافراز شكل ما من الاصلاحية (اشتراكية-ديموقراطية أو ستالينية).

4-احتواء الميول الى التبقرط

ليست ميول الحركة العمالية إلى التبقرط ميولا لا يمكن مقاومتها. فمن الممكن محاربتها ولجمها بالتطبيق البسيط، لكن الصارم، للمبادئ اللينينية في التنظيم: إن الحزب هو منظمة طليعية (لا منظمة جماهيرية) له شروط انتساب صارمة جدا: فهو يضم على أساس سياسي دقيق مناضلي البروليتاريا الأكثر وعيا والأكثر نشاطا، الذين يتلقون علاوة على ذلك تكوينا سياسيا جديا في صفوفه. وهكذا يتقلص إلى الحد الأدنى التفاوت السياسي بين قاعدة كهذه والمتفرغين المتخصصين، وكذلك امكانيات المناورة من قبل الجهاز وميوله إلى الاستسلام لإغراءات الاستقلاق الذاتي. ومن جهة أخرى تؤمن المركزية الديموقراطية، التي تميز النظام الداخلي للحزب، وتؤمن للقاعدة فعليا الحق والوسائل لتحديد التوجه السياسي للحزب وتعيين كوادره القيادية، وعند الحاجة، معارضة خط ما والقيادة التي تتبناه. إن التطبيق الكامل للديموقراطية العمالية داخل حزب طليعي يحد بذاته، إلى أقصى الدرجات، الميول إلى التبقرط.

5-الانحطاط البيروقراطي

ينبغي إذا التمييز بين الميول إلى التبقرط –وهي حتمية ولكنها ليست غير قابلة للمقاومة قبل أن تبلغ حدا معينا- والانحطاط البيروقراطي، الذي يقتضي انتصار الميول إلى التبقرط.

يحصل انحطاط بيروقراطي لحزب عمالي عندما يفلت جهاز المتبقرط والمحافظ افلاتا كليا من إشراف قاعدته ويقيم سيطرته الخاصة على الحزب، فارضا خطه السياسي وقانونه التنظيمي. ولا يمكن تصور هكذا «انتصار» للجهاز إلاّ إذا جهد جناح كامل من موظفي الحزب بشكل واع لدفع سيرورة التبقرط، عوضا من محاربتها، وأصبح عاملها الفعال ضمن التنظيم.

6-ما هي البيروقراطية العمالية؟

يكثر التنديد ضمن الحركة العمالية بالنزعة البيروقراطية وبالبيروقراطيين. وتفهم النزعة البيروقراطية على أنها انحراف نفسي، على صعيد الطبع الشخصي والأخلاق، يمكن تعداد أعراضه بسهولة: الادعاء، احتقار العمل اليدوي والجماهير الكادحة، الكسل، الميل فائق الحد لتكديس الملفات، والادارة من بعيد، الخ. والبيروقراطي هو الموظف المصاب بالنزعة البيروقراطية والذي تظهر عليه اعراضها الرئيسية. ومثل كل انحراف نفسي، فإن النزعة البيروقراطية المفهومة على هذا النحو تزال بتربية ملائمة وباستبعاد غير الكفوئين.

أمّا التحليل الماركسي للظاهرة، فهو لا يهتم بالنزعة البيروقراطية وبالبيروقراطيين بقدر ما يهتم بالبيروقراطية. وهو لا يرى في البيروقراطية تجمعا اسميا، مجرد كتلة تضم كل المتفرغين الفاسدين، مثلما تضم مجموعة الهستيريين كل الأفراد المصابين بالهستيريا.

إنه يرى في البيروقراطية العمالية مجموعة فرعية ضمن البروليتاريا تضطلع بقيادة النضالات النقابية والسياسية للطبقة العاملة، مجموعة فرعية نجدها مباشرة، من جراء طبيعة مهماتها بالذات، بين شرائحها ذات الامتيازات. والبيروقراطية العمالية بصفتها هذه، معرضة للاندماج بسهولة ضمن المجتمع البرجوازي وتميل سياسيا إلى تبني مواقف محافظة، هي التعبير عن ترددها في إعادة النظر جذريا بوضع قائم قد تلاءمت هي معه إلى حد كبير.

يبقى علينا أن نقول أن البيروقراطيات العمالية مطبوعة بعمق بتاريخ المنظمات التي تشكل هي أجهزتها. فالبيروقراطيتان الستالينية والاشتراكية-الديموقراطية تختلفان جوهريا من حيث أصلهما وكيفيى تكونهما (راجع ما ورد أعلاه بالنسبة لتبقرط الأحزاب الشيوعية الغربية). ولكن ذلك لا يقلل من كونهما تشكلان مجموعتين سياسيتين لهما طبيعة واحدة، وكلما «تحررت» البيروقراطية الستالينية في الأحزاب الشيوعية الغربية من تاريخها (انحلال العلاقات مع موسكو، تعدد المراكز) كلما أصبح واقعها السوسيولوجي هو الذي يحدد تصرفها.



--------------------------------------------------------------------------------

(2) تكون البيروقراطية الستالينية
1-خطر تبقرط الدولة العمالية

بعد انتصار الثورة الاشتراكية، تنطرح مشكلة تبقرط الحركة العمالية والدولة التي أصبحت مذاك تحت سيطرتها، بحدة جديدة.

يؤدي انتصار الطبقة العاملة السياسي إلى تحطيم جهاز الدولة القديم وتشريك الاقتصاد. بيد أن المجتمع الجديد الذي يرسي هذا الانتصار أسسه «يحمل أثار» النظام السابق: وعلى وجه الخصوص، بما أن كل مجتمع رأسمالي هو مجتمع فقر نسبي، فإن النظام الاجتماعي الجديد المنبثق من الثورة لا يحوز الوفرة الاقتصادية الضرورية لتطبيق مبادئه. إن المجتمع الشيوعي يقتضي تطورا للقوى المنتجة لا يوجد بشكل مسبق في أي مكان عند استلام السلطة. ومن جراء هذا ليس المجتمع الذي يولد من الثورة الاشتراكية إلاّ مجتمعا انتقاليا نحو الاشتراكية يشتمل على العديد من المخلفات البرجوازية. إن هذه المخلفات، الثانوية على مستوى الانتاج، هي أساسية على مستوى توزيع الخيرات: فالنقص في المواد الاستهلاكية لا يسمح بالمباشرة بأسلوب توزيع اشتراكي (لكل حسب حاجته) ويقتضي بالابقاء على المقاييس البرجوازية للمكافأة، هذه المقاييس بالتي تكرس عدم التساوي، وتكرس بالتالي وجود امتيازات.

لقد كتب ماركس (في «نقد برنامج غوتا») يقول:
«ولكن هذه العيوب محتومة في الطور الأول من المجتمع الشيوعي، بالشكل الذي يخرج فيه من المجتمع الرأسمالي بعد مخاض طويل وعسير». وأضاف: «فالحق لا يمكن أبدا أن يكون في مستوى أعلى من النظام الاقتصادي ومن درجة التمدن الاجتماعي التي تناسب هذا النظام».

أمّا لينين، فيؤكد في معرض تعليقه على هذا المقطع:
«فالشيوعية، في طورها الأول، وفي درجتها الأولى، لا يمكن بعد أن تكون ناضجة تماما من الناحية الاقتصادية، لا يمكن أن تكون خالية تماما من تقاليد الرأسمالية أو رواسبها. ومن هنا هذه الظاهرة التي تستوقف النظر، ظاهرة بقاء «الأفق الضيق للحق البورجوازي» في الشيوعية، خلال طورها الأول. وواضح أن الحق البورجوازي حيال توزيع المنتجات الإستهلاكية يتطلب حتما دولة برجوازية، لأن الحق لا شيء إذا لم يتوفر له جهاز يستطيع الإكراه على مراعاة أحكامه. وينتج عن ذلك أنه لا يبقى الحق البرجوازي وحده قائما في ظل النظام الشيوعي، بل كذلك الدولة البرجوازية بدون البرجوازية»! (الدولة والثورة –1917).

إن دولة ديكتاتورية البروليتاريا هي دولة عمالية بما أنها تدافع عن نظام اجتماعي قائم على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج والهيمنة السياسية للطبقة العاملة. ولكن عليها، من جراء الفقر النسبي السائد، أن تمارس وظائف مماثلة للوظائف الأساسية للدولة البرجوازية: إذ أنه لا يمكن توزيع المواد الاستهلاكية بصورة متساوية على الشغيلة، حسب حاجاتهم. وعلى الدولة أن تنظم توزيعا غير متساو لهذه المواد، حسب مقاييس التوزيع البورجوازية (كمية العمل المبذول). إن توزيعا غير متساو، كمثل هذا التوزيع يقضي بوجوب امتيازات وحرمانات، وبالتالي وجود جهاز للقسر. وأنه لمن الواضح أن العمال الذين أصبحوا موظفين في دولة عليها حتى بهدف التحويل الاشتراكي للمجتمع، ان تتولى تطبيق توزيع غير متساو للخيرات والإبقاء على عدم التساوي الاجتماعي بواسطة القسر، العمال هؤلاء معرضون جديا لخطر التبقرط والانفصال عن الجماهير التي انتدبتهم.

كان لينين يدعو لتدارك هذا الاحتمال على الوجه التالي:
«إن العمال، إذ يستولون على السلطة السياسية، سيكسرون الجهاز البيروقراطي القديم، يحطمونه حتى الأساس، ولا يتركون منه حجرا على حجر وسيستعيضون عنه بجهاز جديد يتألف من العمال والمستخدمين أنفسهم، الذين ستتخذ على الفور، لمنعهم من التحول إلى بيروقراطيين، الإجراءات التي درسها ماركس وانجلز بعناية: 1) ليس فقط انتخابهم بل أيضا إمكانية عزلهم في كل وقت، 2) رواتب لا تزيد على أجرة العامل، 3) اتخاذ تدابير للانتقال فورا إلى قيام الجميع بوظائف المراقبة والإشراف، إلى تحول الجميع إلى «بيروقراطيين» لزمن ما، لكيلا يستطيع أحد من جراء ذلك أن يصبح «بيروقراطيا»». (الدولة والثورة).

كان الهدف من هذه الاجراءات حصر التبقرط في إطار دول عمالية مبنية على أنقاض البلدان الرأسمالية الأكثر تقدما. وكان لينين مقتنعا، ككل البلاشفة، بالطابع الوشيك للثورة البروليتارية في أوروبا الغربية. والطبقة العاملة الأوروبية بمجملها، الطبقة الأكثر عددا والأكثر وعيا ضمن البروليتاريا العالمية، هي التي كانت في نظره ستمارس ديكتاتوريتها بواسطة السوفياتات وسيكون بمقدورها أن تمنع تكوّن بيروقراطية دولة من جديد وأن تمنع استقلالها الذاتي المتزايد.
لم يتصور لينين أبدا انعزال الثورة في روسيا شبه الاقطاعية، المتأخرة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، كوضع قد يطول. وانعزال الثورة هذا، في السياق العام لتراجع الحركة العمالية على الصعيد الدولي، كان يقلص إلى حد كبير من امكانية تطبيق «الاجراءات التي درسها ماركس وانجلز بعناية» وكان يضاعف من أخطار تبقرط الدولة العمالية الجديدة.

إن البروليتاريا الروسية الضعيفة عدديا، والتي عانت الكثير من سنوات النضال الثوري والتي يسحقها الوزن الخاص الهائل للفلاحين، والتي قدمت تضحيات مادية فائقة وثبط عزيمتها فشل الثورة في الغرب، إن هذه البروليتاريا قد عرفت انهاكا تدريجيا لطاقاتها والقتالية والحماسية، وبالتالي، تضاؤلا متزايدا للاهتمام والنشاط السياسيين. وشجع خمول الجماهير المتزايد وانتهاك الديموقراطية البروليتارية، شجعا ممارسة السلطة السياسية من قبل موظفي الحزب والدولة بصورة أكثر فأكثر حصرا.

وعرف جهاز الحزب البلشفي، الذي اندمج إلى حد كبير بجهاز الدولة، نموا فائقا، بسبب وظائفه الجديدة كحزب حاكم: أي رفع البلاد من الخراب، وإدارة اقتصادها ومؤسساتها الجديدة، وإدارة روسيا على كل المستويات.

2-تبقرط الحزب الشيوعي والدولة السوفياتية

أخذ يجري ضمن الحزب نفسه، إنطلاقا من العشرينات، تمايز واضح بين أعضاء الجهاز الذين يمارسون وظائف في ادارة الاقتصاد والدولة، وقاعدة الحزب. وأخذ العمال القدامى الذين أصبحوا موظفين في الدولة السوفياتية أو الحزب الحاكم ينفصلون عن الجماهير وينطبعون بعقلية إداريين ومدراء ضيقة، تهمهم قبل أي شيء الفعالية التقنية، وقد تعبوا من المناقشات الدائمة التي تخص الحزب دوريا، وأصبحوا معادين للمشاريع المجددة ولكل مشروع جريء يقضي بالابتعاد عن الروتين والدروب المطروقة. وأخذ جهاز الحزب والدولة، الذي كان يضم منذ ذلك الحين مئات الآلاف من الموظفين الذين يتلقون راتبا، أخذ يميل إلى أن يتنظم كمجموعة اجتماعية متميزة، تقوم وحدتها على الوظيفة المشتركة وتبدي أفكارا وطموحات وأحاسيس خاصة بها، لا بل مصالح خاصة يتزايد تبلورها يوما بعد يوم، وتلك هي الطامة الكبرى. وتشكلت شريحة جديدة من القياديين ضمن الجهاز وجعلت من نفسها، بصورة مبهمة، المعبر السياسي عنه. إن «الأبارتشيك» (الاداريون ورجال الجهاز) يميلون فعلا إلى التفكير بأن البناء الاشتراكي هو مسألة ذات طابع محض إداري وقومي، ويتمنون، بهذا الحد أو ذاك من الابهام، التحرر من المبادئ القديمة ومن رقابة الجماهير. ولم يعد الذين «يصعدون» ضمن الجهاز أولئك المنظرون اللامعون والخطباء الشعبيون والقادة العماليون الجماهيريون الذين كان الحزب البلشفي قد وضعهم في قيادته خلال نضاله للاستيلاء على السلطة (لينين، تروتسكي، زينوفييف، كامنيف، بوخارين- بريوبراجنسكي- سميلغا- تومسكي الخ..)، وإنما رجال ماهرون فعالون، منظمون صبورون وكتومون، رجال مكاتب وجهاز، حذرون وعنيدون، واعون لأهميتهم.. رجال نظام: (ستالين، كاغانوفيتش، مولوتوف، جدانوف، ياغودا- اوردجوكينيدزه…) (راجع كتاب بيار برويه: تاريخ الحزب البلشفي، فترة 1923-1924).

وكانت قمة الجهاز، الموجودة في المكتب السياسي، تساهم بصورة حاسمة في هذا التنظيم التدريجي لموظفي الحزب والدولة في مجموعة اجتماعية منسجمة. وكان في حوزتها، للقيام بذلك، سلطة هائلة: فأمين سر اللجنة المركزية (أي ستالين منذ عام 1922) الذي يشرف على «مكتب التعيينات»، كان هو الذي ينقل ويعين الموظفين في الدرجات العليا، و«يوصي» في الدرجات الدنيا، ويقوم من خلال ذلك باصطفاء سياسي فعال. وتم نقل حقيقي للسلطة في الوقت نفسه ضمن الحزب الشيوعي على كل المستويات. فانتقلت السلطة السياسية الحقيقية من المؤتمر والكونفرانسات القومية إلى اللجان، سواء كانت منتخبة أو غير منتخبة، ومن اللجان إلى أمناء سرها الدائمين. وأدى استمرار نظام التعيينات وتفاقمه إلى جعل أمناء السر مسؤولين ليس أمام القاعدة وإنما تجاه رؤسائهم التسلسليين في الجهاز. وتشكل تراتب حقيقي للموظفين، أصبح شهرا بعد شهرأكثر استقلالا عن الحزب. وتشكلت مذاك فصاعدا فوق أعضاء الحزب الشيوعي العاديين شريحة عليا، من «رجال الجهاز»، الذين يفتحون السبيل إلى كل المناصب المسؤولة، وغير الخاضعين لإشراف القاعدة، والذين يعاقبون ويكافئون، الخ.

إن «فوج لينين» (تم إدخال 100 ألف عضو، دون أي تكوين سياسي، إلى الحزب بدءا من عام 1924) سيعطي هذا الجهاز جمهور المناورة الذي يلزمه لبسط سيطرته بصورة تامة على الحزب والدولة.

3-البلاشفة في مواجهة التبقرط

إنه مما لا ينكر، بصورة عامة، أن البلاشفة قد قللوا كثيرا من تقدير خطر تبقرط الحزب والدولة السوفياتية. بيد أنهم جميعا فهموا في النهاية خطورة المشكلة، ولكن ليس في آن واحد وبصورة عامة بعد فوات الأوان. فمن المعروف جيدا أن لينين كان يبدي، في آخر فترة من حياته، قلقا كبيرا من صعود الجهاز والنزعة البيروقراطية. وكان يصف الدولة السوفياتية بأنها «دولة عمالية مشوهة بيروقراطيا» ويدعو لضرورة الاستقلال النقابي تجاه هذه الدولة، حتى يكون بوسع الطبقة العاملة الدفاع عن نفسها ضد البيروقراطيين. وقد فهم لينين، بهذا القدر أو ذاك من الابهام، قبل وفاته ببضعة أشهر، أن النضال ضد تقدم التبقرط يمر بإزاحة ستالين. هذا هو معنى مقاله الأخير «من الأفضل أقل، شرط أن يكون أحسن»، ومعنى «وصيته». ولم يدخل تروتسكي، الذي أعطى أصح تحليل لظاهرة التبقرط، والذي حاربها بالصورة الأكثر عزما، لم يدخل المعركة إلاّ متأخرا، وبعد أن فات الأوان لقلب الاتجاه. وأحس زينوفييف وكامنيف بالخطر انطلاقا من عام 1926، وتحالفا مع المعارضة اليسارية «التروتسكية» في جبهة المعارضة الموحدة. وكذلك قام بوخارين، حليف ستالين الرئيسي وملهم سياسته حتى عام 1929، بفضح الديكتاتورية البيروقراطية ما أن أزيح عن السلطة.

وأخيرا سنح لقدماء البلاشفة جميعا الوقت الكافي للتأمل بالهاوية التي أغرقت الديكتاتورية البيروقراطية فيها ثورة أكتوبر خلال تطهيرات 1936 الكبرى ومحاكمات موسكو. ولكنهم كانوا حينذاك في قفص الإتهام، وقد غدوا عاجزين منذ زمن طويل، ومصيرهم الإبادة.

ولأن البلاشفة لم يفهموا قبل فوات الأوان طبيعة الظاهرة البيروقراطية فقد حاربوها محاربة سيئة (أو لم يحاربوها على الإطلاق) وكانوا في النهاية ضحاياها.

4-الانحطاط البيروقراطي للحزب الشيوعي السوفياتي وللدولة السوفياتية

كان وضع روسيا السوفياتية الموضوعي، في إطار انحسار الثورة العالمية المؤقت في سنوات 1923-1924، يجعل التبقرط الجزئي للحزب والدولة العمالية أمرا محتوما في كل حال.

لم يكن بالإمكان أن تزدهر الديموقراطية البروليتارية والتنظيم السوفياتي في بلد منعزل، فكيف بهما في بلد شبه إقطاعي فوق ذلك. إن اندماج الثورة الأوروبية، والثورة الألمانية بالدرجة الأولى، مع الثورة الروسية كان وحده الذي بوسعه أن يعطي لديكتاتورية البروليتاريا الأساس المادي والاجتماعي الضروري لكي تعمل الديموقراطية السوفياتية.
ولكنه كان يمكن حصر هذا التبقرط ضمن حدود يمكن الإشراف عليها، إلى حين قلب الوضع الموضوعي الذي لم يكن طبعا غير قابل للتغير.

لم تكن نهاية مد 1917-1923 الثوري تعني على الاطلاق هزيمة عميقة وطويلة الأمد للحركة العمالية العالمية. منذ 1925-1926، في إنكلترا والصين، ومنذ عام 1930 في ألمانيا واسبانيا، كان بوسع الطبقة العاملة استغلال أزمات المجتمع البرجوازي والاستيلاء على السلطة. وفي حالات عديدة، كانت القيادة البيروقراطية الستالينية هي التي تسببت في الدرجة الأولى بالهزيمة، بفرضها سياسة مغرقة في الانتهازية مبنية على نظريتها حول «الاشتراكية في بلد واحد».

فإذا حدث انحطاط بيروقراطي للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي وللدولة السوفياتية، وإذا لم يمكن حصر الميول إلى التبقرط ضمن حدود معينة، فذلك لأن تكتلا في قيادة الحزب يقوده ستالين ويسانده الجهاز الذي يعبر هذا التكتل سياسيا عن طموحاته، جعل من نفسه العامل لفعال في عملية التبقرط، محررا البيروقراطية من رقابة الطليعة البروليتارية ومحولا الحزب إلى قاعدة مطيعة للمكاتب.

ومذ أصبحت البيروقراطية مطلقة السلطة، ولم تعد مسؤولة إلاّ تجاه نفسها، فإنها منحت نفسها امتيازات استهلاكية هامة، في ذلك الوقت من الفاقة القصوى. وكان فسادها يزداد بقدر ما تزداد سلطتها. وأخذت تعي أكثر فأكثر وجودها كمجموعة اجتماعية متميزة لها مصالح خاصة تدافع عنها ضمن المجتمع السوفياتي ضد المجموعات الإجتماعية الأخرى، وبالأخص في فترة أولى، ضد البروليتاريا التي انتزعت البيروقراطية سلطتها السياسية، والتي تعارض امتيازات البيروقراطية.

إن انتصار البيروقراطية السوفياتية يشكل أوضح تعبير عن انحسار الثورة على الصعيد العالمي الذي بدأ في عام 1923. لقد جاء هذا الانحسار في إطار رأسمالية عالمية قد أثر فيها بعمق منذ ذلك الوقت أفول النظام الرأسمالي. وكانت ضراوة التناقضات بين الامبرياليين، والقوة النسبية للحركة العمالية على المستوى العالمي، وضآلة بقايا الطبقات المالكة القديمة، أو ما يمكن أن يشكل نواة برجوازية جديدة في الاتحاد السوفياتي ذاته، لا تسمح لانحسار الثورة هذا بإعادة الرأسمالية إلى السلطة. فلم يؤثر انتصار البيروقراطية السوفياتية، وهو ثورة مضادة سياسية حقيقية، لم يؤثر بعمق إلاّ في ميدان البناء الفوقي. أمّا أسلوب الإنتاج الاشتراكي، أو البناء التحتي الذي أنتجته ثورة أكتوبر فأبقي وجرى تعزيزه. إن انتصار الثورة المضادة السياسية فوق الأسس الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن الثورة يسمح بوصف الدولة السوفياتية –عبر تفصيل قول لينين- بأنها دولة عمالية منحطة بيروقراطيا. إن الثورة المضادة، مثلها مثل ترميدور الثورة الفرنسية، لم تكن ثورة مضادة اجتماعية بل كانت سياسية على وجه الحصر.




--------------------------------------------------------------------------------

(3) طبيهة البيروقراطية السوفياتية
1- ليست البيروقراطية طبقة اجتماعية

إن البيروقراطية السوفياتية مثلها مثل أية بيروقراطية أخرى لا تشكل طبقة اجتماعية. فوحدتها لا تستند إلى دورها في الإنتاج وعلاقتها بوسائل الإنتاج، وإنما إلى وظيفتها الإدارية التي تستمد منها امتيازاتها دون القيام بعمل منتج مباشرة. إنها تأمر، وتحكم، وتدير، وتوزع، ولكن لا تخلق (بعكس كل طبقة مسيطرة) أساسا اجتماعيا لسيطرتها «بشكل شروط خاصة للملكية». وهي إنماتتزايد وتتجدد بفضل تراتب إداري. وتأتي امتيازاتها من استغلال الدولة لا من علاقات إنتاج محددة. إنها تجاوزات يجعلها ممكنة وضع مؤقت، ولكنها ليست واردة إطلاقا في منطق النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي أقامته ثورة أكتوبر – لا بل العكس هو الصحيح.

بصفتها هذه، فإن هذه الامتيازات البيروقراطية، المرتبطة ارتباطا وثيقا بالوظيفة التي يشغلها البيروقراطي، تزول مع زوال ممارسة هذه الوظيفة. ولا يوجد انتقال وراثي للحق في استغلال الدولة.

إن ديكتاتورية البيروقراطية تقوم على أساس علاقات إنتاج أرستها الثورة البروليتارية. إنها تدافع بطريقتها الخاصة عن ملكية الدولة، منبع سلطتها ومداخيلها. وفي هذا الجانب لنشاطها، تبقى البيروقراطية الحاكمة أداة ديكتاتورية البروليتاريا.

2-الطابع البونابرتي للسلطة البيروقراطية

بصورة عامة، لا تسبح بيروقراطية الدولة في الأجواء. إنها في خدمة طبقة معينة –الطبقة المسيطرة- طبقة تحوز وسائل عديدة للضغط والاشراف على جهازها الحكومي والإداري. بيد أنه قد يحصل أن ترتفع بيروقراطية الدولة فوق الطبقات، وتنصب نفسها قوة مستقلة وتقيم مؤقتا سلطتها الخاصة غير الخاضعة للرقابة، التي تمارسها بواسطة رجل مؤله كلي القوة، «منقذ الوطن» أو «أب الشعوب الصغير العبقري». (راجع كتاب كارل ماركس: 18 برومير لويس بونابرت):

«في ظل حكم الردة الملكية، وفي ظل لويس فيليب، وفي ظل الجمهورية البرلمانية، كانت البيروقراطية أداة الطبقة المسيطرة، مهما جهدت في أي حال لتصبح قوة مستقلة. ولم يظهر أن الدولة أصبحت مستقلة تماما إلاّ في عهد بونابرت الثاني . لقد تعززت آلة الدولة في وجه المجتمع البرجوازي إلى حد أنه أصبح يكفيها أن يكون على رأسها زعيم جمعية 10 ديسمبر».

إن وضعا كهذا ينشأ في حقبات أصبحت فيها التناقضات بين الطبقات الاجتماعية شديدة إلى حد كبير، ولا يسمح ميزان القوى القائم لأي من هذه الطبقات بفرض سلطتها بصورة مستديمة. إن التوازن النسبي بين الطبقات الاجتماعية المتعارضة بصورة لا تقبل التوفيق، يخلق وضعا شديد التفجر «يتطلب» مجيء نظام «سلطة شخصية». إن «منقذ الأمة» (ويفضل أن يكون سيافا ذا أمجاد، وهو رئيس السلطة التنفيذية) يستند أساسا إلى بيروقراطية الدولة التي يقويها ويؤمن لها أقصى درجة ممكنة من الاستقلالية. وهو، بممارسته تأرجحا بارعا، يناور بين المعسكرين، مؤمنا «الحفاظ على النظام»، ومن جراء ذلك، الحفاظ على المصالح الاقتصادية للطبقة المسيطرة.

لا تشكل فكرة البونابرتية في عمل ماركس مجرد مقارية تاريخية، وإنما تشكل مفهوما سوسيولوجيا دقيقا. ويمكن تطبيقها على أي مجتمع طبقي حديث، بما فيه (وعلى وجه التخصيص) المجتمعات الانتقالية نحو الاشتراكية. ففي هذه المجتمعات، كما في المجتمعات البرجوازية، يمكن للهيمنة الاجتماعية للطبقة المسيطرة أن تأخذ أشكالا سياسية شديدة التنوع، حسب تطور ميزان القوى بين الطبقات الاجتماعية: وليس الديكتاتورية البونابرتية إلاّ شكلها الأقل مباشرة والأكثر تضليلا.

إن البيروقراطية السوفياتية، المنبثقة من البروليتاريا الروسية، والتي كانت بالأصل أداة ديكتاتوريتها الطبقية الخاضعة للرقابة، قد استطاعت أن تنصب نفسها قوة «مستقلة» وأن تؤسس ديكتاتوريتها الخاصة على المجتمع وعلى الدولة، وذلك أساسيا من جراء ميزان القوى القائم بين الطبقات الاجتماعية في الاتحاد السوفياتي في سياق انحسار الثورة العالمية. إن ضعف البروليتاريا الروسية المعزولة والتي كانت تواجهها في الداخل القوة النسبية للفلاحين وللبرجوازية الجديدة، وكان يواجهها في الخارج التهديد الدائم بالعدوان الامبريالي، هو ما سمح بتكاثر البيروقراطيين واستقلالهم وانتصارهم.

ولم يكن ممكنا أن تتم ممارسة ديكتاتورية البيروقراطية السوفياتية، وهي جسم من الموظفين شديد التراتب، إلاّ بالشكل الكلاسيكي للسلطة الشخصية. فكان على السلطة السياسية بأكملها أن تتركز بالتحديد في قمة تراتب أمناء السر. وليست «عبادة شخصية ستالين» الاّ نتيجة منطقية فرعية لهذا الشكل من ممارسة الحكم: إن كل بيروقراطية في الحكم تميل بصورة طبيعية إلى إحاطة قممها البونابرتية بهالة العلم بكل شيء والعصمة من الخطأ، لإيجاد أساس في نظر الجماهير تسند إليه شرعية ديكتاتوريتها. ولا يمكن تبرير احتكار السلطة السياسية من قبل البيروقراطية إلا عن طريق جودة قيادتها. ولا يمكن الحفاظ عليه وتعزيزه الا بشرط أن تقوم بين الجماهير والقادة الأعلين علاقة عبادة صوفية وورع بنوي تستفيد منها البيروقراطية بصورة جماعية. إن الطبيعة البونابرتية للديكتاتورية االبيروقراطية إنما هي أساس عبادة الشخصية، وليس عبادة الشخصية هي التي «تفسر» كل عيوب النظام.

وأخيرا فإن الطابع البونابرتي للدولة السوفياتية يتأكد على صعيد الوظيفة الموضوعية التي تؤديها: فالدور الموضوعي للبونابرتية هو الحفاظ على النظام القائم باغتصاب الوظيفة السياسية للطبقة المسيطرة، في ظروف تواجه فيها هذه الطبقة مصاعب كبيرة تقف بوجه ممارستها للسلطة بصورة طبيعية. وهكذا فقد عزز نابوليون النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي أقامته الثورة البرجوازية في الوقت ذاته الذي اضطلع فيه بانتزاع سلطة البرجوازية السياسية وبتصفية مبادئها ومؤسساتها السياسية. وكذلك عزز ستالين المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية لثورة أكتوبر «عن طريق سحق برنامجها الأممي، وحزبها القائد، وسوفييتاتها» (راجع ليون تروتسكي: الثورة المغدورة، 1936).

فيبدو لنا من المشروع الكلام بالتالي على بونابرتية سوفياتية لتحديد طبيعة النظام الستاليني. وسنظهر فيما يلي أن الطبيعة البونابرتية لسلطة البيروقراطية إنما هي بالضبط ما يفسر أساسا السياسة الستالينية. بيد أنه من المناسب أن نذكر في النهاية، أن السمات الخاصة للأنظمة البونابرتية ليست متشابهة في الزمان والمكان. لقد عرف المجتمع البرجوازي خلال تاريخه عدة أنظمة بونابرتية اختلفت بصورة بارزة الواحد عن الآخر، إلى جانب وحدتها العميقة. كذلك فإنه من الواضح أن البونابرتية السوفياتية تتميز عن كل البونابرتيات البورجوازية. فالسمات الخاصة للبونابرتيات المختلفة تحددها أساسا طبيعة الطبقات الاجتماعية المختلفة ووضعها، هذه الطبقات التي يجعل جهاز الدولة نفسه حكما بينها. وما يميز البيروقراطية السوفياتية عن أي بيروقراطية دولة حاكمة أخرى إنما هو كونها تصل إلى درجة من الاستقلال لم يسبق لها مثيل تجاه الطبقة التي يفترض فيها أن تخدمها، وذلك بالضبط من جراء اغتصابها للدور السياسي للبروليتاريا، الطبقة المضطهدة بصورة مطلقة والتي لا تملك (بخلاف البرجوازية) تقاليد طويلة في الادارة والقيادة.

إن البيروقراطية السوفياتية هي في الواقع الشريحة الاجتماعية الوحيدة المسيطرة فعلا وذات الامتيازات ضمن المجتمع السوفياتي. وسلطتها البونابرتية هي بالتأكيد أكثر كلية من ديكتاتورية أية بيروقراطية برجوازية، تكون بالضرورة أكثر بما لا يقاس خضوعا للرأسمالية ولإشرافه. والبيروقراطية السوفياتية هي أيضا أقل تجانسا بكثير وهي، بالتالي، معرضة لتناقضات داخلية هامة توقف وجها لوجه شرائحها وفروعها المختلفة. ومن المستحيل علينا طبعا الدخول في تفاصيل هذا التحليل في إطار هذا النص القصير.

3- الطابع المتناقض للبيروقراطية السوفياتية

إن هذا التحليل للبيروقراطية السوفياتية ولطبيعة سلطتها يسمح بفهم تصرفها السياسي ويلقي بالتالي الضوء بصورة فريدة على تاريخ الاتحاد السوفياتي منذ نصف قرن. وبالفعل، إذا قبلنا بصحة ما تم توسيعه أعلاه، فإن وضع البيروقراطية الحاكمة يبدو غنيا بالتناقضات:

فمن جهة، إن هذه البيروقراطية هي بيروقراطية سوفياتية. وبصفتها هذه، فوجودها قائم بالذات على وجود الدولة السوفياتية والبناء التحتي الاقتصادي والاجتماعي الذي أنشأته ثورة أكتوبر. ومجرد حمايتها لوجودها تقضي بأن تقوم على الدوام بتعزيز الدولة التي تحصل من ورائها على السلطة والامتيازات، وأن تدافع عن أسلوب الانتاج الاشتراكي ضد القوى العاملة لاعادة الرأسمالية سواء كانت داخلية أو خارجية.

ولا يمكن للبيروقراطية أن تحافظ على وجودها إلاّ بشرط أن تحارب في الاتحاد السوفياتي نهوض الطبقات الاجتماعية البرجوازية أو البرجوازية الصغيرة، المعادية للملكية الجماعية لوسائل الانتاج. وبوجه ضغط الامبريالية العالمية، يتوجب عليها على الدوام أن تعزز طاقة البلد الاقتصادية والعسكرية، والعمل على تصنيعه بصورة متسارعة، وعلى التربية التقنية والثقافية للجماهير، الخ.

ولكن البيروقراطية تشكل، من جهة أخرى، فئة طفيلية مغلقة لم تتمكن امتيازاتها من الامتداد والاستقرار مؤقتا إلاّ بسبب ضعف البروليتاريا الروسية وانحسار الثورة في العالم. ويقتضي تعزيز ديكتاتوريتها البونابرتية إدامة الظروف الموضوعية التي ولدتها. فيتوجب عليها، على وجه التخصيص، أن تحافظ في وجه البروليتاريا على الظروف الداخلية والخارجية التي أدت إلى خمولها وساعدت البيروقراطية على انتزاع السلطة السياسية منها.

إن هذه الطبيعة المزدوجة للبيروقراطية السوفياتية هي أساس الطابع المتناقض لوضعها: فهي بقدر ما تدافع (ولو بصورة غير ملائمة) عن الاتحاد السوفياتي وقاعدته الاجتماعية ضد الإمبريالية والقوى الداخلية العاملة لإعادة الرأسمالية، تحطم بالضرورة الظروف التي سمحت بمجيئها إلى السلطة (تأخر روسيا الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وانحسار الحركة الثورية العالمية) وتحفر بذلك قبرها بالذات في الوقت نفسه الذي تنتج فيه الذين سيقومون بدفنها.

ولكن البيروقراطية بقدر ما تنجح بالمقابل في أن تكبح مؤقتا البروليتاريا السوفياتية (في تذريرها كطبقة اجتماعية) وفي إعاقة نهوض البروليتاريا العالمية بالاسيتراتيجية المغرقة في الانتهازية التي تفرضها، تعزز تعزيزا هائلا مواقع الإمبريالية والقوى الداخلية العاملة لإعادة الرأسمالية، وتنسف في نهاية الركيزة الاقتصادية والاجتماعية التي تقوم عليها ديكتاتوريتها الخاصة.

ولأنها ليست إلاّ بيروقراطية مغتصبة لا طبقة اجتماعية، فهي لا تعمل –في التحليل الأخير- فعليا لحسابها الخاص، وسياستها تقوم دائما في النهاية بإفادة طبقة أساسية في المجتمع على حساب سلطتها البونابرتية بالذات. ولا يسمح لها بالحفاظ على التوازن الأساسي الذي يسمح بوجودها إلا تأرجح دائم لسياستها.

كان هذا التأرجح سهلا نسبيا، وظهر مفيدا بوضوح، بين عامي 1924 و1944، وهي فترة انحسار عميق للحركة الثورية في العالم: كانت البيروقراطية السوفياتية تلعب على التناقضات التي تضع وجها لوجه الحركة الثورية العالمية والإمبريالية العالمية، ومختلف القوى الإمبريالية فيما بينها. والطبقات الاجتماعية في الاتحاد السوفياتي نفسه، وكانت تنجح هكذا في الحفاظ على الوضع القائم، أي على التوازن الذي ترتكز علي سلطتها. وكانت هذه حقبة صعود النظام الستاليني وبلوغه ذروته.

إن المد الثوري الجديد الذي أطلقته الحرب العالمية الثانية أتى ليجعل هذا التأرجح أصعب بما لا يقاس. ومنذ عام 1947، دخل النظام الستاليني في حقبة من الأزمات الحادة وبدأت عملية تفككه.

4- الحفاظ على التوازن والانعطافات 180 درجة

إن هذا التأرجح الذي لا غنى عنه والمميز لكل سلطة بونابرتية إنما هو ما يفسر الانعطافات السياسية المفاجئة والعديدة التي قامت بها البيروقراطية. ومن المستحيل فهم المسار المتعرج لسياسة الاتحاد السوفياتي والأممية الشيوعية إذا لم يفهم المرء بوضوح طبيعة المجموعة الاجتماعية التي تحدد تلك السياسة. إن تحليل البيروقراطية ينير بصورة خاصة تاريخ الاتحاد السوفياتي والحركة الشيوعية بأكملها. ولن نتعدى هنا الإشارة الموجزة إلى الحقبات الكبرى.

أ) 1924-1928: ما زالت البيروقراطية حديثة التكون كشريحة اجتماعية مستقلة، حائزة على احتكار السلطة السياسية. إنها تسعى لتعزيز سلطتها، وذلك في وجه البروليتاريا بشكل خاص التي تغتصب البيروقراطية سلطتها السياسية.

إنها تستند بصورة أساسية، على الصعيد الداخلي، إلى الكولاك والنيبمان («النيبمان» هو الذي اغتنى بفضل «النيب»، أي «السياسة الاقتصادية الجديدة» -المترجم) الذين تمنحهم ضمانات سياسية ومنافع مادية. وكانت هذه هي الفترة البوخارينية الشهيرة، فترة «بناء الاشتراكية بسرعة السلحفاة». وقد كان يقضي التحالف مع الطبقات البرجوازية الجديدة بالعدول عن أية سياسة تصنيع وتجميع تدريجيين. وبعد إطلاق «النيب» بأربع سنوات، كان الاعتماد الأساسي ما زال يقوم على القطاع الخاص وعلى قوانين السوق لتأمين النمو الاقتصادي. وأطلق بوخارين نداءه للفلاحين: «اغتنو!»، وأعلن ستالين بوجه المعارضة اليسارية أن بناء سد على نهر دنيبر لا يفيد روسيا أكثر مما تفيد الفلاح الروسي آلة للاستماع إلى الأسطوانات المسجلة. وكان هذا المجرى المغرق في اليمينية يتطلب القضاء على المعارضة اليسارية برمتها. فأصبحت الأحادية الستالينية هي السائدة منذ عام 1927 في الحزب والدولة. وباتت الطاعة والثقة العمياء بالزعماء أولى صفات الشيوعي.

وعلى الصعيد العالمي، أفضى المجرى اليميني إلى تحالفات لا مبدئية مع تشانغ كاي تشيك، ومع البيروقراطية النقابية البريطانية، الخ. على حساب الثورة في هذه البلدان. (راجع كتاب بيار برويه: تاريخ الحزب البلشفي، وكتاب تروتسكي: الأممية الشيوعية بعد لينين).

ب) 1928-1934: توصلت بالطبع السياسة المتبعة سابقا إلى إدامة ضعف الطبقة العاملة السوفياتية والبروليتاريا العالمية، معززة بذلك تسلط البيروقراطية. ولكنها أفضت أيضا إلى تعزيز هائل للقوى الداخلية العاملة لإعادة الرأسمالية. وفي عام 1928، قام الكولاك الذين لبوا نداء بوخارين فاغتنوا وأصبحوا يضعون يدهم على أغلب الحبوب القابلة للبيع، قاموا بتجويع المدن وعرضوا الدولة السوفياتية بأكملها لخطر الهلاك. فكانت نتيجة هذا الوضع المأساوي، الذي تنبأت بع المعارضة اليسارية منذ أمد طويل مما أدى آنذاك إلى وصفها بـ«سريعة الهلع»، كانت نتيجته انعطافا تاما للأوساط القيادية للبيروقراطية وهاجم ستالين الكولاك والنيبمان كخانقين للثورة. وأصدر الأمر الملح بتصفيتهم كطبقة. فحلت بالريف حرب أهلية حقيقية حيث نتج عن التجميع القسري ملايين الضحايا. ولم تنهض الزراعة السوفياتية حتى البوم من جراء الخسارات الهائلة التي لحقت بها في ذلك الوقت. وحلت «الاشتراكية بسرعة العمالقة» محل «الاشتراكية بسرعة السلحفاة» التي كانت تجري الدعوة اليها خلال الحقبة السابقة. وعرف الاتحاد السوفياتي خطته الخمسية الأولى (بعد الثورة بعشر سنوات). إن التصنيع بإفراط سيؤدي إلى هبوط في مستوى معيشة الطبقة العاملة، التي فرضت عليها شروط عمل جائرة. واختفت آخر الحقوق السياسية المنبثقة من ثورة أكتوبر: فأصبح المدير مذاك مطلق السلطة في المؤسسة. وتزايد عدم التساوي الاجتماعي بصورة هائلة مع الزيادة المفرطة للبعد بين طرفي سلم الأجور.

وعلى الصعيد العالمي، عاشت الحركة الشيوعية مجرى «الحقبة الثالثة» الطفولي اليساري، الذي ميزته أطروحة الاشتراكية-الفاشية وتبني شعارات مغامرة في عصر أضعفت فيه الأزمة الاقتصادية الإمبريالية وشلتها، وتجسد الفشل المدوي لهذه «الاستراتيجية» بمأساة البروليتاريا الألمانية، التي سحقتها النازية دون قتال.

ج) 1935-1939: عاود المجرى اليميني مسيرته في الاتحاد السوفياتي. وكانت هذه فترة محاكمات موسكو والتطهيرات الكبرى التي أبيد فيها كل البلاشفة القدامى، وألغي الدستور السوفياتي القديم. وانتصرت الردة في كل مجال، وعلى الخصوص في مجال العادات والثقافة. وجرت إعادة الملكية الفلاحية الخاصة لقطع الأرض الصغيرة ولقسم من المواشي.

أما على الصعيد العالمي، فكان الانعطاف مذهلا، إذ حل محل موقف «الحقبة الثالثة» المغرق في العصبوية موقف مغرق في الانتهازية. وسعت الديبلوماسية السوفياتية وراء التحالف مع «الديموقراطيات» الامبريالية. ونتج عن ذلك انقلاب في سياسة الأحزاب الشيوعية في تلك البلدان. فأخذت الأحزاب الشيوعية تقترع تأييدا للميزانيات، وتشجع الدفاع القومي، وأوقفت كل دعاية معادية للاستعمار، ولم تسع وراء وحدة العمل مع الاشتراكيين-الديموقراطيين وحسب، بل كذلك مع الجناح الجمهوري من البرجوازية. كانت تلك حقبة «الجبهات الشعبية» التي تقوم على تحالف الأحزاب العمالية مع التشكيلات الديموقراطية البرجوازية (الحزب الراديكالي في فرنسا) على أساس برنامجها البرجوازي الصغير. وقد أسرعت هذه السياسة في هزيمة البروليتاريا الإسبانية وأوقفت اندفاع الطبقة العاملة الفرنسية في حزيران/يونيو 1936.

د) 1939-1941: بوجه تفاقم خطر حرب عالمية، أوقفت قمم البيروقراطية التطهيرات واسعة النطاق واستدعت حتى بعض الكوادر القيادية من معسكرات الاعتقال في سيبريا.

وعلى الصعيد العالمي، أدى انقلاب التحالفات الدبلوماسية (الميثاق الألماني-السوفياتي) إلى انعطاف جديد للأحزاب الشيوعية الستالينية. فأخذت هذه الأحزاب تدعو مذاك إلى الانهزامية الثورية بوجه الحرب الامبريالية، وتطالب بنزع السلاح من برجوازيتها الخاصة بها وتهاجم دون كلل الرأسمالية الأنكلو-سكسونية.

هـ- 1941-1947: عادت فترة ما بعد الحرب بمجرى يميني جديد. ففي الداخل كانت «الحرب الوطنية الكبرى».وجرى تمجيد القومية الروسية، واستولى الفلاحون على نطاق واسع، على الراضي الكلخوزية.

وفي الخارج هيمن على سياسة الاتحاد السوفياتي تحالفه الوثيق مع الإمبريالية الأنكلو-سكسونية: فبناء على طلب روزفيلت قام ستالين بحل الأممية الشيوعية. واتبعت الأحزاب الشيوعية سياسة جبهة قومية تحت قيادة برجوازيتها. وهاجمت انتفاضات التحرر القومي في المستعمرات بوصفها انتفاضات فاشية وساعدت على قمعها. وشاركت في الحكومات البرجوازية وأمنت لهذه الحكومات السلام الاجتماعي وإنتاجية العمل العمالي.

وسعت البيروقراطية السوفياتية جاهدة، في طهران، ثم في يالطا وبوتسدام، للتفاوض حول تسوية مرضية مع الإمبريالية «الحليفة». فتعهدت بتجميد المد الثوري الذي كان يلوح، مقابل تنازلات جسيمة إقليمية واقتصادية. وجرى تقسيم أوروبا إلى مناطق نفوذ وعدلت الأحزاب الشيوعية، في المنطقة الواقعة في مجال نفوذ الغرب، عن الاستيلاء على السلطة، باستثناء الحزب الشيوعي اليوناني ورابطة الشيوعيين اليوغوزلاف. فلم يتلق أي منهما مساعدة من الاتحاد السوفياتي: فسُحقت الثورة اليونانية في بحر الدماء، وشن ستالين منذ عام 1947 حملة المجابهة ضد يوغوزلافيا الاشتراكية.


--------------------------------------------------------------------------------

(4) أزمة الستالينية
إن سلطة البيروقراطية السوفياتية، مثلها مثل كل ديكتاتورية بونابرتية، سلطة غير مستقرة تاريخيا. وتتوقف متانة ركائزها بصورة أساسية على ظروف موضوعية لا تخضع لإشراف البيروقراطيين، تتمثل بدينامية موازين القوى بين الطبقات على الصعيد العالمي وفي الاتحاد السوفياتي نفسه. وقد غير المد الثوري الجديد الذي أطلقته الحرب العالمية الثانية، موازين القوى هذه بصورة جذرية وحطم بالتالي التوازنات التي تستند إليها الديكتاتورية البونابرتية الستالينية.

1 -المد الثوري الجديد
إن الموجة الثورية التي تدفقت ابتداء من عام 1943 على العالم، والمرتبطة بتفاقم أزمة النظام الرأسمالي وإرساء التفوق الواضح للإمبريالية الأمريكية ضمن الأمم الرأسمالية، قد حطمت التوازن بين البروليتاريا العالمية والإمبريالية مثلما حطمت التوازن بين مختلف القوى الإمبريالية. ولحصر تقدم الثورة العالمية، ولج العالم الرأسمالي طريق الحرب الباردة والحملة الصليبية المضادة للثورة بزعامة الإمبريالية الأمريكية دون منازع. (تأسيس منظمة حلف شمالي الأطلسي ومنظمة حلف جنوبي شرق آسيا وحلف بغداد وحلف المحيط الهادي، الخ..، إعادة تسليح اليابان وألمانيا… حروب الهند الصينية وكوريا وأندونيسيا). في مثل تلك الظروف بدت كل سياسة تأرجح، تهدف إلى الحفاظ على الوضع القائم، سياسة وهمية. وأصبح الوضع الدولي يتميز باحتدام التناقضات الطبقية على المستوى الدولي وبتطور موازين القوى الطبقية في اتجاه ملائم أكثر فأكثر للثورة. وقد حد هذا الوضع بصورة هامة من إمكانيات المناورة لدى البيروقراطية. وأصبح صعبا عليها، على وجه الخصوص، أن تستخدم إجمالي الثورة في المستعمرات كورقة تبادل في المفاوضات حول تسوية عامة مع الإمبريالية. طبعا ظلت البيروقراطية تسعى جاهدة للعب على التناقضات بين الإمبرياليات. وتحاول أن تبرم اتفاقات مؤقتة وجزئية مع الإمبريالية. وهي تحتفظ بدورها ككابح للثورة في المستعمرات بقدر ما أن الاستراتيجية التي تفرضها تهدف إلى كسب دعم برجوازيات معينة في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة (الهند، الأرجنتين، أندونيسيا) بكبح النضال المعادي للرأسمالية الذي تخوضه الجماهير المستغلة استغلالا فاحشا في تلك البلدان. ولكن النتائج العملية لهذه الجهود تصبح محدودة ووقتية أكثر فأكثر كلما ازدادت حدة المد الثوري للجماهير بالرغم من محاولات الكبح، وكلما تفاقم مجرى الإمبريالية الأمريكية المغرق في العدوانية.

وفي الوقت نفسه، أصبح الاتحاد السوفياتي القوة الصناعية الثانية في العالم. ونمت البروليتاريا نموا هائلا من حيث العدد والاختصاص. إن مد الثورة في العالم يجد صدى عند الجماهير السوفياتية ويميل إلى تحطيم وهنها وخضوعها. إن الظروف الموضوعية الداخلية التي سهلت الانحطاط البيروقراطي الذي أصاب أول دولة عمالية تميل إذا إلى التلاشي. ومن جراء تطور ميزان القوى بين الطبقات على الصعيد العالمي، ومن جراء التغيير الموازي على صعيد موازين القوى هذه في الاتحاد السوفياتي نفسه، فقدت ديكتاتورية البيروقراطية السوفياتية كل أساس موضوعي. لقد دخل النظام الستاليني في مرحلة أفوله وأزمته.

2- أزمة الستالينية في الاتحاد السوفياتي

كتب تروتسكي عام 1936: «إذا كان العمال، بعكس الفلاحين، لا يلجون درب النضال، تاركين بذلك الأرياف إلى متاهاتها وعجزها، فليس سبب ذلك القمع فقط. إن العمال يخشون أن يفتحوا الطريق أمام إعادة الرأسمالية.. إن العمال واقعيون. ومن دون أن تكون عندهم أية أوهام حول الفئة الحاكمة أو على الأقل حول شرائح هذه الفئة التي يعرفونها عن قرب أكبر فإنهم يرون فيها اليوم حارسة لقسم من مكتسباتهم الخاصة. إنهم لن يتوانوا عن أن يطردوا خارجا الحارسة عديمة الأمانة والوقحة والمشبوهة ما أن تلوح لهم إمكانية الاستغناء عنها. ويتوجب في سبيل ذلك أن يحدث انفراج ثوري في الغرب أو في الشرق». لقد حدث الانفراج الثوري بعد كتابة هذه الأسطر بثلاثة عشر عاما. وأضعفت الامبريالية إضعافا كبيرا على الصعيد العالمي. ومن جراء ذلك تضاءل الخوف من إعادة الرأسمالية إلى الاتحاد السوفياتي تضاؤلا عظيما، بينما ظهرت في الوقت نفسه «الحارسة عديمة الأمانة» نافلة أكثر فأكثر. وازداد ضغط الجماهير السوفياتية كلما ازداد تذمرها. إن معارضة البروليتاريا التي كانت حتى ذلك الحين معارضة سلبية، كانت تهدد على الدوام بالتحول إلى نشاط مباشر (إضرابات فوركوتا، الخ). ولتجنب تحول كهذا قامت القمم البونابرتية البيروقراطية، التي تملكها الذعر غداة موت ستالين أمام اتساع التذمر، قامت بافتتاح حملة من الإصلاحات النصفية للنظام، وهي إصلاحات أجريت من فوق يشار إليها عادة بتعبير «نزع الستالينية». إن «نزع الستالينية» هذا الذي بوشر به في إطار النظام البونابرتي، وبمبادرة البيروقراطية، لا يشكل إلاّ محاولة للدفاع عن النفس من قبل البيروقراطيين الحاكمين الذين يعرفون بأن قوتهم وامتيازاتهم مهددة. ويكفي للاقتناع بذلك النظر إلى الطريقة التي قام بها خروتشيف بإنتقاد الحقبة المسماة بحقبة «عبادة الشخصية»: لقد اقتصر على تبييض صفحة البيروقراطية بتحميل رجل واحد كل عيوب النظام. وهكذا يتم التوصل إلى بتحويل اتجاه نقمة الجماهير لتصب على شيء رمزي، وسط ارتياح البيروقراطيين الكبير. وعلى كل حال، فإن الطريقة الغريبة التي اختفى بها خروتشيف عن الساحة السياسية تثبت بحد ذاتها إلى أي حد كان هذا التخفيف من القيود بعيدا عن «العودة إلى التنظيم اللينيني» لعمل الحزب والدولة. فالمؤتمر الثاني والعشرون للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي يؤكد لنا بأنه مع بناء المجتمع الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، تبدأ الدولة وكل شكل للقسر من قبل الدولة بسيرورة اضمحلال. وقد قيل أن ديكتاتورية البروليتاريا قد انتهت في الاتحاد السوفياتي، وأصبحت الدولة هناك «دولة الشعب أجمع»! والحال أن الشعب الذي زعموا أنه سيد الدولة، ليس فقط لا يملك أي تأثير على هذه الدولة، ولكنه يجهل كذلك كليا ما يدور فيها. ولا يعرف فعليا أي «رجل من عامة الشعب» في الاتحاد السوفياتي لماذا تتغير حكومته بصورة مفاجئة (مرض خروتشيف؟)، ولا من أجرى ذلك التغيير وبم يختلف التوجه السياسي الجديد عن القديم. وكذلك فإن ملايين الأعضاء القاعديين في الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي لم يعلموا بالنبأ إلاّ من خلال بيان وكالة تاس. إن السلطة السياسية تبقى في الاتحاد السوفياتي، بعد «نزع الستالينية»، مثلما كانت في أيام ستالين، أي بصورة أساسية في يد الفئة البيروقراطية، التي أصبحت أكثر طفيلية وأكثر محافظة من أي وقت مضى. وأن الهدف الأساسي من الإجراءات الليبرالية التي اضطرت هذه الفئة إلى القيام بها (نمو الاستهلاك الجماهيري، التخفيف من النظام البوليسي ومن الاضطهاد القومي) هو تعزيز أساس سيطرتها بهدف الحفاظ على امتيازاتها. ولكن هذه ليست إلاّ حلولا مؤقتة. فالادارة البيروقراطية للاقتصاد وللمجتمع السوفياتي تعيق بشدة نمو القوى المنتجة وتمنع أي تطور متناسق. وتزداد التكاليف العامة لهذه الإدارة باستمرار وتبدو البروليتاريا أقل فأقل استعدادا لتحملها. وأنه لمن المرجح جدا أن الطبقة العاملة السوفياتية، وربما «الشعب أجمع»، سوف «تطرد خارجا الحارسة العديمة الأمانة والوقحة والمشبوهة»، لأنها ترى اليوم بصورة متزايدة «امكانية الاستغناء عنها». وهي سوف تعيد في ذلك الحين «الديموقراطية السوفياتية»، أي الديموقراطية في وضح النهار التي تمارسها مجالس العمال والفلاحين، هذه المجالس التي سيكون بوسع كل التجمعات والأفراد المشاركين فيها والذين يعلنون انتماءهم إلى الثورة الاشتراكية، أن ينشطوا ويعبروا عن أنفسهم لحرية.

مارس/آذار 1966
المناضل-ة



#هنري_فيبير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...
- انفجار ضخم يهز قاعدة عسكرية تستخدمها قوات الحشد الشعبي جنوبي ...
- هنية في تركيا لبحث تطورات الأوضاع في قطاع غزة مع أردوغان
- وسائل إعلام: الولايات المتحدة تنشر سرا صواريخ قادرة على تدمي ...
- عقوبات أمريكية على شركات صينية ومصنع بيلاروسي لدعم برنامج با ...
- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...


المزيد.....

- خزريات بابل ينشدن الزنج والقرامطة / المنصور جعفر
- حالية نظرية التنظيم اللينينية على ضوء التجربة التاريخية / إرنست ماندل
- العمل النقابي الكفاحي والحزب الثوري / أندري هنري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ملف بمناسبة الأول من أيار 2006 - التغيرات الجارية على بنية الطبقة العاملة وحركتها النقابية والسياسية - هنري فيبير - في الستالينية والبيروقراطية