أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح هرمز الشاني - مسرحيات يوسف العاني بين الرمز والموروث الشعبي . .















المزيد.....



مسرحيات يوسف العاني بين الرمز والموروث الشعبي . .


صباح هرمز الشاني

الحوار المتمدن-العدد: 6220 - 2019 / 5 / 4 - 00:17
المحور: الادب والفن
    


مسرحيات يوسف العاني بين الرمز والموروث الشعبي . .

صباح هرمز

1- المفتاح:
كتب يوسف العاني مسرحية (المفتاح) أواخر عام 1967 وأنتهى من كتابتها بداية 1968، وهو بهذا يكون قد أنجزها في غضون ثلاثة أشهر، وهي فترة قصيرة قياسا بأنجاز أي عمل أو نص أبداعي آخر، وتتوزع على فصلين، جاء الفصل الأول منها تحت عنوان (السفر) والفصل الثاني تحت عنوان (الرجوع)، ويضم الفصل الأول ما عدا المقدمة ثمانية مناظر، والفصل الثاني خمسة مناظر ماعدا المقدمة، وهي بهذا التوزيع تضم مقدمتين وثلاثة عشر منظرا، والمقدمتان مكرستان لترديد أغاني الحكاية الشعبية الموظفة في النص .
وتتكون من عشرين شخصية، وتعتمد ثيمتها على قصة المفتاح الرامز الى الوهم أو الحلم عبر ترديد الحدوتة الشعبية لهذه الحكاية غير المألوفة على إمتداد المسرحية من بدايتها الى نهايتها التي مؤداها، أن حيرة زوجة حيران ترغب أن تنجب طفلا، بينما زوجها لا يرغب ذلك، بدعوى إنه يريد ضمانات ليعيش برغد وبالمقابل، فأن نوار وهو شقيق حيران الأصغر والذي غالبا ما يوصف من قبل حيرة وحيران بالمتفلسف، يرى إن الضمانات لا تتوفر إلآ حين يصبح العالم، عالم خير ومحبة، وما أن تقع هذه الكلمات في أسماع حيرة حتى يدب اليأس في نفسها، وتبدأ بالعويل والبكاء، ولكن هذا اليأس سرعان ما يتحول الى أمل وتفاؤل، عندما تنظر الى المهد الصغير الرابض وسط المسرح لتقترب منه وتشرع بتحريكه، وهي تردد مع نفسها بصوت خافت أول الأمر، ثم يعلو شيئا فشيئا .....:
يا خشيبة نودي نودي
وديني على جدودي
وما أن تلفظ الجملة الأخيرة، تحديدا مفردة(جدودي) حتى تنادي زوجها، كما لو كانت قد وجدت الحل لمعضلتها التي تعاني منها وهي عدم الأنجاب، لتتفق مع زوجها وشقيقه نوار الذهاب الى أجدادهم لطلب المساعدة منهم بهذا الشأن .
ابتداء من المنظر الأول للجزء الأول للمسرحية المرسوم على طريق طويل بيضوي الشكل، يوحي المؤلف الى أن الطريق الذي يسلكه الشخصيات الثلاث لا نهاية له، وبالتالي لاجدوى منه ولا نفع فيه، معبرا عنه بهذه الصيغة :( يبدأ من وسط المسرح وينتهي كذلك الى الوسط وكأنه لا يؤدي الى نهاية)، إلآ أن إضافته الثانية بخصوص هذا المعنى تتعزز أكثروهو يفرغ المهد الصغير من الطفل، هكذا: حيرة وحيران يجلسان قرب المهد الصغير الخالي من الطفل.
ان أحداث حكاية المفتاح يغنيها الأطفال في (المقدمة) من بدايتها الى نهايتها ،وبينما الأجزاء الأخرى، ىشروعا من المنظر الأول للفصل الأول الى المنظر الثامن للفصل نفسه، تأتي أحداث الحكاية مغناة على لسان الشخصيات بقدر ما يتطلبه الحدث، أي إذا كانت الأغنية في المقدمة تبدأ من : (يا خشيبة نودي..نودي ..وديني على جدودي) وتستمر الى نهاية الحكاية حيث والثور يريد حشيش والحشيش بالبستان والبستان يريد مطر والمطر عند الله ... فأن المنظر الأول يأتي الى نهايته في جملة :وديني على جدودي وجدودي بطارف عكا والمنظر الثاني في جملة :يعطوني ثوب و كعكة والمنظر الثالث في :صندوكي يريد المفتاح والمفتاح عند الحداد والرابع:الحداد يريد الفلوس والفلوس عند العروس والخامس :العروس بالحمام والحمام يريد القنديل والسادس :البير يريد الحبل والحبل بقرون الثور والسابع :الثور يريد الحشيش والحشيش بالبستان .
ومثلما أرتأى المؤلف أن يبدأ الجزء الأول كمقدمة بأغنية للحكاية الشعبية المعروفة في قصة المفتاح، كذلك فقد أتبع نفس المنحى في بداية الفصل الثاني بمجموعة من الأغاني الشعبية التي تعبر عن الحب والخير والأمل، وهو بهذا ينتهج أسلوب التقابل بين مناظر فصليه الأول والثاني, ليصبح المنظر السابع للفصل الأول مقابل المنظر الأول للفصل الثاني، وهو منظر الراعي والحشيش، والمنظر السادس للفصل الأول مقابل المنظر الثاني للفصل الثاني وهو منظر البئر، والمنظر الخامس للفصل الأول مقابل المنظر الثالث للفصل الثاني وهو منظر العروسة، والمنظر الرابع للفصل الأول مقابل المنظر الرابع للفصل الثاني وهو منظر الحداد، ومنظر الفصل الثالث للفصل الأول مقابل المنظر الخامس للفصل الثاني وهو منظر العودة الى البيت، والمنظر الثاني والأول والثامن من الفصل الأول بدون مقابل لمناظر الفصل الثاني.
وإذا كانت الأغنية المكرسة في مقدمة الجزء الأول (السفر) قد أستمدت من قصة المفتاح الدائرة حول مشكلة حيرة بعدم إنجابها او عدم قناعة زوجها حيران بالتعويل على الحكاية الشعبية التي لا نهاية لها وتنتقل من شخص وحدث الى شخص وحدث آخر والمعروفة بالمفتاح، فأن أغنية مقدمة الجزء الثاني (الرجوع) هي إجابة على أغنية الجزء الأول، بجنى ما تم زرعه في المحطات التي توقفت عندها الشخصيات الثلاث.
شأنه شأن توفيق الحكيم، يثور يوسف العاني في هذه المسرحية على الأساليب التقليدية التي أتبعها في مسرحياته السابقة، وذلك من خلال إختراقه للجدار الرابع، عبر مخاطبة الراوي للمشاهدين والتزاوج بين الموروث الشعبي الخاوي وغير الملآن وبين الفكر المعاصر الذي ينحو نفس المنحى، الأول بالتعويل على ما تقوله الحكاية (الوهم) وهو الشكل، والثاني سعيا في أنجاز ما هو غير ممكن انجازه (أنجاب الطفل بدون ضمانات =تحقيق مصير الشعوب)وهو المضمون، وبهذا التزاوج بين الشكل والمضمون، يسير العاني على خطى الحكيم في مسرحية (يا طالع الشجرة ) في توظيف أساليب مسرح اللامعقول.
يزخر هذا النص بالرموز، ويشتغل المؤلف بهذا المعنى على صعيد كل المستويات، إبتداء من الأغنية الشعبية ..يا خشيبة نودي.. مرورا بالشخصيات، وإنتهاء بالحدث. فأذا كانت الأغنية ترمز الى الوهم شأنها شأن الأغنية الموظفة في (يا طالع الشجرة) ..إلآ أنها تختلف معها في عدم بنائها على أنانية الفرد، وإنما على مصلحة الجميع، أي أنها لا تفضي الى العبثية كما في (يا طالع الشجرة)، وإنما الى نتيجة مثمرة ، تتسم بقدر بصيص من أمل، وهي بذلك تكاد في معالجتها هذه أن تكون أقرب الى معالجات أساليب المسرح الواقعي منه الى أسلوب مسرح اللامعقول، وحيرة تباغت حيران الى أنها قد أحست بأن الطفل يتحرك في بطنها، عندما كانت في البستان، ويحث نوار حيران وحيرة على الركض، ويتركا الحكاية ليحصلا على المفتاح الحقيقي.
والمفتاح الحقيقي هو ما تم سلبه وإستعادته عن طريق العمل، والعمل هنا المقصود منه النضال بشكل جماعي وليس فردي، ذلك أن المجرمين أستغلوا الزوبعة كما يقول الراعي في إشارة واضحة الى أستغلال العدو للخلافات القائمة بين الدول العربية وعدم مشاركتها ما عدا دولتين أو ثلاث منها في حرب حزيران عام 1967، مما أدى الى تحطيم حائط البستان وسياجه، ونهب كل ما فيه في إيماءة جلية أخرى الى دخول العدو الأراضي الفلسطينية وإحتلال قسما منها.
ووسط هذا العدوان وإصرار الراعي على عدم ترك أرضه، تحس حيرة بتحرك الطفل في بطنها
حيرة: وماذا ستفعل بعد كل هذا ؟
الراعي: أعيد كل ما أخذ مني..
حيران : تعيدها ؟
الراعي: طبعا ، لا بد أن أعيد حقي مادام الدم يجري في عروقي، وما دمت أتنفس الهواء والحياة...سأعيد حقي...
مانحا الراعي لحيرة عبر جملتيه (مادام الدم يجري في عروقي ) و (سأعيد حقي ) بصيصا من الأمل لإنجاب الطفل، مقرونة الجملة الأولى بالعامل الفسيولوجي والجملة الثانية بعامل إرادة وقوة و إيمان الإنسان. .
ترمز الأجداد السبعة الى التاريخ، ونوار الى الجيل الواعي الجديد وحيران وحيرة الى القلق وعدم الإستقرار، والحداد الى الطبقة العاملة ، والراعي الى الفلاحين، والبئر الى الشعب، والبستان والغيمة الى الخير، ووصيفة العروسة الى السلطة، أما الحدث أوحبكة النص فيرمز الى الثورة والتجديد وحق الشعوب في تقرير مصيرها .
على الرغم من أن العاني يعول على أغاني شعبية أخرى الى جانب أغنية (ياخشيبة نودي....نودي...نودي وديني على جدودي...) كأغنية (ياربي مطرها على عناد العلوجي...)وأغنية (مطر مطرعاصي) إلآ أن منحه رقعة أوسع ل (ياخشيبة نودي ...نودي) التي تتكرر أكثر من عشر مرات، جعلها أن تطفو على سطح الأحداث وبالتالي أن تغدو إيقاعا للنص .
وهذا التكرار لم يأت بشكل إعتباطي، وإقترن بثيمة النص الذي مؤداه عدم الإلتفات الى الخلف، والسير الى الأمام بسرعة، وثمة أكثر من جملة وعبارة توحي الى هذا المعنى، أو الى قطع الصلة بين الماضي والحاضر، أو عدم إهتمام الجيل الجديد بالماضي وبالعكس، خاصة وأن الأجداد هم الذين يوجهون حيرة وحيران ونوار الى الطريق غير الصحيح، أو غير المثمر، وذلك من خلال تقديمهم مساعدة لا تلائم مع التطور الحاصل في أواخر القرن العشرين، وهو إعطائهم ثوبا وكعكة، لأن الحكاية تقول ذلك، على أن يحتفظوا بهما بعد أن يغلقوا الصندوق ولايفتحونه إلآ اذا رزقوا بطفل.
وتتضح هذه القطيعة في أول لقاء بين الجيلين وحيران يقول: لا أعرف غير جدي، والد أبي أعرفه من الصورة المعلقة في بيتنا، موحية هذه الجملة بعدم قراءة هذا الجيل للتأريخ، كما وأن أصابة حيرة وحيران بالذعر لسماع أصوات أجدادهم، توميء الى عدم إنجذاب حيرة وحيران الى أجدادهم وبالتالي تعلقهم بهم، كما أن عدم رد الأجداد على ترحيب الأحفاد، لكون أذانهم ثقيلة، تشير الى عدم إيلاء الأجداد بالأحفاد العناية والأهتمام اللازمين ..أما إرتجاف حيران من البرد فهو نتيجة خوفه منهم، أي من أجداده، وتسمية الأجداد حيرة بالحرمة ، وجرأتها بالكلام أمام زوجها، حيال تسميتها من قبل حيران بالزوجة، وأستغرابه على عدم كلامها في حضوره، تدل على وجود حاجز كبير بين جيل الأجداد وجيل الأحفاد، وهذا الحاجز يزداد كلما تقدمت حواراتهما بخطوة الى الأمام، وصولا الى توضيح الثلاثة إنجازات وإخفاقات هذا العصر، متمثلا الأول في تطور المرأة من خلال دخولها المدارس لتصبح معلمة ومدرسة ونائبة في البرلمان ورائدة في الفضاء، والثاني بالظلم الذي لحق بالشعب العربي من خلال طرده من أراضيه وظهور هولاكو جديد يريد سحق البشرية وتدمير العالم، وإرهاب جيفارا لأنظمة قارتين كاملتين، ليصير رمزا للشمس، ونساء فيتنام يحرثن الأرض ويحصدن الزرع ويحملن البندقية باليد الأخرى :وبهذا الخصوص ،خصوص الحيلة الفنية التي يشتغل عليها المؤلف في توظيف الرموز للقطيعة القائمة بين الجيلين، يتبع نفس المنحى في تصديه لمعاناة الشعوب ،فهو في الوقت الذي يأتي فيه على ذكر كل الشعوب كالشعب العربي و الشعب الفيتنامي يذيل حاشيات صفحات النص بملاحظات تخص الشعب العربي، وهذا يعني أنه يقصد هذا الشعب، مع إعطاء حرية التصرف في تفسير النص للمتلقي بشكل أعمم وأوسع خارج الإطار المحلي الى العالمي.
وأشار في مكانين ولربما أكثر الى هذه الهوامش، وهذان المكانان جاءا في الصفحة (321)....هكذا.....
في النص إشارات ولفتات ينبغي أن تفهم على ضوء تاريخ تأليف المسرحية وهو 3/10/1967-19/1/1968 والصفحة (335)...هكذا....:حين تقدم المسرحية في الوقت الحاضر لابد من إضافة نماذج من بطولات شعبنا العربي والشعوب المناضلة الأخرى.
لطالما لم يتجاوز النص المسرحي حدود القراءة، سيبقى مرهونا ضمن إطاره الأدبي، ولايأخذ موقعه الفني إلآ أذا عرض على خشبة المسرح، فأذا عرفنا هذه الحقيقة، والحال هذا فلا تبقى قيمة تذكر لتذييلات المؤلف في هوامش النص، لقطع صلتها بمتلقي العرض، ما يعني أن المؤلف بالرغم من أنه يأتي على ذكر الشعوب المضطهدة، فأنه لايشتغل عليها بشكل مباشر وإنما عن طريق الرمز، ولكنه في معالجته لها يطرق باب المباشرة، وتاتي هذه الأزدواجية بفعل ما تمخض عن تزاوج المضمون والشكل اللاواقعيين الى معالجة تقليدية... تنتمي الى المسرح الواقعي، وليس الى مسرح اللامعقول .
صحيح ان المؤلف يذهب بالحكاية الى طريق مسدود لخلو الصندوق من الكعكة والثوب طبقا للتزاوج بين الموروث الشعبي للحكاية المتسمة بالعبثية وبين الفكر المعاصر الذي يسير بنفس الأتجاه، ولكن تعزيز هذه المعالجة بمعالجة أخرى تتسم بقدر من الأمل، وهي حركة الطفل في أحشاء حيرة، أضعفت توازن تقنية النص على حساب المضمون، على الرغم من أن هذه المعالجة جاءت من داخل بنية الحدث (الحكاية الشعبية) وليس من خارجه، وذلك بعد أن يصيب الهلاك والدمار بالبستان ويهطل المطر.
حيرة: أردت أن أقول لك، لكن المطر هطل، فأخذتني الفرحة، وقلت لن أكشف السر إلآ حينما نقفل الصندوق ...
أقول أضعفت توازن تقنية النص على حساب المضمون، لأن المعالجة الأولى أكثر إتساقا وإنسجاما مع شكل ومضمون النص، وبالتالي مسوغاتها أكثر إقناعا، بينما المعالجة الثانية تبدو أقرب الى تحقيق الأمنيات، بأنجاب الطفل، منها الى عبثية إنجابه...
وإن لم يخل الجزء الأول من النص بالرموز، إلآ ان الجزء الثاني منه يفيض بشكل متميز، ولو تابعنا حوار هذا الجزء، إبتداء من جملة (أستغليتم الزوبعة) الموحية الى إستغلال العدو للخلافات القائمة بين الدول العربية، لوجدنا العديد من الحوار الدائر في هذا الأطار كالجملة التي يطلقها الراعي وهو يقول :الثيران راحت لكنها لم تهرب، مستخدما المؤلف كلمة الثيران القريبة من كلمة الثوار، وهي المعنى المقصود منه، ذلك أن الثيران لم تهرب التي كانت تدور وتدور لتوصل الماء للزرع وللناس. أي أنها كانت تحارب الاعداء، دون أن تدري ان الناعور كان يدور ولا قطرة ماء كانت في الساقية. وكانت تحارب بسلاح قديم بدون دعم وخيانة الدول العربية ومؤامرات القادة العسكريين وتوحي جملة: (لم يسقط المطرعندكم؟) الى ما معناه:(ألم يصلكم الدعم ؟)
ويرد الراعي على نوار :سقط بعد فوات الأوان ...بلل السطح وجرف التراب ورماه في البحر....
أي ان الدعم وصل متأخرا ولم يجد نفعا..
وإذا كانت كلمة (الثيران) في الجملة الأولى التي يطلقها نوار توميء الى الثوار، فأنها في الجملة الثانية التي يطلقها نوار أيضا، والثيران التي كانت عندك بأماكن آمنة لم يبق منها أثر، توحي الى الأرض التي أستلبها العدو، والراعي يرد عليه :نعم نهبوها عصابة سوداء جاءت بالعشرات المئات جاؤوا مع الزوبعة أتخذوا منها شرا لهم......
وجملة : كان هذا حبل آخر ثور أخذوه مني... مسكت به لكن الحبل أنقطع تشير، الى بصيص أمل، الى جانب العديد من الجمل الأخرى التي تعبر عن هذا المعنى وبطريق الرمز.. بالأضافة الى إشتغال العاني على تقنية التزاوج بين الفكر المعاصر والموروث الشعبي، فقد حذا حذو بريشت في طريقة أستخدام الحكاية الشعبية وتحفيز طاقة الشعر الشعبي وإختراق الجدار الرابع .
فأذا كان في الأول يبحث عن الخلاص في التأريخ الشعبي من خلال يأس حيرة وحيران في ديمومة حياتهما بدون طفل الرامز الى التجديد والعطاء ، فأنه في الثاني يشتغل على العقل الجمعي، أي على الشعر الشعبي المعروف مغناة لدى المتلقي كالأغنية الشعبية : يا خشيبة نودي نودي .. وديني على جدودي ... وأغنية :ما جينا ... ماجينا ... حلي الفلوس وأنطينا.... والثالث في كسر الوهم المسرحي لمشاركة المتلقي في الحدث وجعله مراقبا له .
وإذا ما راجعنا مسرحيات بريشت ابتداء من (بونتيلا وتابعه ماتي ) ومرورا ب (دائرة الطباشير القوقازية ) وانتهاء ب (امرأة سوزان الطيبة ) لوجدنا ان موضوعات هذه المسرحيات يستمدها عن الموروث الشعبي، الأولى عن مغامرات الملاحم الشعبية القديمة وملاعيبها، والثانية أسطورة النبي سليمان والثالثة عن الأساطير الصينية .
وكذا الحال بالنسبة لطاقة الشعر الشعبي فقد أستخدمها في بداية ونهاية مسرحية أوبرا القروش الثلاثة وفي بونتيلا تبدأ بالحكاية وتنتهي بالأغنية ،والأم الشجاعة وأولادها الثلاثة تنتهي بالأغنية. بينما مسرحيتنا هذه تبدأ بحكاية وأغنية بعكس الخرابة التي تبدأ بالحكاية وتنتهي بالأغنية .

2- الخرابة:
كتب (الخرابة) بعد مسرحية المفتاح بثلاث سنوات عام 1970، وتتكون من ثلاثين شخصية تقريبا، ويقوم أكثرمن ممثل بأداء شخصياتها بالأنتقال من دور الى أخر كالأول الذي يقوم بالأضافة الى أداء دوره أداء شخصية نجم البقال وشخصية الممثل، كما أن الثاني يقوم بأداء دور لعيبي ويقدم شخصيات الشعراء، أما الثالث فيقوم بأداء دور حساني، وتقوم غنية بدور الشخص الرابع ، وسكينة بدور الفدائية الأولى .
ويعلن المؤلف إبتداء من الصفحة الأولى المكرسة لأداء دور الشخصيات، إنتماء مسرحيته هذه الى المسرح الوثائقي لأعتمادها على الوثائق والصور والنشرات وكل ما يشير الى جرائم الأستعمار والأمبريالية في إيصال فحواها الى المتلقي، ولا يكتفي بهذا القدر وإنما يذهب أكثر من ذلك عندما يقوم بتوضيح ملامح شخصيات المسرحية طبقا للرموز التي تمثلها، لترمز شخصيتي الواحد والواحدة الى الجانب المظلم والمسيْء في عالمنا، و الأول والثاني والثالث الى الجانب الخير منه، والفلاح وزوجته سكينة وغنية الخادمة والحاج نجم البقال والممثل ولعيبي وحساني الى الطبقة الكادحة والمظلومة، وعودة والسركال والمحامية والدمى الثلاث الى الأنتهازية، وكلكامش وانكيدووعشتروت وايشلينو الى التأريخ.
يبدأ العرض من لحظة دخول المتلقي عتبة باب بناية المسرح لمواجهته معرضا للصور الفوتوغرافية وملصقات جدارية تعكس مأساة شعب فلسطين، وتشير الى جرائم الأمبريالية، ويفضل المؤلف أن تمتد هذه المعروضات الى داخل الصالة وتقديم معروضات أخرى على شكل سلايدات أو أفلام تعكس مستوى المعرض ذاته وتعبر عما سيدور في المسرح من أحداث أو عما سيجسده العمل المسرحي.
إذن نحن هنا أزاء مسرح سياسي، يعمل على تفعيل فكر المشاهد، ومراقبة الأشياء التي يشاهدها على خشبة المسرح، وتحريضه على تغييرها، وذلك بأضافة عناصر بصرية أخرى الى النص المسرحي، كالصوروالنشرات وسلايدات العرض، جاعلا من المسرح الشامل أو ما يسمى المسرح التسجيلي المقترن بأسم بيتر فايس نهجا لمسرحيته هذه .
تبدأ المسرحية على لسان الواحد الرامز الى الشر، وهو جالس بين المشاهدين وينهض ويقف في مقدمة المسرح، ويبدو في حديثه صادقا في أول الامر، كاشفا عن ضياع القيم وإنقلاب الموازين وإختلال المقاييس في الخرابة .
الواحد:الكلام الذي أزعجك وأنا آسف كلام ليس من عندي . .
الواحدة:من من؟
الواحد:من المسرحية مسرحية الخرابة . .
ان المؤلف لأشاعة عنصر التغريب البريشتي من خلال إزاحة الجدارالرابع وجعل الممثل بين المشاهدين، يعمد الى إظهارالأزدواجية في موقف الشخصيات، كشخصية الواحد الذي يمنح في البداية إنطباعا إيجابيا ثم يتحول الى شخصية سلبية، موحيا بذلك الى التناقض القائم في مواقف الدول العربية تجاه فلسطين بين المعلن منها والمخفي، الأعلامي والتطبيقي، إممتدا إشاعة هذا العنصر إستخدام قصائد لشعراء عالميين وعرب وعراقيين وكورد أمثال بابلو نيرودا وبوشكين ومحمود درويش ومظفر النواب وعبدالله كوران، بالأضافة الى إستخدام الكوميديا والجوقة بأعتبارهما الى جانب القصائد عناصر أساسية في المسرح الملحمي .
تجري أحداث الجزء الأول والثاني من المسرحية في نفس المكان وهو شبه مقهى، حيث يقف الأول قرب الموقد يسكب الشاي، ينظر إليه فيراه ماء بلا لون ليخرج بنتيجة من عدم تغير لون الماء مؤداها وجود أمر غير طبيعي، وهو مشاهدة الثاني لمجموعة من الناس يقفون قرب شاب يتهامسون ويسألونه متى تفرجنا وتضحكنا على الخرابة ومن فيها وشاهدهم يشترون التذاكر وبيدهم دفاترصغيرة مكتوب عليها: الخرابة .
لهذا حين سمع أن البعض منهم يريد أن يتفرج عليهم بسوء نية أحس أن قدميه قد ثقلتا وأن الأرض التي يقف عليها تمسك به ولا تدعه يتحرك، ولكن بالرغم من ذلك يعتقد أن هذا البعض لا يقترب من الخرابة ويبتعد عنها، ذلك لأنها تدعك ملابسه وتوسخ أحذيته وتعكر مظهره .
وهي مثل المفتاح تفيض بالرموز القابلة للتأويل، فالجملة الأخيرة التي يطلقها الثاني لا ينحصر معناها في إطار الطبقة الرأسمالية التي تأبى أن تحتك بالناس الفقراء القاطنين في الخرابة فحسب، بل تتعداها في قابلية تأويلها الى رفض الدول العربية بأتخاذ موقف ما أزاء العدو الأسرائيلي خوفا من ضرب مصالحها أو بدخولها في حرب طاحنة لاتحمد عقباها، وقول الأول وتكراره ثلاث مرات لجملة لا أحد يستطيع الوصول الينا . ليس هناك ثقب في الجدار، فتحة في السقف، شقق في الأرض والباب مغلق ، لا توجد سماية . .. . فهي في الوقت الذي توحي فيه الى إتحاد كلمة الثلاثة الأول والثاني والثالث الذين يمثلون جانب الخير في المسرحية، لعدم وجود جواسيس بينهم يقومون بأفشاء سرهم الى العدو، توحي الى طردهم من ديارهم وإيوائهم في أماكن أخرى أقرب الى المعتقلات والسجون وحظائر الحيوانات منها الى دور سكن البشر، لأفتقارها الى دخول الشمس وإحكام أبوابها عليهم وعدم رؤيتهم للسماء، أما رفع الجدار الرابع يرمزالى إغتصاب الأرض وطرد السكان الأصليين منها، راسما المؤلف هذه اللوحة عبر ملاحقة الأطفال لحساني وهم يرددون :صفقوا له يرقص الحائط الرابع ينقص، صائحا الثالث:الحائط الرابع مرفوع لقد ازالوه الأصوات اللعينة سوف تلاحق حساني من هنا من هذا المنفذ، أي ان العدو سيستمر في عدوانه بعزم وإصرار لا يلينان .
وفي هذه الاثناء يتقدم الثاني كما تقدم تقدم الثالث الى الحائط الرابع وحين تخرج يده من حدود وجوده يتعالى صوت أغنية وهي مقطع من منولوج هذا نصه :
بالفتنة والغش والدس كثيرا سمعنا كلمة يس
ثخنتوها كافي عاد نو نو لهناو بس
ففي هذه الأغنية الكوميدية يكمن فهم العاني لمسرح بريشت، ذلك أن مسرحه الديالكتيكي مبني على صراع الأضداد، هذا الصراع القائم بين نقيضين اللذين يولدان نقيضا جديدا، متمثلا هذا النقيض بتبريد الحدث بدلا من تثويره، إنشاء لعملية التغريب عبر المفارقة والشيء غير المتوقع، لأنه في مسرحه هذا يدعو الجمهور الى التفكير والمراقبة، أوبمعنى أوضح، أن المشهد الأنفعالي والعاطفي لا يكسبان ويأتيان بمثلهما، بنفس الأنفعالات والعواطف بل بما يناقضها بعكس المسرح التقليدي تماما، فالمشهد الحزين مثلا لا يعبر عنه بموسيقى حزينة وإنما بموسيقى مفرحة، والعكس صحيح أيضا، وهذا ما فعله العاني في معالجته لأزالة الجدار الرابع، فبدلا من إتخاذ الثلاثة موقفا أزاء إزاحة الجدار الرابع كتحريض الناس على التظاهر أو الأضراب تلجأ الى ترديد أغنية كوميدية.
والحوار الجاري بين الثالث والواحد حول سعي إتهام الثالث بالأعتداء على غنيمة، يمنح نفس المعالجة بصراخه في البداية بوجه الواحد قائلا:لا ، لتتعالى أصوات الصبية والناس يرددون:صفقوا له ليرقص، وبعد فترة قصيرة يعود الواحد الى استجوابه. فأذا بالثالث يتراجع عن موقفه الأول ناقضا إياه.

الواحد:أجبني نعم ام لا
الثالث : بكل هدوء لا
الواحد:إستراحة .

ويمكن ملاحظة مثل هذه المواقف في أماكن عديدة من المسرحية. ولكن هذا لا يعني أن كل هذه المواقف تفضي الى التغريب، إذ غالبا ما تؤدي الى الكوميديا السوداء التي تكاد أن تقترب من خاصية التغريب المختلفة عنها بترك غصة في حلق المشاهد والناجمة عن معالجة الموقف أو الحالة بدون أيجاد حل أو بديل له يسعى الى تحريره من ميلودراميته ،ذلك أن عملية التغريب تقترن بالعقل بينما الكوميديا السوداء بالعاطفة .
ولعل كون الجنون عملا يمتهنه الأنسان، يعد بحد ذاته أمرا غريبا، وأختار حساني هذه المهنة لنفسه لأن جماعة الواحد لم يفسحوا له مجال العمل ،والعمل هنا المقصود النضال، مع أنه أعقل منهم بدليل أنهم لا يفهمون كلامه بينما هو يفهم ما يقولون، ويذكر للواحد خمسة نماذج من الكلام الذي لا هو ولا جماعته يفهمها متمثلة بالبطيخ والنحل وناظم باشا والسمنت والمكاري، مختصرا هذه النماذج بجملة: كل شيء ملتوي ومقلوب .
وغالبا ما تأتي هذه المفارقات على لسان الثالث، كقوله في الحوار الجاري مع غنية وهو يحلم بأمتلاك عربة وحماما وقصرا، لكي يتجول في العربة وينام في الحمام ويستحم في القصر، وعندما تنبهه غنية بأنه سوف يتركها لوحدها لو نام في الحمام، يتدارك خطأه ليقول:لا لا لقد أخطأت . . ويضحك . .
وحادثة سعي السركال الزواج بأمرأة متزوجة وهي سكينة عنوة تدخل هي الأخرى ضمن هذا الأطار وترمز الى إغتصاب فلسطين، ذلك أن سكينة هي رمز للأرض، وكذا الحال بالنسبة لحادثة غنية فهي في الوقت الذي تدخل فيه ضمن المفارقات الموظفة للأعتداء عليها من قبل الواحد ومن ثم طردها من البيت ترمز الى الحقيقة .
يبدو لي أن العاني في هذه المسرحية أكثر نضجا قياسا بمسرحياته السابقة، ذلك أدراكا منه أن هذا النمط من المسرحيات (البريشتي) بدون إستخدام الرمز سوف تنزلق في متاهات التقريرية والمباشرة، أو أنها ستؤثر سلبا على ذهنية المتلقي بالأنحياز الى فكر المؤلف وعدم ترك المجال له في إتخاذ قراره، لذلك فقد ألتجأ الى إستخدام الرمز ليس بصيغة واحدة وأنما بعدة صيغ متنقلا بين البريشتية والكوميديا السوداء والتلويح باللمز والغمز، والصيغة الأخيرة أكثر إستخداما من الصيغتين الأخيرتين، وتبدأ من كلمة الخرابة التي هي عنوان المسرحية مرورا بكلمة الكراج وخبالو وإنتهاء ببعض الحوارات التي سنتوقف عندها قليلا .
في الحوار الجاري حول الأرض والقمر يحلم الثلاثة بالكوكب الأخير لخلوه من الصغار الذين يصفقون للمجانين ولأن الكل يتكلمون فيه بصدق ولكن الواحد واتباعه يريدون أن يؤسسوا بورصة ومعملا للأسلحة، أي مثلما شنوا الحرب على الأرض وخربوها كذلك هم الآن بصدد نفس التوجه على كوكب القمر، في إشارة واضحة الى الأمبريالية العالمية، وجملة :وجوه لا تظهر منها غير فقط رؤوس ملفوفة بيشماغ، بالأيحاء الى الوشاح الذي يلفه الفدائي برأسه وهذا ما يوضحه المؤلف في النص، وخلو الثلاثة من أسم معين إيماءة الى تمثيلهم للشعب، وجملة :فيتحدث معهم لكن كلامه لايسمع، تدل الى أن الشعب ليس معه اي ضده، وقول الواحد :أنا تفرجت على الصو، معناه انه بدون موقف، وهكذا في قائمة طويلة من الجمل والحوارات .

3- الصرير
أما مسرحية (الصرير) فقد كتبها يوسف العاني عام 1987، أي سبعة عشر عاما بعد مسرحية ( الخرابة )، وهي مسرحية قصيرة لا تتعدى عدد صفحاتها على خمس وعشرين، وتتكون من منظر واحد فقط وشخصيتين هما ( هو ) و (هي )، وكلاهما متقاعدان وتجاوزا الستين من عمرهما. ويتمحور حدثها حول شخصية (هو) الذي يعيش وحيدا في عزلة تامة عن العالم الخارج، أو كما يقول المؤلف :( في طرف بعيد بعض الشيء عن المدينة ) حيث يسود الصمت البيت الذي يعيش فيه، وبفعل هذا الصمت، أعتاد أن يقضي أوقاته في مخاطبة ضلفتي الباب ليصدر عنهما صريرا يدخل البهجة في نفسه لأنه الصوت الوحيد الذي يستطيع أن يسمعه ويجري حوارا معه، وذلك من خلال الضغط على ضلفتيه وتركهما يتأرجحان لينبعث عنهما هذا الصرير. وإذا كانت هذه الوسيلة الأولى الذي ينشغل فيها لقضاء أوقاته، فأنه وجد في كتابة وقائع يومياته الوسيلة الثانية، وفي ممارسة الألعاب الرياضية الوسيلة الثالثة، ويأخذ مخاطبة الصرير القسط الأوفر من أوقاته فهو يحاوره أول ما ينهض من نومه طالبا من الله أن يديمه وهو موجود بوجوده وأن يستمر بموسيقاه لأنه علامة حياته، وينصب أهتمامه بصوت الصرير أكثر من النشاطات الأخرى التي يمارسها يوميا، ذلك أنه حتى أثناء ممارسته لهذه النشاطات ينصرف ذهنه لهذا الصوت، كما في إيعازه للباب ا لذي تتحرك ضلفتاه ما أن يناديه، حين تتعب وينقطع صوتها كي تحيا معه من جديد، ومخاطبته للباب أثناء ممارسته للألعاب الرياضية ليذكره صريره بها حين ينساها، وأقترابه من الباب لمعرفة المصدر الصادر عنه الصوت وقد نسي تناول الفطورالذي تسبب بقرقرة معدته .
وجاءت الرقعة الممنوحة لصوت صرير الباب على الرغم ما فيه من مبعث إزعاج للانسان الأعتيادي، نتيجة الفراغ الكبير الذي يملؤ حياته وهو يعيش وحيدا بعد أن ماتت زوجته ولم تنجب أطفالا وأحيل على التقاعد، فوجد في هذا الصوت متنفسه الوحيد للتعبير عن همومه ومعاناته الغارقتين في كومة من الكوابيس التي تترآى له في الليل وهي كما يقول هو:(تلفني وتطوقني حتى أحسست أنني قد ذبت فيها وللحظات فقدت ذاتي وكأنني أنا الحلم وأنا النوم وأنا الغائب).
لتجربة العاني الطويلة في التأليف المسرحي وتصديه في هذا النص لحدث مستمد عن صلب واقع المجتمع، وتجنبا لإغراقه في متاهات المباشرة والتقريرية، فقد عمد الى أستخدام الرمز والحلم في بنائه الدرامي، الحلم بطريقة لقاء الذين فقدهم (هو)، والرمز بالإيحاء الى قابلية تأويل أبعاد الشخصيتين والحدث، بالإضافة الى العناصر والمفردات الواردة فيه بمختلف الإتجاهات، إبتداء من صوت صرير الباب مرورا بالدفاتر وإنتهاء بأثاث المطبخ القديمة.
أقول تجنبا لذلك فقد أستخدم العاني الحلم في بنائه الدرامي بطريقة لقاء الذين فقدهم هو، أو الذين غابوا عن حياته لفترة طويلة من خلال زيارتهم له على هيئة طائر وليس في صورة إنسان، ذلك أن بناء الفعل في الأول أكثر وقعا، لما يتحلى به من تكوينات جمالية أقرب الى الخيال منه الى الواقع من جهة، ومن جهة أخرى لتمتعه بمساحة أوسع للانتقال من فعل الى أخر، قياسا ببنائه في صورة إنسان، ومن دون أن يعلن عن هويته، هوية الطائر ،مع أن المتلقي يفقه أن في حياة هو إمرأتان فقط هما زوجته الميتة وزميلته في الوظيفة هي، تاركا الأختيار لمخيلة المتلقي من حيث زيارة الطائر لهو أن كان في المرة الأولى من قبل زوجته الميتة والثانية لصديقته في الدائرة ،أو لأفراد آخرين مقربين إليه.
الصورة الاولى : أنبعث شعاع من الضوء من خلال الشباك ،سمعت تغريد طائر لم أره أول مرة ،بعد قليل كان الطائر يحلق أمام الشباك كان طائرا جميلا يحرك جناحيه بقوة كأنه طائر نورس، كان أصغر وأجمل منه مزدانا بألوان خلابة كأنه من طيور الحب .
الصورة الثانية : أوشكت أن أنسى الطائرالجميل وفجأة شاهدت جناحيه يرفرفان بلا صوت كأنما ينثران علي نسمات حلوة . . شيئا فشيئا راح يقترب .
يتعرض هذا النص للفترة التي دون فيها وهي عام 1987 حيث كانت الحرب الدائرة بين العراق وايرا ن ما تزال قائمة، ونظام صدام يبسط نفوذه على رقاب الشعب كاما فاه وزاجا شبابه في معركة لا رجعة منها.
ففي هذا الظرف العصيب والقاسي ولد هذا النص وأنجب شخصية هو كواحد من أبناء الشعب العراقي المغلوب على أمره ليرمز الى كل الأفواه المكمومة في هذا البلد . فهو لم يختر بأرادته العزلة بدليل أنه يحاور أزعج الاصوات وهو صرير ضلفتي الباب، وإنما أرغم عليها ويرى كوابيس بالذين فقدهم، ويطلب من صديقته في الوظيفة في أول لقاء بها أن تتزوجه. إذن ثمة ما هو مخفي وغير معلن في النص لأن ليس في وسع المؤلف في ظرف تفسر فيه كل كلمة بمختلف الاتجاهات، أن يكشف عن كل الأدوات التي يمتلكها، وإلآ ما الذي يدفع ب (هو) أن يعيش في عزلة وجو موحش وكئيب وحجب نور الشمس عنه (وقد أشرقت الشمس على كل ما في الدار عدا صاحبها ؟ ) .
يبدو لي أن هو أحد ضحايا الحرب العراقية الايرانية التي دمرت أسرته بالكامل ولم ينج منها إلآ عداه ذلك أن المتلقي يعرف فقط أن زوجته ميتة ، أما كيف ماتت فهذا ما لا يعرفه كما يعرف أنها لم تنجب، وكلا المعرفتين وفاة زوجته وعدم أنجابها يرد عليهما في جملة (طار الطائر ولم نطر معه) أي (مات الطائر ولم نمت معه ) وهذا الطائر لا ينحصر في زوجته وصديقته وأنما لربما يشمل أيضا أولاده بالترميز الى عدم إنجاب المرأة العراقية في إشارة الى فقدان أبنائها أو أبناء العراق في هذه الحرب .
(لم يكن الطائر نفسه كان يحمل وجوها كثيرة عرفتها أحببتها فارقت بعضها وجوها أخرى لا أعرفها فجأة غابت كل الوجوه وظل وجهي).
والجميل في هذا النص أذ بالرغم من أن (هو) هو نتاج الحرب إلآ أن المؤلف لايأتي على ذكر هذه الكلمة حتى بحرف واحد وهنا يكمن سر جماليته ودقة رسم حبكته الفنية وإختزال حدثه بأكتشاف المعنى المستور ما وراء الكلمات التي تأتي على لسان هو.
ويعبر منظر المسرحية المتكون من بيت قديم ومثله كل محتوياته من أدوات المطبخ وطاولة كتابة وكرسي وأريكة أكثر من أي شيء أخر في المسرحية عن معاناة هو، مختزلا إياها في جملة (لا حياة فيه)، ويرمز هذا البيت القديم الى البيت العراقي الذي كان حديثا وصار كذلك، بالأشارة الى عودة العراق جراء هذه الحرب بعقود الى الوراء.
وشخصية (هي )، هي الأخرى تعيش لوحدها ولكن بملء إرادتها بالرغم من أن لها أبناء وبنات يسكن كل واحد منهم في مدينة تبعد عنها ساعات، وجاءت لزيارة هو بعد أن تعطل الباص الذي يقلها الى وظيفتها في دائرة التقاعد حيث كان هو زميلا لها في نفس الدائرة.
وعطل الباص يقترن برجفة أيدي هي حين تتعب وشعورها بالوحشة، إذ مثلما أصاب العطل بالباص كذلك فهي تحس بتقدم السن وبحاجة الى من يرعاها ويغدق العطف عليها، فلم تجد أفضل من (هو) تتوفر فيه هذه الصفات، سيما وأنها كانت تحبه قبل أقترانه بزوجته الميتة وترك الباص ل (هي ) بعد أصلاح عطبه، إيماءة الى إنتهاز الفرص قبل فواتها، ما معناه كما هو بحاجة الى التغيير والتجدد، كذلك فهي بحاجة الى نفس الشيء.
ينزع العاني الى إستخدام أسلوب التقابل بين الشخصيتين وما هما بحاجة إليه وينقصهما بالأشتراك مع بعضهما الآخر وينفران منه في الوقت نفسه، في بناء معمارية هذه المسرحية، وذلك بهدف إيجاد مسوغات مقنعة للتقارب بينهما، وبالتالي رسم بصيص من أمل لخروج هو من عزلته، وتتمثل هذه الحاجة وهذا النقص في نسيان هو لتناول فطور الصباح، أو كما يسميه ( البنزين ) مقابل نسيانها هي الألتحاق بالسيارة التي أصلح عطبها هو، بسبب حالته غير الطبيعية، وهي بسبب إفراطها الحديث مع هو: لا أنا اليوم في حالة غير طبيعية كيف نسيت تناول البنزين عفوا الفطور.
هي: لابد أن أذهب ربما تم تصليح الباص .
والحاجة الثانية بأشتراكهما في أرتشاف القهوة وممارسة طقوسها الرامزة الى التقارب وزيادة العلاقات الاجتماعية.
هو: لم أشرب قهوتي لنشربها سوية أتذكرين كنت تقرأين حظي؟
هي: أقرأها بالمقلوب لكي أثيرك .
والثالثة في علاج صوت صرير الباب مقابل تغييرعاداته القديمة .
هي: ( تخرج قطعة صغيرة من القماش تنقعها بالزيت وتبدأ بمسح أماكن الإحتكاك محركة ضلفتي الباب عدة مرات حتى يذوب ا لصوت نهائيا ).
هو: ما هذا أين صوت الباب لم أستمع إليه حين حركته . .
والرابعة في تصوير هو هي بالطائر وتصويرها له بالعصفور.
هو: سمعت تغريد طائر لم أره أول الأمر.
هي:(تضحك)بشرفك أنت عصفور؟
والخامسة في إنجاب الأطفال مقابل عدم أنجابها.
هي : لم تنجبي الطفلة ولا الطفل.
والسادسة إقلاع كليهما عن التدخين بالأضافة الى رغبتهما بالعودة الى الوظيفة .
هي: تركت التدخين منذ ثلاث سنوات .
هو: أنا تركته أيضا قبل عام فقط .
هو: إذا عدت أنت الى العمل وعدت أنا الى العمل نذهب سوية ونعود سوية.



#صباح_هرمز_الشاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في مسرحيتين لفيليمير لوكيتش
- بين شفرات الحافلة
- مسرحيات سترندبيرغ . . . بين الخيانة الزوجية وإقتران البداية ...
- مسرحيات أبسن= إسترجاع الماضي + المناقشة + الشخص الثالث.
- مقاربة بين مسرحيات سترندبيرغ وأبسن
- جدلية الانتماء والخيانة في مسرحيات يوسف الصائغ
- مسرحيات توفيق الحكيم....والمسخ
- مقاربة بين روايتي الكافرة و حجر الصبر
- الرجع البعيد بين تقنية الأيحاء وعملية التطهير
- وحدها شجرة الرمان . . بين تقنية المكان. . وعملية التناص
- الآنسة جوليا.. وحلم التحرر من السلطة
- السمات المشتركة في مسرحيات ابسن
- مناطق التغريب في مسرحيات بريخت
- تينيسي ويليامز.. والكوميديا السوداء
- هل مسرحية ايفانوف فاشلة...؟..!
- مسرحيات محي الدين زنكنة في توظيف الرمز للبناء الدرامي
- مسرحيات جليل القيسي : الانتظار + الحلم + اليأس = الموت او ال ...
- الغواية بين روايتي عزازيل و الوسوسة الاخيرة للمسيح
- قراءة في صنعة مسرحيات تشيكوف الاربع الطويلة
- قراءة في صنعة مسرحيات تشيكوف


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح هرمز الشاني - مسرحيات يوسف العاني بين الرمز والموروث الشعبي . .