أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود الصباغ - البحث عن إسرءيل: مناظرات حول الآثار و تاريخ إسرئيل القديم(2)















المزيد.....



البحث عن إسرءيل: مناظرات حول الآثار و تاريخ إسرئيل القديم(2)


محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)


الحوار المتمدن-العدد: 6220 - 2019 / 5 / 4 - 03:55
المحور: القضية الفلسطينية
    


بصدد علم الآثار والتاريخ الكتابي، و علم الآثار الكتابي
عميحاي مزار
تهدف مقالات هذا الكتاب إلى دراسة بعض المنظورات الحالية المتعلقة بالصلة بين الكتاب العبري و علم الآثار، ومحاولات إعادة البناء التاريخي لتاريخ اسرءيل القديمة. فإلى أي مدى، على سبيل المثال، يمكن أن تستخدم المرويات الكتابية عن تاريخ إسرءيل المبكر في كتابة تاريخ إسرءيل القديمة؟ و هل لهذه المرويات موثوقية تاريخية؟ أم هي مجرد ملاحم قومية خلقت بقليل أو بدون أساس تاريخي بعد عدة قرون من الزمن التاريخي المفترض للأحداث التي تصفها؟ طرحت مثل هذه الأسئلة من قبل العلماء عن المرويات الكتابية كلها , من قصص الآباء إلى عبودية إسرءيل في مصر, و الخروج, و الغزو, و فترة عصر القضاة إلى الفترات الأحدث لعهد الملوك الثلاثة الأوائل: شاؤول و داود و سليمان. و لم تسلم حقبة المملكة المنقسمة من هذا السجال أيضا, من قبيل متى ظهرت إسرءيل و يهوذا كدول؟ كيف تبدو التطورات الثقافية و التاريخية لهذه الدول؟ كما أثيرت أيضا أسئلة بشأن التاريخ الديني لإسرءيل، متى ابتدأ بني إسرائيل الإيمان بيهوه كإله واحد؟ و هل الإيمان بمثل هذا الإله الخاص متطابق مع ظهور التوحيد؟
هذه المواضيع و مواضيع أخرى عديدة تمت بصلة للقضية مثلت نقاط انعطاف مركزية في البحوث الكتابية التاريخية فضلا عن المواضيع التي تهم الجمهور العام لأكثر من قرن و نصف القرن. و شهدنا على مدى جيل كامل موجة جديدة من الجدل بين العلماء في أنحاء العالم في ما يتعلق بهذه القضايا. أعقب ذلك الاهتمام المتزايد من جانب الجمهور ووسائل الإعلام. و لعب علم الآثار في المراحل الحديثة من هذا النقاش دورا متزايدا [في هذا الجدل]، و اغتنام الفرصة لعرض هذه المقالات ليس سوى تعبير آخر عن مثل هذا الاهتمام المتزايد في هذه المواضيع التي تتضمن معالجة السؤال الرئيسي ألا وهو إلى أي مدى يمكن أن يسهم علم الآثار في حل القضايا المطروحة .
تمت صياغة فرع علم الآثار الذي يتصل بالكتاب العبري تقليديا باسم" علم الآثار الكتابي". بيد أن هذا المصطلح إشكالي لطريقة ملفتة للنظر. فهل مثل هذه التسمية مشروعة ؟ أم -وكما سبق للبعض أن طرح السؤال-، هل الهدف من علم الآثار "الحفر في الكتاب"؟ أيمكن تعريف هذا الجانب من علم الآثار بصورة أفضل على أنه فرع مستقل من فروع البحوث الأكاديمية؟و إذا قيض لنا الاستمرار في استخدام هذا المصطلح؟ فكيف ينبغي تأهيله. دعونا نتفحص أولًا, و بإيجاز شديد مكوني هذا المصطلح، أي" علم الآثار" و " الكتاب".
علم الآثار
علم الآثار هو أحد التخصصات البحثية التي ظهرت خلال القرن التاسع عشر، و تطور خلال القرن العشرين إلى علم آثار ناضج و ميدان عمل علمي اجتماعي مستحوذاً على مقارباته وأطره النظرية الخاصة . ويهدف علم الآثار الحديث إلى دراسة الجوانب المختلفة للمجتمعات القديمة من خلال إعادة بناء التغيرات الاجتماعية المكانية والزمانية فضلا عن مجموعة واسعة من الظواهر الإقتصادية والتكنولوجية والسياسية والدينية. ويجري البحث الآثاري عالمياً باستخدام مجموعة متنوعة من المناهج المطورة للعمل الميداني والمعالجة الدقيقة لتأويل وتفسير البيانات المكتشفة. و يأخذ نطاق البحث الآثاري على عاتقه استخدام كل ما يتصل بجوانب النشاط البشري التي يمكن كشفها بالمعول. و تكون الأسئلة المطروحة و الإجابات المعطاة في بعض الأحيان معقدة، و غالبا ما تكون هناك تأويلات مختلفة للكتلة عينها من الظاهرة الآثارية، الأمر الذي يجعل مثل هذه التأويلات تتحول-بالتالي- إلى موضوعات سجالية مطروحة للنقاش في الوسط الأكاديمي دون أن يغيب عن بالنا أن المهمة الأولى لعالم الآثار هي تحديد المواقع الاستيطانية القديمة. كما أنه من الضرورة بمكان دراسة التوزيع المكاني للمواقع مع مرور الوقت لإعادة تركيب التحولات في أنماط التوطن،و لتأسيس علاقات تراتبية بين أنواع المستوطنات، وهي ضرورية لتقويم مناطق التوطن في فترات مختلفة، وتقدير التغييرات الديموغرافية الناتجة عبر الزمن. و يتحقق ذلك باستخدام عمليات المسح الميداني إلى جانب دراسة العوامل الجغرافية والإيكولوجية والبيئية القديمة. إن أدوات البحث الحديثة كنظام المعلومات الجغرافي المحوسب GIS تساعد في تحليل خارطة التوطن على صعيد التضاريس و الجيولوجيا، وأنواع التربة واستخدامات الأراضي والموارد المائية ، والطرق القديمة، وهلم جرا. و يمكن للآثاري القيام بإعادة بناء صورة متكاملة لنظام التوطن القديم عندما يتم الجمع بين هذه الدراسات مع النتائج المتحصل عليها من التنقيب في مواقع مختلفة، كما تمكن تفاصيل خرائط مواقع التوطن و الجداول والرسوم البيانية من متابعة المتغيرات التوطنية و السكانية عبر الزمن في منطقة معينة ،وجمع المعلومات حول مواضيع معينة مثل استجابة المجتمعات البشرية للتحديات البيئية. و كما سوف نرى، فإن هذا الجانب من المسعى الآثاري هو أمر ضروري و أساس لدراسة ظهور أو أصل إسرءيل القديمة . و يرتبط جانب التوطن القديم هذا في [أرض إسرائيل] ارتباطاً وثيقاً مع مجال البحث المعروف باسم الجغرافيا التاريخية للكتاب [المقدس]، و هو جانب مستقل من البحث يمكن تعريفه بأنه جزء من المجال الأوسع لحقل علم الآثار الكتابي. و يهدف إلى استكشاف المعطيات الجغرافية الواسعة في الكتاب وغيره من المصادر القديمة المكتوبة مثل النصوص المصرية والآشورية، و وثائق كتابية من جنوبي المشرق .
بعد استكشاف الأراضي المقدسة من قبل رواد مختلفون، تمثلت مطابقة أسماء الأماكن المحفوظة في المصادر المكتوبة مع المواقع الأثرية الفعلية كأول إنجاز كبير في هذا الميدان. و يدور في ذهني من الشخصيات البارزة مثل يوسيبيوس، رئيس الكنيسة المسيحية في قيسارية خلال القرن الرابع الميلادي، و أشتوري هابارخي الباحث اليهودي الذي عاش في بيسان في القرن الرابع عشر، و علماء القرن التاسع عشر، مثل الأمريكي إدوارد روبنسون الذي قام بأول بعثة استكشاف رائدة واسعة من البلاد في العصر الحديث في العامين 1838 و 1852. لقد أدرك جميع أولئك العلماء و الباحثين قيمة احتفاظ أسماء الأماكن في عصورهم للأسماء الكتابية القديمة المميزة، و للأسماء العربية على وجه الخصوص، المستخدمة في جميع أنحاء المنطقة. وتشمل بعض الأمثلة بيت شان (بيسان)، بيتئيل ( بيتين) و شيلوه (سلوان)، و جبعون (الجب)، وهكذا دواليك.
و تتعامل الجغرافيا التاريخية أيضا مع العديد من جوانب الجغرافيا القديمة، مثل القوائم الكتابية للحدود القبلية، والتقسيمات الإدارية كتلك التي نجدها في مملكة سليمان، و الحدود السياسية و الثقافية، و شبكات الطرق، و غيرها. و هكذا، فإن تضافر جهود عمليات المسح الميداني و الجغرافيا التاريخية التحليلية تمكن الآثاري من استخلاص استنتاجات مهمة بشأن أنظمة التوطن القديمة و الديموغرافيا في الأراضي المقدسة والنصوص القديمة، كما تمكنه أيضا من ربط تلك النصوص المختلفة بالواقع الجغرافي و الآثاري المتاح. و تقوم التنقيبات الآثارية على استكشاف البنى الداخلية وتطورات الأنواع المختلفة للتوطنات عبر الزمن- من القرى الصغيرة لسكان الصحراء إلى المدن المحصنة ذات التخطيط [العمراني] الجيد.
دفن الجزء الأكبر من مواقع الشرق الأدنى القديم تحت التلال القديمة, و تتوضع هذه المواقع في أكثر الأماكن ملائمة لسكن الإنسان الذي استوطنها وأعاد استيطانها لمئات أو حتى لآلاف السنين، وبالتالي فهي تحافظ في كثير من الأحيان على مستويات عديدة من التوطن السكاني, التي يشير لها علماء الآثار باسم "السويات "، وقد يتطلب استكشاف تل واحد مشاريع ذات تخطيط واسع و بعيدة المدى تمتد لعدة سنوات قبل الانتهاء منها. ومع ذلك يمكن التنقيب في مناطق صغيرة مختارة عشوائيا. كما يمكن بسهولة تناول مستويات التوطن العلوية فقط في حالات كثيرة، في حين أنه لا يمكن سبر المستويات الأعمق إلا من خلال عمل خنادق على سفوح التل أو القيام بتحريات أكثر عمقا، و لذلك تبقى هذه المستويات الأعمق مجهولة إلى حد كبير. فضلا عن ذلك يتوجب على كل منقب أو منقبة أن يعالج أو تعالج ما قد يبدو له أو لها لأن يكون عددا لا متناهي من الأسئلة كل حسب موقعه،من قبيل: ماذا كانت عليه الموارد البيئية في الموقع مثل المياه والأراضي المتوفرة لهذا الموقع؟ متى تم استيطان الموقع بالضبط؟ هل كان عدد السكان في الموقع مستقرا , أم كان هناك تغيرات أو تقلبات سكانية؟ و كيف قامت مراحل التوطن بأداء دورها في انعكاس "السويات" المختلفة و كيف يمكننا تحديد الفجوات في عمليات التوطن؟ أي جزء من الموقع قد استوطن في كل فترة ؟ وما هي الأسباب التي أدت إلى وضع حد لكل طور توطني؟ كيف كان مخطط البلدة في كل فترة من فترات التوطن تلك؟ ما هي المواد و التقنيات المستخدمة في البناء؟ أي نوع من استراتيجية الاكتفاء استخدمت في كل مرحلة من مراحل التوطن؟ و إذا ماكان هناك دمار عنيف فمن تسبب به و ما السبب؟ أيمكن ربط مثل هذا الدمار بأحداث تاريخية من مصادر أخرى ؟
إن تحقيق إجابات موثقة على هذه الأسئلة يمكن أن يتم فقط عبر أساليب تنقيب منهجية و مراقبة جيدة و من خلال فهم دقيق لكثير من الظواهر والخصائص الموجودة لكل عملية تنقيب. وتشكل عملية فك الرموز لمراحل الترسبات و طبقات الموقع أكثر المهام تحديا لعالم الآثار الميداني. فعمليات الترسيب ناتجة عن قرارات الإنسان المتنوعة و غير المتوقعة في بعض الأحيان، كما أن لها علاقة بأنشطة تعود للماضي البعيد.و كانت الصفة المشتركة لصورة التل في المراحل الأولى من البحث على أنه كعكة مؤلفة من طبقات أفقية "أو سويات" يمكن للآثاري أن يقشرها واحدة تلو الأخرى، غير أن الواقع أثبت أنه أكثر تعقيداً من ذلك بكثير. و يلعب الفهم الصحيح وتوثيق المواقع المشار إليها في الكتاب و المختبرة آثاريا، مثل حاصور و مجدو و بيت شان و لخيش, فضلا عن كثير غيرها، دوراً حاسماً للغاية لتقديم تفسير دقيق لتاريخ إسرءيل المبكر .
ثمة أنواع أخرى عديدة من مواقع تعكس النشاط البشري، و إن بدرجة أقل تعقيداً, لكن ليس بأقل مستوى من المعلومات كالمزارع المنعزلة، و القرى الصغيرة و القلاع و المنشآت الزراعية و الصناعية، و المقابر، و الطرق القديمة، و الموانئ. وتم الكشف عن العديد من هذه المواقع عن طريق الصدفة أثناء عمليات إنقاذ متعلقة بالتنمية المكثفة في العصر الحديث، في حين كان لمشاريع الأبحاث المتزايدة ذات الطابع الرسمي دور في استكشاف مواقع أخرى. وتساهم الفروع التخصصية للاستقصاء الأثري مثل آثاريات الصحراء و آثاريات المياه العميقة بتقديم أطر فريدة من البيانات للمشروع الآثاري. فالمواقع الدينية في صحراء سيناء و النقب على سبيل المثال، تبين لنا بصورة ملفتة للنظر الأصول الكتابية للحجارة المنتصبة masseboth. كما قدم لنا اكتشاف حطام السفن التجارية الفينيقية على أعماق كبيرة تحت سطح البحر الأبيض المتوسط منذ سنوات قليلة مضت، المعلومات الأثرية الأولى للمقارنة مع سفينة فينيقية معاصرة ربما تشبه السفينة الفينيقية من صور الموصوفة في سفر حزقيال. و توفر الأدلة المجتمعة من المواقع المتنوعة للآثاريين رؤية بانورامية "شاملة" لمختلف وسائل الحياة البشرية. و قمت أنا شخصيا على مدى الثلاثين عاما الماضية من حياتي المهنية، بتنقيب موقعين من المدن صغيرة الحجم و المتعددة الطبقات (تل قصيلة و تل بطاش"تمنة" )، و اثنتين من المدن الكبرى متعددة الطبقات (بيت شان وتل رحوف)، فضلا عن سلسلة من المواقع الأصغر ذات الحقبة الواحدة، مثل قرى استيطانية اسرائيلية مبكرة، قلعة، برج مراقبة، موقع ديني، مزرعة صحراوية أو محطة طريق. و أظهر كل موقع من هذه المواقع قصة مختلفة ليخبرنا بها عن الثقافة المادية و المجتمع و سبل الحياة لإسرءيل القديمة. و بالعودة إلى عملية التنقيب في حد ذاتها، تشمل اللقى التي يستخرجها الآثاريون عادة -من بين ما تشمل-: الأواني الفخارية، والمصنوعات المختلفة المصنعة من المعدن والحجر والعظام و غيرها من المواد، و الأختام ، والنقوش،و التحف الفنية، و مواضيع العبادة من مختلف الأنواع، و بقايا الأجسام المدفونة ( الرفاة) و المواد الجنائزية، وفي حالات نادرة، قد نجد أيضا مواد عضوية مثل الأخشاب ومواد نسيجية.
ويعد أمراً اساسياً القيام بدراسة تفصيلية لهذه المواضيع لتحديد التغيرات الزمانية والمكانية في الثقافة المادية. ويمكننا تعريف الثقافات الإقليمية وكذلك دراسة الأصول وانتشار الميزات الثقافية و الكشف عن التأثيرات الخارجية، و شبكات التجارة المحلية و الدولية و عمليات الاستيطان، و الهجرة. مثل هذه البحث التفصيلي يوفر الأساس ليس فقط للتأريخ النسبي, بل المساعدة في التأريخ الدقيق لهذه المواضيع، من أجل التأريخ المطلق و الكرونولوجيا. و هناك العديد من الأمثلة على النتائج الناجحة عن الدراسات الدقيقة لمثل هذا النوع من دراسات علم الآثار الكتابي. فقد غدا من الممكن على سبيل المثال دراسة الثقافة الفلستية باعتبارها ثقافة الشعوب المهاجرة بفضل التحليل الدقيق للفخار و المصنوعات الأخرى والدراسة المقارنة مع المصنوعات من اليونان وقبرص. كما أصبح من الممكن تحديد ما يعتقد أنه الثقافة المادية الاسرءيلية في فترة عصر القضاة من خلال مقارنة دقيقة لتلك المعطيات الثقافية الكنعانية المعروفة من منطقة الأراضي المنخفضة .
ثمة جانب آخر هام في علم الآثار الحديث ألا و هو التعاون الواسع مع باحثين آخرين من تخصصات مختلفة مثل علم النبات، علم الحيوان، الأنثربولوجيا الطبيعية, الجيولوجيا،الجيومورفولوجيا، الكيمياء، الفيزياء,الجغرافيا, علم المعادن,الحاسوب، العلوم الإحصائية، الاستشعار عن بعد ، وغيرها. وقد فتح هذا النوع من التعاون آفاق عدة جديدة من البحث كما يتضح من الدراسات التي نشرت مؤخرا. فقد قمنا في صيف العام 2005 في رحوف قرب تل أبيب بكشف بقايا ما تبقى من خلايا النحل تعود للقرن العاشر ق.م، والتي تعتبر الوحيدة التي تم كشفها في منطقتنا حتى الآن. و بعد أن اقترحنا تحديد الخلايا، قام علماء من معهد وايزمان بتحليل الجدران الطينية، حيث تم تحديد البقايا باعتبارها في الواقع بقايا شمع العسل.
كما أصبح استخدام التأريخ الإشعاعي، أي قياس نظير الكربون المشع 14C في المواد العضوية، وخاصة في البذور، أداة هامة جدا لتحديد التأريخ .وتمكنا بفضل استخدام هذه التقنية من الحصول على سلسة دقيقة من التواريخ تغطي الفترة بين القرنين الثاني عشر حتى القرن التاسع ق.م في تل رحوف، حيث أمست هذه التواريخ عاملا مهما في النقاش الدائر حاليا حول التحقيب الزمني للعصر الحديدي. و تتطلب المشاريع الآثارية الكثير من العمل التقني، بما في ذلك صياغة ورسم المخططات المعمارية والفنية، والتصوير الفوتوغرافي الشامل وترميم وحفظ الأشياء والمباني. و الحاجة الماسة لاستخدام البرامج الحاسوبية للتعامل مع قواعد البيانات المتنامية، لإجراء التحاليل الكمية للأنواع المختلفة، للمساعدة في خلق مصورات تأريخ نسبي seriations ،وصوراً ثلاثية الأبعاد. و هذه فقط إشارات لغيض من فيض عن نوع التطبيقات المستخدمة حاليا في مجال علم الآثار. وجمع و معالجة و تكامل، و تأويل، ونشر مثل هذا العدد الهائل من البيانات ليست بالمهمة البسيطة، و يمكن مقارنة تكامل و دمج هذه اللقى من المواقع الفردية المتنوعة في صورة إقليمية شاملة بتجميع أجزاء أحجية هائلة. أنه مشروع معقد و باهظ التكلفة و بصفتي مديراً لمشروع التنقيب، أتخيل نفسي واقفاً في بعض الأحيان وسط تقاطع طرق ضخمة، محاطاً بفروع متشعبة من الدراسة و البحث. و برغم ما يمتلك العمل الميداني الآثاري من بريق و من لحظات عظيمة من الكشف، إلا أن العمل اليومي الروتيني يتطلب مراحل عمل طويلة و شاقة من التوثيق و معالجة اللقى و مكاملة النتائج، و تحضير المواد النهائية للنشر.
يتجاوز العمل الفعلي لعالم الآثار الصورة الشعبية لصائد الجوائز "إنديانا جونز". و المستوى الأعلى للمشروع الآثاري هو المستوى القائم على التأويل و التركيب و التفسير. و تتعامل المرحلة التي تدعى السند الأساس لعلم الآثار مع إعادة بناء جوانب أوسع من التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية و الإثنية في منطقة معينة أو بلد معين. وتشمل مواضيع البحث و التأويل جميع جوانب الحياة،و يتضمن العديد مما أشرت إليه أعلاه: استجابة الإنسان لعوامل البيئة و التقنيات الزراعية و الصناعية؛و الديموغرافيا، و الدراسات المقارنة للعمارة و الفنون المحلية؛ و الحرب؛ و الحياة اليومية، بما في ذلك النظام الغذائي، و الطبخ، و الخبز، و الغزل، و النسيج، فضلا عن المعادن، و الممارسات و المعتقدات الدينية، وعادات الدفن, و الفن، و التجارة, و النقل,و علم الكتابات القديمة الأيقونية والرمزية. و هذه ليست سوى قائمة جزئية من العديد من المواضيع التي تشكل النشاط البشري. والهدف هو إعادة رسم صورة كاملة للمجتمع القديم بأكبر قدر ممكن، من حياة أفقر فلاح إلى حياة الملك أو الكاهن، و تظهر تظهر مثل هذه الأسئلة المختلفة وكأنها وسائل للحياة داخل المجتمع المستكشف . سواء كان السكان بدوا أو شبه بدو أو مجموعات مستقرة. كيف كانوا يتعاملون مع المرتبة و المساواة؟ هل كانوا مجتمع قبلي يرتبط بروابط نسب عائلية كمكون رئيسي؟
يحاول علم الآثار إعادة تركيب ظهور النظم الاجتماعية و السياسية مثل الدول و الإمبراطوريات من أجل فهم عمليات مثل الإستعمار و الهجرة و الإستيعاب، و تعايش الجماعات المختلفة .كما يقوم علم الآثار أيضا بإعادة بناء الإقتصاد القديم من خلال دراسة وسائل الإنتاج الزراعي والصناعي، و التقنيات القديمة, و الأدلة على نظم التجارة البعيدة و القريبة المدى. و مساعي علم آثار الجنوسة Gender Archaeology [النوع] لدراسة دور المرأة في المجتمع، ويتم إعادة بناء المعتقدات الدينية و الممارسات الطقسية على أساس المعابد، كما يمكن للبحث الحديث استخدام الاستنتاجات المتحصل عليها من اللقى لفهم مواضيع العبادة، و طقوس الدفن، و الجوانب الإدراكية للحياة. و تتعلق معظم هذه المواد بالتغيرات الاجتماعية و التقنية طويلة المدى. و لكن يمكننا الكشف في حالات كثيرة عن أحداث معينة، عادة ما تكون أكثر إثارة أو ذات منحنى تأزمي بالنسبة للشعوب القديمة كالزلازل و الغزو العسكري. و على الرغم من مأساوية أحداث كهذه على السكان القدماء إلا أنها أشبه بمكافأة لعالم الآثار الذي ينقب عنها، لأنها "تجمد " لحظات معينة في حياة المجتمع، كما يمكنها أن تؤدي إلى وفرة في اللقى الأثرية. و سوف أورد هنا بعص الأمثلة من تجربتي الخاصة عن الطبقات المدمرة التي تعود لحقبة عصرالحديد الثاني, حيث نقبت في ثلاث مواقع , تل رحوف و بيت شان ( بيشان) و تمنة ( تل البطش), و يمكن عزو هذه المواقع الثلاث إلى الغزوات الآرامية و الآشورية و البابلية بين القرنين التاسع و أواخر القرن السابع ق.م . تمثل الأدلة النوعية عن هذه الغزوات وجود طبقات سميكة و محروقة بفعل حريق هائل حيث دفنت فيها أسر بأكملها. مكنت مثل هذه الأنماط من " كبسولات الزمن" فريق عملي من إعادة بناء واسعة للثقافة المادية في موقع معين خلال فترة زمنية معينة.
تم تطبيق العديد من الأطر النظرية المختلفة على مدى العقود القليلة الماضية للقيام بالتأويل الآثاري، و أحد هذه الأطر الأكثر شهرة ما يطلق عليه علم الآثار الإجرائي processualist أو ما بات يعرف باسم " علم الآثار الجديد"، الذي هيمن على البحث الآثاري من ستينيات إلى ثمانينيات القرن الماضي و الذي يعطي وزنا كبيرا للحتمية الإيكولوجية و البيئية مقابل قرارات و أفعال الإنسان. كما كان لاستلهام أنماط فكر ما بعد الحداثة منذ أوائل التسعينيات، بعداً تأويلاً آثارياً "مابعد إجرائيا ً", كما أصبح يدعى اليوم الذي فتح الباب على مصراعيه من أجل تأويل أكثر تنوعاً و مرونةً, الأمر الذي أعطى قبولاً للتفسيرات المختلفة للظاهرة الآثارية عينها، و أصبحت قرارات الإنسان و دور الفرد تؤخذ بعين الإعتبار أكثر مما كانت عليه سابقا، و لمثل هذه الاتجاهات مضامين مباشرة على موضوعنا. حيث يمكنها أن توفر، حلولاً بديلةً للنقاش حول تاريخية داود و سليمان على سبيل المثال .
خلاصة القول، يعد علم الآثار ميدان بحث أكثر تعقيداً مما يظنه الناس. و السبيل الوحيد للبحث التحليلي و الإستنتاج هو ما تتيحه مناهج البحث الآثاري لإعادة بناء الخطوط العريضة للفترات التاريخية و الحضارات المفقودة حيث لا سجلات مكتوبة، في حين يكتسب علم الآثار أهمية كبيرة باعتباره أداة مكملة لإعادة البناء التاريخي للفترات التي تتوفر على مصادر مكتوبة. على أن هذه الأهمية يمكن أن تتوفر أيضا للنصوص المضادة التي قد تكون متحيزة أو محملة بالبروباغاندا و الإيديولوجيا.
كانت أرض إسرءيل، منذ بداية العصر الحديث، بحكم أنها الأرض المقدسة، بؤرة اهتمام البحوث الآثارية. غير أنها لاقت الكثير من المعاناة على هذا الصعيد في المراحل المبكرة من تطور علم الآثار في القرن التاسع عشر ، ففي واقع الأمر ألحق الآثاريون الكثير من الضرر في مواقع كالقدس خلال السنوات الأولى، أي قبل الحرب العالمية الأولى. إلا أن هذا لم يمنع قيام رواد أوائل أمثال السير فلندرز بتري في تلك السنوات بتطوير مفاهيم و أساليب جديدة وضعت الأساس للتقدم اللاحق في مجال البحوث الأثرية. و في فترة ما بين الحربين أجريت العديد من البعثات الإستكشافية الأوروبية و الأمريكية التي قامت بحفريات واسعة في مواقع رئيسية و أرست قواعد البحوث الآثارية الممنهجة في الأرض المقدسة. وهي الفترة ذاتها التي تم فيها صياغة مفهوم علم الآثار الكتابي بقيادة العالم الأمريكي ويليم أولبرايت. حيث ألهمت شخصيته الفريدة و معرفته الواسعة لشتى جوانب دراسات الشرق الأدنى القديم جيلًا كاملًا من العلماء، من بينهم بعض مؤسسي علم الآثار الكتابي في إسرائيل, مثل بنيامين مزار و يغال يادين. و كافحت هذه المدرسة لجهة تكامل علم الآثار مع التاريخ الكتابي و الجغرافيا التاريخية و الكتابات القديمة, و تاريخ الشرق الأدنى, وفقه اللغة, وتاريخ الفن في ميدان شامل من المعرفة. و سرعان ما تطور علم الآثار بعد العام 1948 في كل من الأردن و إسرائيل. و شكلت الحفريات الواسعة في موقع حاصور بقيادة يادين أرضية تدريب لجيل جديد من علماء الآثار الإسرائيليين الذين طوروا في ما بعد مشاريعهم و مناهجهم البحثية الخاصة. كما واصلت فرق التنقيب الأمريكية و الأوروبية و الأسترالية و اليابانية و الأردنية عملها في الأردن و إسرائيل, الذين أمسيا الآن من بين أكثر بلدان العالم تركيزا و وديناميكية للحملات الاستكشافية.
و لكن كيف يمكن لهذا الكم الهائل من البيانات غير المسبوقة أن يخدم عملية إعادة تركيب و بناء التاريخ الكتابي ؟
وهذا يجعلنا ننتقل الآن إلى السؤال حول تاريخية الكتاب [المقدس]. حيث يتركز جل اهتمامنا في هذه المقالات أساسا في طرح المزيد من الأسئلة.
فإلى اي مدى نستطيع استخراج التاريخ من النص الكتابي؟ و ما هي الإشكاليات المنهجية المنشبكة في البحث الآثاري المتعلق في دراسة تاريخ الكتاب؟
و بعد؟.... " الحفر من أجل الحقيقة". هوعنوان الندوة التي يستمد منها هذا الكتاب عنوانه, و لكن هل في مقدورنا اكتشاف الحقيقة المطلقة لمجال بحثنا ؟ جوابي هو "نعم" آخذين في الإعتبار مسائل محددة ، في ذات الوقت الذي تساورني فيه شكوك جدية تجاه العديد من المسائل الأخرى.
هناك ثمة طيف واسع من الآراء بشأن عملية و مراحل الكتابة و التحرير للكتاب العبري, و يقف تقويم النص الكتابي لجهة إعادة بناء تاريخ إسرءيل على رأس الموضوعات السجالية الحادة و الجدية. لاسيما, القصص الكتابية من عصر الآباء إلى ارتقاء داود و سليمان عرش يهوذا, فيقبل البعض السرد الكتابي كتاريخ حقيقي وهؤلاء في معظمهم, سواء كانوا يهودا أم مسيحيين يتمتعون بخلفيات دينية, و يؤمنون في حقيقة الكتاب وليس لديهم الإستعداد للتخلي عن القصص الكتابية سواء كانت تلك القصص كلام الرب أو على الأقل كتابة مباشرة صادقة حقيقية. و من الأمثلة الحديثة على ذلك الكتاب المكون من ستمائة صفحة للكاتب كينيث كيتشن بعنوان"بصدد موثوقية العهد القديم" On the Reliability of the Old Testament الذي يورد فيه المؤلف دفاعه المستميت عن تاريخية تفاصيل الكتاب مستخدماً طيفاً واسعاً من مواد الشرق الأدنى القديم. و تشير عبارته الختامية إلى أنه"يتجلى العهد القديم بشكل ملحوظ طالما أن تم التعامل مع نصوصه و مؤلفيه بإنصاف إلى حد ما و ذلك تماشيا مع المعطيات المستقلة". في الجهة المقابلة من الصورة تقف مجموعة من العلماء تنكر تاريخية الكتاب العبري برمته، ويزعمون أنه كتب خلال القرنين الرابع و الثالث ق.م كقصة مختلقة كليا تعكس العالم الفكري و اللاهوتي لمؤلفين عاشوا في عصور متأخرة جدا [عن زمن الأحداث التي يصفونها]،و يعرف فيليب ديفيس على سبيل المثال إسرءيل الكتابية بأنها"اختلاق" حديث من قبل العلماء. بينما يرى نيلز بيتر لامكة أحد الكتاب الرئيسيين لهذه المجموعة في كتابه "بنو إسرائيل في التاريخ و التقليد 1998’ ص 165-166" بأن الأمة الإسرءيلية كما هي موضحة من مؤلفي النص الكتابي لا تملك سوى القليل المتكأ على خلفية تاريخية, وهي, أي الأمة, لا تعدو أن تكون بناء إيديولوجيا عال اختلقه باحثون قدماء بتقليد يهوذي لإضفاء الشرعية على مجتمعاتهم الدينية و إدعاءاتهم الدينية-السياسية على الأرض و اقتصاريتهم الدينية .ويطلق على هذه المجموعة من الباحثين تسمية " بالتصحيحيين" أو "المقلين" أو حتى"العدميين" , على الرغم أنهم يرفضون أي مصطلح مشترك عام لمدرستهم أو"حركتهم" إذا جاز التعبير.
و توجد بين هذين النقيضين مساحة عريضة لمختلف الأراء يمكن أن تعرف جميعها بوصفها "جماعة منتصف الطريق" أو المعتدلين. يقف البروفيسور فنكلشتين و أنا معه عند السلسة المعتدلة الوسطية بين وجهتي النظر المختلفتين. و برغم اختلاف وجهات نظرنا حول بعض القضايا الهامة, إلا أننا نتشاطر معا في العموم أكثر مما نتشاطره مع أي من وجهات نظر و آراء المجموعتين المتطرفتين المذكورتين أعلاه, و ينبغي على عالم آثار مثلي باعتباره دخيلًا على البحث النصي أن يختار بين وجهات نظر متباينة محاولاً ربط المعطيات الأثرية و التأويل حسب المصادر الكتابية.
و خياري هو اتباع أولئك الذين يزعمون أن الكتابة الإبتدائية للتوراة (الخماسية أو السداسية) و للتاريخ التثنوي و أجزاء كبيرة من أدب التنبؤ والحكمة تم في وقت متأخر من عهد الملكية ( القرن الثامن إلى أوائل القرن السادس ق.م). بينما خضعت هذه الكتابة في فترتي السبي و ما بعده لمراحل إضافية من التحرير "التنقيح" و التوسع و التغيير, و مع ذلك فأنا أقبل أيضا رأي العديد من العلماء الذي يرى بأن مؤلفي المرحلة الملكية استخدموا مصادر و مواد و هذه قد تشتمل على :
1) أرشيف مكتبة هيكل أورشليم
2) أرشيف القصر ( على الرغم من أن وجود مثل هذا الأرشيف يبقى موضع جدل و نزاع)
3) النقوش التذكارية العامة, والأقدم بعدة قرون (لا يوجد أي نقش إسرءيلي محفوظ, و لكن هنلك ثمة تماثلات محتملة تتضمن نقوشا كتلك التي تعود لميشع ملك مؤاب و حزائيل ملك دمشق و هما من خصوم إسرءيل الرئيسيين في القرن التاسع ق.م)
4) التواتر و الانتقال الشفوي للشعر القديم, وهذا يتضمن نشيد مريم, أغنية ديبورا, صلوات يعقوب, و غيرها من النصوص الشعرية القديمة.
5) القصص الشعبي و السببي الذي يعود للماضي التاريخي السحيق, و تشمل العديد من القصص في الأدب الكتابي, مثل أجزاء من قصص الخروج و الغزو و القصص عن أعمال و إنجازات القضاة, و السير الذاتية لشاؤول و داود و سليمان و سلسلة قصص إليا و إليشع... و هلم جرا
6) كتابات التدوين التاريخي المبكرة, و المشار إليها في الكتاب العبري بـ" سفر أخبار ملوك إسرائيل" الذي ورد ذكره في سفري الملوك الأول و الثاني ( سفر الملوك الأول 2 : 39)
مثل هذا الأمر يظهر كما لو أن المؤلف كان أمامه شكل ما مبكر لتاريخ مدون. و من المسلم به عموما أن الكثير من القصص مدمجة في التاريخ التثنوي و لو أنها مستندة على القصص الفلكلورية و التقاليد, حيث تمت إعادة صياغتها بتأثير اللاهوت اليهوذي (المملكة الجنوبية) و الإيديولوجيا و عمليات التحرير. مثل هذه القصص ربما تحتفظ بمعلومات تاريخية قيمة يمكن الحصول عليها بمساعدة مناهج تاريخية مقبولة مقترنة بمصادر مكتوبة خارجية( أي خارج النص الكتابي), بالإضافة إلى المكتشفات الأثرية. و مهمتنا كمفسرين حديثين هي استخلاص أي معلومة تاريخية موثوقة مجسدة في تلك النصوص الأدبية باستخدام علم الآثار كأداة مراقبة موضوعية عالية. إن كل من النقوش الآشورية و النقوش المحلية على حد سواء مثل نقش ميشع , ملك مؤاب, ونقش حزائيل ملك دمشق( المعروف بنقش تل دان), تؤكد جميعها بأن البناء التاريخي للسرد التثنوي لأحداث القرن التاسع ق.م تأسس على معرفة موثوقة للإطار العام التاريخي لهذا القرن. كما أن فهمنا للفترات التي سبقت القرن التاسع يشوبه الغموض بكل تأكيد، فلم تذكر إسرءيل في أي مصدر خارجي يلي الإشارة الوحيدة لها في نقش الفرعون المصري مرنبتاح ( 1206 ق.م ). حتى منتصف و أواخر القرن التاسع ق.م حيث ظهر نقش ميشع, أي بعد نحو 350 سنة من تاريخ النقش المصري أو أقل بقليل.
و بإمكاني تصور المنظور التاريخي في الكتاب العبري كتلسكوب يرتد خلفا في الزمن، فكلما توغلنا في العودة للوراء كلما أصبحت الصورة أكثر قتامة, و بفرض أن مثل هذا التلسكوب توقف في مكان ما في أواخر المئة الثامنة أو السابعة ق.م فسوف يعطينا صورة عندما ننظر إلى القرن التاسع ق.م تكون أكثر دقة مما هي عليه الحال لو نظرنا نحو القرن العاشر ق.م, وهكذا دواليك. و ربما تحفظ التقاليد الشفوية و القصص المجسدة في الكتاب تفاصيلا أكثر اصالة بشأن الأحداث أو الظواهر القريبة لزمن الكتابة, في حين أن أبعد ما نحصل عليه عن الأحداث المفترضة هو أن تصبح القصص أكثر تخيلية و رمزية,و ربما تكون مقترنة بتشويه أكبر للمعلومات المبكرة. علينا أن نستدعي ذاكرة انتقائية و ذاكرة مفقودة و رقابة و تحيز بسبب دوافع شخصية و لاهوتية و إيديولوجية. و ينطبق هذا الكلام عند التعامل مع أي تاريخ, حتى مع أحداث تاريخية من القرن الماضي و ليس التاريخ القديم فحسب, و اسمحوا لي أن أذكر مثال معروف من تاريخ إسرائيل وهو حرب 1948 ( حرب الإسقلال). هناك التاريخ الرسمي, الذي أنتجه قسم التاريخ في جيش الدفاع الإسرائيلي, و هناك نسخ أخرى مختلفة و من بينها سرديات ما بعد الحداثة التي فككت جوانب مختلفة من التاريخ الرسمي لتلك الحرب .
وتزداد صعوبة تقويم معطيات و بينات الكتاب[المقدس] حين نضطر للتعامل مع الماضي البعيد دون مصادر مكتوبة مباشرة في الغالب، كالحقبة الكتابية المبكرة، ما يجعلنا نتسائل عن إمكانية كتابة تاريخ دقيق لإسرءيل بصورة مطلقة. و على الرغم مما تحمله هذه الخطوة من مخاطر، تظل فرضية العمل من وجهة النظر التي أمثلها ترى بوجود، ربما،قيمة تاريخية للمعلومات المتاحة في التاريخ التثنوي و غيرها من النصوص الكتابية، برغم التشوهات و المبالغات و النزعات اللاهوتية و التلاعب الادبي لواضعي مادة الكتاب و محرريه.
دور علم الآثار و تعريف " علم الآثار الكتابي"
ليست العلاقة بين المكتشفات الأثرية و النصوص سوى جانب من جوانب عمل الآثاري-قد يكون أكثرها صعوبة-،إلا أنه يمثل تحديا من الواجب مواجهته. و يمكن لعلم الآثار، في ضوء وجهات النظر المتعارضة بشأن التاريخ المبكر للكتاب، أن يزودنا بمعطيات خارجية موضوعية على نحو مفترض حول الصورة العامة( المعيش) المتعلقة بالقضايا السجالية الحالية. كما يمتلك علم الآثار القدرة أيضا على تأمين حكما مستقلا بخصوص المصادر الكتابية من خلال السماح لنا بتفحص موثوقيتها التاريخية في حالات معينة. فضلا عن أنه يزودنا بالعديد من الملاحظات عن جوانب عدة للمجتمع الإسرءيلي المبكر التي لا يمكن استخراجها من النص الكتابي نفسه.
وعموما، قد يكون الحكم على تأويل المعطيات الأثرية و ارتباطها ذاتيا بالنص الكتابي في كثير من الحالات، لأن هذه التأويلات غالبا ما تكون مستوحاة من قيم الباحث الشخصية ومن معتقداته و إيديولوجيته، إضافة إلى موقفه اتجاه النص أو اللقى الأثرية. و عندما تستخدم المكتشفات الأثرية في كثير من الأحيان من أجل إثبات نموذج تاريخي أو آخر, فإننا نواجه بحجج تتبع في جوهرها منطق البرهان الدائري. الأمر الذي كان صحيحا لوليم أولبرايت و أتباعه، و مازال كذلك حتى يومنا هذا، و هذا ما يستدعي، بالتالي، الإشارة إلى أن العديد من الإستنتاجات الأثرية غير واقعية إلى درجة يمكن التحقق منها، بصرف النظر متى أو من قام بها .ومع ذلك، يبقى دور علم الآثار سليما بصورة ثابتة كأداة لا تقدر بثمن لدراسة و تحري الجوانب المختلفة للتأريخ الكتابي و الفترات المبكرة لبني إسرءيل–العصر البرونزي حتى العصر الحديدي-. لقد أظهرت التحقيقات أن هناك العديد من العلاقات المتبادلة بين كل من علم الآثار والإشارات الكتابية, فضلا عن العديد من التناقضات. و هي تعتبر حالة طبيعية فقط في ضوء صيرورة الانتقال التي وصفت أعلاه. و لكن دور علم الأثار يتخطى تأكيد أو نفي الأحداث الكتابية أو الإشارات الأخرى.
في الواقع علم الآثار هو الأداة الرئيسة لإعادة بناء العديد من جوانب المجتمع الإسرءيلي و الإقتصاد و الحياة اليومية و الدين, بالإضافة إلى الجوانب الخاصة بجيران إسرءيل, كما يقدم علم الآثار مشهداً قل نظيره عن الإسرءيليين كجزء من سياق أوسع من بلاد الشام و كامل الشرق الأدنى. بيد أنه، و بعد أكثر من قرن و نصف من الأبحاث، لاتزال هناك سجالات و مناقشات بشأن تعريف علم الآثار الكتابي كمفهوم و مجال بحث. وخلال الجيل الأخير، تلقى هذا المصطلح بعضا من الدعاية السيئة واعتبره العديد ميدان تخصص مثقل بأجندات لاهوتية و إيديولوجية تعكس المعتقدات الدينية المسيحية و اليهودية. و كثيراً ما نسمع أن الهدف الرئيس لعلم الآثار الكتابي هو"البرهان على الكتاب " إن جاز التعبير. و كان وليم اولبرايت قد بشر لسنوات عديدة بحاجتنا لإعادة تعريف ميدان بحثنا على أنه " الآثاريات السورية-الفلسطينية "، و بالتالي إعادة تموضعه في سياق أوسع و أرحب لعلم آثار الشرق الأدنى دون أي صلة بالدراسات الكتابية. و قبل بضع سنوات، قرر المعهد الأمريكي للدراسات الشرقية و هو هيئة أكاديمية غير منتمية لجهة دينية أو طائفية, بعد جدال طويل تغيير اسم مجلته المعروفة باسم " الآثاري الكتابي Biblical Archaeologist " إلى" أركيولوجيا الشرق الأدنى Near-Eastern Archaeology ". ويعكس هذا التغيير رغبة الآثاريين الأمريكيين العاملين في حقلنا في تحرير هذا النشاط الأكاديمي من أي غطاء ديني. و يبرز على خلفية هذا التغيير الإنقسام الحاصل بين الآثاريين الامريكيين الباحثين في منطقتنا والذين هم أعضاء في الهيئات التدريسية في المدراس اللاهوتية والدينية أو أقسام الدراسات الكتابية و اليهودية الدينية العقائدية, وبين أولئك الذين يتقدمون الصفوف الأمامية في مجال الممارسة و النظرية الآثارية الأمريكية وهم بدروهم يشغلون مناصبا في أقسام الأنثروبولوجيا و التاريخ في أمريكا.
و لا يزال لباحثون المسيحيون المحافظون يستخدمون مصطلح علم الآثار الكتابي كما يتضح ذلك في كتاب جديد بعنوان مستقبل علم الآثار الكتابي( تحرير جي.كيه. هفماير و إي.ميلارد) و الذي ظهر في العام 2004 .و بالمثل فإن جمعية الآثار الكتابية و مجلتها "مراجعات علم الآثار الكتابي Biblical Archaeology Reviews " و على الرغم من كونها تنتمي للقطاع الخاص و غير دينية أو طائفية, إلا أنها تعكس في اسمها و اسم مجلتها -على حد سواء- جمهورا مستهدفا بصورة واضحة، يتألف العديد منهم من مسيحيين محافظين مهتمين بالكتاب المقدس و عالمه. وهنا , ثمة فجوة واسعة بين هذا النهج و النهج المهني الإحترافي لعلم الآثار، كجزء أوسع من ميادين الأنثروبولوجيا و التاريخ, وهو ما أدى إلى تحدي مصطلح علم الآثار الكتابي من جانب كثير من العلماء في الولايات المتحدة. ويدعو ديفر نفسه, بدرجة من الغرابة للعودة إلى المصطلح القديم الآن، و يقترح أن نضيف فقط الكلمة المخففة " الجديد", "علم الآثار الكتابي الجديد" الأمر الذي يبقي على العجوز الشمطاء كما هي و لكنها ترتدي الآن ثوبا جديدا من المنهجية الآثارية الجديدة الحالية, وأساليب أكثر للتفكير الأنثربولوجي. و من الجدير ذكره أن مصطلح علم الآثار الكتابي لاقى قبولا في إسرائيل بطرق أكثر تبسيطا كوسيلة للإشارة لجميع الأنشطة الآثارية المتعلقة بالكتاب و عالمه. و ينبغي لمصطلح علم الآثار الكتابي، في اعتقادي، أن يستمر في الإستخدام كمصطلح عام و واسع، يعرف جميع جوانب البحث الآثاري التي تتعلق بعالم الكتاب. و هذا تعريف واسع يشمل مناطق جغرافية واسعة تمتد من إيران إلى اليونان و من تركيا إلى مصر، أي كامل منطقة الشرق الأوسط و شرق المتوسط, حيث يساهم علم الآثار في كل من هذه المناطق بدرجة أو بأخرى في فهمنا للعالم الكتابي، وبالتالي فهو يساهم أيضا في علم الآثار الكتابي. و وفقا لهذا التعريف، لايعد علم الآثار الكتابي حقلاً دراسياً مستقلاً، بل " سلة تسوق" لجمع البيانات من مختلف فروع علم آثار الشرق الأدنى و استخدامها في دراسة الكتاب و عالمه.
على الرغم مما كتب عما كانت في ذلك الوقت أصغر دول الشرق القديم و أقلها أهمية ، فربما يكون الكتاب هو المنتج الأكثر عمقا في عالم الشرق الأدنى القديم. فقد تجسدت فيه العديد من إنجازات هذا العالم الثقافي التي تعود بجذورها للألفية الثالثة و الثانية و الأولى ق.م .كما أن نتعرف في النص الكتابي على العديد من الذكريات المحلية حتى يبدو البعض منها كأنه قبل كتابي ولكن تمت موائمته على يد الإسرءيليين كجزء من إرثهم . و قد يقدم لنا علم الآثار مفتاحا لفهم مثل هذه الحالات. و يكمن في هذا الإطار الأوسع لآثاريات أرض إسرائيل دور مركزي في توفير الوصول المباشر للمجتمع الذي أنشا نص الكتاب. و قد واجه مثل هذا التركيز على "مركزية الكتاب" انتقادا من قبل العديد من العلماء: فمن جهة هناك" التصحيحيون" الذين لن يقبلوا الكتاب بوصفه [تقليدا] ينتمي للعصر الحديدي، و على الجانب الآخر هناك الآثاريون الذين يزعمون أنه ينبغي التعامل مع علم الآثار كحقل دراسي قائم بذاته، و على الآثاريين المحترفين التدخل في دراسة التاريخ الكتابي أو الحضارة، ومع ذلك يبدو بالنسبة لي و لكثيرين غيري أن التخلي عن الترابط بين علم الآثار و الكتاب سيكون كمن يقطع اللحم و يترك العظام الجافة فقط. حيث يكمن جوهر علم الآثار الكتابي في العلاقة بين النص و القطع الأثرية، و سيبقى بالنسبة لنا جوهر التعامل مع القضايا المثارة، متجنبين أي مقاربة للنص ساذجة و أصولية من ناحية ،و أي تلاعب مفرط من ناحية أخرى، دون تمحيص أو تاويلات متخيلة.



#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول الآثار و تاريخ إسرئيل القديم(1)
- علم الآثار السياسي و النزعة القومية المقدسة(5)
- علم الآثار السياسي و النزعة القومية المقدسة(4)
- Il Postino ساعي بريد نيرودا: مجاز الوعد بوصفه خذلان
- علم الآثار السياسي و النزعة القومية المقدسة(3)
- علم الآثار السياسي و النزعة القومية المقدسة(2)
- المملكة المنسية: تاريخ مملكة إسرءيل في ضوء علم الآثار(7)- ال ...
- المملكة المنسية: تاريخ مملكة إسرءيل في ضوء علم الآثار(6)- ال ...
- المملكة المنسية: تاريخ مملكة إسرءيل في ضوء علم الآثار(5)- ال ...
- علم الآثار السياسي و النزعة القومية المقدسة(1)
- المملكة المنسية: تاريخ مملكة إسرءيل في ضوء علم الآثار(4) -ال ...
- المملكة المنسية:تاريخ مملكة إسرءيل في ضوء علم الآثار(3)-الفص ...
- المملكة المنسية:تاريخ مملكة إسرءيل في ضوء علم الآثار(2)-الفص ...
- المملكة المنسية: تاريخ مملكة إسرئيل في ضوء علم الآثار(1)
- الطلقة41: الحب أم الثورة؟ قلب من لاقلب له
- الصهيونية الدينية وسياسات الاستيطان الإسرائيلية
- الحاجز:هندسة خوف و متلازمة رعب و ردع .
- الفاتيكان و الحركة الصهيونية: الصراع على فلسطين
- كرونولوجيا الثورة السورية ,من آذار 2011 حتى حزيران 2012 : وث ...
- الاستراتيجية الروسية في سوريا: أهداف متعددة


المزيد.....




- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا
- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود الصباغ - البحث عن إسرءيل: مناظرات حول الآثار و تاريخ إسرئيل القديم(2)