أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف بمناسبة الأول من أيار 2006 - التغيرات الجارية على بنية الطبقة العاملة وحركتها النقابية والسياسية - جورج حداد - أول أيار والدور الاممي الخاص للطبقة العاملة العربية















المزيد.....



أول أيار والدور الاممي الخاص للطبقة العاملة العربية


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 1537 - 2006 / 5 / 1 - 12:00
المحور: ملف بمناسبة الأول من أيار 2006 - التغيرات الجارية على بنية الطبقة العاملة وحركتها النقابية والسياسية
    


للمرة السابعة عشرة بعد المائة، يتم في كافة انحاء العالم الاحتفال بمناسبة اول ايار، بوصفه يوما او عيدا للعمال.
تاريخيا، كرست هذه المناسبة على اثر الاحداث التي وقعت في اول ايار 1886 في مدينة شيكاغو الاميركية، حيث قام العمال بالاضراب، وساروا في تظاهرة مطالبين بحقوقهم في تخفيض ساعات العمل ورفع الاجور وما الى ذلك. ومن اجل كسر شوكتهم، عمدت السلطة المتواطئة مع الرأسماليين الى دس بعض العملاء الاستفزازيين في صفوف المظاهرة، وقام احدهم بإلقاء قنبلة على رجال الشرطة، أوقعت فيهم بعض الاصابات، مما دفع الشرطة الى الرد على الاستفزاز، فسقط بعض الضحايا من العمال، وكسر الاضراب، وتم اعتقال عدد من الزعماء النقابيين، الذين اعدم بعضهم بتهمة قتل الشرطة، وحكم على البعض الاخر بالسجن. وبالصدفة سجن فيما بعد احد اولئك المجرمين الاستفزازيين، لارتكابه احدى الجرائم، وأخذ في السجن يتباهى بعلاقته بالشرطة كاشفا دوره في المظاهرة، فانكشفت المؤامرة، وجرى تبرئة الزعماء النقابيين والعمال مما نسب اليهم، بعد وقوع الواقعة. وفي تموز 1889، قررت الاممية الاشتراكية، التي تعتبر الاشتراكية الدولية الحالية استمرارا لها، اعتماد الاول من ايار كيوم عالمي للعمال، تخليدا لتضحياتهم وعدالة قضيتهم. ومنذ ذلك الحين، برز مفهومان في النظر الى هذا اليوم:
الاول ـ يعتبر الاول من ايار عيدا لكفاح العمال من اجل تحررهم الطبقي والانساني، ويقول به الشيوعيون الحقيقيون، المؤمنون بقانون الصراع الطبقي، وحتمية انتصار الطبقة العاملة على البرجوازية، واقامة الاشتراكية على انقاض الرأسمالية والامبريالية. والآن، بعد انهيار تجربة الاشتراكية في "وطنها الاول" الاتحاد السوفياتي، ومن ثم في دول اوروبا الشرقية التي كانت تابعة له، لا ندري كم من "الشيوعيين" السابقين لا زال على "تفاؤله التاريخي" ونظرته الى اول ايار كيوم "عيد نضالي" يحمل بشائر الانتصار للطبقة العاملة والكادحين وقضية الاشتراكية!
والثاني ـ ويقول به الاصلاحيون الانتهازيون، الذين ينظرون الى اول ايار بوصفه عيدا للعمل، الذي يشترك فيه العمال والرأسماليون، لانتاج الخيرات المادية وتحقيق "العدالة الاجتماعية" بالمفهوم البرجوازي الذي لا يخرج عن نطاق تجميل وجه الرأسمالية في المتروبولات، على حساب الشعوب المظلومة في البلدان المستعمرة والأطراف.
وأبرز تيار اصلاحي انتهازي اليوم يتمثل في الاشتراكية الدولية، التي ترى ان الدمقراطية البرجوازية والاشتراكية العمالية لا تتعارضان، بل تكمل احداهما الاخرى، وأن ما يسمى الدولة الدمقراطية الاجتماعية يمكن ان تجمع بين القواعد الرأسمالية لاقتصاد السوق والمبادئ "الاشتراكية" للعدالة الاجتماعية، لتحقيق ما يسمى "الرأسمالية ذات الوجه الانساني!" وهي مفهومة انتهازية متناقضة القطبين، إذ ان الرأسمالية هي الشكل الابشع والاكثر عريا للاستغلال، وبالتالي فهي العدو الرئيسي للانسانية، التي هي على طرفي نقيض مع الرأسمالية.
ويبرر الاصلاحيون الانتهازيون ما كان يجري من صراع عنيف بين العمال والرأسماليين، والذي عبّرت عنه مظاهرة اول ايار الاميركية في 1886، وتوّجه انتصار الثورة الاشتراكية الروسية في 1917، بالقول إنه انما يعود الى حقبة ولت الى غير رجعة، هي حقبة الرأسمالية الفردية المتوحشة. وهم يرون ان الدمقراطية الاجتماعية كفيلة بالحد من الانانية الفردية للرأسمال، وتأطيره في النسيج الاجتماعي، مثلما هي كفيلة بتقويض الانظمة الشمولية (التوتاليتارية)، التي قيدت الشخصية الانسانية، كما جرى بالنسبة للاشتراكية السوفياتية. وبهذه النظرة فإن الاصلاحية الانتهازية تنقل مركز الثقل في الصراع الاجتماعي ـ الطبقي من دائرة ملكية وسائل الانتاج والوضع الطبقي السائد او المسود المرتبط بهذه الملكية، الى دائرة توزيع واعادة توزيع الخيرات المنتجة وميزان القوى السياسية والاجتماعية (الاحزاب والنقابات الخ) المؤثرة في تعديل نسب التوزيع واعادة التوزيع. علما ان القرار الاخير، المقرر والحاسم، في عملية التوزيع واعادة التوزيع، انما يعود الى الطبقات والفئات مالكة وسائل الانتاج، مهما كان وضع ميزان القوى السياسية والاجتماعية، ووضع السلطة السياسية المباشرة المتولدة عنه.
وتتباهى الاشتراكية الدولية ان التاريخ "يسير معها"، حيث ان احزابها والاحزاب القريبة منها، هي التي تحكم الان، او تتداول السلطة، في اميركا الشمالية واوستراليا وغالبية دول اوروبا الغربية، واهمها بريطانيا والمانيا وفرنسا وايطاليا، وان غالبية الاحزاب البرجوازية ذاتها المناوئة لها، تبنت الكثير من منهجيتها ومفاهيمها الاجتماعية، بحيث اصبحت تحافظ عموما على مبادىء بناء وتطوير الدولة الدمقراطية الاجتماعية. ولكن الاشتراكية الدولية، واحزابها الاصلاحية الانتهازية، التي تتباهى بالانجازات الاجتماعية التي تحققت لصالح الشغيلة في المتروبولات، تنسى عن عمى تاريخي او تتناسى عن قصد ان الرأسمال، ولا سيما في زمن "العولمة"، انما هو ظاهرة عالمية. وفي وقت تقوم الطبقات الاحتكارية الامبريالية ببعض التنازلات الاجتماعية في المتروبولات، فإنها تشدد قبضتها على بلدان ما يسمى "العالم الثالث" والبلدان الفقيرة والنامية، وتنهب خيراتها وشعوبها بابشع الصور واكثرها وحشية، بالترافق مع كل تقاليد الاستعمارية للقمع والارهاب والاستغلال والاحتلال. وبالنظر الى ما يجري في فلسطين والعراق وافريقيا الخ، يحق لكل تقدمي في العالم ان يتساءل: عن اي دمقراطية اجتماعية يتشدق امثال "الاشتراكي" المزيف، الخائن والمجرم الدولي طوني بلير، اذا كانوا هم و"حلفاؤهم" يمنحون ـ اذا منحوا ـ بعض الفتات للعمال والمواطنين العاديين في اوروبا واميركا الشمالية، في حين ان الامبريالية والصهيونية تستعبد وتنهب تسعة اعشار شعوب الارض؟!
وبين هذين المفهومين لاول ايار، وعلى خلفية التطورات التاريخية المتسارعة في اعقاب سقوط النظام السوفياتي وبروز ما يسمى العولمة، واتساع رقعة الاصلاحية الانتهازية لتشمل قسما كبيرا جدا من الاحزاب الشيوعية السابقة "المسوفتة"، فإن اول ايار اصبح فعلا يبحث عن هوية حقيقية!
لا شك ان العدالة الاجتماعية التي استشهد لأجلها عمال شيكاغو، هي قوة جذب يسير نحوها التاريخ البشري، وإن كان بثمن كبير من التضحيات الانسانية. ولكن هذا السير لا يتم بخط مستقيم، لا فيما يتعلق بالتطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولا بالنسبة للدول والقوى السياسية الفاعلة. وهذا ينطبق على احزاب الاشتراكية الدولية ومفاهيمها التوفيقية التي، وهي تستقبل في ساحتها الفكرية والسياسية افواجا من الشيوعيين السابقين، وبعض الرأسماليين الدمقراطيين والمحافظين المتحررين، من الخطأ لها أن تعتقد انها كانت تسير منذ البدء في خط مستقيم، جذب اليها قوى وتيارات مناوئة سابقة، وأصبح مصدر " استلهام" لقوى وتيارات مناوئة حالية.
فالخط المستقيم للاشتراكية الدولية يسير في اتجاه معاكس تماما للتطور الاجتماعي الحديث، الذي اخذت الاشتراكية الدمقراطية تقصّر تماما عن اللحاق به، الى درجة التناقض مع ذاتها اولا، ومن ثم مع المجتمع الدولي بأسره.
فمفهوم الدولة الدمقراطية الاجتماعية ذاته، يصبح لا اكثر من ورقة تين لا تكاد تخفي عورة، او حقيقة، النظام الاقتصادي الحديث ما فوق القومي (الكوسموبوليتي، الكوني او المعولم). فهناك هوة واسعة جدا، وتتسع باستمرار بوتيرة لا مثيل لها، بين هذا المفهوم وبين النظام السائد فعلا في "القرية الكونية" المتصاغرة.
ان اساس مفهوم الدولة الدمقراطية الاجتماعية يقوم على مفهوم اجتماعي آخر هو "العقد الاجتماعي" بين الحاكمين والمحكومين، المالكين والعاملين.
فلنر كيف كان يطبق في السابق "العقد الاجتماعي" على العمال، الذين يمثلون لا أقل من 90 بالمائة من سكان البلدان المتطورة، التي تمثل بدورها لا اكثر من 15 بالمائة من سكان المعمورة. ومن ثم لنر كيف يطبق اليوم عليهم وعلى "القرية الكونية" بأسرها:
ـ ان "الشراكة النظرية" بين الرأسمال والعمل، التي يفترض ان يجسدها ويضبطها "العقد الاجتماعي" والدولة الدمقراطية الاجتماعية، تعني قيام علاقة متكافئة بين الطرفين اللذين يحتاج كل منهما الى الآخر كي يحقق ذاته. أي أنها تعني المزاوجة "العادلة" بين الرأسمال، كقيمة اقتصادية جامدة مشروطة (هي عبارة عن تجسيد للعمل السابق الذي استحوذ عليه الرأسماليون)، وبين العمل، كقيمة طبيعية ـ اقتصادية متحركة غير مشروطة. وبكلمات اخرى، فإن هذه الشراكة تعني أن المجتمع، كوحدة متكاملة، يضع في الاستخدام كامل الرأسمال، وكامل قوة العمل، ومن ثم يتطلب حفظ الحقوق والواجبات الاقتصادية والطبيعية لكل من اصحاب الرأسمال، وأصحاب قوة العمل، على السواء، الامر الذي يستنتج منه نظريا تحقيق الضرورة الاجتماعية المتمثلة في المحافظة على "حقوق" الرأسمال وحقوق قوة العمل، وتطويرهما كميا ونوعيا.
فهل هذه العلاقة المتكافئة والضرورية اجتماعيا هي التي كانت قائمة، او هي التي تقوم اليوم بين الرأسمال وقوة العمل في البلدان الرأسمالية عامة، والبلدان المتطورة خاصة؟
الجواب هو : كلا! بل ان ما كان ولا يزال يجري هو الاستغلال النسبي والمطلق لقوة العمل في المتروبولات، والنهب الفظيع والاستغلال غير المحدود والقمع الوحشي لشعوب الاطراف، التي هي قارات باسرها وتمثل تسعة اعشار البشرية.
وهنا تبدو المفارقة التاريخية التي يفترض ان تدفع الاشتراكية الدولية الى اعادة النظر في مفهومها التوفيقي. ونكتشف هذه المفارقة في مراجعة المراحل التي تم فيها تطور الرأسمالية:
المرحلة الاولى ـ وهي مرحلة الرأسمالية الناشئة، والتي يطلق عليها البعض تسمية "الرأسمالية الفردية المتوحشة". وقد امتدت هذه المرحلة حتى نهاية الحرب العالمية الاولى. وفيها استطاعت الرأسمالية شق طريقها داخل مجتمعاتها الاصلية، على حساب انماط الانتاج الاخرى. كما برزت للوجود ظاهرة الاستعمار، الذي قام بفتح وتقاسم البلدان والشعوب الاخرى.
في هذه المرحلة لم يكن يوجد "حق" العمل، بل كانت توجد عملية اكراه، حيث كان يفرض العمل على العامل، بالقوة المجردة او بقوة سياط الجوع، بدون ان يحصل على بدل اتعابه "العادل" (اي الذي يعادل كمية ونوعية السلع التي انتجها)، بمقاييس السوق الرأسمالي ذاته. وكان الفلاحون الفقراء المطرودون من اراضيهم، والحرفيون المفلسون وصعاليك المدن، والزنوج الذين بيعوا عبيدا لاميركا، يساقون كالقطعان للعمل في المانيفاكتورات والمؤسسات الصناعية والزراعية الرأسمالية، لسد الحاجة الى اليد العاملة، والنقص النسبي فيها. ومن جهة ثانية، كانت كل خيرات شعوب المستعمرات، الطبيعية والمنتجة، موضوع نهب لا يرحم من قبل المستعمرين.
ان النقص في اليد العاملة في تلك المرحلة كان يعود لسببين رئيسيين:
أ ـ ان حصة "القيمة الجديدة"، الناتجة عن "القيمة الزائدة" التي يضيفها العمل الجديد الى المنتوج، كانت اكبر بكثير من حصة "القيمة السابقة" المتمثلة في حصة الرأسمال المعاد انتاجه (الآلات، الخامات، الخ). وذلك بسبب التخلف التكنولوجي وضآلة الرساميل الثابتة حينذاك.
ب ـ ان العمل الذهني والماهر كان يمثل نسبة مئوية ضئيلة، بالقياس الى العمل اليدوي البسيط، الذي يتطلب اعدادا اكبر من اليد العاملة.
وبفعل هذين العاملين، فإن حاجة الرأسمال النسبية والمطلقة الى اليد العاملة، خصوصا البسيطة، كانت كبيرة جدا، اكبر من حاجتها الى الراسمال الثابت، وخصوصا الآلات المتطورة ذات الاسعار العالية والانتاجية العالية.
وفي هذه الظروف لم يكن يتم فقط "التجنيد الاكراهي" لاكبر عدد ممكن من العمال، بل وكان يتم ايضا اجبارهم على العمل فوق طاقتهم لمدة 18 ساعة وأكثر في اليوم، وفي ظل اوضاع قاسية جدا ولاانسانية. كما كان يستخدم على نطاق واسع عمل الاطفال والنساء شبه العبودي، لتعويض نقص اليد العاملة، ولتخفيف "الاعباء المالية" عن اصحاب الرساميل. وعلى خلفية هذه الحاجة الرأسمالية القصوى، النسبية والمطلقة، لليد العاملة، كان يجري تشجيع الفلاحين المفقرين وصعاليك المدن الاوروبية للهجرة الى "العالم الجديد" الذي سموه "اميركا"، والذي "اكتشفه" اللص الاستعماري كريستوف كولومبوس واضرابه. وعلى الخلفية ذاتها، تمت اكثر العمليات اللاانسانية في التاريخ البشري، التي يندى لها جبين اي انسان له حد ادنى من حس الكرامة البشرية، ونعني بها عملية صيد الزنوج بعشرات الملايين في افريقيا، وشحنهم في ظروف لا يتصورها عقل بشري ـ حيث مات تسعة اعشارهم في الطريق ـ للعمل في جحيم "العالم الجديد"، الذي بني على جماجم الهنود الحمر وبعرق ودماء ودموع "العبيد" الافارقة وفقراء وصعاليك اوروبا.
وبالتالي فإن "العقد الاجتماعي" كان يتم خرقه بشكل صارخ، في المتروبولات ذاتها، لحساب احد طرفيه، الرأسماليين، الذين كانوا يأخذون اكثر بكثير من "حقوقهم"، على حساب الطرف الاخر، العمال، الذين كانوا يأخذون اقل بكثير من حقوقهم.
وبنتيجة ذلك كان لا بد من ان يأخذ العمال في مقاومة هذا الخلل التاريخي في العلاقة بين الرأسمال والعمل. والى هذه المرحلة بالضبط تعود مناسبة اول ايار، كرمز للنضال العمالي.
وقد اتخذت المقاومة العمالية شكلين رئيسيين:
الاول ـ الشكل الاصلاحي، الذي تمثل في ظهور الاشتراكية الاصلاحية والنقابات، والنضال من اجل تحسين ظروف العمل ومستوى معيشة العمال كبشر، ضمن نطاق النظام الاجتماعي، الرأسمالي، القائم. اي بكلمات اخرى: تحسين ظروف "العبودية" الحقيقية للعمال، لا تحريرهم من العبودية.
والثاني ـ الشكل الاصلاحي الحقيقي، اي الشكل الثوري، الذي تمثل في ظهور الاشتراكية الراديكالية، التي قالت بأن يتم الرد على خرق "العقد الاجتماعي" من قبل الرأسمال، بخرقه من قبل الطرف الآخر. أي مثلما يقوم اصحاب الرأسمال بالاستيلاء بالقوة على قوة عمل العمال (وكل رأسمال هو، في الحساب الاخير، "قوة عمل" سابقة في حالة جامدة، مستلبة من اصحابها الحقيقيين، اي العمال الذين صنعوها)، ان يقوم هؤلاء بالاستيلاء بالقوة على الرأسمال، (اي استعادة ما سلب سابقا منهم، وهو ما يسميه ماركس: نزع ملكية نازعي الملكية)، ووضع "عقد اجتماعي" جديد نوعيا. وقد استند هذا المفهوم "الانقلابي" الى الطابع الاقتصادي وحسب للرأسمال، الذي لا يستطيع ان يوجد وينمو بدون الاستحواذ على قوة العمل، والطابع الاقتصادي ـ الطبيعي لقوة العمل، التي لا تدين بوجودها الى الرأسمال، بل الى الطبيعة البشرية ذاتها، التي تجعل قوة العمل "السلعة" الوحيدة القادرة على: أـ انتاج واعادة انتاج الرأسمال ذاته، بشكل سلع جديدة. ب ـ انتاج واعادة انتاج ذاتها بقيمة اعلى من "سعرها" او "قيمتها" الاقتصادية السابقة، وهو ما يعطي السلع الجديدة "قيمة" او "سعرا" اعلى من مجموع الكلفة السابقة (الرأسمال والاجور).
وقد اختتمت هذه المرحلة الاولى بقيام الثورة الاشتراكية في روسيا، التي دشنت مرحلة جديدة من العلاقات المتناقضة بين الرأسمال وقوة العمل.
المرحلة الثانية ـ وهي مرحلة الرأسمالية المتطورة، وتمتد من الحرب العالمية الاولى، وحتى بداية السبعينات، حينما تم استكمال نهوض اوروبا من الدمار الذي سببته الحرب العالمية الثانية. وتميزت هذه المرحلة بالخصائص الرئيسية التالية:
أ ـ الوعي السياسي والاجتماعي الكبير للعمال، بفعل الاحداث الكبرى كالحربين العالميتين والثورة الاشتراكية وثورات التحرر الوطني ومحاربة وهزيمة الفاشية، وتراكم التجربة النضالية، مما جعل النضال النقابي والعمالي اكثر قدرة على تحصيل الحقوق وتحسين شروط العمل.
ب ـ ظهور الاتحاد السوفياتي الذي ـ بالرغم من كل سلبيات النظام الشمولي (التوتاليتاري) ـ أمّـن ظروفا اجتماعية للعمال لا عهد للرأسمالية بها. وقد أثر ذلك تأثيرا مباشرا على الدول الغربية التي، تحت ضغط عامل الخوف من الشيوعية، وجدت نفسها مضطرة لمنح عمالها الكثير من الحقوق المالية والاجتماعية، بدءا من ضمان حق العمل، وتحسين شروطه، وانتهاء بضمان حق السكن كما في بعض البلدان السكندينافية وغيرها. ويذكر في هذا الصدد ان اول قانون عمل اميركي انما صدر في الثلاثينات. وقد علق يوما احد الكتاب الاميركيين بأن الفضل في ذلك يعود الى روسيا.
ج - النضال التحرري الذي خاضته الشعوب المستعمرة، والذي ادى إلى الانهيار شبه التام للنظام الاستعماري القديم، بعد الحرب العالمية الثانية، وحرمان الدول الاستعمارية من النهب اللاعقلاني المفضوح للخامات ولخيرات تلك البلدان.
د - اضطرار الدول الاستعمارية لتحسين علاقاتها نسبيا مع البلدان المستعمرة سابقا، وذلك تحت تأثير وعي شعوب تلك البلدان، وخصوصا مع وجود الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي السابق الذي دخل كمزاحم جدي في ساحة العلاقات الدولية. (وحكاية بناء السد العالي في مصر، ورفض البنك الدولي تمويله، وتأميم قناة السويس وتداعياته الدرامية، ثم بناء السد من قبل الاتحاد السوفياتي السابق، هي نموذجية على هذا الصعيد).
هـ - التطور التكنولوجي، الذي عزز حصة الرأسمال (أي "القيمة السابقة") مقابل العمل (أي "القيمة الجديدة") في المنتوج، مما مكن الرأسمالين من تعويض "الخسارة" الشكلية في زيادة "كلفة العمل" المتمثل في منح مزيد من الحقوق للعمال والتكاليف الاكبر نسبيا التي اصبحت مفروضة على نهب خيرات البلدان المستعمرة سابقا.
المرحلة الثالثة ـ وهي مرحلة الاقتصاد المعولم، وقد بدأت طلائعها في السبعينات، وترسخت وتوسعت في الثمانينات، واتخذت طابعا كاسحا في التسعينات وما بعد. واهم ما تتميز به هذه المرحلة ما يلي:
أ ـ في وقت كان فيه الرأسمال المالي الكبير يتجه نحو "التعميم الكوني" او "العولمة"، بكل ما يتبع ذلك من سياسة الهجوم على مختلف الاصعدة والمستويات، المالية والاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية، كانت التجربة "الاشتراكية الاولى" (السوفياتية) تتجه نحو التقوقع على ذاتها، وتتخذ مواقع دفاعية، بحيث لم يعد للبيروقراطية السوفياتية المترهلة ما تقدمه لا لمجتمعها ولا للمجتمع الدولي، فاستسلمت صاغرة امام الهجمة الرأسمالية ـ الامبريالية المعولمة. وليس بدون عبرة ان الكثير من الكوادر والقيادات والكتل وحتى الاحزاب "الشيوعية!" السابقة المسوفتة، خارج الاتحاد السوفياتي ذاته، قد التحقت الآن بركب الهجمة الاميركية للهيمنة على العالم باسم الدمقراطية والليبيرالية واقتصاد السوق.
ب ـ بين نهاية الحرب العالمية الثانية والسبعينات، وجد الرأسمال المالي الكبير متنفسه في اعادة تعمير وانهاض اوروبا الغربية واليابان المدمرتين. فانصبت غالبية الرساميل، وخاصة الرساميل المنهوبة من البلدان المستعمرة والمتخلفة التي تدر ارباحا بمقاييس خيالية لا تضاهيها الارباح التي تجنى في البلدان المتطورة، ـ انصبت في هاتين المنطقتين. فكانت "الاعجوبة اليابانية"، و"اعجوبة" نهضة اوروبا الغربية من جديد، و"اعجوبة" هيمنة الطفيلي الاميركي الآتي من خلف المحيط، على الطرفين.
ج ـ بعد تحقيق هذه "الاعاجيب" الثلاث، بدأت المراوحة، ووقف الرأسمال المالي الكبير امام جدار مسدود هو: تقلص فرص ارباح التوظيف في البلدان الرأسمالية المتطورة، وعدم مصلحة الرأسمال المالي الكبير في "التوظيف الطبيعي" في البلدان المتخلفة، التي يريد المحافظة على تخلفها من اجل تسهيل استمرار نهبها، والتي لا يأمن جانبها، في حال امتلاكها زمام التطور الرأسمالي ذاته.
د ـ بدأت تنشأ على نطاق واسع لا سابق له ـ على قاعدة "اممية" او "عولمية" الرأسمال الاحتكاري الكبير وحاجته الى منافذ جديدة للتوظيف وجني الارباح ـ بورصات الاسهم والاوراق المالية والشركات متعددة الجنسية، الباحثة عن فرص التوظيف والارباح في كل مكان، متجاوزة بل محطمة في طريقها جميع مفاهيم "الاسواق الوطنية". وانتقلت نقطة الارتكاز الرئيسية في الدائرة الاقتصادية من عملية الانتاج ذاتها الى العملية المالية (تجارة الاسهم والسندات والعملات)، بحيث اصبح الاقتصاد الوطني لدول وشعوب باسرها، بل ولجميع الدول والشعوب، بما في ذلك المتروبولات، تحت رحمة طغمة قليلة من طواغيت الرأسمال المالي الاحتكاري الكبير، ولا سيما الاميركي، اليهودي/الانغلو ـ ساكسوني.
هـ ـ نظرا لخصوصيات الدولة الاميركية، لا سيما لجهة ابتعادها عن مخاطر ساحات القتال في الحربين العالميتين الاولى والثانية، على عكس "العالم القديم"، مما ادى الى تكدس الرأسمال المالي الكبير، اليهودي والانكلو ـ ساكسوني، فيها، فقد تمتعت "السوق المالية" الاميركية بميزات لم تتمتع بها اي "سوق مالية وطنية" اخرى. فكان من الطبيعي ان تقود الرأسمالية المالية الاحتكارية الكبرى، الاميركية، هجمة "العولمة" الرأسمالية، وعلى رأسها الرأسمال المالي الكبير، الامبريالي، اليهودي/الانكلو ـ ساكسوني.
و ـ كانت الضحية الاولى لهجمة الرأسمال المالي الكبير المعولم ما سمي في وقته "النمور الآسيوية"، التي استطاعت، لفترة من الزمن، المرور خلسة، من وراء ظهر الرأسمال المالي المعولم، اليهودي/الانكلو ـ ساكسوني، مستغلة الظروف المعقدة للحرب الباردة بين المعسكرين السابقين. ولكن لم يكد الخطر الشيوعي (السوفياتي) يغيب عن الشاشة، حتى كشر الرأسمال المالي المعولم عن انيابه وافترس بعض تلك "النمور" (اندونيسيا، ماليزيا والفيليبين) بسرعة وسهولة لا تكاد تصدق. وتمت السيطرة على الاقتصاد التايواني والكوري الجنوبي، دون تدميره كما جرى في "النمور" الاخرى، خوفا من "الشيوعية" التي لا تزال قائمة في الصين الشعبية وكوريا الشمالية.
ز ـ بعد افتراس "النمور الاسيوية" السابقة و"هضمها"، بدأت المراوحة من جديد، ووقف الرأسمال المالي الكبير المعولم، ولا سيما اليهودي/الانكلو ـ ساكسوني، امام ملامح ازمة وجودية كبرى، يواجه فيها ثلاثة تحديات:
الاولى ـ اتساع وترسيخ عملية توحيد اوروبا (القديمة والجديدة، حسب تقسيمات رامسفيلد) على طريق انشاء "الولايات المتحدة الاوروبية"، وهو اخشى ما تخشاه اميركا والصهيونية العالمية، خصوصا اذا سارت على ما يرام امور التعاون الاوروبي الغربي ـ الروسي، والاوروبي ـ العربي.
الثانية ـ بعد التخلص من زمرة غورباتشوف ـ يلتسين الخائنة، المرتبطة بالصهيونية، وتوجيه ضربة سياسية ومالية الى الرموز الصهيونية ذاتها ف روسيا الاتحادية (بيروزوفسكي، تشورني، خودوركوفسكي وغيرهم)، بدأ العملاق الروسي يقف على قدميه من جديد، بكل قدراته العسكرية والاقتصادية والجيو ـ سياسية الاستثنائية (الاسلحة النووية، الصواريخ الهائلة التي لا تزال موجهة الى جميع الاهداف الاميركية "المفضلة"، النفط، الصناعة والاحتياط الاقتصادي الهائل، الموقع المتوسط والعلاقات الجيدة مع الصين والهند وايران والبلدان العربية، من جهة، ومع اوروبا الغربية من جهة ثانية، واخيرا لا آخر المليون يهودي روسي في اسرائيل الذين تمتلك روسيا نفوذا كبيرا عليهم ويمثلون "ورقة لعب" او "ورقة ضغط" رئيسية في يدها).
الثالثة ـ بسبب الاقتصاد الهامشي، غير المنتج وغير التوظيفي، للبلدان العربية النفطية، والارتفاع المتواصل لاسعار النفط، فإن هذه البلدان، ولا سيما السعودية، اخذت تكدس رساميل بترو ـ دولار اسطورية، خصوصا في البنوك الاميركية. وحتى وقت قريب، لم تكن هذه الرساميل النفطية "العربية ـ الاسلامية" تشكل اي مشكلة للرأسمال المالي الاميركي، اليهودي/الانكلو ـ ساكسوني، بل على العكس، فهو كان يستفيد منها ايما استفادة. وكانت هذه الرساميل، الى جانب تصدير النفط، تمثل القاعدة المادية لشهر العسل بين اميركا والانظمة التقليدية في تلك البلدان. وكانت الفوائد المحتسبة لهذه "الودائع" تتدنى طردا مع ضخامتها. وفي بعض الحالات بلغ من ضخامة هذه الرساميل، الميتة فعليا بالنسبة لاصحابها، ان البنوك لم تعد تدفع لهم عليها فوائد، بل على العكس اخذت تحتسب عليهم بدل "خدمة ايداع". ولكن مع الوقت بدأ "الجيل الجديد" من اصحاب هذه "الودائع"، مباشرة او بواسطة السماسرة والمستشارين، يتعلمون استعمال "كنوزهم" او "ودائعهم" الميتة، وتحويلها الى رأسمال متحرك، اخذوا يوظفونه في اسواق الاسهم المالية في اميركا واوروبا والعالم. وبالتدريج بدأ الراسمال المالي الكبير اليهودي/الانكلو ـ ساكسوني يتلمس نشوء مزاحم جديد، هو الرأسمال المالي العربي ـ الاسلامي، الى جانب المزاحم "الداخلي" التقليدي القديم، الكاثوليكي ـ الاوروبي، ناهيك عن المزاحم "الخارجي" ـ الروسي والصيني.
ح ـ امام هذه التحديات، بدأت الازمة تضيق الخناق على الرأسمال المالي الاميركي، اليهودي/الانكلو ـ ساكسوني، فبدأ يتحرك "دفاعيا"، بتشديد القبضة البوليسية وتقليص الحريات الدمقراطية والحقوق الاجتماعية داخل اميركا بالذات، و"هجوميا" ضد جبهة الاعداء الثلاثية: الروسية، الاوروبية، العربية ـ الاسلامية. ومن الاشكال الظاهرة لهذا الهجوم:
ـ تحريك الجيوب الصهيونية، من جهة، و"الاسلامية!" المشبوهة، من جهة ثانية، ضد روسيا.
ـ افتعال الاضطرابات في اوروبا.
ـ افتعال النزاعات الاوروبية ـ العربية/الاسلامية، كقضية الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للاسلام، غير البعيدة عن الاعيب الموساد والسي آي ايه.
ـ ولكن قوة الهجوم الرئيسية وجهت ضد الحلقة الاضعف، امنيا وعسكريا وسياسيا، ولكنها الاهم لاميركا اقتصاديا وستراتيجيا، ونعني بها الجبهة العربية ـ الاسلامية، وذلك خصوصا بعد احداث 11 ايلول/سبتمبر 2001 المفتعلة (هناك تحليلات تقول إن الشبان "الاسلاميين!" الذين قيل انهم قاموا بعملية 11 ايلول، و"شيوخهم"، ليست لديهم الامكانيات التقنية العالية جدا التي يتطلبها القيام بمثل هذه العملية المركبة؛ وإن هؤلاء الشبان لم يكونوا اكثر من "ديكور دعائي"؛ وإن الذي نظم العملية وقام بها فعلا هو الاخطبوط المخابراتي ـ العسكري الاسرائيلي ـ الاميركي، لخدمة الرأسمال المالي الاميركي الكبير، اليهودي/الانكلو ـ ساكسوني؛ وإن إلصاق التهمة بالعرب والمسلمين لا يخرج عن نطاق مسرحية سياسية، على غرار مسرحية هتلر حينما اقدم على إحراق الرايخستاغ (البرلمان) الالماني في 1933، والصق التهمة زورا بالشيوعيين، لتبرير القضاء على الدمقراطية في المانيا، من جهة، ولتبرير شن حرب الابادة ضد الشيوعيين الالمان اولا، ثم ضد الاتحاد السوفياتي ثانيا. والنظام الاميركي له سابقة مشابهة، حينما جرى اغتيال جون كينيدي، ثم شقيقه روبرت كينيدي، بقصد إضعاف الكتلة الرأسمالية المالية الكاثوليكية، وألصقت التهمة، بالتتالي، بالـ"شيوعي" لي هارفي اوزوالد، و"الفلسطيني" سرحان بشارة سرحان).
في هذه المرحلة الانعطافية الحرجة من التاريخ العالمي، فإن الرأسمال المالي الاحتكاري المعولم، لا سيما الاميركي اليهودي/الانغلو ـ ساكسوني، يمر بأزمة اقتصادية ـ اجتماعية ـ سياسية شاملة، نتيجة ضيق اسواق التوظيف في اميركا ذاتها وفي بلدان المتروبول الامبريالية عامة، من جهة، ونتيجة ارتفاع الجدار الرأسمالي الروسي (بدلا من الستار الحديدي) من جديد، بوجه التوسع الامبريالي في شبه القارة الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وللخروج من هذه الازمة يقوم الرأسمال المالي الاحتكاري المعولم بشن هجومه على جبهتين، داخلية وخارجية:
داخليا ـ بعد انهيار المنظومة السوفياتية، وزوال الخطر المباشر للشيوعية، بدأ الراسمال المالي الاحتكاري المعولم هجوما واسع النطاق على المكتسبات الاجتماعية للطبقة العاملة والجماهير الكادحة، كالضمانات الاجتماعية والصحية والتعليم العام الخ، وهو يعمل بشكل محموم لزيادة ارباحه بتخفيض كلفة سلعة "العمل"، عن طريق التضخم والتخفيض الفعلي والاسمي للاجور، واستقدام اليد العاملة العادية والماهرة، الرخيصة، من البلدان النامية وبلدان المنظومة الاشتراكية السابقة، ورفع معدلات البطالة، وخصخصة الخدمات الاجتماعية، بالاضافة الى خصخصة القطاع العام باستثناء القطاعات غير المربحة، كالابحاث المستقبلية وصناعات التسلح المتطورة جدا وابحاث الفضاء، التي تبقى على كاهل المكلف دافع الضريبة. وفي هذه الحالة، فإن الاشتراكية الدمقراطية والنقابات العمالية التقليدية تتحول فعليا الى قوة اجتماعية "رجعية" تراوح مكانها ويقتصر دورها على الدفاع عن الوضع الراهن، وليس النضال من اجل تحسين اوضاع الطبقة العاملة والجماهير الشعبية الكادحة. وبذلك فإن الاشتراكية الدمقراطية الاصلاحية فقدت مبرر وجودها التاريخي حتى في المفهوم الاصلاحي ـ التطوري او التطويري ـ للاشتراكية، وتحولت الى مدافعة عن خرافة اسمها: رأسمالية او امبريالية اكثر انسانية!!
خارجيا ـ ان الرأسمال المالي الاحتكاري المعولم، المتحرر او المتفلت من ضرورات والتزامات اي "سوق وطنية" او "اقتصاد وطني" او "قوانين وطنية"، بما في ذلك "السوق الوطنية" او "الاقتصاد الوطني" او "القوانين الوطنية" الاميركية، والذي اصبح يتحكم بالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وتجارة المخدرات والرقيق الدوليتين، وتجارة الاسلحة، والتهريب، والسوق السوداء، وتزوير العملات (جميع العملات وخصوصا العملات الصعبة)، و"اقتصاد الظل" غير المشروع، وغسيل الاموال والمافيا والجريمة المنظمة، اصبح اشبه شيء بوحش اسطوري لا يشبع ومنفلت من عقاله. وبهذه الصفة العدوانية الابتلاعية، فإن هذا الوحش يجد بعض الروادع في المحاور القوية كاوروبا وروسيا والصين، وكذلك في بعض البلدان الصغيرة ذات الانظمة قوية الشكيمة، ككوبا وكوريا الشمالية وفنزويلا وايران، بصرف النظر عن طبيعة وايديولوجية واهداف كل من تلك الانظمة. وبهذه الصفة الاساسية، فإن الوحش الامبريالي ـ الصهيوني، بنواته الرأسمال المالي الاحتكاري، اليهودي/الانغلو ـ ساكسوني، شرع في شن هجوم كاسح ضد العالم المستضعف، الذي يسمى العالم المتخلف او النامي بأسره، بهدف السيطرة على جميع اسواق العالم والتحكم بها تحكما تاما، والسيطرة على مصادر الطاقة والخامات، بدون اي رادع اقتصادي ـ سوقي، او وطني ـ سياسي. ورأس حربة هذا الهجوم هي موجهة ضد الدول العربية اولا، ومعها الدول الاسلامية الاخرى، لاسباب عديدة اهمها الهيمنة على النفط، والممرات التجارية الدولية، وقطع الطريق على التقارب الروسي ـ العربي/الاسلامي او الاوروبي ـ العربي/الاسلامي. ويأتي في رأس هذه الاسباب ضعف وتفكك الدول العربية والاسلامية. ونظرا للموقع الستراتيجي الاستثنائي للمنطقة العربية، ومن ثم المنطقة الاسلامية، فإن الرأسمال المالي الاحتكاري المعولم يأمل انه بالسيطرة على المنطقة العربية ـ الاسلامية سيستطيع لاحقا السيطرة على العالم بأسره والتحكم بمصائر جميع الشعوب بدون اي حسيب او رقيب، والشروع في مرحلة "تاريخية" جديدة، هي مرحلة ابادة وتصفية شعوب بأسرها، على طريقة تصفية سكان اميركا الاصليين، "الهنود الحمر"، وطرد شعوب اخرى الى الصحارى كي تعيش، وتموت، كالحيوانات محرومة من كل مقومات الحضارة الانسانية. والتطور الصاروخي للتكنولوجيا الرقمية، وما يرتبط بها من زيادة هائلة في انتاجية العمل، من جهة، وعلم الجينات (والاستنساخ) والجراحة وتجارة (او الاستيلاء بالقوة او بالاحتيال على) الاعضاء البشرية ( وهو ما يتم على نطاق واسع في البلدان الفقيرة كالهند واميركا اللاتينية، كما في البلدان التي تقع ضحية الحروب الاستعمارية، كما في العراق اليوم، حيث يتم الاستيلاء على الاعضاء البشرية للقتلى والجرحى والمتاجرة بها)، من جهة ثانية، يدفع طواغيت الرأسمال اكثر فأكثر في هذا الاتجاه الرأسمالي الجهنمي الذي يهدد مصير وانسانية البشرية باسرها، لصالح حفنة من الوحوش البشرية. ولإخفاء اهدافه الحقيقية، فإن الرأسمال المالي الاحتكاري المعولم، يغطي هجمته الداخلية والخارجية معا بحجج وشعارات مكافحة الارهاب والاصولية الاسلامية وصراع الحضارات، وما اشبه من "النظريات" والاكاذيب الديماغوجية المفبركة، التي يراد منها تخدير وعي الشعوب وتعميتها وشق صفوفها على الاساس الاتني والعرقي والديني، ولمحاولة تأليب الجماعات والشعوب غير الاسلامية ضد الشعوب الاسلامية عامة والامة العربية خاصة.
فيما مضى واجهت الانسانية، بشخص النازية، التي كانت تقول بـ"الهندسة البشرية"، خطرا مماثلا، الا انه كان خطرا اقل خطورة، لانه كان ينادي بسيطرة جنس "متفوق"، هو الجنس الآري، على الاجناس الاخرى. اما الرأسمال المالي الاحتكاري المعولم فهو يضع فئة ضيقة من اصحاب المليارات، المنفلتين من اي اخلاق واي قانون او ناموس ارضي او سماوي، فوق البشرية بأسرها، التي ينظرون اليها كقطعان بهيمية ناطقة، وكخامات بشرية وكسماد عضوي، ليس الا. وقد وقع على عاتق الدولة الاشتراكية الوحيدة حينذاك، اي الاتحاد السوفياتي السابق، تخليص الانسانية جمعاء من الوحش النازي. وقد قدمت الشعوب السوفياتية، وفي طليعتها الشعب الروسي العظيم، اكثر من ثلاثين مليون شهيد وتضحيات وآلام هائلة، في هذا السبيل.
والآن فإن الطبقة العاملة، ومعها الشعوب المظلومة والمنبوذة في العالم، هي المؤهلة للتصدي للوحش "النازي الجديد"، الرأسمال المالي الاحتكاري، اليهودي/الانغلو ـ ساكسوني. وقد اكتسب الفكر الاشتراكي الثوري معنى جديدا، يتعدى استبدال النظام الرأسمالي بنظام اجتماعي ارقى، ويدور حول المهمة الانسانية المقدسة الشاملة، مهمة إنقاذ البشرية بأسرها من الفناء المعنوي والمادي، جوعا وقتلا، على يد حفنة من الطواغيت.
وهنا علينا ان نشير الى بعض النقاط الجوهرية:
الاولى ـ ان الواقع الموضوعي للصراع الدولي الدائر حاليا، والى اجل تاريخي غير منظور، يضع الامة العربية في طليعة المواجهة مع الرأسمال المالي الاحتكاري المعولم، بحكم المواجهة القومية المصيرية المباشرة مع الامبريالية الاميركية والصهيونية.
الثانية ـ ان "الاسلاميين!" المزيفين، الواعين او غير الواعين، المضللين او غير المضللين، الذين يعطون "جهادهم" طابعا دينيا، معاديا للشيوعية، او معاديا للعلمانية، او معاديا للمسيحية، انما يصبون الماء في طاحونة الرأسمال المالي الاحتكاري المعولم وينفذون سياسته بحذافيرها.
الثالثة ـ ان الحلقة المركزية في الصراع الدائر على الارض العربية، والمرتبطة بالتناقض الاساسي مع الامبريالية الاميركية والصهيونية، هي النضال ضد الاحتلال والسياسة العدوانية والتسلطية الاميركية ـ الصهيونية. انطلاقا من هذه الحلقة المركزية يتم التصدي لاشكال التناقض الاخرى في المجتمع العربي، لجهة مواجهة التخلف والظلامية ونشر الدمقراطية. والقوى "العلمانية" و"اليسارية" وخصوصا "الشيوعية" التي تخالف هذه القاعدة، وتضع التناقض الثانوي، التفرعي، مع "الاسلاميين"، في المقدمة، لا تفعل الا ان تضع العربة امام الحصان، وهي بذلك تخدم مخططات الاحتلال الاميركي ـ الصهيوني عن غير وعي، في الاغلب. ولكن بعض هذه القوى يعي تماما ما يفعل وما يريد، وهذه الفئة قد حسمت امرها لجهة السير في ركاب المحتلين والرأسمال المالي الاحتكاري المعولم، اليهودي/الانغلو ـ ساكسوني. والصفة الوحيدة التي يمكن اطلاقها على هذه الفئة هي: الخيانة؛ خيانة الوطنية، خيانة القومية، وخصوصا خيانة الاشتراكية والشيوعية.
الرابعة ـ في مطلع القرن العشرين فإن الازمة العامة للرأسمالية وتعقيداتها العالمية وضعت الطبقة العاملة الروسية في طليعة الصراع والثورة ضد النظام الرأسمالي الامبريالي العالمي، باعتبار ان روسيا القيصرية كانت تمثل الحلقة الاضعف في ذلك النظام. واليوم في ظروف الازمة العامة لنظام الرأسمال المالي الاحتكاري المعولم، اليهودي/الانغلو ـ ساكسوني، الذي يعادي اكثر من تسعة اعشار البشرية، فإن الهجمة الاميركية ـ الصهيونية خاصة، وتعقيدات الاوضاع الدولية عامة، تضع الطبقة العاملة العربية، موضوعيا، في طليعة الصراع والثورة ضد النظام الامبريالي المعولم. ولكن هناك فارق جوهري بين الحالتين الروسية والعربية، نلخصه فيما يلي:
ـ ان الطبقة العاملة الروسية كانت تمتلك حزبها الشيوعي الثوري الموحد، بقيادة لينين الثورية. وقد اضطلع هذا الحزب ليس فقط بالتصدي لجميع المهمات السياسية والاجتماعية، بقلب القيصرية ومواجهة الرجعية والرأسمالية والتدخل الاستعماري الخارجي ضد روسيا السوفياتية، بل واضطلع ايضا بمهمة اعادة توحيد البلاد، بعد انهيار وتفكك الدولة القيصرية السابقة.
ـ اما الطبقة العاملة العربية فلا تملك حزبها الشيوعي العربي الموحد، بل بقايا وانقاض احزاب شيوعية قطرية (سايكس ـ بيكوية)، ذات قيادات متهافتة "مسوفتة" (نسبة الى النظام البيروقراطي السوفياتي، سابقا).
فلكي تضطلع الطبقة العاملة العربية بدورها التاريخي، ذي البعد الاممي المباشر، لتحرير نفسها وتحرير امتها وتحرير شعوب العالم بأسرها من ربقة العبودية للرأسمال المالي الاحتكاري المعولم، ينبغي الشروع في النضال المباشر ضد الاحتلال وسياسة الهيمنة الاميركية ـ الصهيونية، وفي الوقت ذاته العمل لبناء الحزب الشيوعي العربي الموحد الذي اصبح يتوقف على تأسيسه لا مصير البلدان العربية ووحدة الامة العربية وحسب، بل ومصير شعوب العالم قاطبة.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ـ* كاتب لبناني مستقل مقيم في بلغاريا



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الارمن ضحية العنصرية التركية والتآمر الغربي على مسيحيي الشرق
- بكركي محاورا تاريخيا
- المأزق الوجودي لاسرائيل!
- بعد تجربة الاحتلال الاسرائيلي والهيمنة السورية: القوى الوطني ...
- الأكراد شعبنا الثاني
- الصفقة الاميركية السورية الجديدة: اعادة انتاج -سايكس بيكو- ...
- الانقلاب الكياني في التركيبة اللبنانية
- من هم المرتدون الذين سيحاكمون لينين؟ كريم مروة واصحابه نموذج ...
- النظام الدولي المختل والدور التاريخي العتيد للمثلث الشرقي ال ...
- رد الى صديق كردي
- المحكمة الدولية ضرورة وطنية لبنانية وضمانة اولا لحزب الله
- المخاطر الحقيقية للوصاية على لبنان والمسؤولية الوطنية الاساس ...
- حزب الله: الهدف الاخير للخطة -الشيطانية- لتدمير لبنان
- ؛؛الوفاق الوطني؛؛ اللبناني ... الى أين؟؟
- ماذا يراد من لبنان الجديد في الشرق الاوسط الكبير الاميرك ...
- -الفأر الميت- للمعارضة السورية
- العالم العربي والاسلامي ودعوة ديميتروف لاقامة الجبهة الموحدة ...
- هل تنجح خطة فرض تركيا وصيا اميركيا على البلاد العربية انطلاق ...
- الحرب الباردة مستمرة بأشكال جديدة بين -الامبراطورية- الروسية ...
- حرب الافيون العالمية الاولى في القرن 21: محاولة السيطرة على ...


المزيد.....




- مؤلف -آيات شيطانية- يروي ما رآه لحظة طعنه وما دار بذهنه وسط ...
- مصر.. سجال علاء مبارك ومصطفى بكري حول الاستيلاء على 75 طن ذه ...
- ابنة صدام حسين تنشر فيديو من زيارة لوالدها بذكرى -انتصار- ال ...
- -وول ستريت جورنال-: الأمريكيون يرمون نحو 68 مليون دولار في ا ...
- الثلوج تتساقط على مرتفعات صربيا والبوسنة
- محكمة تونسية تصدر حكمها على صحفي بارز (صورة)
- -بوليتيكو-: كبار ضباط الجيش الأوكراني يعتقدون أن الجبهة قد ت ...
- متطور وخفيف الوزن.. هواوي تكشف عن أحد أفضل الحواسب (فيديو)
- رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية -لا يعرف- من يقصف محطة زا ...
- أردوغان يحاول استعادة صورة المدافع عن الفلسطينيين


المزيد.....

- خزريات بابل ينشدن الزنج والقرامطة / المنصور جعفر
- حالية نظرية التنظيم اللينينية على ضوء التجربة التاريخية / إرنست ماندل
- العمل النقابي الكفاحي والحزب الثوري / أندري هنري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ملف بمناسبة الأول من أيار 2006 - التغيرات الجارية على بنية الطبقة العاملة وحركتها النقابية والسياسية - جورج حداد - أول أيار والدور الاممي الخاص للطبقة العاملة العربية