أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالجواد سيد - تاريخ مصر فى العصور الوسطى - تأليف ستانلى لين بول - ترجمة عبدالجواد سيد















المزيد.....



تاريخ مصر فى العصور الوسطى - تأليف ستانلى لين بول - ترجمة عبدالجواد سيد


عبدالجواد سيد
كاتب مصرى

(Abdelgawad Sayed)


الحوار المتمدن-العدد: 6214 - 2019 / 4 / 28 - 23:02
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    




تاريخ مصر فى العصور الوسطى


تأليف : ستانلى لين بول

ترجمة: عبدالجواد سيد

























إهداء الترجمة

إلى ذكرى/ ستانلى لين بول




























محتويات الكتاب :
مقدمة المؤلف
مقدمة المترجم
1. الغزو العربى – 639-641م.
2. من ولايات الخلافة 641-868م
3. الطولونيون والإخشيديون 868-969م
4. الثورة الشيعية 969م
5.الخلفاء الفاطميون 969- 1171م
6. الهجوم من الشرق/ سقوط الدولة الفاطمية 969-1171م
7. صلاح الدين 1169- 1193م
8. خلفاء صلاح الدين(الأيوبيون) 1193-1250 م
9. المماليك الأوائل/ الأتراك 1250-1277م
10. بيت قلاوون 1279-1382م
11. المماليك الجراكسة1382 -1517م
قائمة ولاة مصر فى العصرين الأموى والعباسى
قائمة ولاة مصر منذ سقوط مملكة الطولونيين حتى وصول الإخشيد إلى حكم مصر
قائمة نسب الخلفاء الفاطميين
قائمة سلاطين الدولة الأيوبية
قائمة سلاطين المماليك البحرية/الأتراك
قائمة سلاطين المماليك البرجية/ الجراكسة
----------------------------------------

















مقدمة المؤلف:

فى هذا الكتاب يأتى تاريخ مصر فى العصور الوسطى، منذ غزاها العرب سنة 640م حتى ضمها العثمانيون سنة 1517م، مروياً للمرة الأولى فى رواية متصلة بمعزل عن التاريخ العام للخلافة المحمدية. وفى ضغط أحداث مايقرب من تسعة قرون فى كتاب واحد فقد كان لابد من إختصار كثيراً من الأحداث الهامة، ولكن قائمة المراجع المذكورة عند نهاية كل فصل سوف تمكن الدارس من الحصول على تفاصيل أكبر، خاصة إذا ماكان على معرفة باللغة العربية.
وبالإضافة إلى تلك الأعمال المذكورة، فأنا أدين بشكل خاص إلى إم ماكس فان برشن ليس فقط لسماحه بالحصول على نسخ من صور النقوش الخاصة به، ولكن أيضاً لمساعدته القيمة فى إعداد قوائم النقوش، التى تتقدم كل فصل، والتى من أجلها أرسل إلي مشكوراً بروفات كتابه القادم، وكذلك على الملاحظات الخاصة بالنقوش المملوكية التى جمعها فى سوريا. ويجب على أيضاً أن أشكر زملائى الدكتور آر إتش شارلز والدكتور جى بى برى على مساعدتهما فى الإشارة إلى المصادر الإثيوبية والبيزنطية الخاصة بتاريخ الغزو العربى، وكذلك الشكر إلى إم بى كازانوفا وإم حرز بى على إستخدام بعض الرسوم التوضيحية.

ستانلى لين بول
كلية ترنتى / دبلن
18 ديسمبر 1900م





















مقدمة المترجم :

رغم مرور أكثر من قرن على صدور هذا الكتاب للمرة الأولى، فمازال يعتبر من أهم المراجع فى تاريخ مصر الإسلامية، بحيث لا يكاد يخلو بحثاً أو دراسة تتعلق بتاريخ مصر الإسلامية دون الإشارة إليه. وقد جرى المؤلف فى تصنيفه لهذا الكتاب على المنهج الأوربى فى تقسيم عصور التاريخ، حيث إعتبر نهاية عصر المماليك بعد هزيمتهم على يد العثمانيين فى بداية القرن السادس عشر الميلادى، نهاية لتاريخ مصر فى العصور الوسطى وبداية لتاريخها الحديث، كما هو الحال بالنسبة لتاريخ أوريا فى العصور الوسطى، الذى ينتهى فى القرن السادس عشر، ليبدأ بعد ذلك تاريخها الحديث، وبعكس رؤية معظم المؤرخين اليوم بأن تاريخ مصر الحديث يبدأ مع الحملة الفرنسية وعصر محمد على فى بدايات القرن التاسع عشر، وليس فى بدايات القرن السادس عشر، أى مع نهاية العصر العثمانى وليس مع نهاية العصر المملوكى، كما أنه يخلو من أى مقدمة عن تأسيس محمد (نبى العرب) وتجار قريش للدولة العربية الإسلامية فى المدينة، ويدخل مباشرة إلى موضوع الغزوات التى إنطلقت من هناك ، ولكن وبرغم تلك الملاحظات، فسوف يظل هذا الكتاب يحتل مكانه المتميز فى الدراسات المتعلقة بتاريخ مصر الإسلامية، وسوف يظل لاغنى عنه سواء للباحث المتخصص أو للمثقف العام، حيث كان المحاولة الأولى من نوعها لتضمين ذلك التاريخ الطويل فى مجلد واحد صغير، يحمل فى ثناياه الملامح الأساسية لتاريخ مصر الإسلامية، بل وتاريخ المشرق الإسلامى كله، وقد قمت بنشر بعض فصول من ترجمته فى السنوات الأخيرة، ثم تعطلت متابعة الترجمة لإنشغالات أخرى، أما وقد إكتملت اليوم، فإنه يسعدنى أن أنشرها كاملة، لعلها تساهم فى إلقاء الضوء على تلك العصورالكئيبة ، من خلال الرواية الموضوعية الشاملة التى قدمها المؤلف فى هذا الكتاب الهام.

عبدالجواد سيد
جاكرتا 2019















1. الغزو العربى

(639-641م)

مات محمد نبى العرب فى سنة 632م، وفى سنوات قليلة إكتسح أتباعه الجزيرة العربية وسوريا والعراق، هازمين قوى إمبراطور القسطنطينية، و كسرى ملك فارس الساسانى، وفى سنة 639م، غزا العرب مصر. أذعن الخليفة عمر على مضض لإلحاح القائد عمرو بن العاص فى غزو مصر، لكنه قرر أنه إذا ماوصل عمرو خطاب إستدعاء قبل دخوله الإقليم المصرى، فيجب عليه العودة إلى المدينة. وقد أرسل الخطاب، ولكن عمرو دبر عبور الحدود قبل فتحه بحيث يُنفذ غرضه. كان عمرو قد زار مصر فى شبابه ولم يكن قد نسى غناها. وقد أُعدت الحملة عندما إجتمع الخليفة بعمرو بالقرب من دمشق، أثناء عودتهم من القدس فى خريف سنة 639م وقضى عمرو يوم عيد الأضحى( 10 ذو الحجة سنة 18 هـ الموافق 12 ديسمبر سنة 639م) فى مدينة العريش الحدودية المصرية.
ضم الجيش الغازى حوالى ثلاثة آلاف وخمسمائة أو أربعة آلاف رجل، ولكنه سرعان مادُعم بقسم ثان من أربعة آلاف رجل. كان الجميع من الفرسان تقريباً، مسلحين بالحراب والسيوف والأقواس. كانت أول مقاومة واجهها العرب عند بلوزيوم( الفرما )، حيث صمدت الحامية الرومانية لفترة شهر، حتى نجح المحاصرون فى إختراقها ، جزئياً من خلال مساعدة الأقباط أو السكان المصريين الأصليين، والذين كانوا تواقين للترحيب بأى إمكانية للتحرر من قمع الإمبراطورية الرومانية الشرقية. ومن المؤكد أن الإنشقاق الذى بدأ فى مجمع خلقدونية سنة 451م، قد أسس عداءً حاداً بين المونوفيزين أو أتباع الكنيسة اليعقوبية فى مصر- أتباع مذهب الطبيعة الإلهية الواحدة للمسيح - وبين الكنيسة الرسمية الخلقدونية أو الملكانية- التابعة لمذهب القسطنطينية فى طبيعتى المسيح ، الإلهية من أبيه والبشرية من أمه، والتى كان أباطرة القسطنطينية يؤيدونها فى مصر، كما كان الإضطهاد الملكانى لليعقوبيين، والذين كانوا يشكلون الغالبية العظمى من المصريين ، قد قضى على أى قدر من الولاء، يمكن أن يكنه الشعب تجاه أسياده البعيدين، و مهد الطريق للتدخل الأجنبى.
والواقع أن الفرس كانوا قد غزوا البلاد منذ عهد قريب فى سنة 616م، وكان الرومان قد طردوهم منها قبل سنوات قليلة فقط من الغزو العربى . خدم المصريون كثيراً من السادة الأجانب، وعانوا تحت حكمهم جميعاً، بحيث أن تغيير الحاكم أصبح لايعنى لهم الكثير، كما أن أى تحرر من التعصب البيزنطى، ربما كان من الأفضل بالنسبة إليهم. وقد ساهم ذلك السخط الشديد فى الإنتصار السهل للعرب. وقد لوحظ ذلك أولاً فى الإستيلاء على بلوزيوم عندما قيل أن البطريرك الذى يسميه العرب أبوميامين( الأب بنيامين بطريرك الكنيسة المصرية المونوفيزيتى الذى كان مختبأً من السلطات البيزنطية فى ذلك الوقت) قد نصح الأقباط بتأييد الغزاة.
إتخذ العرب موقفاً آخر عند بلبيس على بعد حوالى ثلاثين ميلاً من مصر، حيث قضوا شهراً آخر فى حصارها. ولكن بعد القضاء على هذه المواقع الأمامية لم يعد هناك ما يحول بين الغزاة وبين هدفهم ، وهو قلعة بابليون القائمة عند رأس الدلتا، والتى كانت المفتاح لغزو مصر، ومازلت هذه القلعة القديمة قائمة حتى اليوم - جزئياً على الأقل – وتعرف الآن بقصر الشمع أو قلعة المنارة. كان الإمبراطور تراجان قد بنى قلعة بابليون على موقع حصن فارسى، وكان الرومان قد أعادوا تحصينها بوقت قصير قبل الغزو العربى. لقد كان من الواضح أن القضاء عليها كان أساسياً قبل المخاطرة بأى تقدم داخل الدلتا. كان هناك مدينة ما – تسمى مصر – تحيط بجدرانها الشمالية والشرقية، حيث كان النيل فى ذلك الوقت يجرى إلى الجنوب والغرب منها أو على الأقل كان هناك العديد من الضواحى التى تعتمد على الحصن، بحيث كان أول عمل لعمرو هو إحتلال تيندونياس(أم دنين)، وهى قرية كانت تقع إلى الشمال قليلاً من الحصن ربما قليلاً جداً من الأزبكية الحالية. وربما يعتبر حصن مصر هذا بضواحيه إمتداداً شمالياً لممفيس القديمة، والتى كانت يوماً مدينة ضخمة على الجانب الآخر من النيل، وكانت ماتزال تنبض بحياة زاخرة فى القرن السادس، ولكنها سرعان ما ضربت بعد ذلك بالتعصب الدينى، وأخذت فى الإضمحلال منذ ذلك الوقت فصاعداً. ولكنا لانعرف شيئا عن مدى إتساع أو سكان المدينة التى أشار إليها حنا النقيوسى – بشكل غامض – بإسم مصر.
لم يكن لدى عمرو فى الوقت الحاضر النية فى محاولة إحتلال القلعة بقوته الصغيرة. كانت خطته هى أن يضايق ويهدد الرومانٍ بالهجمات السريعة لقواته الخفيفة، وقد مكنه الإستيلاء على أم دنين على ضفة النيل من السيطرة على كثير من القوارب، فأرسل مجموعات من قواته أعلى النهر لغزو الفيوم ونهب أجزاءً من مصر العليا، فواجهوا الرومان عند مدخل الواحة، وأوقعوا الهزيمة بيوحنا حاكم مريوط ، الذى إنتشل أصحابه جثته من النيل. وفى هذه الإنتصارات إعتمد العرب بالفعل على مساعدة الوطنيين الأقباط، أو على حيادهم على الأقل، والذين كان عمرو قد أصبح مدركاً تماماً لمدى عدائهم للكنيسة الأرثوذكسية للإمبراطورية الشرقية أثناء زيارته الأولى إلى مصر. أربكت هذه الغارات السريعة الغير متوقعة وأحبطت الرومان، والذين لم يكونوا فى موقف يسمح لهم بمواجهتها، وبعد أن حاولوا عبثاً قطع خطوط إتصالات عمرو مع الجزيرة العربية وإسترداد أم دنين – أُجبروا على الإحتماء خلف أو تحت الجدران القوية لبابليون. وحوالى منتصف يونيو، تضاعفت قوات العرب بسبب وصول فرقة كبيرة تم إرسالها بناء على طلب عمرو، وربما على مضض من قبل الخليفة عمر، بقيادة الزبير بن العوام ، أحد أرستقراطى مكة، يصاحبه العديد من رفاق النبى. أصبح لدى عمرو الآن أكثر من ثمانية آلاف رجل أو حتى – وكما يقول بعض مؤرخى العرب – إثنى عشر ألف رجل. إتخذ عمرو موقعه فى هليوبوليس( عين شمس) على بعد بضعة أميال شمال بابليون، وذلك كى يكون على الطريق الذى يمكن ان تأتى منه الإمدادات من الجزيرة العربية، وجعل جيشه الموسع فى ثلاث فرق على أمل تنفيذ هجوم تطويقى، إذا ماغامر الرومان بالدخول فى معركة كبيرة. وحتى ذلك الوقت لم يكن هناك سوى مناوشات والإستيلاء على بعض المدن الصغيرة الحصينة، ولكن قد كان من الواضح أن الرومان لايمكن أن يتركوا العدو يتقدم عبر البلاد بدون بذل محاولة للدفاع عن مكانتهم القديمة. وقد خرجوا أخيراً وحاربوا معركة فى منتصف يوليو سنة 640م على نفس سهل هليوبوليس، حيث هزم كليبر الجيش التركى فى العشرين من مارس سنة 1800م. ويبدو أن الرومان قد حاربوا بقلب ضعيف إذ يمكن الحكم على ذلك من خسائر العرب الطفيفة، ومن النجاح التام للهجوم التطويقى الذى شنه خارجة بن حذافة وفرسانه الخفيفة. هُزم الرومان بمذبحة كبيرة وهربوا إلى الحصن، وتم القضاء على أحد الجيوش المدافعة عن مصر، وهُجر الوجه القبلى وسيطر العرب على مصر بدون مقاومة شديدة. ومع ذلك فلم يكن من الممكن محاصرة الموقع الحصين أثناء موسم الفيضان، وأجبر الجيش العربى على أن يظل ساكناً حتى إنحصار الفيضان فى سبتمبر.كان كل مايمكن عمله هو الحفاظ على خطوط الإتصالات مفتوحة مع الجزيرة العربية والإنتظار. ومن المحتمل أنه فى وقت ما قبل هذا كان الرومان قد حاولوا تجنب تلك الكارثة الوشيكة بدفع المال، كما كانت عادتهم فى الأيام السالفة عندما كانوا يدفعون المال لبدو سيناء وفلسطين إتقاءً لشرهم، ولكن فى كل الأحوال فإنهم لم يستطيعوا إثناء عمرو عن عزمه على الإستيلاء على بابليون. لم يكن الحصار الكامل أو الهجوم مطروحاً بأى حال. فلم يكن لدى العرب التجربة ولا المعدات الملائمة لمحاصرة حصون بمثل تلك القوة، التى تشهد عليها جدران حصن بابليون الحالية. كان كل مايستطيعون عمله هو محاصرة القلعة وحتى هذا الحصار لم يكن يمكن أن يكون كاملاً حيث أن الحامية كانت قادرة على الحفاظ على إتصالاتها مفتوحة مع جزيرة الروضة المقابلة. ولابد أن ذلك الحصار قد بدأ مبكراً فى أكتوبر لإنه يقال أنه قد إستمر لستة أشهر حيث إستسلمت الحامية فى النهاية فى 9 إبريل سنة 641م.
كل ذلك مؤكد، ولكن يبدو أن الكثير قد حدث أثناء صيف سنة 640م، والذى يقدم عنها المؤرخون العرب، وهم مرجعنا الوحيد عن تلك الفترة، تفاصيل مربكة ومتناقضة. فنحن نقرأ أنه قبل معركة هليوبوليس بدأ حاكم مصر، والذين يدعونه باللقب الغريب المقوقس، والذى حدده الدكتور بتلر على أنه قيرس ، بطريرك الإسكندرية القوى، بفتح مفاوضات مع العرب بنية السلام. وصل مطران مصر يصاحبه أحد الأساقفة إلى معسكر عمرو أثناء هدنة وإستُقبل بحفاوة. ويُقال أن عمرو قد أظهر روح ودية حيث تكلم عن حب النبى محمد للآقباط لكونهم من جنس هاجر، والذى يدعى أنه هو نفسه قد جاء من نسل إبنها (إسماعيل). وقدم لهم الخيارات التى كان الغزاة المسلمون يضعونها أمام خصومهم فى العادة وهى ، الإسلام أو الجزية أو الحرب. ومن الواضح أن المفاوضين كانوا مستعدين لقبول دفع الجزية، ولكن القائد والحامية الرومانية رفضوا ذلك تماماً، وخرقوا الهدنة بغارة غير ناجحة وضعت نهاية للمفاوضات. وبينما واصل العرب الحملة ولم يجن الرومان أى فائدة، فقد تجددت المفاوضات. ويبدو أنها قد عُجلت بسبب تسلق ناجح للأسوار قام به إبن الزبير أسفر عن الإستيلاء على أحد أبواب الحصن الخارجية. ولشعوره بالخطر من جراء ذلك، فقد عبر قيرس ومعه بعض قادة المصريين النهر إلى جزيرة الروضة، وقطعوا الجسر الذى يربط بينها وبين الحصن ، ربما لإنه هناك كان يستطيع المفاوضة بدون تدخل من الحامية. ويبدو واضحاً أنه خلال كل تلك الرواية المعقدة كان هناك حزبان متعارضان، وهما حزب الصلح الذى يمثل مشاعر المصريين، وحزب الحامية الرومانية الذى كان مصمماً على المقاومة حتى النهاية. وقد ذُكر بوضوح أن المفاوضات المتجددة قد حدثت أثناء إرتفاع النيل أى فى سبتمبر أو أكتوبر، حيث كان العرب معاقين بإنتشار الفيضان السنوى، و كان حصار بابليون يمكن فقط أن يبدأ. وتروى التواريخ العربية روايات عديدة عن تبادل سفارات، والتى يمكن أن تكون مختلقة تماما، ولكن النتيجة كانت – بلاشك- معاهدة سلام. وقد حفُظت تلك الوثيقة بواسطة المؤرخ العربى القرطبى، فى شكل موثوق إلى حد ما، وهى تتضمن عفو تام عن أهل مصر، لأشخاصهم وعقيدتهم وبضائعهم وكنائسهم وصلبانهم وأراضيهم ومياههم - بشرط دفع الجزية - بعد إنحسار النيل، وبالنسبة إلى كمية الفيضان. وقد مُنحت الإتفاقية بعهد وضمان الله وضمان نبيه وضمان الخليفة، أمير المؤمنين ، وبضمان المؤمنين وشهد عليها الزبير وأبنائه.
لقد كانت معاهدة مع أهل مصر، ولكن مع إعطاء الرومان حرية الإختيار فى الدخول فيها ( أو الرحيل عن مصر). ولكن لم يذكر فيها حصن بابليون حيث يوجد قليل من الشك فى أن الجنود لم يوافقوا عليها مبدئياً، ولكن من المؤكد أنهم قد قبلوها بعد أن أقرها الإمبراطور.
وكما نعرف من المصادر الإغريقية، فإن هرقل قد رفض تلك التسوية الضعيفة، وأنه قد إستدعى قيرس إلى القنسطنطينية ليحاسبه على تصرفه وأشبعه لوماً وتوبيخاً. ظلت الإتفاقية معطلة حتى ذلك الوقت، وإستمر الحصار بكل قوته خلال الشتاء. أخذت آمال المدافعين تخبو حيث لم تصل نجدة من الإسكندرية، ثم قضى موت هرقل فى فبراير، والفوضى التى أعقبت ذلك على أى أمل لأى مساعدة من القنسطنطينية. ونتيجة لذلك فقد خضعت الحامية المرهقة فى 9 إبريل سنة 641م، وأبحرت أسفل النهر إلى نقيوس.
إن الإهمال التام الذى أبدته القوات الرومانية فى مصر فى التصدى للعرب المتحمسين هو تفسير كاف لخضوع قيرس، وإجابة كاملة على النقد القائل بأن بطريرك ملكانى مثله، والذى كان سافراً فى إضطهاده للكنيسة المونوفيزية ، لم يكن من المحتمل أن يرهق نفسه من أجل الأقباط، فلم يكن شعب مصر كله قبطيا، وكان يجب تخليص الحامية الرومانية. وبدا أن معاهدة هى الطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك، وهكذا يكون قيرس قد أظهر نفسه ليس كخائن ولكن كرجل ذا بصيرة وحس سليم. ولكن إعتدال شروط الغزاة أكدت الإنطباع الجيد، والذى كان تعامل العرب مع المصريين قد أحدثه بالفعل، ولذا فليس من المستغرب أن نقرأ أنه بعد( أن أظهر عمرو نياته الطيبة فى الإلتزام بنص المعاهدة، رغم رفض الإمبراطور لها، فقد حرض المصريون المسلمين وساعدوهم بوسائل المواصلات والإمدادات).
وفى رغبتهم الطبيعية لتمجيد مآثر أجدادهم، وللبرهنة على أن مصر إستسلمت بقوة السلاح وليس بموجب معاهدة، وهو فرق ذو أهمية فى القانون الإسلامى، يروى المؤرخون العرب روايات عديدة ذات أهمية عن حصار بابليون، تعبرعن التقاليد السائدة آنذاك فيما يتعلق بالإنطباع الذى أحدثه الغزاة على الرومان والمصريين. فهنا نلاحظ إسهاب خاص على بساطة الأخلاق والورع والشجاعة البطولية للعرب. فعلى سبيل المثال ، يحكى عن كيف نزل أحد العرب يوماً عن صهوة جواده كى يؤدى صلواته المفروضة عندما خرجت جماعة من الرومان - مدججة بالسلاح، من الحصن لتفاجئه. وعندما إقتربوا منه قطع صلاته وإمتطى جواده وهاجمهم، ولكنهم ولوا الأدبار ملقين بكل سلاحهم وعتادهم فى تعجلهم وقد بوغتوا ببسالته. لم يهتم العربى بهذه الغنائم ولكن بعد أن طاردهم إلى الحصن فقد عاد بهدوء إلى المكان الذى هاجموه فيه وأنهى صلاته. و هناك رواية أخرى عن أنه عندما عاد رسل قيرس إليه، بعد أن أُحتفل بهم عدة أيام فى معسكر عمرو، فقد طلب منهم أن يصفوا له العرب ، فأجابوه( لقد وجدنا أناساً تحب الموت أكثر من الحياة ويؤثرون التواضع على التكبر وليس لهم رغبة أو متعة فى هذا العالم ، يجلسون عل الرمال ويأكلون على ركبهم ولكنهم يغسلون أطرافهم دائماً ويخضعون أنفسهم فى الصلاة ، شعب يصعب أن يتميز فيهم القوى من الضعيف أو السيد من العبد).
وبعدما تم الإستيلاء على حصن بابليون إستعد القائد العربى للزحف شمالاً. كانت القوات الرومانية تتمركز فى قليل من المدن الكبرى، ولكن عمرو وجد أن أفضل ومعظم قوات الجيش الرومانى قد إنسحبت إلى الإسكندرية، تاركة دومينيانوس فى نيقيوس ودارس حاكم سمنود لحفظ النهرين. ومع إقتراب العرب هرب دومينيانوس من نقيوس وأخذ قارباً إلى الإسكندرية. وعلى ذلك فقد دخل العرب نقيوس غير مدافعين فى 13 مايو سنة 641م، حيث يقال أنهم قد ذبحوا كل السكان وإرتكبوا مذبحة شنيعة فى جميع أنحاء جزيرة نقيوس الواقعة بين ذراعى النيل. فإذا ماكان ذلك حقيقياً، فإنه يؤكد على الرأى المعبر عنه قبل ذلك فى أن رأفة معاهدة مصر كانت تشمل فقط هؤلاء الذين إستسلموا، وليس المناطق التى كانت مازلت تحمل السلاح ضد الغزاة. ومن نقيوس إندفع عمرو شمالاً متلهفاً على إخضاع كل الدلتا قبل أن يعيق الفيضان عملياته. ومع ذلك فقد تم صده فى دمياط، وعندما وجد نفسه محاطاً بقنوات وأذرع النهر فقد عاد إلى مصر، حيث قام بمحاولة جديدة من هناك. وفى تلك المرة إختار الضفة الغربية للنهر وتقدم بطريق قرية الطرانة، حيث إشتبك مع الرومان فى ثلاثة معارك حتى وصل إلى حصن الكريون الواقع على بعد حوالى عشرين ميلا جنوب الإسكندرية. تم صد الهجوم الأول، ولكن العاصمة كانت تمزقها الأحزاب آنذاك ، بين الزرق والخضر والبيزنطيين والوطنيين والإغريق والأقباط ، ولم تكن فى حالة تسمح لها بالمقاومة. كان ثيودور – الحاكم الأغسطالى، أى الحاكم العسكرى– فى رودس، وكان دومينيانوس بديلاً ضعيفاً له كما كان فى عداء مع زميله ميناس حاكم مصر السفلى. إن الحالة المرتبكة للمدينة والشعور العام بالفزع، يمكن فقط أن يفسرا إستسلام ذلك الموقع الحصين الذى كان يمكن إمداده ودعمه من البحر بسهولة.
ونتيجة لذلك فعندما وصل العرب بالقرب من الإسكندرية، فقد وجدوا العدو متلهفاً للدخول فى معاهدة. وقد حفظ الطبرى تقريراً عن أحد الرجال الذين خدموا فى جيش عمرو عند إحتلال مصروالإسكندرية يقول فيه هذا الرجل المدعو زياد الزبيدى، أنه بعد الإستيلاء على بابليون تقدم الجيش الإسلامى نحو الدلتا بين مصر والإسكندرية حتى وصل إلى بلهيب، حيث أرسل حاكم الإسكندرية إلى عمرو عرضاً بدفع الجزية شريطة إطلاق سراح الأسرى الرومان، ورد عمرو بأنه لابد أن يحيل ذلك العرض إلى الخليفة فى المدينة، وأنه قد كتب ماعرضه عليه الحاكم، وقرئ الخطاب على القوات(العربية) وإنتظر الجميع فى بلهيب فى هدنة عسكرية حتى أتى رد الخليفة عمر فقرأه عمرو بصوت مرتفع على الملأ. وقد طلب الخليفة فى رده أن يدفع السكندريون الجزية، وأن يعطى الأسرى حرية الإختيار بين قبول الإسلام أو البقاء على عقيدة جماعتهم ، فإذا ماإختاروا الإسلام فقد أصبحوا مع المسلمين وإذا ماتمسكوا بعقيدتهم فلابد من إرسالهم إلى الإسكندرية، ولكن بالنسبة لهؤلاء الأسرى الذين كانوا قد أرسلوا إلى الجزيرة العربية بالفعل، فلا يمكن إعادتهم مرة أخرى. وهكذا فقد أعطوا باقى الأسرى حرية الإختيار وعندما إختار بعضهم الإسلام صاح الجيش (الله وأكبر) وكانت تلك أكبر صيحة تكبير أطلقوها – كما قال زياد – منذ غزو مصر. وعاد باقى الأسرى إلى الإسكندرية وتم تثبيت قيمة الجزية. وهكذ إستسلمت الإسكندرية ودخلها المسلمون.
ولايذكر حنا النقيوسى ، مثل زياد ، أى حصار طويل للإسكندرية، ولكنه يقول أن البطريرك قيرس ، الذى كان قد عاد من القسطنطينية مخولاً بكامل الصلاحيات للدخول فى معاهدة ، ذهب إلى عمرو فى بابليون ، ليقترح عليه شروط الصلح ويقدم الجزية، وأنه قد تقرر أن يدفع السكندريون جزية شهرية ويقدمون حوالى مائة وخمسين جندياً وخمسين مدنياً كرهائن، وأن لايتدخل المسلمون فى شئون الكنائس، ولا فى شئون المسيحيين، وأن يُسمح لليهود، والذين قد ساعدوا بلاشك فى توفير مبلغ الجزية، بالبقاء فى الإسكندرية، وأن يبقى المسلمون بعيدين عن المدينة لمدة إحدى عشر شهراً، يغادر خلالها الرومان الإسكندرية عن طريق البحر على أن لايعود أى جيش رومانى آخر لإستردادها. وتم توقيع المعاهدة الكئيبة فى بداية نوفمبر سنة 641م وإبتدأ تنفيذها فى 17 سبتمبر 642م.
يصف الكتاب المسلمون الإسكندرية، كما كانت فى سنة 642م بمبالغتهم المعتادة فيقولون، أنه كان بها 400 مسرحاً و4000 حمام عام، وكان عددها سكانها يبلغ حوالى 600000 نسمة (بدون النساء والأطفال)، كان منهم حوالى 200000 رومانى و70000 يهودى. ولايوجد فى أى من المصادر المبكرة أى ذكر لأى نهب أو تخريب من قبل العرب، إذ لم يُسمح بأى نهب حيث إستسلمت المدينة صلحاً. ويسجل حنا النقيوسى أن عمرو قد فرض الضرائب المتفق عليها، ولكنه لم يأخذ شيئاً من الكنائس ولم يقم بأى عمل من أعمال السلب أو التخريب ولكنه قام بحمايتهم خلال فترة حكمه. أما قصة تدمير مكتبة الإسكندرية وتوزيع كتبها لإيقاد النيران فى الأربعة آلاف حمام عام، فلم توجد فى أى مصدر مبكر كما أنها لم تذكر من قبل أى كاتب إغريقى، ولا من قبل حنا النقيوسى، ولا إبن عبدالحكم ولا الطبرى. والواقع أن القصة قد ظهرت أولاً فى القرن الثالث عشر الميلادى أى بعد حوالى ستمائة سنة من الحدث المزعوم فى أعمال عبداللطيف البغدادى وأبو الفرج، وهى تتعارض تماماً مع رواية حنا النقيوسى عن سياسة عمرو فى حمايتهم. وربما كان لتلك القصة جذورها فى تخريب كتب عباد النار أثناء الغزو العربى لفارس. ويمكن أن نروى هنا أحد الحكايات عن حصار الإسكندرية المشار إليه حيث أنها تلقى الضوء على الروح التى كانت تلهم المحاربين العرب.( كان عبدالله بن عمرو بن العاص قد جُرح جرحاً خطيراً وبينما كان يأن ألماً فقد تمنى أن لايعود أباه بالجيش إلى السلام والراحة. كانت إجابة عمرو معبرة تماماً عن طبيعة الجنس العربى إذ قال ( الراحة ، إنها أمامك وليست خلفك).










أهم المراجع :

1-حنا النقيوسى
2-إبن عبدالحكم
3-البلاذرى
4-الطبرى
5-المقريزى
6-أبوالمحاسن
السيوطى





























2- من ولايات الخلافة
(641-868م)

كان إستسلام الإسكندرية هو آخر عمل هام فى غزو مصر، لم تحدث مقاومة فى أى مكان آخر وأصبحت كل البلاد – من إيلة على البحر الأحمر إلى برقة على البحر المتوسط، ومن شلال النيل الأول إلى مصبه فى البحر المتوسط – ولاية من ولايات الخلافة الإسلامية. وإنتشر العرب فى جميع أنحاء البلاد خلال شتاء سنة 641-642م ، معيدين النظام وفارضين الضرائب، وذلك لإن عمرو لم يكن بالرجل الذى يمكن أن يتركهم ساكنين. وكما قال لهم ( إنطلقوا الآن بمجرد أن يحين الربيع وعندما يخثر الحليب وتذوى أوراق الشجر ويتكاثر البعوض عودوا إلى خيامكم). وحتى النوبة فقد أصبحت تدفع الجزية بسبب الحملة التى قادها عليها عبدالله بن سعد - مساعد عمرو- فى عشرين ألف رجل. أما الأقباط الذين كانوا قد ساعدوا العرب، ورحبوا بتغيير السادة فقد تمت مكافئتهم. إحتفظ عمرو بالوالى ميناس فى حكومته لبعض الوقت، وعين شنودة وفيلوكسينوس حاكمين على الريف والفيوم، وكان هؤلاء الثلاثة بطبيعة الحال على علاقة طيبة بالمسلمين، وإجتهدوا فى فرض الضرائب. ضغط ميناس على الإسكندرية التى كانت تدفع جزية شهرية حوالى 22000 قطعة من الذهب حتى أصبحت تدفع 32000 قطعة، وأصبح كثير من المصريين محمديين حتى يهربوا من جزية الرأس، وآخرون أخفوا أنفسهم لإنهم لم يكونوا قادرين على الدفع. أما فى المدن الصغيرة والقرى، فقد إختلط الغزاة بالأهالى، وأصبحت عذارى سنطيس فى الدلتا أمهات لمشاهير من المسلمين نتيجة لزواجهن الإرادى بالمحاربين العرب.
لم تعد الإسكندرية عاصمة مصر بعد ذلك الوقت. كان السوق التجارى العظيم( الإسكندرية) عرضة لإن يُقطع ، بسبب فيضان النيل، عن الإتصال الأرضى مع المدينة، ومن ثم مع كرسى الخلافة. وكان الخليفة عمر بعيداً عن التفكير فى إستعمار البلاد الدائم، فقد كان غير مستعد لإن يخسر خدمات جيش عمرو جيد التدريب، لدرجة أنه منع الجنود من تملك الأراضى وضرب جذور لهم فى مصر، حتى يكونوا مستعدين دائماً لغزوات جديدة فى أماكن أخرى. وبالإضافة إلى ذلك، فقد كانت الإسكندرية رمز السيطرة الرومانية و إستبداد الكنيسة الأرثوذكسية، ومن ثم فقد كانت مكروهة من قبل الأقباط. وعلى هذا فقد طلب الخليفة من عمرو أن يختار مكاناً أكثر مركزية، وقد إختار عمرو السهل المجاور لحصن بابليون، والذى لم يكن بعيداً عن شمال العاصمة المصرية القديمة ممفيس، حيث كانت خيمته قد نُصبت أثناء حصار مصر. وهنا بنى جامعه والذى مازال باقياً حتى اليوم، رغم ترميمه وتغييره بإستمرار، وهنا وضع أساس المدينة التى أطلق عليها إسم (الفسطاط) أى الخيمة ، فى نفس البقعة التى ، وتبعا للرواية ، عندما إنطلق شمالاً للإستيلاء على الإسكندرية، ترك فيها خيمته منتصبة لإنه لم يرغب فى أن يزعج الحمام الذى كان يبنى له عشاً هناك. ظلت الفسطاط عاصمة مصر لأكثر من ثلاثة قرون، حتى أسست القاهرة بالقرب منها فى سنة 969م، وحتى بعد ذلك فقد إستمرت لتكون العاصمة التجارية- متميزة عن العاصمة الرسمية – وذلك حتى أُحرقت فى غزوة الملك الصليبى عمورى سنة 1168م. ويذكر المقريزى فى الخطط – وهو أكبر مرجع عالم فى جغرافية مصر - أن الفسطاط والتى تسمى الآن بمدينة مصر، كانت أرضاً خراباً وحقولاً مزروعة من النيل إلى الجبل الشرقى، الذى يسمى بجبل المقطم، ولم يكن هناك أى مبانى سوى حصن بابليون، والذى أصبح يسمى الآن بقصر الشمع وبالكنيسة المعلقة. فهناك إعتاد الحاكم الرومانى الذى كان يحكم مصر بالنيابة عن القياصرة، أن يقيم عندما كان يحضر من الإسكندرية. كان ذلك الحصن يطل على النيل، وكانت القوارب الصاعدة فى النيل تقترب من بوابته الغربية. وفى مجاورات الحصن شمالاً كان هناك أشجار وكروم ، وقد أصبح ذلك الموقع مكان الجامع القديم ، جامع عمرو بن العاص. وبين الحصن والجبل كان هناك كثير من كنائس وأديرة المسيحيين. وسرعان ماإمتدت العاصمة الجديدة، وأصبحت إحدى المدن الرئيسية فى الإمبراطورية المحمدية.
ومنذ ذلك الوقت وعلى مدى قرنين وربع القرن، أصبحت مصر ولاية من ولايات الخلافة الإسلامية. لم يبد أن العرب قد قاموا بتغييرات شاملة فى نظامها الإدارى، لقد كانوا بشكل واضح جماعة قابلة للتكيف، وكانوا بشكل عام على إستعداد لقبول أفكار الآخرين. وفى مصر وجدوا نظاماً حكومياً جاهزاً، ومن ثم فقد تبنوا نظام سابقيهم الرومان بقليل من التعديل عبر الزمن. وقد إستمر هذا النظام فى كل أساسياته حتى ذلك القرن، وتطور إلى سلسلة غير مركزية تماماً من الحكومات الأصغر، المرتبطة بشكل ضعيف بالحكومة المركزية فى الفسطاط.
كان شيوخ القرى يتبعون ولاة المقاطعات، والذين كانوا يتبعون الوالى العام بدورهم، وكانت الحكومة المركزية لا تتدخل مع مسئولى المقاطعات، أو هؤلاء مع الفلاحين، طالما أن الضرائب كانت تُدفع، وكانت كل الآلة الحكومية موجهة نحو هدف جمع أكبر قدر ممكن من الدخل. ومع ذلك فقد كان هناك هيئة خاصة للرى وتعيين المفتشين سنويا، للإشراف على صيانة الخنادق والسدود الحكومية. ولكن الخنادق المحلية كانت تُترك لإدارة كل قرية أو مدينة على حدا، وكان يُدفع لها من الأموال المحلية. كان الوالى يُعين من قبل الخليفة، وكان الوالى فى العادة هو الذى يعين أكبر ثلاثة مسئولين فى الدولة - للحرب والقضاء والمالية - أى قائد العسكر وقاضى القضاة ومسئول الخراج. كان قائد العسكر يقود الحرس ويشرف على الجيش والبوليس وصيانة النظام. وكان قاضى القضاة هو رئيس القضاة، وكان يشرف أيضاً على دار السكة- على الأقل حتى القرن الثالث عشر – وكان يمثل الدين والقانون. أما مسئول الخراج، فقد كان مسئولاً عن جمع الضرائب، وكان مركزه هاماً للغاية، لدرجة أنه كان يعين غالبا من قبل الخليفة مباشرة، وكان منصبه مستقلاً عن الوالى. لقد كان واجبه بعد جمع الضرائب ودفع مصاريف الحكومة، أن يسلم الباقى إلى الخزانة العليا. وأحياناً كان يلتزم بدفع مبلغ محدد لخزانة الخليفة، ويحصل من الضرائب مايستطيع تحصيله. وأحياناً كان الوالى يتولى مسئولية الخراج مع وظائفه السياسية المعتادة. وفى كل الأحوال فلا شك أن رصيداً معتبراً كان يبقى فى جيوب المسئولين دون أن يجد طريقه إلى الخليفة. جعل التغيير المتكرر للولاة، وعدم التأكد من مدة ولايتهم، من فساد النظام أمراً حتمياً تقريباً ، كما مازلت هى الحالة فى الإمبراطورية العثمانية حتى اليوم.
أشرف عمرو من موقعه الجديد فى الفسطاط على جمع الدخل الضرورى، و قد جمع حوالى مليون دينار من جزية الرؤوس فى السنة الأولى وحدها ، وأربعة ملايين فى السنة الثانية، وثمانية فى السنة الثالثة( 642-643 شىي 644م)، وهو تقدم يُظهر أن البلاد لم تخضع فوراً للسيطرة المالية. وصل كل الدخل الذى إستطاع جمعه إلى إثنى عشر مليون دينار، من مجموع سكان قدره إبن عبدالحكم بما يتراوح من ستة إلى ثمانية ملايين نسمة، بإستثناء النساء والأطفال. وربما كان ذلك المجموع الكلى يتكون من ثلاثة ملايين دينار ضرائب على مليون ونصف فدان من الأراضى المزروعة، وثمانية ملايين من ضريبة الرأس( الجزية ) على حوالى أربعة ملايين راشد من الذكور، ومليون دينار من واجبات ومساهمات متنوعة.
أوجبت سياسة الخليفة معاملة كريمة لمزارعى الأرض، بحيث نسمع عن الخشونة فقط حيث كان أثرياء الأقباط يحاولون إخفاء مواردهم وتجنب الضرائب. كانت عاقبة ذلك هى المصادرة التى كانت تصل إلى مبالغ خيالية أحياناً. طور عمرو إنتاجية الأرض عن طريق الرى، وفرض نظام السخرة الممعن فى القدم، وتم الإحتفاظ بمائة وعشرين ألف عامل يعملون شتاءً وصيفا فى صيانة وتحسين السدود والقنوات. وتم تطهير وإعادة فتح القناة القديمة – التى كانت تسمى بقناة تراجان وتربط بابليون بالبحر الأحمر، وكانت قد ُطُمرت قبل وقت غزو العرب لمصر بفترة طويلة - فى مايقل عن سنة، وتم إرسال الحبوب إلى المدينة بواسطة السفن بدلاً من القوافل كما كان الحال فى السنة السابقة. وبالرغم من تلك الإدارة الكفؤة والحكيمة، فلم يكن الخليفة راضياً عن الدخل القليل المتحصل من مصر، وقلل من مركز عمرو بن العاص وجعله والياً للدلتا فقط، بينما جعل عبدالله بن سعد والياً على الصعيد، والذى سرعان ماأصبح بعد مقتل الخليفة عمر والياً على مصر كلها. ومع ذلك فقبل أن يغادر مصر حقق عمرو نجاحاً ملحوظاً آخر. كان أسطول رومانى مكون من ثلاثمائة سفينة بقيادة مانويل الأرمينى- يسانده الرومان من سكان الدلتا – قد إستطاع الإستيلاء على الإسكندرية سنة 645م وفى خوف الأقباط من عودة السيطرة الملكانية البغيضة فقد طالبوا بإعادة إرسال بطلهم القديم (عمرو بن العاص) لمواجهة العدو.
( هذه الروايات غير مؤكدة لإن موقف الأقباط من الغزاة العرب كان مرتبكاً وغير موحد، والواقع أن الذى دعى الخليفة لإعادة إرسال عمرو بن العاص لتحرير الإسكندرية من الرومان مرة ثانية، كان هو خبرته بالحرب فى هذه الأماكن وليس حب الأقباط له).
أسرع عمرو على رأس جيش براً وبحراً بإتجاه الإسكندرية، وواجه الرومان بالقرب من نقيوس. أطلق رماة السهام الإمبراطوريين سهامهم على القوات العربية أثناء نزولها من النهر، وتكبد العرب خسائر فادحة وأصيب فرس عمرو نفسه، وبدأ بعض مشاهير المحاربين فى الهرب. وفى هذه اللحظات تحدى قائد رومانى المسلمين إلى نزال فردى، فخرج إليه بطل من صفوف المسلمين، ووقف كل من الجيشين مستعداً أثناء المبارزة. وبعد حوالى ساعة من المبارزة قتل العربى خصمه بسكين، وبالحماس الذى بعثه ذلك فى نفوسهم، هاجم المسلمون أعدائهم بضراوة شديدة كسرت صفوفهم وجعلتهم يهربون إلى الإسكندرية بعد فقد قائدهم. وتم تخليد ذكرى المكان الذى كُسبت فيه الموقعة ببناء مسجد فيها عرف بإسم (بمسجد الرحمة)، كما تم تدمير أسوار الإسكندرية وكما قال عمرو( بحيث يمكن أن يأتيها الرجال من كل جانب كما يؤتى بيت العاهرة).
وكمكافأة على خدماته مُنح القائد الناجح منصب قائد العسكر فى مصر، ولكن ليس منصب الولاية الذى ظل بإيدى عبدالله بن سعد، لكنه إمتنع عن قبول ذلك وقال عبارته الشهيرة (إننى إذن كماسك قرنى البقرة وغيرى يحلبها). حاول الوالى الجديد عبدالله بن سعد مضاهاة أعمال سلفه فقام فى سنة 651-652م بغزو النوبة ووضع الحصار على دنقلة وهدم الكنيسة المسيحية بقذائفه الحجرية وأجبر أهلها على طلب الصلح. وقد حفظ إبن سليم المعاهدة التى تم التوصل إليها آنذاك ونقلها عنه المقريزى وهى وثيقة نادرة تقول :
( بسم الله الرحمن الرحيم، هذه معاهدة من عبدالله بن سعد بن أبى السرح إلى رئيس النوبيين وكل شعب مملكته، معاهدة ملزمة للكبير والصغير بينهم، من حدود أسوان إلى حدود الوا. عبدالله بن سعد يقضى بالسلام والأمن بينهم وبين المسلمين، جيرانهم بالصعيد ، وأيضاً مع كل المسلمين الآخرين ومن يتبعهم. أنتم ياأهل النوبة سوف تسكنوا فى سلام فى أمان الله ورسوله محمد باركه الله وحفظه. لن نهاجمكم ولن نشن الحرب أو نعتدى عليكم طالما أنكم ملتزمين بالشروط المتفق عليها بيننا وبينكم. وعندما تدخلون بلادنا فسوف لاتكونوا سوى مسافرين وليس مقيمين وعندما ندخل بلادكم فسوف لانكون سوى مسافرين وليس مقيمين. وسوف تقومون بحماية هؤلاء المسلمين او حلفائهم ممن يدخلون إلى بلادكم ويسافرون فيها وحتى يخرجوا منها. وسوف تسلمون عبيد المسلمين الذين يلجأون إليكم وتعيدونهم إلى بلاد الإسلام وبالمثل اللاجئ المسلم الذى يكون فى حرب مع المسلمين سوف تطردونه من بلادكم إلى بلاد الإسلام ولن تتبنوا قضيته ولاتمنعون القبض عليه. ولن تضعون أى عقبة فى طريق أى مسلم ولكن سوف تقدمون له المساعدة حتى يغادر بلادكم. وسوف تعتنون بالمسجد الذى بناه المسلمون على مشارف مدينتكم ولن تمنعوا أحد من الصلاة هناك وسوف تنظفونه وتضيئونه وتعظمونه. وفى كل سنة سوف تقدمون 360( ثلاثمائة وستين) رأساً من العبيد إلى قائد المسلمين( الخليفة) من عبيد الطبقة الوسطى فى بلادكم بدون عيوب جسدية من الرجال والنساء ليس بينهم رجل عجوز أو إمرأة عجوز أو أطفال صغار. وسف تسلمونهم إلى حاكم أسوان. لن يلزم أى مسلم برد أى عدو منكم أو مهاجمته أو منعه من ألوا إلى أسوان. وإذا ما آويتم عبداً مسلماً أو قتلتم مسلماً أو حليفاً أو حاولتم تدمير المسجد الذى بناه المسلمون على مشارف مدينتكم أو منعتم أى من الثلاثمائة وستين عبداً المتفق عليها فعندئذ سوف يسحب منكم ذلك العهد بالسلام والأمن وسوف نعود إلى مهاجمتكم حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين. وفى إلتزامنا بهذه الشروط فنحن نتعهد بإسم الله وبعهدنا وإيماننا وبإسم رسولنا محمد باركه الله وحفظه. وفى إلتزامكم بهذه الشروط فأنتم تتعهدون بأقدس مقدسات عقيدتكم وبالمسيح والحواريين وبكل ماتبجلونه فى عقيدتكم وديانتكم. والله شاهد على هذا بيننا وبينكم. كتبه عمرو بن شرحبيل فى رمضان سنة 31 للهجرة ( مايو- يونيو 652م).
وقبل معاهدة البقط تلك، كانت معاهدة الجزية السنوية من ثلاثمائة وستين عبداً، تُدفع لعمرو بن العاص ومعها أربعين عبداً إضافية كهدية، لكنه كان يرفض قبولها، وكان يُدفع مقابلها حبوباً ومواد تموينية. وقد إستمر ذلك التبادل لزمن طويل، إذ كان البقط من ثلاثمائة وستين عبداً يدفع بإنتظام كل سنة لضابط من عرب مصر فى منطقة القصر على بعد حوالى خمسة أميال من أسوان ، مدينة الحدود المصرية، وكان يتم مقايضة أربعين عبداً إضافياً بالقمح والشعير والعدس والجياد. ظلت المعاهدة وجزية العبيد السنوية سارية المفعول حتى زمن المماليك أى لأكثر من ستة قرون بعد توقيعها.
بعد ثلاث سنوات من حملة النوبة ظهر أسطول رومانى يتكون من حوالى سبعمائة إلى ألف سفينة خارج سواحل الإسكندرية. كان لدى المسلمين حوالى مائتى سفينة فقط لمقاومة ذلك الغزو، ولكن بعد أن إنتهى التقاذف بالسهام والأحجار وبعد أن شعر الرماة بالإرهاق، إقتربوا من بعضهما البعض وتحاربوا بالسيوف وجهاً لوجه حتى أجبر الرومان على الفرار. ومن كثرة الأشرعة فقد إكتسبت المعركة إسم معركة ( ذات الصوارى)، ومنذ ذلك التاريخ فصاعداً، وعلى مدى قرون وبرغم بعض الغارات العرضية من قبل الأساطيل الإمبراطورية، ظلت مصر آمنه من الهجوم الأجنبى. وحيث إستطاع عبدالله بن سعد فرض مزيداً من الضرائب، ونجح فى رفع الدخل إلى أربعة عشر مليون دينار، فقد علق الخليفة عثمان فى المدينة على ذلك بقوله لعمروبن العاص ( لقد درت الناقة مزيداً من الحليب بعدك ياعمرو) فأجاب عمرو( نعم ولكن أعجفت صغارها). والواقع أن سياسة عبدالله بن سعد أدت إلى سخط واسع، فقد ثار عرب مصر، وطردوا نائب الوالى من الفسطاط، وطالبوا بعزل الخليفة عثمان، ورفضوا الإعتراف بعبدالله بن سعد بعد عودته من رحلة إلى فلسطين، وأرسلوا قوة من الثوار إلى المدينة ليطالبوا بتعيين والى من إختيارهم. وعندما وقع فى إيديهم خطاباً يقال أن الخليفة أرسله إلى مصر يأمر فيه بقتلهم عندما يعودون إزدادت الفتنة إشتعالاً ، وأخذ عرب مصر فى المدينة دوراً قيادياً فى الأحداث التى أدت إلى مصرع الخليفة عثمان، وأصبحت مصر مسرحاً للصراع على الخلافة. حظى على، الخليفة الجديد ، بتأييد كبير فى مصر، كما فى أماكن أخرى، فأرسل والياً إلى الفسطاط . قرأ الوالى الجديد تفويض ولايته جهاراً فى مسجد عمرو، لكن تم إزاحته بخدعة كما تم تسميم الوالى التالى قبل أن يصل إلى محل ولايته. تعاهد عشرة آلاف رجل على الثأر لعثمان وتجمعوا فى خربتا فى منطقة الحوف الشرقى من الدلتا وتحدوا السلطة، وبتأييد هؤلاء و بقوة من حوالى خمسة آلاف سورى، ومساندة كثير من عرب مصر أعاد عمرو، وهو آنذاك الوالى المرشح من الخليفة المنافس معاوية، إحتلال الفسطاط فى يوليو سنة 658م، بعد هزيمة جيش والى على ، وقضى على سلطة على فى مصر.
دامت حكومة الغزاة الثانية حوالى خمس سنوات، ولكن ميزتها بعض الأحداث الهامة، بالإضافة إلى حملتين على بربر ليبيا. ونتيجة لخدماته العظيمة منح معاوية ، أول الخلفاء الأمويين بدمشق ، عمرو كل دخل مصر بعد دفع مصاريف الإدارة ، فكان الفائض كبيراً جداً بحيث أنه عندما مات عمرو فى يناير سنة 664م- فى حوالى التسعين من عمره – فقد ترك خلفه حوالى سبعين كيساً من الدنانير يزن كل منها حوالى إثنين أردب، مما قد يصل إلى كمية مستحيلة من عشرة أطنان من الذهب، ويقال والله أعلم (حسب عبارة المؤرخين العرب المأثورة ) أن أبنائه رفضوا وراثة ذلك المال الحرام.

إن تسجيل فترات الحكم المختلفة للتسعة وثمانين والياً، الذين حكموا مصر تحت الخلفاء المتعاقبين فى المدينة ودمشق وبغداد، حتى الوقت الذى أسس فيه إبن طولون مملكة مستقلة عملياً فى سنة 868م سوف يخدم هدف صغير. فقد ظل النظام كما هو فى كل الأحوال فقط كان اللين والقسوة يتغيران تبعا لمزاج الوالى، أو تبعا لشخصية مسئول الخراج والمسئولين الآخرين. وقد وصف كثير من الولاة بالكرم والإستقامة والإحسان إلى الناس، الذين أحبوهم بدورهم. ولكن هؤلاء كان يخلفهم فى العادة مسئولون صارمون كانوا يعالجون عجز الخزانة بمزيد من المصادرات. لم يكن من المحتمل أن تكون الأمانة هى الفضيلة البارزة بين الرجال المعرضين للطرد المفاجئ نتيجة لنزوات الخليفة، ومع ذلك يقال أن قيس بن سعد قد رفض عند عزله أن يملك المنزل الذى كان قد بناه فى الفسطاط، لإنه كان قد بُنى من مال المسلمين كى يكون المقر الرسمى للولاة المستقبليين. وقد إعتاد والى إستثنائى آخر ، رجل يخاف الله عادل ومستقيم ، أن يقول ( إذا دخلت الهدية من الباب طارت الأمانة من الطاق)، ومع ذلك فقد كان فى عهد هذا الرجل بعينه أن نفذ أسامة بن زيد التنوخى سياسة قمعية شديدة بناء على تعليمات الخليفة(إحلب الدر حتى ينقطع وإحلب الدم حتى ينصرم).
( المقصود بهذ الوالى الصالح هو عبدالله بن رفاعة الذى ولى مصر سنة ست وتسعين هـ من قبل الوليد بن عبدالملك وخليفته سليمان بن عبدالملك، وفى زمن ولايته أمر الخليفة سليمان متولى خراج مصر فى ذلك الوقت، أسامة بن زيد التنوخى بإتباع سياسة شديدة من أجل تحصيل أكبر قدر ممكن من الأموال، وهو الذى أمره بهذه العبارة، إحلب الدر حتى ينقطع وإحلب الدم حتى ينصرم ، والمقصود بها إحلب البقرة حتى يجف ضرعها، وإعتصر الدم حتى آخرة قطرة).
لم تكن الضريبة العادية باهظة. كان غير المسلمين يدفعون ضريبة رأس تبلغ حوالى جنيه سنوياً، ونفس المبلغ على فدان الأرض المزروعة بالنسبة لضريبة الأرض (الخراج) .كانت الضرائب تصل إلى مابين إثنى عشر إلى أربعة عشر مليون دينار سنوياً، وفى النصف الأول من القرن التاسع وصلت ضريبة الأرض التى بلغت دينارين للفدان إلى4857000 دينار فقط. ولكن فى مصر لم يكن جامع الضرائب يقنع دائماً بالضرائب الشرعية، فبصرف النظر عن تلك الضرائب، فقد كان هناك واجبات متعددة أخرى، على التجارة وعلى الأسواق وغيرها، وكانت تلك تزداد وتتنوع من وقت إلى آخر مما كان يضخم الدخل. أما الرعايا المسلمون فكانوا يدفعون ضريبة العشورعلى غلة الأرض والممتلكات. وفى بداية القرن الثامن أبلغ موظفو الإقليم خبراً غير عادى، بأن خزائنهم قد أصبحت ممتلئة بحيث لايمكنهم إستقبال المزيد، فأعطى الخليفة أوامره بأن يُنفق الفائض على بناء المساجد. كان مسجد عمرو ضمن المساجد التى أُعيد ترميمها، وقد ذُكر أنه عندما إنتهى العمال من العمل فى أحد الأمسيات ،وعادوا إلى منازلهم جلب الوالى، قرة بن شريك العبسى، الخمور إلى المكان المقدس، وأخذ يرتشفها على أنغام الموسيقى طوال الليل ، كطريقة أخرى من التخلص من الفائض، ومع ذلك فقد قام بعض الولاة بمنع كل محال الخمور وأماكن التسلية الأخرى بصرامة.
وبطبيعة الحال فقد كانت الغالبية العظمى من سكان مصر هم الأقباط المسيحيين، ولذا فقد كان يقع عليهم عبأ معظم أى إضطهاد محتمل، ومع ذلك فلايوجد سوى دليل ضعيف جداً على إساءة معاملتهم بشكل كبير. وقد إستقبل عمرو – الغازى – سفارة من الرهبان الذين طالبوا بعهد بحريتهم وبإسترجاع بطريركهم بنيامين، وقد منحهم عمرو العهد ودعى البطريرك المنفى للعودة. ومن الطبيعى أن المسلمين قد إنحازوا إلى جانب حلفائهم أتباع الكنيسة الوطنية اليعقوبية المونوفيزية ضد أتباع الكنيسة الأرثوذكسية البيزنطية الملكانية، والتى كانت مازالت ممثلة فى مصر.
وقد سمح الوالى مسلمة بن مخلد للأقباط ببناء كنيسة خلف الجسر فى الفسطاط، وعندما إنتقل عبدالعزيز بن مروان إلى حلوان بسبب ظروفه الصحية بالقرب من ممفيس، فقد إختار الدير القبطى فى تمويا على الضفة المقابلة لنهر النيل كمقر إقامة له، ودفع للرهبان عشرين ألف دينار ثمناً له. إن هذا لجدير بالملاحظة لإنه تبعاً للنظرية الإسلامية، فإن مصر كانت بلداً فُتح بالقوة، ولم يكن لأهله أى حقوق ولايستطيعون ملكية الأرض وكانوا دائماً عرضة للمصادرة. ومن جهة آخرى فإن خليفته وإبن أخيه عبدالله بن عبدالملك، قد حمل الناس مالاطاقة لهم به ومنع المسيحيين من إرتداء البرانس، وأمر بأن تكون اللغة العربية هى اللغة المستعملة فى الوثائق العامة، بدلاً من القبطية ، كما كان الحال حتى ذلك الوقت. وقد سُجلت مصادرات وغرامات جائرة وتعذيب ومضايقات، كما وُضع نظام من العلامات التى يجب أن يرتديها الرهبان، بحيث إذا ماوجد راهب بدونها أصبح ديره عرضة للنهب. أما الوالى الأكثر ظلماً فكان عبيدالله بن الحبحاب، والذى قام فى سنة 722م، وبناء على أوامر الخليفة، بالتدمير العام للصورالمقدسة للمسيحيين. وقد أدى مثل ذلك الإضطهاد إلى ثورة الأقباط فى الحوف- بين بلبيس ودمياط –، والتى وبرغم قمعها مؤقتاً، فقد إشتعلت مرة أخرى فى السنوات التالية. وقد أثار سجن بطريرك قبطى غضب شديد بين أتباعه فى النوبة، لدرجة أن الملك سرياقوس زحف على مصر على رأس مائة ألف نوبى، ولم يرجع إلا بناء على رغبة البطريرك فقط ، والذى سرعان ما كان قد تم الإفراج عنه.
لم يحاول المؤرخ المسلم المقريزى من التقليل من هذه الإضطهادات، وقد أعاد هو نفسه ذكر قصة بطولة إحدى النساء المتدينات، التى كان الجنود العرب قد جروهن خارج ديرهن. كانت فيبرونيا عذراء ذات جمال فائق، بحيث لم يستطع آسروها أن يقرروا لمن تكون منهم. وبينما كانوا يتشاورون فيما بينهم عرضت أن تكشف لقائدهم سر دهان كان أجدادها يستخدمونه، وكان يجعلهم غير قابلين للجرح إذا مامسحوا أنفسهم به. وافق قائد القوة على السماح لها بالعودة إلى ديرها إذا ما أثبتت له فاعلية ذلك الدهان على نفسها. وعلى ذلك ذهب معها إلى الدير حيث إقتربت من صورة العذراء، وصلت أمامها وتوسلت منها المساعدة على نيل الخلاص. ثم مسحت عنقها بالزيت وسحب أحد الجنود سيفا حاداً. وركعت فيبرونيا على ركبتيها وكشفت عن عنقها ولم يكن أحد يعلم ماذا كان فى قلبها.غطت وجهها وقالت( إذا ماكان هناك أى رجل قوى بينكم دعه يضرب عنقى بسيفه، وسوف ترون قوة الله فى سره العظيم)، وضرب الرجل بكل قوته فسقطت رأسها عن جسدها. لقد كان هدفها هو أن تحفظ عذريتها بهذه الطريقة بحيث يمكنها أن تظهر أمام المسيح كعذراء نقية، كما كانت قد خُلقت بدون خطيئة أرضية. وعندما رأى الجنود الجهلة ماحل بالفتاة فهموا أخيراً ماذا كان قصدها، وتأسفوا وحزنوا بشدة ولم يلحقوا أى أذى بباقى الفتيات بعد ذلك وتركوهن يعدن إلى ديرهن.
ومن الغريب أنه برغم تلك الإضطهادات المتقطعة ووضعهم المتدنى الدائم وأيضاً وجود الإغراء بالهرب من الجزية، وكل الصعوبات بمجرد التحول إلى الإسلام، فقد ظل الأقباط، ثابتين على عقيدتهم بشكل عام، حيث ظل عددهم حوالى الخمسة ملايين سنة 725م، إلى درجة أن والى الخراج عبيدالله بن الحبحاب - حوالى سنة 732م - عندما وجد أن الإسلام لايحقق أى تقدم بينهم، فقد قام بجلب خمسة آلاف من عرب قيس، وأسكنهم بينهم فى منطقة الحوف فى شمال شرق الفسطاط ، حيث شكلوا بؤرة للثورة الدائمة. ومع ذلك فلابد أن عدد السكان العرب – وبصرف النظر عن تلك الإضافة الصغيرة - كان كبيراً رغم أنه فى القرن الأول من الحكم المحمدى كانوا يعيشون فى المدن الكبرى فقط. ويبدو أن جميع الولاة قد جاؤوا إلى مصر فى صحبة جيش عربى، تراوح عدده فى أوقات مختلفة بين ستة آلاف أوعشرة آلاف، وحتى عشرين ألف رجل، ومن المرجح أن معظم هؤلاء الجنود قد إستقر فى المدن وتزاوج بعضهم بالتأكيد مع نساء قبطيات. وبلا شك فقد كان العرب مفضلين لدى الحكومة على حساب المسيحيين، حيث نقرأ أنه فى وقت واحد قد تم توزيع مبلغ خمسة وعشرين ألف دينار على المسلمين لتسديد ديونهم. ظلت القبائل العربية تهاجر إلى مصر من وقت إلى آخر. وهكذا إستقرت قبيلة الكنز- وهى فرع من ربيعة - فى الصعيد فى منتصف القرن التاسع، وتزاوجت مع الأهالى هناك، وأصبحت عاملاً سياسياً هاماً فى الثورات التالية، فى زمن الفاطميين وزمن صلاح الدين.
كان كل ولاة مصر فى زمن الأمويين من العرب، وكان أربعة منهم أبناء أو إخوة للخلفاء الحاكمين. وقد زار إثنان من الخلفاء الأمويين أنفسهم مصر، مروان الأول فى سنة 684م حيث هزم الحزب المؤيد للخليفة المنافس عبدالله بن الزبير، ومروان الثانى الذى أتى ( مروان بن محمد أو مروان الجعدى أو الحمار كما كان يعرف وهو آخر الخلفاء الأمويين/ المترجم) هارباً من خلفائه المنتصرين (العباسيين)، والذى عبر من غزة إلى الفسطاط وأرسل قواته للسيطرة على الصعيد والإسكندرية، ولكنه طورد حتى الموت من قبل القائد العباسى صالح بن على، الذى إستولى على الفسطاط للمملكة العباسية الجديدة فى أغسطس سنة 750م، وطرد أتباع الأمويين خارج البلاد أو قتلهم حيث وجدهم.
وهكذا تم التغيير من الخلفاء الأمويين إلى العباسيين بقليل من الصعوبة. والواقع أن كثيراً من الولاة الذين كانوا قد خدموا تحت الحكم الأمو،ى كانوا مستعدين تماماً لشغل مناصب فى ظل الحكم الجديد، كما نُقل كثير من الرجال البارزين فى النظام القديم إلى البلاط العباسى من أجل أقلمتهم، ومع ذلك فقد كان تولى العباسيين للسلطة حتى أقل إستقراراً، وكان أى والى عباسى يحكم بشكل عام حوالى نصف فترة حكم أى والى أموى. وفى ظل المملكة الجديدة كان عدد كبير من الولاة ينتمون إلى بنى العباس، كما كان كثير منهم من العرب، ولكن فى سنة 856م بدأ الخليفة فى إرسال الأتراك بدلاً من العرب - فى عصر المعتصم تحديداً - ومنذ ذلك الوقت، وباإستثناء الخلفاء الفاطميين، لم يحكم أى عربى مصر، فمنذ سنة 834م حتى تأسيس الحكم المستقل لإبن طولون فى سنة 872م، أصبحت الولاية إقطاعاً لواحد أو لآخر من قادة حرس الخليفة الأتراك، أو لإبن أو أخ للخليفة، ولم يكن أصحاب الإقطاع هؤلاء يحكمون بأنفسهم بل كانوا يفوضون من ينوب عنهم فى ذلك العمل مقابل الفائض من الدخل.
وقد تميز تغير المملكة بتغير المقر الرسمى للحكم. كان الولاة الأمويون يعيشون عموماً فى الفسطاط ،رغم أن أثنين منهما كانا قد نقلا مقر الحكومة إلى الإسكندرية بشكل مؤقت، تاركين نائباً لهما فى الفسطاط. بنى الولاة العباسيون عاصمة رسمية جديدة فى مكان يسمى( الحمراء القصوى)، والذى كان ضاحية عسكرية أكثر منه مدينة، وذلك فى السهل الواقع إلى الشمال الشرقى من الفسطاط، حيث كان جنود بعض القبائل العربية قد بنوا لهم بعض مواقع دفاعية قبل ذلك الوقت، والذى منها قد عرفت المدينة بإسم ( العسكر) بمعنى الجيش أو المعسكر. وقد عسكر صالح بن على ، القائد العباسى ، هناك سنة 750م، وبنى مساعده ، أبو عون ، منازل هناك، وأصبحت العسكر هى المقر الرسمى للوالى وحرسه ووزرائه. وقد ربطتها الضواحى بالفسطاط، التى كان النيل قد تراجع عنها بحلول سنة 725م مسافة قليلة بإتجاه الغرب. وقد بنى الوالى حاتم قصراً آخر عرف بإسم قبة الهواء فى سنة 809-810م، على سفح جبل المقطم حيث تقوم قلعة القاهرة الآن، وهنا كان الولاة يلجأون فى العادة طلباً للنسيم البارد.
تخللت فترة حكم مصر فى عهد الخلفاء العباسيين فى بغداد ثورات دائمة، وكان دور الأقباط فى تلك الثورات أقل من دور المسلمين أنفسهم، حيث كانوا يشاركون فيها ولم يكونوا هم السبب الرئيسى لها. كان قد أصبح هناك إنشقاقات خطيرة فى الإسلام بالفعل. ولايقصد بهذا الخلافات البسيطة بين المذاهب الدينية الأربعة الرئيسية فى إلإسلام، والتى كان المذهب المالكى أكثرها إنتشاراً فى مصر بين القرن الثامن والعاشر، حتى قدوم الإمام الشافعى إلى الفسطاط فى بداية القرن التاسع، والذى أصبح مذهبه هو المذهب السائد بعد ذلك، ولكن يقصد بذلك العداء الشديد بين الشيعة والسنة، أى بين المؤيدين لفكرة الحق الإلهى لأسرة على فى الخلافة، وبين المدافعين عن الخلافة القائمة والذى قسم المسلمين بالفعل. كان كل من المؤيدين لمطلب أبناء على فى الخلافة، وكذلك الخوارج - وهم طائفة من المتزمتين الذين كانوا قد لعبوا دوراً فى إسقاط على نفسه - ممثلين بقوة فى مصر، كما كانت القبائل العربية التى كانت قد إستقدمت إلى الحوف فى حالة من الثورة الدائمة. وفى سنة 754م إضطر أبوعون مساعد صالح بن على ،والذى كان فى حملة على البربر فى برقة، إلى العودة لإخماد ثورة كبيرة قام بها الخوارج فى مصر، وكانت النتيجة هى إرسال ثلاثة آلاف رأس من رؤوس الثوار إلى الفسطاط. وفى سنة 759م كان هناك حملة أخرى على برقة، حيث كان الخوارج قد تمكنوا من التحالف مع البربر، ومع مؤيدى الخلافة الأموية السابقة وفى تلك الحملة هُزم جيش مصر. تابع الوالى التالى حميد الحرب ، وقد أحضرمعه عشرين ألف رجل، تم إمدادهم بأعداد إضافية بعد ذلك بفترة قصيرة ، وبعد بعض إنتكاسات نجح فى هزيمة الثوار وقتل قائد الخوارج. ظهر العلويون على المسرح بعد ذلك وأوشك أحدهم وهو(على بن محمد بن عبدالله) على أن يصبح خليفة فى مصر، حتى تبنى الخليفة العباسى المنصور، بعد القبض على ثائر آخر من العلويين وقتله فى البصرة ، الوسيلة الرادعة بإرسال رأس الضحية لتعرض فى مسجد الفسطاط، والتى روعت العلويين لدرجة قوضت حركتهم. ومع ذلك فقد ظل الغليان شديداً لدرجة جعلت الوالى يزيد بن حاتم يمنع الحج السنوى إلى مكة فى سنة 764م. وفى السنة التالية إضطر لقمع ثورة خارجية فى الحبشة، وكمكافأة على خدماته ألحقت مقاطعة برقة للمرة الأولى بحكومته فى مصر سنة 766م.
وألآن جاء دور الأقباط، وقد كانوا قد ثاروا مرتين بالفعل فى سمنود فى الدلتا، وفى سنة 767م ثاروا فى سخا وهزموا قوات الحكومة مرتين وطردوا جامعى الضرائب. كانت أحد أهم مقاطعات الوجه البحرى فى حالة ثورة دائمة ولم يستتب بها النظام إلا بعد سنوات لاحقة. كانت النتيجة الطبيعية هى مزيد من القمع والإضطهاد الشديدين. عاد الهدوء لفترة وجيزة تحت حكم موسى بن عُلى، الذى عامل الناس بإحسان وأحب التحدث فى المساجد وتلاوة الأدعية ، حيث كان رجلاً متديناً معروفاً. ولكن تبدلت الأحوال إلى العنف مرة أخرى بولاية أبوصالح المعروف بإبن ممدود فى سنة779م وهو أول والى من الجنس التركى، وكان حاكماً نشطاً قديراً ولكنه صارماً قاسياً. وجد أبو صالح الطرق موبوءة بقطاع الطرق من عرب الحوف، وعلى الفور وضع حداً لأفعالهم بالإعدامات الفورية. كانت نظريته أنه فى ظل حكمه لايمكن أن توجد سرقة، وعلى ذلك فقد أصدر أوامر بأن تظل كل البوابات وأبواب المنازل وحتى الحانات مفتوحة اثناء الليل. وإعتاد الناس على مد شبكات أمام أبوابهم المفتوحة لمنع دخول الكلاب. منع أبوصالح توظيف حراس فى الحمامات العامة، وأعلن أنه إذا ماسُرق أى شئ فإنه سوف يعيده من جيبه الخاص. لدرجة أنه عندما كان يذهب أى من الناس إلى الحمام كان يترك ملابسه فى غرفة خلع الملابس وينادى(آه أبوصالح) إحفظ ملابسى، ثم يذهب ويأخذ حمامه فى ثقة تامة أنه عندما يخرج فلن يكون هناك من جرؤ على لمس ملابسه. ولكن قسوة إبن ممدود سببت مزيداً من الخوف أكثر مما خففت منه، كما أزعجت قوانينه السخيفة الناس، مثل فرض غطاء خاص للرأس على القضاة والمسئولين الآخرين ، وتدخله الدائم فى شئونهم، بحيث كان عزله موضع ترحيب عام.
وفى سنة 782م حدثت ثورة سياسية خطيرة فى الصعيد، حيث قام دحية بن مصعب الأموى بإعلان نفسه خليفة، وإنضم إليه معظم الصعيد وتم صد قوات الحكومة. وأُرسل والى جديد فقام أولاً بتغريم سلفه الغير ناجح مبلغ خمسة وثلاثين ألف دينار بسبب فشله فى قمع الثورة، ثم تبنى الوسيلة الغريبة بالتحبب إلى الناس بمضاعفة ضريبة الأرض وفرض واجبات جديدة على الأسواق وحيوانات النقل. وهكذا جعل موسى من نفسه شخصية مكروهة بشكل عام حتى أن جنوده أنفسهم بدأوا يهربون. وإنتهزت القبائل العربية فى الحوف الفرصة لتحمل السلاح مرة أخرى فهزم وقتل الوالى. لم يكن خلفه بأسعد حظاً منه، فقد فشل فى قمع الثوار فى الصعيد ولكن حملته هناك خُلدت بسبب حادث غريب، فقد تحدى أخو قائد الحملة قائد الثوار إلى مبارزة فردية حيث إستطاع كل منهما إصابة الآخر ثم ماتا كليهما وهربا كلا الجيشين فزعاً من بعضهما البعض. ولم تُخمد تلك الثورة الواسعة حتى أخذ الفضل ، إبن صالح العباسى فاتح مصر، تلك المهمة على عاتقه. لم يحاول الفضل الحلول الوسطى ولكنه أحضر جيشاً موالياً من سوريا إستطاع أن يحقق به سلسلة من الإنتصارات فى الصعيد، وتم القبض على دحية وأرسل إلى الفسطاط، حيث أعدم وصُلب جسده وأُرسلت رأسه إلى الخليفة فى بغداد.
ولكن من سوء الحظ أن الفضل قد إغتر للغاية نتيجة لإنتصاره هذا، لدرجة تسببت فى إزاحته عن منصبه وسار إبن أخيه الذى خلفه، وبرغم كونه رجل عادل وكريم، بُإستثناء موقفه من الأقباط والذى دمر كنائسهم، على نفس خطاه الطموحة، حتى تم إستدعائه بنفس الطريقة من قبل الخليفة هارون الرشيد. كانا كل من هذين الرجلين أعضاءً فى الأسرة العباسية، وكان من الطبيعى أن تداعبهما أحلام الوصول إلى الخلافة، والتى لم تكن حكراً على أحد فى الأسرة، بحيث كان يمكن للرشيد أن يستهين بهما. وإكُتشف نفس الطموح فى الوالى التالى موسى بن عيسى العباسى، وهو رجل ذو خبرة رسمية كبيرة، وكان ميالاً إلى الأقباط بشكل كبير، بحيث سمح لهم بإعادة بناء كنائسهم المخربة، وعندما تسربت الأخبار بأنه كان يضمر خططاً ضد الخليفة فقد صاح هارون بخفة ظله المعهودة( والله لأخلعنه وأولى مكانه أقل الناس شأناً فى بلاطى)، وفى تلك اللحظة تماماً جاء عمر، سكرتير أم الخليفة ، راكباً بغلته، فسأله جعفر البرمكى( هل تريد أن تكون والياً على مصر) فأجابه عمر( نعم أريد). وسرعان مانُفذ ذلك. وركب عمر بغلته متوجهاً إلى الفسطاط يتبعه عبداً واحداً حاملاً أمتعته. وعند دخوله منزل الوالى أخذ مقعده فى الصف الخلفى من الإجتماع المنعقد، وحيث لم يكن موسى يعرفه فقد سأله موسى ماذا يريد فأظهر له خطاب الخليفة وعند قرائته صاح موسى بعبارة قرآنية( لعن الله فرعون الذى قال ألست ملك مصر) ثم سلم حكومة مصر إلى أقل الناس شأناً. وبالطبع تبدو القصة كأحد نوادر هارون الرشيد المبالغ فيها ، بحيث لايمكن تصديقها تماماً، ومع ذلك فمن المؤكد أن موسى تقاعد سنة 792م.
وأثناء تغييرات الحكومة تلك تابع عرب الحوف سيرتهم فى التمرد. وفى سنة 802م وسنة 806م كان هناك قتال شديد، حيث رفض البدو دفع الضرائب وسرقوا الماشية وشنوا الغارات داخل فلسطين، وذلك بتأييد من العرب الذين يعيشون فى مناطق الحدود. وفى سنة 807م توقفوا لبعض الوقت بسبب القبض على بعض زعمائهم، ولكن الصراع على الخلافة الذى نشب عند موت هارون الرشيد بين إبنيه الأمين والمأمون قد قسم ولاء المصريين، وأدى إلى إنتفاضات جديدة فى الحوف. عين كلا مدعيى الخلافة ولاة متنافسين، لكن الأمين إختار بدهاء رئيس قبيلة قيس، وبهذه الطريقة إستطاع ضمان تأييد أكبر الأحزاب المناوئة للحكومة، ونتيجة لذلك فقد هُزم مرشح المأمون وقُتل. وقد حصل عرب الحوف إلى جانب هذا الإعتراف الرسمى، على مصدر جديد للقوة، بوصول مايزيد عن خمسة عشر ألف أندلسى إلى الإسكندرية فى سنة 798م مع أطفالهم ونسائهم. كان هؤلاء اللاجئون قد ُطُردوا من أسبانيا بواسطة الأمير الأموى الحكم (الربضى) نتيجة لثورة فى قرطبة، كانت على وشك الإطاحة بمملكته، والتى عُرفت بثورة الربض.
وقد سُمح لهم بالنزول فى الإسكندرية ولكن دون دخولها، ومن ثم فقد أعانوا أنفسهم على الحياة وبقدر ماإستطاعوا عن طريق ممارسة التجارة البحرية، وسرعان ماأصبحوا عاملاً هاماً فى الموقف السياسى، فتحالفوا مع أقوى القبائل العربية، قبيلة لخم فى الحوف ، وإستولوا على الإسكندرية سنة 815م، وهناك تحاربوا وتحالفوا مع الحكومة ومع متمردى الحوف بالتناوب، وذلك حتى وضعت أخيراً مهمة قمع هذه المستعمرة البغيضة (مصر) فى يد رجل قوى. أرسل الخليفة المأمون عبدالله بن طاهر، وهو أحد أشهر جنرالات ذلك العصر، إلى مصر فى سنة 826م على رأس جيش يقوده أهم محاربى خراسان، وبعد أربعة عشر يوماً من الحصار إستسلمت الإسكندرية فى 827م، ووافق الأندلسيون على ركوب مراكبهم والرحيل عن الإسكندرية، ومعهم كل مايتبع لهم من رجل حر وعبد وإمرأة وطفل، وإلا قتلوا. وأبحروا إلى كريت حيث إستقروا وحكموا حتى إسترد الإمبراطور الشرقى الجزيرة فى سنة 961م.
إضطلع إبن طاهر بمهمة صعبة، فقبل نفى الأندلسيين كان قد حارب الوالى عبيدالله بن السرى، الذى رفض قبول أمر عزله، حتى قام بن طاهر بمحاصرته فى الفسطاط ، وكأمل أخير فقد أرسل السرى لمحاصره فى ظلام الليل عرضاً بألف عبد وجارية يحمل كل منهم ألف دينار فى كيس حريرى، ولكن إبن طاهر ردهم إليه قائلاً ( ماكنت لأقبل هداياك نهاراً ولا ليلاً). وبعد إستسلام الفسطاط وطرد الأندلسيين من الإسكندرية، أعاد القائد الناجح، والذى لقبه الخليفة بالمنصور، النظام فى كل أرجاء البلاد وأعاد تنظم الجيش وجعل مصر موالية للعباسيين مرة أخرى. وفى مقابل خدماته العظيمة سمح له الخليفة أن يستمتع بكل دخل مصر، والذى كان يصل إلى نحو ثلاثة ملايين دينار. وقد وُصف عبدالله بن طاهر بأنه حاكم عادل وإنسان ذو ثقافة وعلاقات قوية بالشعراء ،والذين كان الكثيرون منهم فى بطانته دائماً. وقد خُلد إسمه فى إسم البطيخ العبدلاوى الذى أدخل زراعته فى مصر، ولكن بمجرد رحيله إلى خراسان فى شمال شرق فارس، إنتهت فترة الهدوء القصيرة التى تمتعت بها البلاد فى ظل حكمه العادل القوى. وسرعان ماجدد عرب الحوف إعتدائاتهم، وتقدموا إلى المطرية بالقرب من العاصمة الفسطاط حيث هزموا الوالى الجديد، والذى أحرق متاعه وولى هارباً ليحتمى بأسوار الفسطاط. وعندما جاء المعتصم أخو الخليفة، والذى أصبح هو نفسه الخليفة التالى، لنجدته ومعه أربعة آلاف من القوات التركية، وجد العرب يحاصرون المدينة، ورغم أنه إستطاع تفريقهم وقتل قادتهم سنة 829م، فبمجرد عودته إلى بغداد بعد خمسة أشهر لاحقة، يقود أمامه حشداً من السجناء حفاة الأقدام التعساء أمام فرسانه المتوحشين، فسرعان ما إشتعل العصيان من جديد وإنتشر حتى بين الأقباط ، حتى قرر الخليفة فى النهاية أن يحضر إلى مصر بنفسه.
لقد كانت تلك هى المرة الأولى التى يزور فيها خليفة عباسى النيل، والذى كان شعراؤه يرددون مديحه على مسامعه دائماً، وعندما مسح المأمون المشهد ببصره من( قبة الهواء) شعر بخيبة الأمل وصاح( لعن الله فرعون لقوله ألست ملك مصر فإذا ماكان فقط قد رأى العراق وحدائقه) فرد أحد علمائه( لاتقل ذلك لإنه أيضا قد كُتب أننا قد أهلكنا كل ما بناه فرعون وقومه بمهارة، فكيف كانت تلك الأشياء التى دمرها الله إذا ماكانت تلك هى مجرد بقاياها).
وبخ الخليفة الوالى غير الكفؤ وقطع رأس زعيم الثورة، وأرسل جيشاً إلى الحوف بقيادة القائد التركى الإفشين، حيث قام بذبح المتمردين الأقباط بدم بارد، وأحرق قراهم وباع زوجاتهم وأطفالهم كعبيد. وقد حطم هذا القمع العنيف روح الأقباط ولم نعد نسمع عن أى حركات وطنية بعد ذلك. وقد ترك الكثيرون منهم عقيدته وتحول إلى الإسلام، ومنذ ذلك التاريخ بدأ التفوق العددى للمسلمين على المسيحيين فى مصر، و بدأ إستقرار العرب فى القرى وفى الأراضى الزراعية بدلاً من المدن الكبرى فقط، كما كان سائداً حتى ذلك الوقت. وأصبحت مصر للمرة الأولى بلداً محمدياً أساسياً.
وأثناء تلك الفترة زار الخليفة الإسكندرية وسخا، وهناك أسطورة لاترتكز على أى مصدر مبكر تقول أنه قد حاول فتح هرم الجيزة الأكبر بحثاً عن الكنوز، ولكنه تخلى عن تلك المحاولة بعدما تبين له عجز عماله عن إحداث أى تأثير ملموس على الأحجار الضخمة، وبعد بقائه حوالى شهر عاد المأمون إلى بغداد. وقد ترك مصر فى حالة من السلام والتى، وبإستثناء إنتفاضة قصيرة بين عرب الدلتا اللخميين، فلم تتكدر لعديد من السنين. إن أى نزاعات ظهرت بعد ذلك كانت بسبب الخلافات الدينية بين المسلمين أنفسهم، حيث سبب فرض المأمون لمعتقد خلق القرآن، كإختبار لايمكن بدونه قبول أى قاضى ، مزيدا من المرارة وبأكثر مما كان الموضوع يستحق. وقد جُزت لحية أحد رؤساء القضاة ممن لم يمتثل لهذا المعتقد وضُرب بالسياط ، وطيف به على ظهر حمار فى شوارع المدينة. وإستمر خلفه يضربه بمعدل عشرين جلدة فى اليوم حتى إنتزع منه الإعتراف المطلوب. وطُرد الحنيفية والشافعية، أصحاب المذاهب التقليدية ، من المساجد وأصبحت أى زلة فى قراءة القرآن سبباً للجلد.
وقد تأذى الأقباط بدورهم بنظام مشابه من التدخل بعد سنوات قليلة من ذلك التاريخ، حيث أصدر الخليفة المتوكل سلسلة من القرارات الجديدة فى كل أقاليم مصر سنة 850م، تقضى بأن يرتدى المسيحيون ملابس عسلية برقع مميزة ويستخدمون السروج الخشبية، ويقيمون تماثيل خشبية للشيطان أو القرد أو الكلب على أبوابهم. كما حُرم الزنار، رمز الأنوثة، على النساء وأمر بأن ترتديه الرجال، وأن لاتُظهر الصلبان ولا تُحمل أنوار المواكب فى الشوارع، وأن لاتميز قبورهم عما حولها من أرض، كما منعوا أيضاً من ركوب الجياد. كان مثل ذلك الإضطهاد الطفولى مصصماً فقط من أجل خلق مناسبة لمخالفته ومن ثم لتحصيل مزيد من الغرامات والمصادرات.
كانت الروح المستقلة للقاضى، الذى جُلد لعدم الإمتثال بالأوامر السامية نموذجية بالنسبة لطبقته ومنصبه. ففى زمن الولاة الجشعين وولاة الخراج المبتزين حيث كان الفساد والظلم ينتشران فى كل الإدارة، كان يمكن الوثوق بقاضى القضاة أو بشيخ الإسلام فى الحفاظ على القانون المقدس، وذلك برغم التهديدات والرشاوى. وربما كان القانون ضيقاً والقاضى متعصباً لكنه كان على الأقل رجل ذا بعض التعليم، دُرب على التشريع المحمدى ، محترم الشخصية ومستقيم. كان منصبه هاماً للغاية كما كان تأثيره عظيماً لدرجة أنه، وبرغم التغير السريع للوزراء الآخرين مع التوالى السريع للولاة، كان يبقى فى منصبه عبر سلسلة من الإدارات ، وحتى عندما كان يُعزل فغالباً ماكان يُستعاد مرة أخرى بواسطة والى لاحق أو خليفة. وقد كان القاضى يفضل الإستقالة على الخضوع لأى تدخل فى أحكامه القضائية، مما جعل كثير من القضاة محبوبين لدرجة تجعل الوالى يفكر مرتين قبل أن يخاطر بفقدان شعبيته، والتى قد تتبع أى تدخل منه فى إختصاصهم. والواقع انه فى زمن العباسيين نادراً ماكان الوالى يملك القوة لعزل القضاة، لإنه منذ زمن إبن لاهيا الذى كان الخليفة المنصور قد عينه قاضيا فى سنة 771- 772م، فإن التعيين لذلك المنصب بدا أنه يتقرر فى بغداد بشكل عام، كما أن الراتب كان يُقرر إن لم يكن يُدفع بواسطة الخليفة أيضاً. كان راتب إبن لاهيا ثلاثين ديناراً شهرياً، ولكن فى سنة 827م وصل راتب عيسى بن المنقدر إلى ثلاثمائة دينار وإقطاع يدر حوالى ألف دينار. كان القاضى غوث (حوالى سنة 785م) نموذج للإستقامة ، حاضراً لأى إلتماس و كان يعقد جلسة عامة مع المحامين مع أول كل شهر هجرى. وقد كان خليفته ( المفضل) شخصية محترمة أيضاً و كان أول من أصر على ضرورة الإصلاح القضائى بحفظ سجلات كاملة للقضايا. لقد كان منصب القاضى منصباً شاقاً لإنه كان ، وبالإضافة إلى الجلسات القضائية، يتطلب الإشراف على الإحتفالات الدينية وحفظ التقويم والوعظ فى المسجد وواجبات أخرى، ولذا فإننا كثيراً مانقرأ عن رجال رفضوا ذلك المنصب المرهق للجسد والذمة. وقد قبله أبو خذيمة فقط عندما أرسل الوالى فى طلب خشبة وبلطة الجلاد. كان ذلك القاضى صانع حبال، وذات يوم عندما كان على منصة القضاء طلب منه أحد معارفه القدامى مقوداً، فقام الرجل الطيب وإلتقط واحداً من منزله ثم عاد ليكمل القضية المعروضة أمام المحكمة. وقد جلب له ذلك المزيج من البساطة والكرم المتناهيين مع الحفاظ الثابت والجليل على قانون الإسلام شهرة واسعة.
كان آخر والى عربى على مصر، عنبسة( بن إسحاق) هو أفضلهم جميعاً، فقد كان رجلاً قوياً عادلاً راقب موظفيه عن قرب، وأظهر لرعيته مشاعر ودية لم يعرفوا مثلها من قبل. فبدون تباهى كان يمشى على قدميه دائماً من مقر الحكومة فى العسكر إلى المسجد، وبسبب صرامته فى مراعاة واجباته الدينية فلم يفوته أبدًا صوم شهر رمضان بكل واجباته. لم يكن عنبسة هو آخروالى من دم عربى، فقط فقد كان أيضاً آخر من أخذ مكانه فى المسجد كقائد للصلاة ، والذى كان واجب الولاة فى غياب الخليفة ، القائد الأعلى للدين.إشتهرت فترة ولاية عنبسة بن إسحاق بغزوين لمصر جاءا من جهتين متعاكستين، ففى مايو من سنة 853م وبينما كان الوالى يحتفل بعيد الأضحى فى الفسطاط ، والذى من أجله كان قد أمر معظم القوات فى حامية دمياط وتينيس وحتى الإسكندرية بالمشاركة فى عرض عسكرى كبير، وصلت الأخبار بأن الرومان كانوايهاجمون الساحل، وعندما وجدوا دمياط خالية أحرقوها، وأخذوا نحواً من ستمائة أسير من النساء والأطفال. وعندما وصل عنبسة إلى هناك كانوا قد أبحروا إلى تنيس، وعندما إقتفى أثرهم كانوا قد أبحروا إلى بلادهم. وكإحتياط ضد مفاجآت مماثلة بُني حصن ليحرس مدخل دمياط ، وكما إكتشف الصليبيون لسوء حظهم بعد ذلك بفترة طويلة ، وكذلك حُصنت تنيس بنفس الطريقة.
أما الهجوم الآخر فقد جاء من السودان، ففى سنة 854م رفض شعب البجة فى النوبة والصحراء الشرقية دفع الجزية السنوية المكونة من أربعمائة من العبيد الذكور والإناث وعدد من الجمال وفيلين وزرافتين، والذين كانوا قد أجبروا على إرسالها إلى مصر منذ حملة سنة 652م، فقاموا بذبح الضباط العرب، وعمال المناجم فى جبال إيميرالد، ثم هبطوا على الصعيد ونهبوا إسنا وإدفوا وأماكن أخرى وطردوا السكان الفزعين إلى الشمال. كان ذلك حدثاً جسيماً وكتب عنبسة إلى الخليفة فى بغداد من أجل معرفة رأيه. وعلى الرغم من التقارير التحذيرية، التى قدمها العديد من المسافرين إلى الخليفة المتوكل عن همجية البلد وشراسة البجة فقد قرر الخليفة المتوكل إخضاعهم. تمت إستعدادات ضخمة فى مصر، حيث جُمعت كميات ضخمة من المؤن والأسلحة والجياد والجمال، وتجمعت القوات فى قفط وإسنا وأرمنت وأسوان على النيل والقصيرعلى البحر الأحمر، كما أبحرت سبع سفن محملة بالمؤن من القلزم إلى صنجا بالقرب من عيذاب ، الميناء الرئيسى على الجانب الإفريقى من البحر الأحمر فى ذلك الوقت. وتحرك قائد الحملة محمد القمى( نسبة إلى مدينة قم) من قوص مع سبعة آلاف جندى، وعبر الصحراء إلى مناجم إيميرالد وإقترب حتى من دنقلة. وإنتشرت أنباء تقدمه فى كل أنحاء السودان، فجمع ملكها على بابا جيشاً ضخماً لمواجهته. ومن حسن حظ المسلمين فإن هؤلاء السودانيين، وبدلاً من أن يرتدوا الدروع، فقد كانوا عراة تماماً ومسلحين بحراب قصيرة فقط، بينما كانت جمالهم سيئة التدريب ولايمكن السيطرة عليها، كما هى طبيعتهم أنفسهم، وعندما رأوا أسلحة وجياد العرب أدركوا أنه لافرصة لهم فى معركة منظمة، ولكن من خلال المناورة والمناوشة من مكان إلى مكان ، أملوا فى إرهاق العدو وإستنزاف مؤنه. وفى ذلك كانوا قد نجحوا تقريباً عندما ظهرت السفن السبع التى كانت قد أبحرت من القلزم، ولكى يعزلوا العرب عن خطوط إمدادهم إضطر السودانيون للهجوم على طول الساحل، ومع ذلك فقد قام القائد العربى بتعليق أجراس الجمال فى أعناق الخيول، وترك السودان يتقدمون حتى أصبحوا على مرمى الحراب تقريبا، ثم وبصيحة عالية( الله أكبر )أمر بهجوم عام وفى خضم ضجيج يصم الآذان من الأجراس والطبول أفزع جمال العدو، بحيث طرحت راكبيها أرضاً وولت الأدبار فزعة. إمتلأ السهل بالجثث ورضى على بابا ، الذى كان قد هرب ، بدفع متأخرات الجزية، وإستقبله القائد المسلم بإحترام وأجلسه معه على سجادته وقدم له هدايا قيمة وأغراه بأن لايقوم بزيارة الفسطاط فقط ،ولكن أيضاً بأن يذهب لرؤية الخليفة فى بغداد. ومن أجل سمعة المسلمين فقد سُمح له بالعودة إلى شعبه فى أمان. وبعد أربعة سنوات من الحكم الجيد والخدمة الشجاعة إستدعى عنبسة وأساءت سلسلة من الولاة الأتراك حكم البلاد. وبسبب كراهيتهم للعرب بحكم الجنس ومؤيدين بقرار المعتصم بإسقاط العرب من ديوان الجند، فقد إنحازوا إلى الأقباط وأعادوا لهم كثيراً من أراضيهم وممتلكاتهم المصادرة، وسمحوا لهم بإعادة بناء كنائسهم. وبالنسبة للعرب فقد كان هؤلاء لايمكن إحتمالهم وكان المسلمون ضحايا أعمالهم الغريبة . فمثلا كان أحدهم – يزيد – يضمر كراهية كبيرة للخصيان فطردهم من المدينة، كما كان يكره الصوت الغريب للنساء النائحات فى الجنازات ويرفض سباقات الخيل. وفى حكومته أُسس مقياس النيل الثانى فى جزيرة الروضة، كما نحيت مهمة قياس إرتفاع النيل عن الأقباط الذين كانوا يقومون بها دائماً. وقد كان له عبقرية شريرة فى شخصية وزير ماليته إبن المدبر، الذى إخترع ضرائب جديدة، فبالإضافة إلى الخراج ( ضريبة الأرض) والهلالى( ضرائب شهرية على المحلات والتجارات وغيرها) فقد أسس إحتكارات الحكومة فى مناجم النطرون ومصايد الأسماك، وفرض ضرائب على الأعلاف وعلى محلات الخمور. وتتابعت الإضطرابات المعتادة ، فأولاً كان هناك إنتفاضة فى الإسكندرية ثم فى الحوف، ولم تلبث أن أخمدت حتى إشتعلت آخرى فى الجيزة ورابعة فى الفيوم، وسقطت البلاد كلها فى فوضى وسالت كثيراً من الدماء، وألقى بالكثيرين فى السجون وقمع الناس بقسوة وتعصب، وطلب من النساء بشكل قاطع أن تلزم منازلها ولم يُسمح لهم حتى بزيارة المقابر أو بالذهاب إلى الحمام العام، وسجن الموسيقيون والنساء الندابات، ولم يعد يُسمح لأحد حتى أن ينطق بإسم الله بصوت مرتفع فى المسجد أو يحيد بوصة واحدة عن صفوف المصلين المنتظمة، وقد وقف أحد الأتراك ومعه سوط ينظم الحشد ويحفظ الصفوف مثل الشاويش. وقد أثار عدد من القواعد والتغيرات الطائشة فى الشعائر والعادات الناس، وأخيرا جاء والى تركى يعرف كيف يحكم. كان إسمه أحمد بن طولون وهو ومملكته يستحقان فصلاً منفصلاً.









































قائمة ولاة مصر فى العصرين الأموى والعباسى

1-فى عهد الخلفاء الأوائل

الخليفة الوالى الحرب الخراج القضاء نائب الوالى
------ ----- -------- ------ ------- ---------
أبوبكر 632م

عمر 634م عمروبن العاص640م خارجة بن حذيفة عثمان بن قيس
الصاحب بن هشام
عثمان644م عبدالله بن سعد644م سليم بن عترالتجيبى عقبة بن عامر الجهنى

على656م قيس بن سعد656
محمد بن أبى بكر657-658م
مالك بن الحارث الأشتر


2-فى عهد الخلفاء الأمويين

الخليفة الوالى الحرب الخراج القضاء نائب الوالى
---- ---- ----- ----- ----- -------
عمربن العاص858م سليم بن عتر خارجة بن حذافة

معاوية 661م
عبدالله بن عامر664م
عقبة بن أبى سفيان664م معاوية بن حديج عبدالله بن قيس بن الحارث

عقبة بن عامر الجهنى665م
مسلمة بن مخلد667م الصاحب بن هشام الصاحب بن هشام الصاحب بن هشام

يزيد680م

عبدالله بن الزبير سعيد بن يزيد الأزدى682م

مروان683م
عبدالرحمن بن عقبة بن جحدم القرشى684م
عبدالعزيز بن مروان 685م عمربن سعيد بشير بن النضر

عبدالملك685م عبدالرحمن بن حجيرة الخولانى
عبدالرحمن بن حجيرة
يونس بن عطية مالك بن شرحبيل
عبدالرحمن بن معاوية يونس بن عطية
عبدالرحمن بن معاوية بن حديج
عبدالملك بن عبدالملك705م عمران بن عبدالرحمن بن شرحبيل عمران بن شرحبيل عبدالرحمن بن عامر

الوليد705م عبد الإله بن خالد
قرة بن شريك العبسى 709 عبدالاله بن خالد عبدالله بن عبدالرحمن بن حجيرة
عبدالملك بن رفاعة الفهمى714 الوليد بن رفاعة أسامة بن زيد إبن الهجيرة للمرة الثانية

سليمان715م
عمر بن العزيز717 أيوب بن شرحبيل الأصبعى الحسن بن يزيد حيان بن سريح

يزيد الثانى 720م بشر بن صفوان الكلبى شهيب بن الحامد
حنظلة بن صفوان الفهمى عبيدالله بن الحبحاب يحيى بن ميمون عقبة بن مسلمة

هشام 724م محمد بن عبد الملك بن مروان724م حفص بن الوليد
الحر بن يوسف 724م حفص بن الوليد عبيدالله بن الحبحاب يحيى بن ميمون حفص بن الوليد حفص بن الوليد الحضرمى727
عبدالملك بن رفاعة727
الوليد بن رفاعة الفهمى727 عبدلله بن سمير الفهمى
عبدالرحمن بن خالد الفهمى الخيار بن خالد
وهيب بن اليحصوبى توبة بن نمير
عبدالرحمن بن خالد الفهمى735م عبدالله بن بشر الفهمى
حنظلة بن صفوان737 م عياد بن حيرمة الكلبى القاسم بن عبيدالله بن الحبحاب
خاير بن نعيم خاير عقبة بن نعيم
حفص بن الوليد742م عقبة بن نعيم الروينى

الوليد الثانى

يزيد الثالث 744م عيس بن أبى عطا خاير بن نعيم

إبراهيم 744م

مروان الثانى 744م حسن بن عطية التجيبى745
حفص بن الوليد 745
الحوثرة بن سهيل الباهلى745 عبدالرحمن بن سالم حسن بن عطية
المغيرة بن عبيدالله الفزارى749 عبدالله بن المغيرة
عبدالله بن عبدالرحمن بن حديج عبدالملك بن مروان
عبدالملك بن مروان اللخمى750 مروان بن مروان
عكرمة بن عبدالله

3- فى عهد الخلفاء العباسيين

السفاح750م صالح بن على العباسى 750 يزيد بن هانى عبدالرحمن بن سالم خاير بن نعين
أبوعون عبدالملك 751م عكرمة بن عبدالله عطا بن شرحبيل غوث بن سليمان عكرمة بن عبدالله
صالح بن على الفضل بن صالح بن على

المنصور 754م أبوعون754م أبو خذيمة
موسى بن كعب التميمى758 نوفل بن الفرات خالد بن حبيب
محمد بن الأشعث الخزاعى759 المغير بن عثمان
محمد بن معاوية محمد بن معاوية
حميد بن فحطبة الطائى760
يزيد بن حاتم المهلبى762عبدالله بن عبدالرحمن بن حديج معاوية بن مروان أبو خذيمة عبدالله بن عبدالرحمن بن حديج
769م عبدالله بن عبدالرحمن
بن معاوية بن حديج أبو خذيمة محمد بن عبدالرحمن بن حديج
محمد بن عبدالرحمن 772 العباس بن عبدالرحمن عبدالله بن لاهية
موسى بن على اللخمى772 أبو شيبة بن حسن

المهدى775م عيسى بن لقمان778
واضح779 موسى بن زارك
منصور بن يزيد الروينى779 هاشم بن عبدالله
عبدالله بن سعد
أسامة بن عمر
أبو صالح يحيى بن ممدود779
سالم بن سوادة التميمى780 الأخضر بن مروان أبوكتيفة إسماعيل إسماعيل بن سمى
إبراهيم بن صالح غوث
بن على العباسى781 أسامة بن عمر
موسى بن مصعب784م أسامة بن عمر غوث
أسامة بن عمر 785م المفضل بن الفضالة
الفضل بن صالح على العباسى785 أبو طاهر العراج
الهادى 785م
على بن سليمان بن عليل العباسى786- عبدالرحمن بن موسى786 – الحسن بن يزيد

الرشيد786م
موسى بن عيسى العباسى787- إسماعيل بن عيسى
أسامة بن عامر
مسلمة بن يحيى البجيلى789 عبدالرحمن بن مسلمة
محمد بن زهير الأزدى789 حبيب بن أبان عمر بن غيلان
داوود بن يزيد حاتم المهلبى790 - عمر بن مسلم إبراهيم بن صالح
المفضل بن فضالة
موسى بن عيسى العباسى791 نصر بن كلثوم
إبراهيم بن صالح العباسى792 خالد بن يزيد أسامة بن عامر

عبدالله بن المسيب793 أبو الموكيس المفضل بن فضاالة
محمد بن مسروق
إسحاق بن سليمان مسلم بن بكير العقيلى
بن العليل العباسى 793
هرثمة بن أعين794
عبدالملك بن صالح 794 عبدالله بن المسيب
بن على العباسى
عبيدالله بن المهدى العباسى -795 معاوية بن سوراد
عمر بن مسلم
موسى بن عيسى العباسى796
عبيدالله بن المهدى796 داوود بن هبيث
إسماعيل بن صالح 797 سليمان بن عصيمة عون بن وهب
بن على العباسى
إسماعيل بن عيسى 798 زايد بن عبدالعزيز
بن موسى العباسى
الليث بن فضل799م على بن الفضل محفوظ بن سليم - إسحاق بن الفرات - على بن الفضل

عبدالرحمن بن عبدالله هاشم بن عبدالله
أحمد بن إسماعيل803 عبدالرحمن بن موسى
بن عليل العباسى
عبيدالله بن زينب العباسى805 - أحمد بن موسى هاشم بن عبدالله
محمد بن أسامة
الحسين بن جميل806 الكامل الهوناى
مالك بن دلهم الكلبى807 محمد بن توبة العلاء بن عاصم

الحسن بن التختا809 محمد بن جلد - محمد بن زياد
صالح بن عبدالكريم
سليمان بن غالب

هيثم بن هرثمة بن عيان810 على بن المثنى عوف بن وهب
عبيدالله الطرسوسى قاسم البكرى
جابر الأشعث الطائى812 إبراهيم بن البكة

الأمين809م
عباد البلخى812 هبيرة بن هاشم الحديج لاهى الحضرمى


المأمون813م
المطلب الخزاعى813
العباس بن موسى بن 814
عيسى العباسى
المطلب الخزاعى815
عسارى بن الحكم816 محمد بن أسامة
سليمان بن غالب البجلى816- أبوبكر بن جنادة
العباس بن لاهيا
عسارى بن الحكم817م محمد بن أسامة
الحارث بن ززهرة
ميمون بن عسارى إبراهيم بن إسحاق
إبن المخاريق إبراهيم بن الجارة

محمد بن عسارى820 محمد بن قبيس

ا عبيدالله بن عسارى إبراهيم بن الجارة
عبيدالله بن عسارى822 محمد بن عقبة
عبدالله بن طاهر826 موضح بن عزيز
عبدويه بن جبلة عيسى بن المنكدر
عيسى بن يزيد الجلودى827-محمد بن عيسى الجلودى صالح بن شيراز المعتصم
عمير بن وهد التميمى محمد بن عمير
عيسى بن يزيد الجلودى829
المعتصم العباسى829 بدون قاضى
عبدويه بن جبلة830 إبن عبدويه
عيسى بن منصور 831 يونس
المأمون-الخليفة832
نصر بن عبدالله كيدر832 إبن سفنديار هارون الزهيرى
المظفر بن كيدر

المعتصم833م
المظفر بن كيدر834 أشناس
موسى الحنفى 834 هارون الزهيرى
مالك بن كيدر839 -
على بن يحيى الأرمينى841- أبو الوزير محمد بن أبى الليث

الواثق842م
عيسى بن منصور843

المتوكل847م
هرثمة بن النضر847 أبو قتيبة إطاش
حاتم بن هرثمة849
على بن يحيى الأرمينى849- معاوية بن نعيم
المنتصر
إسحاق بن يحيى850 - الحجاجى
عبدالواحد بن يحيى851-محمد بن سليمان البجلى الحارث بن مسكين
عنبسة بن إسحاق852- محمد الكومى – أحمد بن خالد
يزيد بن عبدالله التركى856 أحمد بن مدبر بكر بن قتيبة

المنتصر861م الفتح بن خاقان

المستعصمم862

المعتز866م
مزاحم بن خاقان867- أرجوز بن أولج طرخان - أحمد بن مدبر – بكر بن قتيبة
أحمد بن مزاحم868
أرجوز طرخان868 بقباق


----------------------------


أهم المراجع :

1-إبن عبدالحكم
2-أبوصالح
3-إبن خلقان
4-المقريزى
5-أبوالمحاسن
6-ال

3- الطولونيون والإخشيديون
(868-969م)

الطولونيون

منذ سنة 856م أصبح ولاة مصر من الأتراك، وقبل عشرين سنة من ذلك التاريخ كانت الولاية قد مُنحت لأتراك متعاقبين فى بغداد مقابل مبالغ محددة من المال، وكان هؤلاء بدورهم يعينون نواباً لإدارتها بالنيابة عنهم. كان ذلك التغيير من الحكم العربى إلى الحكم التركى جزءً من ثورة شُعر بها فى معظم مناطق الخلافة، وقد قادت إلى القضاء على السلطة الزمنية لأمير المؤمنين. ومنذ وقت إتصال العرب بالأتراك على نهر جيحون، وإخضاعهم لحكمهم أصبح العبيد الأتراك محل تقدير عالى فى البيوت الإسلامية. كانت قوتهم البدنية وجمالهم وشجاعتهم وأمانتهم سبباً فى كسب ثقة كبار الأمراء، وبصفة خاصة الخلفاء الذين إعتقدوا أنهم يستطيعون الإعتماد على ولاء هؤلاء المشترين الأجانب، بشكل أكثر أماناً من الإعتماد على عربهم الغيورين أو الفرس، الذين كانوا يعيشون بينهم والذين كان لهم نصيب كبير فى إدارة الإمبراطورية حتى ذلك الوقت. كان العبد التركى الصغير، الذى يخدم سيده بشكل جيد، عادة مايحصل على حريته وعلى وظيفة هامة فى القصر. كان الخلفاء الغير قادرين غالباً على تهدئة المشاعر العنيفة للأمراء الوطنيين، سوى بمنحهم إمتيازات خاصة وحقوق ملكية، قد دُفعوا تدريجياً إلى الخطأ المعاكس، بإبعاد رعاياهم الأكثر قوة ومنح كل ثقتهم لهؤلاء العبيد الأجانب، والذين تمكنوا بهذا الشكل من السيطرة الكاملة على شئون القصر الداخلية. وعندما تم إستيعاب هؤلاء العبيد البيض الجهلاء( المماليك) فى مجتمع الحكام المثقفين لإمبراطورية عظيمة، فسرعان ماأصبحوا عالمين بقوانين القرآن وتبنوا لغة وعقيدة سادتهم، ودرسوا العلوم والسياسة، وعندما كان أى منهم يصبح قادراً على الإضطلاع بالمهام الأصعب أو شغل المواقع الأكثر أهمية فى البلاط، فقد كانوا يُعتقون ويعينون فى مناصب الحكومة المختلفة تبعاً لما يظهرونه من ذكاء. وهكذا كان العتقاء الأتراك لايعينون فقط فى المناصب الرئيسية فى القصر، ولكن إلى حكم بعض أهم الولايات فى الإمبراطورية. وليس هذا فقط، ولكنهم قد شكلوا أيضاً فى قوة من الحرس الخاص بواسطة الخليفة المعتصم ، إبن هارون الرشيد ، ومنذ ذلك اليوم فصاعداً،أصبحوا يلعبون الدور الرئيسى فى إقامة وإسقاط الخلفاء وأقاموا حكماً من الإرهاب فى بغداد.
كان طولون أحد هؤلاء العبيد، وكان تركياً من قبيلة طاجازجان، وكان قد أُرسل إلى بغداد مع آخرين من الفتيان من قبل حاكم بخارى، كهدية للخليفة المأمون فى سنة 815م، حيث إستطاع الوصول إلى مرتبة عالية فى القصر. وقد ولد إبنه أحمد( بالفعل أو بالتبنى)، حاكم مصر المستقبلى، فى سبتمبر سنة 835م، وحصل على التعليم الجيد المعتاد لذلك العصر، فلم يدرس اللغة العربية والقرآن فقط، ولكن أيضاً الفقه وعلم الكلام على مذهب العالم المسلم الكبير أبو حنيفة. وبسبب عدم قناعته بأساتذة بغداد الأكفاء، فقد زار طرسوس عدة مرات كى يدرس على يد بعص المعلمين المتميزين، وذلك حتى أصبح هو نفسه حُجة فى مواضيع النقد والتعليم. ومع تلك الثقافة فقد تابع بإجتهاد ورضى شديدين طريق التعليم العسكرى، الذى كان يُمنح لشباب الأتراك فى سامراء، مقر الخليفة الجديد على نهر دجلة. وفى أحد رحلاته من طرسوس إستطاع هزيمة بعض قطاع الطرق العرب، وأنقذ كنزاً ضخماً كان مرسلاً من القسطنطينية إلى الخليفة، ثم أختير فيما بعد لمصاحبة الخليفة المخلوع، المستعين، إلى منفاه فى واسط. وعندما قدمت له رشوة ضخمة لإبعاد الخليفة فقد رفض حانقاً، ومع ذلك فلم يسبب له إخلاصه هذا أى ضرر بين الأتراك فعندما تولى الأمير باكباك ، الذى تزوج من أرملة طولون حوالى سنة 854م، إقطاعية مصر، أرسل إبن زوجته أحمد بن طولون كممثل له هناك.
دخل أبو العباس أحمد بن طولون الفسطاط فى سبتمبر سنة 868م وهو فى الثالثة والثلاثين من العمر.وقد قدم أحد اصدقائه الأغنياء مبلغ عشرة آلاف دينار لمواجهة نفقاته، لإن الوالى الجديد كان مفلساً بشكل واضح، ولإنه لم يتولى أى منصب سابق ، فلم يكن خبيراً فى الوسائل الرسمية فى إبتزاز رعاياه. ومع ذلك فقد كان رجلاً ذا قدرات كبيرة وحكماً جيداً على الرجال، وسرعان ماجعل الناس تشعر بسلطته. وحلال حكمه كان له مساعد قدير فى سكرتيره أحمد الواسطى. كان عليه أولاً أن يتعامل مع والى الخراج أحمد بن المدبر، المحتال البارع الذى سيطر على دخل مصر لعدة سنوات، وإحتفظ لنفسه بمكانة تفوق مكانة الوالى . كان إبن المدبر متبوعاً دائماً بحراسة من مائة فارس من شباب العبيد الأقوياء ، شديدى الجمال ، يرتدون الملابس والحلى الفاخرة من العباءات الفارسية، والسياط المطعمة بالفضة. وبعد تقييمه لشخص الوالى الجديد بأسلوبه الخاص، أرسل له عشرة آلاف دينار كرشوة صغيرة، لكنه فوجئ بإعادتها إليه. وقد أخبره إبن طولون فى الحال بأنه بدلاً من المال فإنه سوف يقبل الحرس، فإضطر إبن المدبر أن يرسل إليه حرسه من العبيد. وعندما وجد سلطته وأبهته تتلاشى، فقد توسل إلى الخليفة أن يزيح الوالى رابط الجأش، لكن إبن طولون بقى. كان لدى إبن طولون أعداءً آخرين بالإضافة إلى هؤلاء فى وزارته. فقد ثار العلويون إلى الغرب من الإسكندرية فى سنة 869م، كما حمل علويون آخرون النار والسيف فى مقاطعة إسنا فى الصعيد، لكن تم إخضاعهم وإبعادهم إلى الواحات بعد قتال شديد.
وأثناء ذلك كان والى مصر الإسمى، زوج أم إبن طولون ، قد أُعُدم، ولكن من حسن الحظ كانت ولاية مصر قد مُنحت إلى الأمير برقوق الذى كانت إبنته زوجة إبن طولون نفسه. لم يمنح الوالى الجديد زوح إبنته حرية التصرف فى مصر فقط ، كاتبا له ببساطة ( إفعل ماشئت)، لكنه قد عهد إليه أيضا بمدينة الإسكندرية وبأماكن أخرى، لم تكن ضمن ولايته الأصلية. تولى إبن طولون حكم الميناء العظيم فى سنة 870م ولكنه، وبحكمة، قد ترك القائد السابق فى منصبه. كانت سلطته قد أصبحت الآن ثابته لدرجة أنه عندما تغير واليها الإسمى مرة أخرى سنة 872م، فإنه حتى لم يكلف نفسه عناء الحصول على المصادقة الرسمية للرئيس الجديد، الموفق أخو الخليفة، وبناء على ذلك فقد تم إستدعائه للمثول أمام الخليفة فى قصره فى سامراء على نهر دجلة لتقديم تقرير عن خدمته. وببساطة فقد قابل تلك المناورة الواضحة من قبل أعدائه بأن أرسل سكرتيره برشاوى ضخمة وبأموال الجزية مما أسفر عن تقوية مركزه. وتم التخلص من كلا معارضيه السريين الرئيسيين فى مصر، فأرهب أحدهما بتهديداته حتى لزم منزله ومات،أما الآخر، والى الخراج إبن المدبر، فقد كان سعيداً بأن يستبدل منصبه بمسئول مالية سوريا.
والآن فقد أصبح لإبن طولون مرتبة الملوك فى مصر. كان مقر الحكومة فى العسكر ، الضاحية الرسمية للفسطاط ، صغيراً لدرجة لاتسمح بإستيعاب بطانته وجيشه كثيرى العدد، كما أنه لم يكن قانعاً بالسكن فى مجرد قصر والى . وفى سنة 870م إختار موقعا ًعلى جبل يشكر بين الفسطاط وجبل المقطم، وهدم مقابر المسيحيين القائمة هناك وسواها بالأرض وأسس ضاحية القطائع الملكية، والتى سميت كذلك حيث خُصص لكل طبقة أو جنسية( كخدم المنازل والإغريق والسودانيين) حيا مميزاً لها فيها. إمتدت المدينة الجديدة من الرميلة الحالية بجوار القلعة إلى مقام زين العابدين، وغطت ميلاً مربعاً. بُنى القصر الجديد أسفل قبه الهواء القديمة، وكان يحتوى على حديقة ضخمة ملحق بها ميدان فسيح مسور لسباق الخيل به العديد من الإسطبلات ومعرض للوحوش. كان مقر الحكومة يقع جنوب المسجد الكبير، والذى مازال قائما، وكان هناك ممر خاص من مقر الإقامة حتى مصلى الأمير. كان هناك قصر منفصل للنساء و حمامات فخمة وأسواق وكل وسائل الرفاهية. لم يكن بناء المسجد الكبير قد بدأ حتى سنة 876-877م وقد إستغرق بنائه سنتين. ويتميز بإستخدام أعمدة القرميد ( ولأول مرة فى المساجد) بدلاً من أعمدة الحجر، التى كانت تؤخذ من المنشآت السابقة، وبكونه أول نموذج معروف للأقواس المدببة خلال البناء( ربما كانت الأقواس المدببة لمقياس النيل الثانى على جزيرة الروضة اٌقدم بسنوات قليلة)، وهو بذلك يسبق أى نظير له فى إنجلترا بقرنين على الأقل. كان مهندسه قبطياً وقد مُنح 100000دينار لبناء المسجد، و10000 لنفسه، بالإضافة إلى معاش جيد مدى الحياة. كان بناء قناة لجر الماء إلى القصر من نبع فى الصحراء الجنوبية، هو عمل عظيم آخر قام به نفس المعمارى القبطى. وقد قام إبن طولون أيضاً بتطهير وتنظيف قناة الإسكندرية وبإصلاح مقياس النيل على جزيرة الروضة وبناء حصن هناك.
وإذا مالاحظنا أنه فى سنة 870م أرسل والى الخراج مبلغ 750000دينار كجزية للخليفة، ثم أرسل له فى خلال أربع سنوات مبلغ 2200000، وأن تكاليف بعض المبانى الجديدة فى القطائع قد قُدرت بحوالى نصف مليون دينار، وأن إبن طولون كان يعطى الفقراء 1000 دينار شهرياً على الأقل، بالإضافة إلى الزكاة الإلزامية، وانه كان يحتفظ بمنزل مفتوح وينفق 1000 دينار يومياً على مائدته، وأنه كان شديد الكرم مع العلماء، وينفق على جيش ضخم وعائلة كبيرة، ويحتفظ بقلاع مكلفة على الحدود ، يصبح من غير الممكن أن نصدق أنه كان يستطيع مواجهة كل نفقاته تلك من دخل مصر البالغ 4300000 دينار سنوياً فقط ، وتصبح أسطورة أنه قد دفع تكاليف بناء مسجده من كنز نبشه من باطن الأرض ، طبيعية تماما. ومن المحتمل جداً أنه كان يفرض غرامات ثقيلة على البطريرك القبطى بين الحين والآخر، كما إدعى الكتاب الأقباط، وذلك رغم أنه لم ينتزع ضرائب غير عادلة من السكان الأقباط، والذين تمتعوا بحصانة إستثنائية من الإضطهاد أثناء حكمه. وقد أدت النفقات المتزايدة بإستمرار، مع ذلك ، إلى توقف إرسال الفوائض السنوية إلى أخى الخليفة( الموفق). أعد الموفق جيشاً لخلع النائب القوى، ولكن ذلك لم يسفر عن شئ، فلم يصل الجيش إلى أبعد من الرقة، حيث توقف نتيجة لنقص الموارد المالية. وبالمثل فلم ينجح كلا التمردين اللذان وقعا فى الصعيد وبرقة.
ومتشجعاً بتلك المناعة وسع إبن طولون من حدوده. وقد كان قبل ذلك على وشك إحتلال سوريا بناء على رغبة الخليفة، ورغم تعيين والى آخر بعد ذلك فقد ظل مصراً على أحقيته المسبقة فى تلك الولاية. وعند وفاة ذلك الوالى ، ماجور ، والذى كان قد أثبت أنه عقبة رهيبة ضد تقدم إبن طولون ، رفض إبن طولون الإعتراف بإبنه( على بن ماجور)الذى عُين مكانه، وألقى عرض الحائط بكل مظاهر الطاعة للخليفة، وتقدم نحو دمشق فى إبريل سنة 878م، حيث حصل على البيعة الفورية للمسئولين والسكان. ومن هناك تقدم عبر سوريا قابلاً ولاء المدن الرئيسية حتى وصل إلى حدود طرسوس محل دراسته المبكرة. فقط قاومت أنطاكية بقيادة واليها سيما الطويل، ولكن وبعد قصف بالمنجنيق والعون الذى تلقاه من خيانة داخلية، فقد تم إكتساح المدينة ونهبها فى سبتمبر. ثم إحتُلت المصيصة وأطنة بعد ذلك ولكن طرسوس قاومت هجومه لبعض الوقت. والآن فقد أصبحت أملاكه تمتد من الفرات وحدود الإمبراطورية البيزنطية إلى برقة على البحر المتوسط، وأسوان عند شلال النيل الأول. وبعد أن ترك حاميات عسكرية قوية فى الرقة وحران ودمشق للحفاظ على ممتلكاته الجديدة حمل معه الستمائة ألف دينار التى إنتزعها من عدوه القديم ، إبن المدبر والى خراج سوريا ، وأسرع عائداً إلى مصر بعد غياب سنة كاملة للتعامل مع إبنه الأكبر العباس، والذى كان قد إنتهز فرصة ترقيه المؤقت إلى منصب نائب الوالى للتخلص من سلطة أبيه. و لكن العباس ، مع ذلك، وعند إقتراب أبيه فقد شجاعته وإنسحب إلى برقة مع ثمانمائة فارس وعشرة آلاف من مشاة أبيه السودان المشهورين، حاملاً معه كل ماإستطاع أن يضع يديه عليه من كنوز و معدات حرب. حاول أبوه إقناعه بالرجوع وأرسل القاضى بكار( بن قتيبة) للتفاوض معه، ولكن عبثاً فقد رفض الشاب الأحمق كل العروض وحلم بمملكة له فى شمال إفريقيا، فحاصر طرابلس ونهب لبدة، حتى أبعده أمير تونس الأغلبى بعد أن كبده خسائر فادحة. وبعد أن ظل يروغ من مطارديه لنحو عامين ،فقد هُزم فى النهاية وقُبض عليه وأُحضر إلى الفسطاط حيث شاهد بعينيه تعذيب وإعدام أعوانه (يقال أنه قد أُجبر على المشاركة فى ذلك)، وضُرب هو نفسه مائة سوط وقضى الفترة الباقية من حياته فى الأسر.
إتسعت الهوة بين إبن طولون ورئيسه الإسمى، الموفق أخو الخليفة، عندما إشترى الأخير ولاء لؤلؤ قائد الحامية العسكرية على الحدود فى الرقة. سلم لؤلؤ نفسه مع كل قواته إلى الموفق، وحتى أنه طرد ممثل إبن طولون، إبن صفوان ، إلى قرقسيا على الفرات. كان الموفق هو أقوى أمراء العراق فى ذلك الوقت، وقد أشعر أخوه المعتمد( الخليفة) بوطأة تلك القوة، لدرجة أن الخليفة مهيض الجناح حاول فى سنة 882م الهرب إلى إبن طولون، الذى عرض عليه الحماية ، جزئيا بلاشك، من أجل توفير الجزية السنوية التى كان يدفعها له، وجزئياً من أجل تحجيم نفوذ الموفق. وبلاشك فقد كان من شأن وجود الخليفة تحت جناحه فى مصر أن يزيد من مكانة الوالى الطموح، وربما كان قد غير إلى درجة ما مستقبل كل من الخلافة ومصر ولكن الخليفة الهارب، ولسوء الحظ- قد قُبض عليه فى طريقه وأعيد إلى سامراء. وكذلك فقد فشلت محاولة قام بها إبن طولون للإستيلاء على المدينة المقدسة مكة من أجل مزيد من المجد. وُطُردت قواته ولعُن جهاراً فى المسجد المقدس.
أسخطت تلك الإخفاقات والى مصر فعبر عن ذلك السخط بقطع إسم ولى العهد الموفق من خطبة الجمعة، والتى تشكل مع العملة فى البلاد المحمدية، فعل البيعة الرسمى للقوى الحاكمة. وكذلك فقد عقد مجلساً للقضاة فى دمشق، أعلن فيه خلع ولى العهد وتنحيته عن وراثة الحكم، بحجة سوء معاملته لأخيه الخليفة لكن بكار، والذى كان قاضياً على مصر لأكثر من عشرين سنة وإشتُهر بضميره الحى ، رفض توقيع ذلك الإعلان والتى كانت حججه وشرعيته محل شك. وبناء على ذلك أُلقى به فى السجن حيث ضوى حتى الموت، لكنه ظل محتفظاً بمنصبه الجليل وبدروسه تُلقى على تلاميذه من نافذة السجن. كانت النتيجة الوحيدة لتلك الإجراءات العقيمة، هى أن الخليفة قد أُجبر من قبل أخيه المستبد، الموفق ، على الأمر بلعن إبن طولون على المنابر فى جميع المساجد فى البلاد التابعة له. وليس هناك شك فى أنه إذا لم يكن الموفق واقعاً تحت ضغط شديد فى تعامله مع ثورة خطيرة للزنج أو عبيد شرق إفريقيا، الذين كانوا قد إستقروا فى جنوب العراق، لكانت وقاحة إبن طولون قد عوقبت بشكل أكثر قسوة.
كان حظ إبن طولون أفضل على الحدود الشمالية الغربية، حيث كانت علاقاته الودية مع الإمبراطور قد تغيرت إلى عداء فقام خلف ، قائده فى طرسوس سنة 881م، بقيادة غارة ناجحة وعاد بكثير من الغنائم. ومرة أخرى فى سنة 883م عاتى الرومان الذين كان يقودهم كستا ستاى بيوتيس ، هزيمة ساحقة فى كريسوبولون بالقرب من طرسوس على يد قوات إبن طولون، والتى يقال أنه قد سقط فيها حوالى ستمائة ألف مسيحى، وأُخذت غنائم ثمينة من الذهب والفضة والصلبان المطعمة بالجواهر والأوانى المقدسة والثياب، بإلإضافة إلى خمسة عشر ألف حصان. وقد أصاب الغرور الخصى الذى قاد ذلك الجيش المنتصر، لدرجة أنه خلع نير سيده وإضطر إبن طولون إلى الزحف بنفسه للحفاظ على سلطته. كان ذلك الوقت شتاءً قاسياً وقد سد خصمه النهر وغمر البلد مما أغرق الجيش المحاصر فى أدنة تقريباً. وأُجبر إبن طولون على التراجع إلى أنطاكية حيث أدى إنغماسه فى شرب حليب الجاموس ، بعد إرهاق وحرمان الحملة ، إلى إصابته بالدوسنتاريا. حُمل إبن طولون فى محفة إلى الفسطاط لكن حالته إزدادت سوءً. وفى مرضه تحول الأمير العنيف إلى رعب بالنسبة لأطبائه، فقد رفض إتباع تعليماتهم وسخر من الحمية التى وصفوها له، وعندما وجد نفسه يزداد سوءً أمر بقطع رؤوسهم أو بجلدهم حتى الموت. وعبثا أقام المسلمون واليهود والمسيحيون صلوات عامة من اجل شفائه، فلم يستطع القرآن ولا التوراة ولا ألإنجيل إنقاذه ، فمات فى مايو سنة 884م قبل أن يصل الخمسين من عمره.
وُصف أحمد بن طولون من قبل إبن خلقان ، الذى إستخدم سيرة إبن داية المعاصرة تقريبا ، كأمير كريم شجاع تقى وحكماً لايخطئ على الرجال. وقد أشرف بنفسه على كل الشئون العامة وأعاد إسكان الأقاليم بالناس، وكان دائم السؤال عن أحوال رعاياه. كان أحمد بن طولون يحب المثقفين من الرجال و يقيم مائدة مفتوحة يوميا لأصدقائه وللجمهور، كما كان ينفق ألف دينار شهرياً على الزكاة، وعندما إستشاره أحد موظفيه فيما يتعلق بإمرأة ترتدى حجاباً جيداً وخاتماً من الذهب ومع ذلك تطلب الإحسان فقد أجاب، ( إعطى إلى كل من يمد يده إليك). ومع ذلك وبرغم كل هذه الفضائل فقد كان سريع اللجوء إلى السيف، وقد قيل أنه قد أمر بقتل حوالى ثمانية عشر ألف إنسان أو أنهم ماتوا فى سجونه. كان يحفظ القرآن عن ظهر قلب وكان له صوت جميل ولم يتلو أحد القرآن بخشوع مثله. وعلى الرغم من ضرورة وجود دخل كبير لتمويل خططه الواسعة وأبنيته الباهرة وبلاطه الفخم ، والذى كان يأتى حتى ذلك الوقت من رفع الضرائب ، فقد ألغى ماإستحدث إبن المدبر من ضرائب وشجع على ملكية المزارعين للأرض، وحماية الإيجارات وإستخدام شروط حديثة بحيث أصبح دخله يعود إلى الزراعة الأفضل ، وليس إلى الإبتزاز. وقد ترك عشرة ملايين دينار فى خزانته، ومن سبعة إلى عشرة آلاف فارس من المماليك، وأربعة وعشرين ألف عبد من الحرس، ومزرعة للخيول بها ثلاثمائة حصان، وآلاف من البغال والحمير والجمال ومائة سفينة حربية. وكان على الأقل أول مسلم ، ومنذ الغزو العربى ، يحيى قوة مصر ويجمل عاصمتها.
خلف أبو الجيش خمارويه ، الإبن الثانى من أبناء أحمد إبن طولون السبعة عشر( كان له ستة عشر إبنة أيضا)، أباه. كان الإبن الأكبر مازال يكفر عن ذنب تمرده فى السجن حيث قام حراسه بتصفيته منعاً للخلاف. وكشاب فى العشرين من عمره فقط ، وبميل قوى للإنهماك فى الملذات وبدون خبرة حرب أو حكم، بدا خمارويه كفريسة سهلة لأهل المكر، وكان يحتاج إلى درس أو درسين قاسيين كى تفيقه إلى درجة الهمة المطلوبة للحفاظ على مملكته. وتعبر قدرته على التراجع عن أفعاله المخزية فى البداية عن كثير من شخصيته، إذ لم يستطع أن يحافظ على ميراثه فقط، ولكن على توسيعه أيضاً. إتحدا عدوان رهيبان ، هما الحاكم التركى للموصل والأنبار على دجلة والفرات، وحاكم دمشق، على التخلص من هيمنة مصر على سوريا، وإسترجاع أملاك خمارويه الآسيوية إلى الخليفة أو بالأحرى إلى أخيه القوى، الموفق. كان لديهما ذريعة مقبولة، حيث لم يكن لدى خمارويه أحقية رسمية فى حكم مصر، بينما كان حاكم الموصل ، إسحاق بن كنداج ، قد حصل على تفويض الخليفة بحكمها، حيث لم يكن هناك أى أحفقية وراثية فى ذلك الوقت، فقاما بإحتلال سوريا بمساعدة أبن الموفق ، أبو العباس، الذى دخل دمشق فى فبراير سنة 885م وكان خمارويه قد أرسل قواتاً براً وبحراً لمقاومتهم ، و لكن حُوصرت القوة المصرية وهُزمت فى شيزار على الأورنتس، فعندئذ قام خمارويه بقيادة جيش جديد من 70000 رجل إلى فلسطين، حيث واجه قوة صغيرة للعدو يقودها أبو العباس فى الطواحين على نهر أبو فطرس بالقرب من الرملة. ولسوء الحظ فقد إستولى الفزع على خمارويه، والذى لم يكن قد رأى معركة شديدة من قبل، ففر هاربا لايلوى على شئ إلى مصر يتبعه الجزء الأعظم من جيشه. وفقط وقفت قوات الإحتياط صامدة بقيادة سعد الأعسر، وبينما كان أميرهم وزملائهم يتنافسون على من يصل منهم إلى بر الأمان فى مصر أولاً، هجمت تلك البقية الثابتة على العدو ، الذى كان منهمكاً بشدة فى نهب المعسكر المصرى، وألحقت به هزيمة ساحقة. وبحث سعد عبثاً عن سيده ، والذى صدق هربه المشين بصعوبة ، ثم زحف على دمشق و إستردها، ومن عاصمة سوريا أرسل إلى سيده المرتجف معلناً أنباء إنتصاره الباهر الغير متوقع. وبينما ظل خمارويه خاملاً فى مصر على مدى سنة كاملة، وهى سنة ميزها زلزال عنيف ضرب المنازل و دمر جامع عمرو بن العاص، وقتل حوالى ألف إنسان فى الفسطاط فى يوم واحد ، فقد تأكد الإنطباع عن جبنه ورفض سعد فى دمشق أن يخدم مثل ذلك السيد. وعندما أعلن سعد إستقلاله إنطلق خمارويه مرة أخرى، وحقق نصراً حاسماً على تابعه المتمرد، ودخل دمشق فى يونيو 886م. واصل خمارويه زحفه وواجه حاكم الموصل ، إبن كنداج ، فى معركة شديدة وبعد أن منع تقهقر( جيشه) بكثير من الشجاعة الشخصية، إستطاع أن يدفع العدو أمامه فى فوضى حتى سامراء على نهر دجلة. و هكذا وبعد أن أثبت شخصه كقائد عسكرى وقع الصلح مع الموفق، وأُرسل إليه تفويضاً موقعاً من الخليفة ومن أخيه الموفق ومن الوصى على العرش( أبوالعباس إبن الموفق- الخليفة المعتضد فيما بعد)، بتعيينه على حكومات مصر وسوريا والحدود الرومانية لفترة ثلاثين عاماً.
وبعد ذلك قام خماروية ، متشجعاً بالنجاحات التى حققها ، بقبول طلب للتدخل فى صراع كان قائما آنذاك بين إبن أبى ساج ، حاكم الأنبار، وحليفه السابق إبن كنداج، وكانت نتيجة حملة على العراق هى إحتلال الرقة، والإعتراف بأمير مصر كوصى وحاكم للموصل والعراق فى الصلوات العامة. قام تابعه الجديد ، إبن أبى ساج متقلب الأحوال ، بغزو سوريا ومرة أخرى أظهر خمارويه قدرته العسكرية بهزيمته له فى مايو سنة 888م بالقرب من دمشق، ومطاردته حتى بليد على نهر دجلة، على الضفة التى بنى عليها الغازى عرشاً فخما ليجلس عليه فى إنتصار. أضطرت حرب الأمراء خمارويه أن يبقى فى العراق وسوريا لأكثر من سنة. كان أحد نتائج شهرته المتزايدة هى ضم يزمان أو بزماز ، الحاكم الخصى لطرسوس ، والذى كان قد رفض الإعتراف بسلطة الطولونيين منذ سنة 883م، ولكنه أصبح مستعدا الآن للتعبير عن مبايعته بهدايا تساوى 30000 دينار و 1000 من الثياب والسلاح، والتى تبعها بخمسين ألف دينار إضافية. وتم القيام بعدة غزات من طرسوس إلى داخل الأراضى الرومانية بين السنوات 891-894م.
أدت وفاة الموفق فى سنة 891م، والتى تبعتها وفاة إبن كنداج ووفاة الخليفة المعتمد فى سنة 892م إلى تفاهم أقرب بين مصر وبغداد. تجدد التفويض السابق(لحكم مصر وسوريا) لفترة ثلاثين عاماً، وعرض خمارويه زواج إبنته قطر الندى إلى إبن الخليفة ولكن الخليفة المعتضد-إبن الموفق- رغب فى الزواج بها بنفسه. لم تكن العروس قد بلغت العاشرة من العمر فتم تأجيل الزواج حتى سنة 895م عندما أصبحت فى الثانية عشرة تقريباً. سبق الزواج تبادل هدايا ثمينة وشمل المهر الذى قدمه الخليفة مليون درهم وعطور نادرة من الصين والهند وأشياء ثمينة متعددة، وحُملت العروس فى محفة من مصر إلى العراق، وفى كل وقفة ليل أثناء الطريق كانت تجد قصراً جاهزاً بُنى لها مجهزاً بكل وسائل الرفاه الممكن. وقد تضمن جهازها أربعة آلاف نطاق مطعماً بالجوهر، وعشرة صناديق من الجواهر وألف هاون ذهبى لدق العطور من أجل زينتها الخاصة. كلف ذلك التحالف الأرستقراطى خمارويه مليون دينار، ولكن فى المقابل فقد تأكدت سيادته مرة أخرى من هيت على نهر الفرات إلى برقة على البحر المتوسط، وتم تثبيت جزيته السنوية للخليفة إلى 300000 دينار. وقد وصلت رواتب قواته فى مصر سنوياً إلى 900000 دينار، وكان مطبخه وحده يكلف 23000 دينار شهرياً. نظر الخليفة بعين الرضى إلى إفقار تابعه الرهيب، والذى كان كرمه يزداد مع كل سنة. أما الولع الذى أظهره إبن طولون للبناء الفخم فقد شاركه فيه إبنه تماماً، والذى وسع القصر فى القطائع وحول الميدان إلى حديقة ممتلئة بكل أنواع الزهور طيبة الرائحة، والمزروعة فى شكل عبارات- كتابات - وفى أشكال أخرى، وبأشجار نادرة ونخيل البلح المحاط بأحواض مياه مموهة بالذهب، كما مُلئ مطير( قفص كبير للطيور) بالطيور الجميلة. وقد زُين منزله الذهبى بصور مرسومة لنفسه ولزوجاته ومغنييه برغم التحريم الإسلامى للتصوير، ولكى يهدئ من لياليه القلقة فقد وضُع سريراً من الهواء فوق بحيرة من الزئبق بمساحة مائة قدم مربع تقريباً، يتم هزه برفق وهو مربوط بحبال من الحرير إلى أعمدة فضية. وكان أسد مستأنساً من مجموعة وحوشه يحرس سيده عندما ينام.
لكن لا الأسد ولا الحرس من شباب العرب الأشداء الذين أتوا من منطقة الحوف الضارية كان يمكن أن ينقذوا الأمير الشهوانى من غيرة حريمه، ففى بدايات سنة 896م أسفرت مؤامرة عائلية عن قتله بواسطة عبيده أثناء زيارة له إلى دمشق. تم صلب القتلة وفى خضم العويل الصاخب دُفن جثمانه بجوار والده، ليس بعيداً من قصره الفخم تحت جبل المقطم. إنهمك سبعة قراء للقرآن فى تلاوة الكتاب المقدس على مقبرة إبن طولون، وعندما أحضر الحمالون جثمان خمارويه وبدأوا فى إنزاله إلى القبر كانوا يتلون الآية( خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ).
كان إبنه الأكبر أبو العساكر جيش، الذى خلفه، فتى فى الرابعة عشرة من العمر، غير قادر تماماً على النظر بجدية إلى مركزه منهمكاً فى مسرات وحماقات سنه. خرجت سوريا والحدود الشمالية عن سلطته، كما أُهمل الجيش والحكومة وفرغت الخزانة، وبعد أن قتل ثلاثة من أعمامه، أُغتيل المتوحش الصغير نفسه بواسطة قواته بعد أشهر قليلة من سوء إستعمال السلطة. كان آخر عمل عام له هو الإلقاء برأسى إثنين من أعمامه المقتولين إلى المتمردين صائحاً( ها هما أميريكما خذوهما ). والآن فقد أُقيم أخوه الأصغر ، أبو موسى هارون ، على العرش مع إبن أبى كوصى ( جعفر بن أبى ) ولكن الأمير كان لامبالياً غير كفؤ مثل أخيه، ولم يكن الوصى برجل دولة. تصرف الضباط الأتراك كما يحلو لهم، وقام أحد أعمامه بقيادة جيش متمرد إلى الفسطاط ولكنه هُزم، ولم تعد سوريا ولاطرسوس تحت أى نوع من السيطرة، رغم أن الخليفة قد منح هارون تفويضاً كحاكم لسوريا ومصر، بشرط دفع جزية سنوية قدرها 450000 دينار، والتخلى عن الأقاليم الشمالية من سوريا.
إجتاح القرامطة سوريا وضربوا الحصار على دمشق، وعانت الجيوش المصرية خسائر فادحة. وفى النهاية وجد الخليفة أنه من الضرورى أن يتدخل، ومتقوياً بنصر حاسم على القرامطة ومؤيداً من قبل بعض كبار الأمراء المصريين فى سوريا، قام الخليفة بإرسال أسطول من طرسوس إلى دمياط، وبجيش برى إلى العباسة وهى مدينة صغيرة على الحدود السورية، على بعد مسيرة يوم من بلبيس، نشأت عن إحدى الإستراحات التى بُنيت لتسهيل رحلة قطر الندى إلى عرسها فى بغداد. وهنا جمع هارون قواته فاترة العزم ، وهنا ، وبينما كان يرقد ثملاً فى سريره، دخل إثنان من أعمامه إلى خيمته وأنهوا حياته التافهة. إستولى القاتل شيبان ، إبن طولون ، على حكم إبن أخيه، وسحب الجيش إلى مصر بحكمة حيث إجتهد ، وبرغم الخزانة الخاوية، فى كسب الشعبية عن طريق الوعود والعطايا. وتتبعه قائد الخليفة، محمد بن سليمان (الكاتب)، وبعد مقاومة قصيرة إستسلم شيبان صلحاً وترك جيشه إلى مصيره. دخل محمد بن سليمان القطائع فى 10 يناير، وذبح معظم الجنود السودان وأحرق أحيائهم ، وأزال المدينة الجميلة التى كان إبن طولون قد بناها تماماً. وقد أحُترم المسجد، ولكن المنازل قد نُهبت وهُدمت، كما حُطمت البوابات، وإعتُدى على النساء، وعومل الناس بوحشية كما لو كانوا من الكفار. وبعد فترة من الإنهماك فى التدمير والنهب والإغتصاب دامت أربعة أشهر، إنسحب جيش الخليفة آخذاً معه شيبان وكل الباقين من أعضاء أسرة طولون أسرى إلى بغداد. دامت مملكة الطولونيين سبعة وثلاثين سنة وأربعة أشهر إستردت خلالها مصر كثيراً من أهميتها القديمة، ووصلت فيها عاصمتها إلى درجة من الثروة والرفاهية لم تعرفها منذ الغزو العربى.

-----------------------------------


الإخشيديون

على مدى ثلاثين عاماً بعد سقوط بيت طولون، ظلت مصر فى حالة غير مستقرة. ورغم أنها قد أصبحت مرة أخرى ولاية تابعة، فقد كان الخلفاء قد أصبحوا ضعفاء لدرجة لاتسمح لهم بممارسة سلطتهم عليها، وكانت الحكومة فى يد الجنود الأتراك. كانت الجيوش التى تُرسل من بغداد ، لتحفظ مصر من الثورة الداخلية ومن الغزو الأجنبى ، تملى شروطها على الولاة المتعاقبين، وكان على الرجل الذى قد يحكم الولاية أن يكون مقبولاً أولا من قبل تلك القوات، والذى كان رضاها يعتمد على دفع رواتبها. وعلى ذلك فبعد قادة الجيوش كان أقوى شخصية هو والى الخراج، وكان ذلك المنصب يحتله خلال كل تلك الفترة المضطربة أسرة واحدة تسمى أسرة الماذرائى ( الإسم مشتق من مكان مولدهم بالمذارية بالقرب من البصرة على نهر الفرات)، والذين إستطاعوا تدريجياً الحصول على نفوذ كبير فى مصر. كان المسئولون الآخرون قد أصبحوا أقل أهمية ، فى ظل مثل ذلك الإستبداد العسكرى ، مما كانوا عليه أثناء الفترة المبكرة من حكومة الولاية، وهنا يستحق قاض واحد فقط أن نذكره، وهو القاض المبجل ، إبن حربويه ، آخر قاض زاره الولاة رسمياً دون أن يقف لإستقبالهم.
تبدت القبضة الضعيفة لولاة الخليفة على البلاد من الإغتصاب الناجح للسلطة الذى قام به شاب مغمور، عالى الهمة مع ذلك ، يدعى محمد الخلنجى( أو الخليجى فى قول آخر)، والذى جمع فى فلسطين حفنة من المصريين المتعاطفين مع بيت طولون المنهار، وإستولى على الرملة ودعى فى الصلوات العامة لثلاثة أسماء هى، إسم الخليفة كرئيس للدين والدولة، وإسم إبراهيم ، وهو إبن أسير لخمارويه، وذلك كوالى ، ولنفسه كنائب له. إستمع الناس بشكل هادئ وبدوا متعاطفين مع تلك العصبة الغريبة من المغامرين المبعدين عن الدار والوطن دون أى مقوم واضح من مقومات الحياة. وخطوة خطوة تراجعت القوات التى قادها ضدهم عيسى (النوشرى) ، الذى تولى حكم مصر من القائد العباسى ، وفى سبتمبر سنة 905م دخل الخلنجى الفسطاط وأعلن فى الصلوات نفس الأسماء الثلاثة التى أعلنها فى الرملة.
إبتهج الناس الذين لم يكونوا قد نسوا الأيام المجيدة لإبن طولون بذلك الإسترجاع الوهمى (لسلطة الطولونيين)، وفى خضم الحماسة صبغوا أنفسهم وخيولهم بالزعفران الأصفر. عين المغامر المسئولين الضروريين للإدارة، وإتخذ مقر إقامته فى منزل الوالى غير ممانع، وإزدادت شعبيته وأنصاره بتلك الحصانة. ورغم أنه قد وجد خزانة خاوية ، حيث كان عيسى النوشرى قد حمل معه كل الأموال العامة وكل كتب الحسابات ومعظم الكتبة بحيث يصبح من المستحيل إكتشاف إستحقاقات دافعى الضرائب، فإن الخلنجى لم يزعج نفسه كثيراً بمسألة الشرعية، وطلب من جامعى ضرائبه أن يجمعوا الدخل بأفضل مايستطيعون، وأن يحجبوا إبتزازهم هذا بتوزيع منظم لإيصالات ووعود بإعادة تلك الأموال عند إسترداد كتب الضرائب. ثم أرسل هذا الشاب الرائع قوات بحراً وبراً إلى الإسكندرية( رغم أن الوالى الحقيقى لمصر كان معسكراً بالقرب منها)، وإستولى على المدينة وأعاد فى إنتصار ليس فقط خزانة الوالى، ولكن بعض الحسابات المفقودة أيضاً. وأثناء ذلك قام الخليفة ، والذى لم يعترف بذلك الذى عين نفسه بنفسه مكان الوالى، بإرسال جيش من العراق ليعيده إلى رشده، ولكن الخلنجى طرده من العريش بمذبحة كبيرة، ولكن وقت تصفية الحساب كان قريباً مع ذلك، فقد تبع هزيمة جزء من جيشه على يد عيسى (النوشرى) وصول قوات أكبر من الخليفة ، بحراً وبراً ، إلتقت بقوات عيسى، وبعد سلسلة من الإشتباكات الشديدة أًجبر الخلنجى على العودة إلى الفسطاط حيث خدعه أصدقائه، وسلموه إلى الحكومة الهزيلة التى كانت مازلت قائمة، وأُرسل إلى الخليفة فى بغداد ليُشهر على جمل كنموذج مرعب لكل المدينة، ثم أعدم فى مايو 906م. كان إستطاعة مجرد مغامر الإستيلاء على عاصمة مصر، وتحدى جيوش الخليفة لثمانية أشهر إشارة قوية على إنهيار الحكومة. وقد أضاف إلى حالة الإرباك تلك ظهور خطر غزو خارجى. كانت مملكة الخلفاء الفاطميين الشهيرة ، أعظم دولة شيعية فى تاريخ العصور الوسطى ، قد بدأت غزوها لشمال إفريقيا.
وفى سنة 909م هرب إلى مصر آخر الأغالبة، الذين شكلوا يوما أسرة حاكمة قوية فى تونس، ولم يكن مطارديه بعيداً خلفه. وفى سنة 913-914م دخل حباسة بن يوسف ، القائد الفاطمى ، برقة وإرتكب فظائع شنيعة، وفى يوليو سنة 914م وبمصاحبة القائم إبن المهدى أول الخلفاء الفاطميين، إحتل الإسكندرية دون مقاومة بعد أن هرب السكان فى سفنهم من الرعب، ومن هناك، متجنباً الفسطاط ، تقدم حتى الفيوم. وهناك هُوجم الغزاة وهزموا بواسطة جيش مصرى، تم تعزيزه بقوة من بغداد، ثم طردوا من مصر، وبعد خمس سنوات عاودوا الهجوم مرة أخرى. ومرة أخرى إضطر السكندريون إلى الهرب إلى البحر، ونُهبت مدينتهم ودُمرت الفيوم وتواصل القتل والحرق حتى الأشمونين، وأثناء ذلك رسى الأسطول الفاطمى المكون من خمسة وثمانين سفينة فى ميناء الإسكندرية. لم يستطع قادة الخليفة البحريين سوى تجميع عشرين سفينة فى طرسوس لإرسالها ضد الأسطول الفاطمى، ولكنهم قد عالجوا ذلك بشكل جيد لدرجة أن معظم سفن العدو قد أحرقت بالنفط وقُتل طاقمها وجنودها أو أُحضروا أسرى إلى الفسطاط. أما براً فلم يكن المشهد يبعث على الأمل. كان ذكا الرومى ، الذى كان واليا آنذاك، يعانى صعوبة شديدة فى تحريك القوات المصرية، فقد كان لابد من رشوتها بالعطايا، وحتى عندئذ فقد خندقوا معسكرهم فى الجيزة، خائفين من المفاجأة. وفى تلك اللحظة الحاسمة مات ذكا، ولحسن الحظ كان خلفه تكين شخص محبوب لدى القوات، فبعث بعض الثقة بين السكان الذين أصابهم الرعب، وفى نفس الوقت فقد كان الغزاة فى الفيوم يعانون بشدة من المجاعة والوباء اللذان نتجا عن تجاوزاتهم أنفسهم. وفشل هجومهم على معسكر الجيزة، الذى أصبح يحميه الآن خندقين، وذلك فى حوالى نفس تاريخ الإنتصار فى الإسكندرية. ولكن صعيد مصر كان مازال فى أيديهم ، ولم تنجح محاولة تكين إزاحتهم، حتى بعد أن عُزز بثلاثة آلاف من القوات الجديدة المرسلة من بغداد، فقد أعاقته المؤامرت الداخلية، حيث إكتُشف أن كل من القاضى والماذرائى والى الخراج، وكثير من الشخصيات الهامة الأخرى كانوا فى تراسل خيانى مع الخليفة الفاطمى، متحمسين للترحيب به فى الفسطاط. ومع الخيانة فى العاصمة والإسكندرية فى أيدى الأعداء ، إتخذ تكين موقف الدفاع حتى أرسلت لنجدته فرقة ثانية من العراق. وأخيراً وفى ربيع سنة 920م زحف الجيش المصرى على الغزاة و قبل نهاية السنة إنتهت سلسلة من الإشتباكات فى الفيوم والإسكندرية بإنسحاب الفاطميين إلى المغرب.
كانت البلاد فى حالة من الفوضى بعد طرد الفاطميين . وأخيراً فى سنة 921م إستدعى مؤنس الخصى( مؤنس الخادم)، والذى كان، وكقائد للقوات التى أرسلت من بغداد، قد أصبح ديكتاتوراً لمصر لعدة سنوات يعين الولاة ويعزلهم كيفما يشاء، ولكن ظل الجنود يسيطرون على الحكم وأخذت القوات المسرحة تغير على البلاد وتنهب وتقتل السكان، وأصبح الإضطراب شديداً لدرجة أنه حتى تكين وعندما عُين والى للمرة الرابعة، لإنه لم يكن هناك أحد آخر يمكن له تهدئة الجيش سواه، قد وجد أنه من الضرورى لأمنه ان يسكن قواته فى قصره نفسه. وفى النهاية تم إسترداد بعض من النظام ولكن بعد وفاته فى مارس سنة 933م طُرد الجيش المتذمر إبنه من البلاد بسبب تأخر الرواتب، وإختفى الماذرائى والى الخراج وتصارع الولاة المتنافسون على السلطة، وحشدوا قواتهم وتقاتلوا عبر البلد الذاهل، وأضاف إلى رعب السكان زلزال مخيف تبعه وابل إستثنائى من الشهب بعدما أزال كثيراً من المنازل والقرى. وفى تلك الحالة اليائسة تولى الإخشيد حكم مصر فى أغسطس سنة 935م. كانت البلاد تحتاج إلى رجل قوى بشكل إسثنائى ليواجه تلك الحالة الطارئة، وقد أثبت الإخشيد أنه كفؤ لذلك الموقف.
جاء محمد بن طفج الإخشيد من أسرة أميرية من فرغانة بآسيا الوسطى، والتى كان أمرائها يحملون لقب الإخشيد، بنفس الشكل الذى كان فيه حكام فارس وطبرستان يحملون لقب كسرى وإصبهبيذ. كان جده طغج بين الضباط الأتراك الذين جلبهم الخليفة المعتصم إبن هارون الرشيد إلى العراق وقد خدم أبوه ، الأمير طغج ، بتميز فى جيوش خمارويه، وحارب ضد الرومان عندما كان قائداً لطرسوس، وقد كوفئ بحكم سوريا. جلب الفخر بالنجاح عواقبه، وأنهى طغج حياته فى سجن دمشق. حصل إبنه محمد ، حاكم مصر المستقبلى والذى شارك أباه سجنه ، على حريته، وبعد عدة تقلبات فى الحظ دخل فى خدمة تكين، وعُين قائداً لمنطقة الحوف المتمردة فى مصر السفلى( الوجه البحرى)، ثم وبعد أن تولى عدة مناصب فى سوريا ، حيث نال الإستحسان العالى للخليفة ، أصبح حاكماً لدمشق فى سنة 933م. وبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ تم تعيينه من قبل الخليفة القاهر إلى مهمة حكم مصر، ولكن حالة سوريا لم تسمح له بالمغادرة آنذاك، ورغم أنه قد إعترف به فعلاً كوالى فى الصلوات العامة فى الفسطاط فى سنة 933م، وإرساله وكيلاً عنه ليمثله هناك، فقد ظل وال آخر يشغل مكانه مؤقتاً، حتى قدم بنفسه بموجب تعيين ثان من قبل الخليفة الراضى فى سنة 935م. قام الحاكم الفعلى لمصر، والى الخراج الماذرائى، بتحريض الوالى على مقاومة ذلك التعيين ومعارضة دخول الإخشيد. ومع ذلك فقد تم دحرهما فى الفرما، وأبحر لأسطول القادم من سوريا فى النيل من تنيس إلى غزة وسيطر على العاصمة، حتى جاء الإخشيد بجيشه وإستولى عليها.
ويتضح إلى أى مدى كانت الفوضى السابقة تعود إلى عجز وتحاسد الولاة وموظفيهم ، من حقيقة أنه خلال الإحدى عشر سنة من حكم الإخشيد الثابت، فنحن لانقرأ عن عصيان أو إضطراباً واحداً. إعترف الجيش بسيده وأخمدت قواته السورية أى إستياء، ربما كان مازال باقيا بين المصريين. لقد كان حاكما نشطاً ، حذراً مع ذلك، وقد بعثت قوته الهائلة ، حيث لم يكن رجل آخر يستطيع شد قوسه ، على الإحترام. ومع ذلك يقال أن الخوف على حياته قد إستبد به وأنه قد إتخذ إحتياطات إستثنائية ضد الإغتيال. وقد فضل السلام على الحرب فأبرم معاهدة وخضع لخسارة إقليم، وحتى لدفع الجزية بدلا من الإستمرار فى صراع مزدوج. لم يمنع جيشه القوى المكون من 400000 رجل ، والذى شكل 8000 منه حرسه الشخصى ، أى محاولة خطيرة من قبل الفاطميين لتجديد غزواتهم فقط ، بعد أن طردوا من الإسكندرية فى السنة الأولى من حكمه ، ولكن أعطاه أيضاً وزناً فى الصراع الناشئ حول الخلافة المتداعية آنذاك. كانت السلطة الزمنية لآمير المؤمنين قد إختفت فى حدود زمنه، وحصل ولاة الأقاليم المختلفة على سلطات سيادية. سيطر البويهيون على فارس، والسامانيون على الأراضى الواقعة خلف نهر جيحون، والحمدانيون على العراق، وقاتل عدد من الأمراء الأتراك الطموحين من أجل إمتلاك بغداد، ومنصب السجان للزعيم التعس للإسلام(الخليفة). توجهت مجهودات الإخشيد بشكل رئيسى، نحو الحفاظ على ولايته السورية من إعتداء أى من هؤلاء الجيران العنيفين. وفى البداية دخل فى صراع مع الأمير إبن رائق والذى، وبدون أى تحرش، إستولى على حمص وإحتل دمشق. وبعد هزيمة مصرية ، ربما فى العريش على الحدود، ومعركة دموية أخرى، وإن كانت غير حاسمة فى اللاجون على بعد عشرين ميلا من طبرية، تم التوصل إلى السلام بشرط أن يحتفظ إبن رائق بالمناطق السورية الواقعة إلى الشمال من الرملة، وأن يستلم جزية سنوية قدرها 140000 دينار من لإخشيد. كان ذلك التفاهم يعود جزئياً إلى الشعور الطيب النابع من فروسية الأمير ، والذى تأثر كثيراً عندما وجد جثة أحد إخوة الإخشيد بين القتلى فى معركة اللاجون، لدرجة أنه أرسل إبنه إلى خصمه ككفارة عن ذلك لكى يتعامل معه كيفما شاء. وكى لايكون أٌقل كرماً قام الإخشيد بإلباس التضحية المقصودة( إبن بن رائق) فى ثياب الشرف، أرسله بكل إحترام إلى أبيه. وبالطبع فقد تزوج الشاب من إبنة مضيفه الشهم وإرتبطا بروابط ودية من التعاهد والتحالف. وتشكل القصة نقيضاً ساراً للأعمال البربرية الكثيرة لذلك العصر.
وبعد سنتين من وفاة بن رائق إسترجع الإخشيد سوريا ودخل دمشق مرة أخرى بدون ضربة واحدة. وإلى سوريا ومصر أضاف الخليفة المتقى الآن إليه حكم المدينتين المقدستين مكة والمدينة، وتم تأسيس مبدأ الوراثة عندما جعل الإخشيد ضباط وجنود جيشه يبايعون إبنه الأكبر كأميرمستقبلى لهم. أُبعد الخليفة التعس المتقاذف به بين مملكة الحمدانيين القوية وبين الأميرين المتصارعين توزون والبريدى من بغداد، فإستغاث بالإخشيد والذى أسرع نحو الشمال لإسترداد حلب من حمدانى معتدى، وبعد أن سوى أموره كان له مقابلة مع سيده الروحى على الفرات مقابل الرقة، وحثه على أن يأخذ له ملجأ عنده فى سوريا أو فى مصر. ومع ذلك فقد إستبد بالخليفة رعب شديد من الأميرين الأخيرين بحيث لم يغامر بهذه الخطوة الحاسمة ، أو حتى يقبل عرض بتزويده بقوات، رغم انه قد قبل إعانة من الذهب و كمية كبيرة من المال أغدقت على بلاطه. ترك الخليفة تابعه العظيم يرحل بعد أن أظهر له عطفاً إستثنائياً مؤثراً مؤكداً له ولوريثه على حكم مصر وسوريا لفترة ثلاثين عاما. و بعد حوالى شهرعاد الخليفة إلى توزون بعد ان أقسم له بشرفه أن لايؤذيه، لكنه خُدع وسُملت عيناه وخُلع من الخلافة. وغرقت صيحات الضحية وزوجاته فى قرع الطبول وتهليل خلفه.
كان الإخشيد مازال بعيداً عن أن يكون آمناً على حدوده لشمالية، فقد أعاد سيف الدولة الحمدانى إحتلال حلب قبل نهاية السنة، وسُحق جيش بُعث به من مصر بقيادة الخصى كافور ويانس عند الرستن على نهر الأورنتس، حيث وقع حوالى أربعة آلاف من جنوده فى الأسر، بالإضافة إلى القتلى والغرقى. تقدم سيف الدولة ليضم دمشق وأُجبر الإخشيد على الخروج إليه بنفسه فى جيش كبير حيث إلتقيا بالقرب من قنسرين. وضع الإخشيد قواته الخفيفة المسلحة بالحراب القصيرة فى المقدمة، وإحتفظ بقسم من عشرة آلاف رجل مختار كان يسميهم (الثابتة) فى المؤخرة. وسرعان ماكسر هجوم الحمدانيين القوات الخفيفة، وعندما إعتقد الأعداء أنهم قد كسبوا المعركة بالفعل إنقضوا على نهب الأمتعة، وهنا هاجمهم الإخشيد بقواته الخفيفة بنجاح تام، وبددهم فى كل إتجاه. ودخل أمير مصر حلب مرة أخرى ثم دخل دمشق، حيث فاوض على معاهدة غريبة غير عملية مع عدوه المدحور. فوافق على ترك حلب وشمال سوريا إلى الحمدانى، وعلى أن يدفع له جزية سنوية مقابل إمتلاك دمشق( سنة 945م). ويبدو أن تفسير ذلك هو أن الإخشيد قد وجد أن حراسة سوريا الشمالية كانت عملاً شاقاً للغاية بالنسبة لرجل فى مثل عمره، حيث كان قد بلغ الرابعة والستين. وقد عاش الإخشيد بعد تلك الحملة لحوالى العام ثم مات فى دمشق فى يوليو سنة 946م ، ودُفن فى القدس حيث يرقد خلفائه أيضاً.
سُجل القليل عن حكومة الإخشيد فى مصر، ورغم أنه كان بناءً مثل إبن طولون، وأنشأ قصراً جميلاً فى المنطقة المسماة بحديقة كافور، والتى تقع إلى الغرب من منطقة سوق النحاسين الحالية، فلم يبق أثراً من أبنيته. وقد شُغل المؤرخ المسعودى ، الذى زار مصر أثناء حكم الإخشيد ، بالأهرام وبالعجائب الأخرى أكثر مما شُغل بالأبنية أو الناس المعاصرين. فلم يعط أى وصف للقصر أو للبلاط أو لسيده ، كما لم يلق بأى ضوء على حالة السكان. ومع ذلك فقد قدم بعض روايات عن نظام الرى، ووصف قطع سدود القنال فى الرابع عشر من ديسمبر وإغلاقها فى الدلتا فى يناير. وقد كتب أن ليلة الغطاس كانت إحدى الإحتفالات الكبرى، وأن الناس جميعاً كانوا يذهبون إليها سيراً على الأقدام فى العاشر من يناير. وقد قال( لقد كنت حاضراً فى سنة 350 للهجرة (942م)، عندما كان الإخشيد محمد بن طغج يعيش فى منزله المسمى بالمختارة، فى الجزيرة التى تقسم النيل إلى قسمين. وقد أمر بأن تضاء كل من ضفة الجزيرة وضفة الفسطاط المقابلة بألف شعلة، بالإضافة إلى الإضاءات الخاصة. كان مئات الآلاف من المسلمين والمسيحيون يزدحمون على النيل فى القوارب أو فى الأكشاك المطلة على النهر أو واقفين على الضفاف ، متلهفين إلى السرور متنافسين فى الجهاز، من ملابس وأكواب من الذهب والفضة ومن مجوهرات. كان صوت الموسيقى يُسمع فى كل مكان مصاحباً للغناء والرقص. لقد كانت ليلة بهيجة هى الأفضل فى كل مصر فى الجمال والفرح. وقد تُركت أبواب المناطق المنفصلة مفتوحة، و كان معظم الناس يستحمون فى النهر، وهم مدركين تماماً أنه فى تلك الليلة وقاية مؤكدة وعلاج لكل الأمراض. وقد ذكر المسعودى أيضاً أن الإخشيد قد سمح للناس بالحفر من أجل الكنوز، التى كانوا يقولون أنهم قد وجدوا دلائل عليها فى المخطوطات القديمة، ولكنهم كانوا يكتشفون فقط كهوف وسراديب ممتلئة بتماثيل صُنعت من عظام وتراب، مما كان إشارة مبكرة إلى المومياءات. ولكن إذا كنا نعرف القليل عن الأحوال الداخلية لمصر تحت حكم الإخشيد، فإنه يبدو واضحاً على الأقل أنه قد جلب الهدوء إلى ذلك البلد الضائع، وأنه قد أسس للمرة الأولى إمارة وراثية معترف بها من قبل الخليفة، ومستقلة ضمنا من الناحية العملية. كانت فترة الولاية محددة فى الواقع بثلاثين عاماً وكان إقرار الخلفاء المتتابعين لها إجراءً شكلياً ضرورياً ومُكلف، ولكن فى الأيادى القوية كان ضمان الإستقلال الفعلى لمملكته.
وسواء كان إبنى الإخشيد ، أبوالقاسم أنوجور(946-961م) وأبوالحسن على(961-965م) اللذان خلفاه إسمياً ، أكفاءً أم لا ، فالواقع أنهما لم يُمنحا الفرصة لإثبات ذلك. كان الأكبر فى الرابعة عشرة من عمره فقط عند موت والده، ورغم أن الأصغر، على، كان قد بلغ الثالثة والعشرين من العمر عندما جاء دوره ليتمتع بلقب الوالى، فقد تم الإحتفاظ به فى نفس حالة التلمذة، كما كان أخيه، من قبل الخصى الأسود كافور، والذى كان يعمل كوصى لما قد أصبح يُسمى تقريباً آنذاك بمملكة مصر. وقد مُنحا معاشاً جيداً بلغ 400000 دينار وأُمرا بأن يمتعا نفسيهما، وأن لايتدخلا فى شئون الدولة. وقد خضعا لذلك بدون مقاومة وإستمتعا بنسائهما أو بقرآنهما ، كل تبعاً لميوله، حتى ماتا فى غموض يحيط به الترف عندما( فى سنة 965م) إعتلى طاغيهما الحبشى العرش بموافقة الخليفة كسيد لمصر وما يتبعها.
كان أبوالمسك كافور عبداً حبشياً أُشتراه الإخشيد من زيات بأقل من عشرة جنيهات، وعندما إكتشف مواهبه جعل منه معلماً لولديه. وقد دامت علاقة المعلم بالتلميذ تلك طوال عمرهم. ولاشك أن كافور كان خادماً ممتازاً رغم أنه لم يكن قائداً ناجحاً دائماً، ولكن عندما كان فى السلطة، فقد أظهر كل العشق الجامح للرفاهية والراحة التى تميز السودان فى الحكم. شُغل كافور بقليل من الصعوبات الخارجية، فبعد حملة على الحمدانيين، دائمى التعدى، والتى حقق فيها أخو الإخشيد النشط ، حسن ، بمصاحبة كافور إنتصارين منفصلين على سيف الدولة بالقرب من اللاجون وفى مرج أذرع بالقرب من دمشق، دخل الجيش المصرى حلب، وتم التوصل إلى السلام على نفس أسس سنة 945م، بإستثناء أن الجزية التى كانت قد فُرضت آنذاك قد أُلغيت.
وبسهولة تم تدبير موافقة الخليفة( أو حارسه) على خلافة الأميرين الصغيرين لحكومة مصر وسوريا والأماكن المقدسة، وفى الجزء التالى من إدارة كافور ضُم كل سوريا، وليس دمشق فقط ، حتى حلب وطرسوس مرة أخرى تحت حكم مصر، وبالإضافة إلى بعض الإضطرابات المؤقتة فى مواسم الحج فى مكة بين السنوات 953-955م، وغارة قام بها القرامطة على سوريا فى سنة 963م، وإستيلائهم على قافلة الحج المصرية الكبرى المكونة من 20000 جمل فى سنة 966م، فلم يكن هناك كثير من المتاعب الخارجية. وفى مصر وبرغم سلسلة من الزلازل الرهيبة وحريق هائل دمر حوالى 1700 منزل فى الفسطاط، وفيضانات منخفضة وماأعقبها من قحط وبؤس، يبدوا أن الناس قد ظلوا هادئين بشكل غريب. وحتى برغم الإنتفاضة التى قام بها النوبيون وحملوا فيها النار والسيف، والمذبحة والمجاعة التى حدثت فى الصعيد سنة 963م، فلم تشتعل ثورة. لقد تمكن الإخشيد من تنظيم ألمصريين ومن الواضح أن الخصى الحبشى الضخم ( كافور) قد عرف كيف يحافظ على ذلك.
كان كافور كريم عصره، وقد حاول الحصول على بعض التثقيف ، كما يفعل معظم أذكياء العبيد ، فأحب أن يحيط نفسه بالشعراء والنقاد، وأن يستمع إلى مناقشاتهم فى المساء، أو يجعلهم يقرأونه تاريخ الخلفاء القدماء. ومثل كل السودان ، فقد كان يعشق الموسيقى. وقد كان يتحكم فى مبالغ ضخمة من المال وكان يبعثرها بحرية بين أصدقائه المثقفين، والذين كانوا يكافئونه على ذلك بأشعار رديئة. كان الشاعر الشهير المتنبى بين أصدقائه المقربين لحوالى السنتين، ومن قصائده الغنائية يمكن لنا أن نحصل على صورة للشاعر الكبير كمداح علنى، والذى أصبح بعد ذلك هجاءً مريراً لحاميه كافور.
وعندما فسر شاعر آخر فى قصيدة مختارة أن الزلازل المتكررة لذلك الزمن كانت بسبب رقص مصر طرباً لفضائل كافور، ألقى إليه الإثيوبى المسرور( كافور) بألف دينار. وذات مرة عندما ناوله أحد أشراف بيت النبى سوط ركوبه، فقد وجد ذلك الشريف نفسه فجأة مالكاً لركاب من المتاع يقدر بخمسة عشر ألف دينار. كان كافور كريماً على مائدته وكان لديه تلك الشهوانية المرحة التى يتميز بها السودان . كانت مؤنة مطبخه اليومية تتكون من100 خروف، و100 حمل، و250 أوزة، و 500 ديك، و1000 حمامة وطيور أخرى، و 100 إناء من الحلوى. كان الإستهلاك اليومى يصل إلى 1700 رطل من اللحم، بالإضافة إلى الديوك والحلوى، و 50 قربة من المشروبات للخدم وحدهم. كان شرابه المفضل هو عصير السفرجل، والذى كان قاضى أسيوط يُرسل له من أجله 50000 تفاحة سفرجل فى كل موسم.
عند موت كافور فى إبريل سنة 968م بعد تسعة عشر عاماً من الحكم الفعلى وثلاث سنوات من الحكم الإسمى، إجتمع كبار رجال البلاط على الفور لإنتخاب أمير، حيث وافقت الأقلية على قبول رأى الأغلبية. لم يكن هناك سابقة لمثل ذلك الإجراء فى مصر، وقد أظهر كيف تجوهلت سلطة الخليفة ، العاهل الإسمى. وقع الإختيار على طفل فى الحادية عشرة من العمر هو أبو الفوارس أحمد إبن على بن الإخشيد، والذى سرعان ماإعلن عنه فى الصلوات العامة كحاكم لمصر وسوريا والأمكان المقدسة، مع إبن عمه الثانى، الحسين بن عبيدالله بن طغج، كوريث تال له. إضطلع الوزير جعفر بن الفرات بالشئون المالية، وتولى سمول الإخشيدى المدير السابق لبريد الحمام منصب وزير الحرب. أدى إبتزار وتقتير الأول وعدم كفائة الآخر إلى ثورة عسكرية، وتولى الحسين الحكم ولكن ليس لفترة طويلة. لم تخفى الحالة البائسة للحكومة عن الملاحظة الثاقبة للمعز رابع الخلفاء الفاطميين فى المغرب، فإستيقظ بقوة طموحه فى أن يكون سيد مصر، ذلك الطموح الذى كان قد خمد فقط منذ ولاية الإخشيد على مصر. بددت غارات القرامطة على سوريا والحالة المرتبكة للعراق وجود أى خوف من التدخل من الشرق، ولم يكن من الممكن إهدار الفرصة، و بعد حوالى سنة من موت كافور دخل الجيش الفاطمى الفسطاط.
وبسقوط آخر إخشيد لم تعد مصر ولفترة قرنين تُعد من بين ولايات الخلافة التقليدية الشرقية- العباسية.
كانت ثلاثمائة وثلاثون سنة قد مرت منذ غزا العرب وادى النيل لأول مرة، وكان الشعب المصرى، بخضوعه التقليدى، قد تبنى طائعاً عقيدة حكامه، وأصبح المسلمون الآن يشكلون الغالبية العظمى من السكان، وإنصهر العرب والسكان الأصليون فى ذلك الجنس الذى نسميه الآن المصريون، ولكن حتى ذلك الوقت لم يكن ذلك المزيج قد أنتج أى رجال بارزين. كانت الشخصيات القيادية القليلة من الولاة مثل إبن طولون والإخشيد وكافور، من الأجانب، وحتى هؤلاء فلم يكونوا سوى درجة أعلى من المسئول التقليدى- الوالى. فلم يحاولوا أى توسع كبير لممتلكاتهم أو قمع جيرانهم الخطيرين الفاطميين المنشقين، ورغم إنهم قد إمتلكوا وإستخدموا الأساطيل، فإنهم لم يغامروا بأى هجمات على أوربا. وبالنسبة للأحوال المادية فمن المشكوك فيه إذا ماكان الشعب المصرى قد كسب أى شئ من الغزو العربى، فلاشك أن النظام القديم فى الزراعة والرى قد إستمر، كما كان دائماً، ولكنه تأثر قليلاً بالروح العامة للولاة، والذين تركوا الرى والزراعة يعتنيان بنفسيهما، بينما إنصب إهتمامهم على تحصيل الخراج. ويعكس إنخفاض ضريبة الأرض الذى يسجله المقريزى إستهتار الولاة. كانت أعمالهم العامة قاصرة على العاصمة تماماً تقريباً، والتى كانوا يوسعونها ويزينونها بالقصور والأبنية والحدائق والميادين وذلك لإستمتاعهم الخاص. إن رفاهية مثل هؤلاء الأمراء ، كخمارويه مثلاً ، لابد أنها قد أفادت سكان المدينة، لبعض الوقت ، على حساب دافعى الضرائب من أهل الريف. وقد جذبت قصور رجال من أمثال إبن طولون وكافور المثقفين من الرجال، والآداب الرفيعة من أماكن أخرى من الخلافة، وبدأت مصر تكتسب تدريجياً سمعة كمركز للتنوير، ولكن حتى ذلك الوقت فقد كانت مازلت بعيدة كثيراً خلف بغداد ودمشق وقرطبة. لم يكن الجامع الأزهر قد أُسس بعد، ولا كان مسلمو مصر قد أنجبوا بعد، شاعراً أو مؤرخاً أو ناقداً من الطراز الأول فى الأدب العربى.
ولكن من جهة أخرى، يجب أن نتذكر أن علم التأريخ والنقد الأدبى كانا مازالا فى مرحلة مبكرة جداً من التطور فى كل أنحاء الممالك المحمدية. فالمؤرخ الشهير الطبرى ، والذى كان معاصراً لخمارويه ، لم يزد عن مجرد تجميع التواريخ دون محاولة لتنسيقها أو نقدها. و المسعودى، والذى رأى الإخشيد ، فقد كان جامعاً لنوادر وطرائف التاريخ بشكل أساسى. أما شعراء وناظمى الخلافة، فقد كانوا أساساً نتاجاً إصطناعياً للبلاط، والتى كانت مواهبهم خير ماتكافئ فى أغنى عاصمة، أو حيثما يكون السذج وأموالهم أكثر إستعدادًا للفراق. لم يعد شعر الصحراء الأصيل إلهاماً حياً ولكن مجرد تراث تقليدى ، وكان أدب المعرفة والتأليف على وشك أن يبدأ فقط.











قائمة ولاة مصر منذ سقوط مملكة الطولونيين حتى وصول الإخشيد إلى حكم مصر


الخلفاء الولاة

المكتفى-905م عيسى بن محمد النوشرى ثم إستيلاء الخلنجى
على مصر من سبتمبر 905م إلى مايو 906م.

المقتدر-908م تكين الحربى ( 910م)
ذكا الرومى( 915م)
تكين الثانية ( 919م)
محمود بن حمل أوجمل( 921م لثلاثة أيام فقط)
تكين الثالثة ( 921م لأيام قليلة فقط)
هلال بن بدر ( 921م)


أحمد بن كيغلغ 923 م
تكين الرابعة 924م

القاهر-932م محمد بن تكين 933م

الراضى-933م محمد بن طغج الإخشيد(933م)
(دون أن يدخلها)
أحمد بن كيغلغ الثانية ( 933م).
إستيلاء محمد بن تكين على الحكم من
يونيو إلى يوليو 934م.
محمد بن طغج الإخسيد (935م).
------------------------------














أهم المراجع :

1-المسعودى
2-جمال الدين الحلبى
3-إبن الأثير
4-إبن خلقان
5-المقريزى
6-أبوالمحاسن
7-السيوطى
8-إبن خلدون




























4- الثورة الشيعية
( 969م)

نشأت الثورة الكبيرة التى إكتسحت شمال إفريقيا قبل ستين عاماً، وكانت قد إنتشرت الآن إلى مصر، من الخلاف القديم حول شرعية الخلافة. مات النبى محمد دون أن يحدد بشكل قاطع إسم خلف له، وبذلك أورث أتباعه نزاعاً لاينتهى. رفع نظام الإنتخاب ، كما أُدخل آنذاك ، الخلفاء الثلاثة الأوائل ، أبوبكر وعمر وعثمان إلى عرش المدينة، ولكن ظل هناك أقلية قوية تصرعلى أن الحق الإلهى فى الحكم هو لعلى، أسد الله وأول مهتد إلى الإسلام وزوج فاطمة إبنة النبى ووالد ذرية محمد الوحيدة من الذكور. وعندما أصبح على الخليفة الرابع فقد أصبح بدوره هدفاً للحسد والتآمر وأخيراً للإغتيال. أُبعد أولاد على، أحفاد النبى، عن الخلافة وإضطهدت أسرته بقسوة من قبل منافسيها الناجحين، المغتصبين الأمويين. ووضعت مأساة كربلاء ومقتل الحسين ختم الشهادة على الأسرة المقدسة، وأثارت حماساً عاطفياً مازال يثير إنفعال شديد فى العروض السنوية لمسرحية الآلام الفارسية. إن الصدع الذى ُفُتح على هذا النحو فى الإسلام ، لم يُغلق أبداً، وحتى اليوم فإن الكراهية بين السنة والشيعة، أى بين الإختيار الشعبى وبين الحق الإلهى فى الحكم، لهو أشد مرارة مما كان بين البروتستانت والكاثوليك فى أيام الإضطهاد.
وضع نبذ على الأساس للإنشقاق العضال الكبير الذى قسم العقيدة المحمدية، وحطم بنفس الشكل، عُرف الإحسان بين أعضائها، كما عرض الحقائق الفكرية للعقيدة للخطر. ففى الخارج كان من الطبيعى أن يُعطل من نشر الدين، بالدليل الذى قدمه على عدم الإيمان بالرأى الآخر، والتنازع واللعنات المتبادلة بين فقهاء المذهب نفسه، أما فى الداخل فقد وضع الخلفاء فى موقف شديد الزيف، بحيث أصبحوا يمثلون مشهداً غريباً لرؤساء عقيدة حاكمين، جعلوا من مزاعمهم الغير عادلة فى الحكم، غير قابلة للدفاع ، بإضطهاد ذرية مؤسس عقيدتهم وعرشهم، والذين ولكى يزيدوا المشهد تناقضاً، كانوا مضطرين لإن يغدقوا، وبشكل علنى، كل البركات على أسرته والتى بإقصائها فقط ، أمكنهم أن يتمتعوا بمزية أداء الخطبة- أى بحق الحكم . وهكذا فقد نفر ذلك الإنشقاق قلوب قسم كبير من الناس من رئيسهم الروحى والزمنى، وغرس بذور لايمكن إستئصالها من الفتنة والتآمر والتمرد، ووضع المغتصب على عرش متمايل، كان يمكن لصاحب الحق الشرعى أن يرشقه منه فى أى وقت، ليتركه يحكم شعبا منقسماً بصولجان منكسر.
إن تاريخ الإنشقاق العلوى أو الشيعة يمكن أن يُقرأ فى مكان آخر، ولكن هنا يمكن لنا فقط أن نستعرض الروابط التى تربطه بغزو مصر من قبل الفاطميين. إمتلكت ذرية على، وبرغم خلوهم بشكل عام تقريباً من صفات القادة العظام، إصرار وتفانى الشهداء، وقد زادت معاناتهم من حماس وتعصب مؤيديهم. باءت كل المحاولات لإسترداد السلطة الزمنية بالفشل، وإتكأ العلويون على السلطة الروحية للمرشحين المتتابعين من الأسرة المقدسة، والذين نادوا بهم أئمة أو قادة روحيون للمؤمنين، وتدريجيا إكتسبت عقيدة الإمامة تلك معنى أكثر غموضاً مؤيداً بتفسير مجازى للقرآن، حتى أصبح يُنسب للإمام تأثير غامض والذى، وبرغم إختفائه عن العيون البشرية بسبب إضطهاد أعدائه، سرعان ماسيظهر علانية فى شخص المهدى المنتظر، ليقتلع مفاسد الخلافة الكافرة، ويحيى سلطان الذرية النقية للنبى. يعتقد كل المحمديين فى مهدى قادم ، مسيح سوف يسترد الحق ويمهد للمجئ الثانى لمحمد ومحكمة اليوم الآخر، ولكن الشيعة حولوا ذلك التوقع إلى تفسير خاص، فقد قالوا بأن الإمام الحقيقى، وبرغم أنه غير مرئى للعين البشرية، يعيش أبداً وتنبأوا بسرعة ظهوره، وأبقوا أنصارهم فى حالة تأهب لحمل السلاح فى خدمته. وبهدف مجيئه، فقد نظموا مؤامرة نافذة، فشكلوا جماعة سرية ذات مراحل تلقين متدرجة مستخدمين تعاليم كل العقائد والفرق الدينية كأسلحة فى الدعايا، وأرسلوا دعاة إلى جميع أنحاء ولايات الإسلام ، كى يزيدوا عدد الملقنيين ويمهدوا الطريق للثورة الكبرى. ويمكننا أن نرى نجاحهم الجزئى فى الأعمال التخريبية للقرامطة، والذين كانوا الآباء الحقيقيين للفاطميين. لم يكن لدى القادة والدعاة الرئيسيين أى شئ مشترك فى الواقع مع المحمدية، فبينهم وبين أنفسهم فقد كانوا صراحة ملحدين. كان هدفم سياسياً، وقد إستخدموا العقيدة فى أى شكل وكيفوها فى كل الصيغ، كى يضمنوا الحصول على مهتدين، والذين حملوا إليهم من تعاليمهم ،ذلك القدر الذى كان يمكن لهم أن يتحملوه فقط. كان هؤلاء الرجال مزودين بأسلحة الهداية بشكل مثالى، ربما غير مسبوق فى التاريخ ، فقد كانوا يملكون التوسلات للحماسة، والمجادلات للعقل، والوقود لأعنف إنفعالات الناس والأزمنة التى كانوا يتحركون فيها. وقد جمعوا حقاً بين البراعة الثقافية وإنعدام الضميرالمنسوب إلى اليسوعيين مع موهبة الديسيسين-Decisi- فى التنظيم الإجرامى. لم يكن هدفهم الحقيقى دينياً أو بناءً، ولكن العدمية التامة، وقد إستخدوا مطلب أسرة على ليس لإنهم كانوا يعتقدون فى أى حق إلهى أو أى خلافة لهم، ولكن لإنه كان لابد من رفع علم ما من أجل إثارة الناس.
كان أحد هؤلاء الدعاة ، والذى تخفى كتاجر، قد عاد إلى المغرب فى سنة 893م مع بعض الحجاج المغاربة، والذين كانوا يؤدون مراسم الحج المقدسة فى مكة. وقد إستقبل بحفاوة من قبل قبيلة كتامة الكبيرة، وسرعان ماإكتسب نفوذاً طاغياً على البربر، وهو جنس يميل للخرافات بطبيعته، فتأثر بسهولة بالشعائر الغامضة لتلقين المذهب الفاطمى، والتعاليم العاطفية للداعى ،ومالحق بالأسرة النبوية من أذى، والإنتصار المرتقب للمهدى. لم يرتبط المغرب كثيراً بالخلافة فى أى وقت، ولمدة حوالى قرن كان من الناحية العملية مستقلاً تحت حكم مملكة الأغالبة، والتى نفرت التجاوزات البربرية لحكامها المتأخرين رعاياها. وبالإضافة إلى ذلك، فقد كان العلويون قد أقاموا أنفسهم فى مملكة الأدارسة فى مراكش منذ نهاية القرن الثامن. كانت الأرض حبلى بالثورة فى كل إتجاه، فكان نجاح عبدالله الشيعى ، الداعى الجديد، سريعاً بشكل غيرعادى، ففى خلال سنوات قليلة أصبح يتبعه حوالى مائتى ألف رجل مسلح، وبعد سلسلة من المعارك، إستطاع طرد زيادة الله آخر أمراء الأغالبة من البلاد فى سنة 908م. وعندئذ أعلن الداعى الإمام عبيدالله خليفة شرعياً وقائداً روحياً للإسلام. و بصرف النظر عما إذا كان عبيدالله هذا أحد أحفاد على حقاً أو لا، فالواقع أنه كان قد أُعد لدوره بعناية، ووصل إلى المغرب متخفياً بشكل شديد وببعض الصعوبة، وقد تبعته شكوك خليفة بغداد والذى كان ، ولشدة قلق، قد أرسل أوامر متكررة بالقبض عليه. والواقع أن الداعى المنتصر إضطر لإنقاذ قائده الروحى من سجن موحش فى سجلماسة، ثم سجد أمامه فى خضوع داعياً إياه بالمهدى المنتظر، وفى يناير سنة 910م، دُعى للمهدى فى جامع القيروان بصفة الإمام عبيدالله المهدى أمير المؤمنين. كان ُعدد مهتدين الداعى من البربر كبيراً بدرجة لاتشجع على المقاومة، أما القلة التى لم تتبعه فقد قُتلت أو ألقى بها فى السجن. والواقع أن المهدى قد بدا آمناً فى سلطته لدرجة أثارت حسد مكتشفه (أبو عبدالله الداعى )، والذى وجد نفسه وقد أصبح لاشئ بعد أن كان كل شئ قبل حوالى شهر فقط من ذلك الوقت. كان إسترداد الفاطميين للخلافة بالنسبة إليه مجرد وسيلة لتحقيق هدف، فقد إستخدم لقب عبيدالله كأداة للثورة قاصداً أن يمضى إلى أبعد مدى فى فلسفته، أى إلى فوضى إجتماعية وسياسية كاملة، وتدمير الإسلام وإشاعة الأرض والنساء وكل مباهج الإباحية المطلقة. ولكن بدلاً من ذلك فقد إبتلع صنيعته سلطته وذهبت كل خططه عبثاً، فبدأ فى تدبير الخيانة وإثارة الشكوك فى حقيقة المهدى والذى ، وكما قدمه فعلاً وتبعا للنبؤة ، كان يجب أن يأتى بمعجزات ويظهر أدلة أخرى على رسالته المقدسة، وبدأ الناس يطلبون علامة، وفى إجابته على ذلك قام المهدى بقتل الداعى.
كان أول خليفة فاطمى ، وبرغم عدم خبرته، حاكماً قوياً لدرجة أنه إستطاع أن يستغنى عن التأييد الخطر لمكتشفه (الداعى)، وقد ظل على العرش لحوالى ربع قرن وأسس سلطته، بشكل شبه مستمر،على القبائل العربية والبربرية والمدن المستقرة من حدود مصر إلى ولاية فاس فى المغرب، كما ضمن ولاء حاكم صقلية المسلم وأنفذ حملتين إلى مصر، والتى كان من المتوقع أن ينجح فى غزوها لولا إنشغاله بالثورات المتكررة فى المغرب. كان الحكام البعيدين وأحياناً كل قبائل البربر فى حالة من الثورة الدائمة، وقد أدت المجاعة المروعة سنة 928-929م، والتى تزامنت مع الطاعون الآسيوى التى عادت به قواته من مصر، إلى إضطرابات وثورات عامة شغلت تماماً السنوات التالية من حكمه. ظلت الولايات الغربية، من تاهرت وناقرت إلى فاس وماخلفها، تخلع كل مظاهر الطاعة بشكل مستمر. كانت سلطته قد تأسست على الخوف بأكثر مما تأسست على الحماس الدينى، رغم أن الحماس للقضية العلوية كان له نصيبه فى نجاحاته الأولى. فُرضت العقائد الشرقية الجديدة ، كما كانت تسمى، بحد السيف أما هؤلاء الذين تجرؤوا على المضى فى الطرق القديمة، فقد نُكل بهم بشكل مخيف بحيث يكونوا عبرة للآخرين.
وحتى مفكرى المدن الكبرى الأحرار الذين تشاركوا مبادئ الداعى ( أبوعبدالله الشيعى) الباطنية، لم يتم تشجيعهم ، وظاهريا ،على الأقل، أصبح المهدى مسلماً متشدداً. وعندما بدأ الناس فى القيروان يضعون موضع التنفيذ نظريات الداعى السابقة ، والسخرية من كل قواعد الإسلام والإنغماس فى الحب والخمر ولحم الخنزير، فقد تم منعهم بشدة. ظل البربر السذج يتداولون الإشاعات عن المعجزات المتوقعة من المهدى، وذلك رغم أنه لم يظهر أى منها فى الواقع. وتم تأمين طاعة الولايات التى تم غزوها بمذابح وتعديات رهيبة، لم يجرؤ السكان المروعين على إثارة أى أسباب لتكرارها على يد قادة المهدى المتوحشين.
تولى الخلافة بعد المهدى إبنه أبو القاسم ، الذى كان قد قاد الحملتين على مصر، تحت لقب القائم(934 – 946م)، وقد بدأ حكمه بنشاط حربى فأرسل أسطولاً فى سنة 934م - 935م، أغار على الساحل الجنوبى لفرنسا، وحاصر وإستولى على جنوة ورسى على ساحل كالابريا، حيث قام بذبح ونهب السكان وأحرق السفن واسر وسبى حيثما رسى. وفى نفس الوقت فقد أنفذ جيشاً ثالثاً إلى مصر، ولكن يد الإخشيد القوية الذى كان يحكم مصر آنذاك ، وأخوه عبيدالله ،ومعهم خمسة عشر ألف فارس، تمكنوا من رد العدو إلى خارج الإسكندرية، وأوقعوا بهم هزيمة ساحقة فى طريق عودتهم إلى بلادهم. ولكن بالنسبة للجزء الأعظم من حكمه، فقد كان القائم فى حرب دفاعية من أجل البقاء ضد تمرد أبو يزيد الخارجى، الذى رفض التشيع ولعن المهدى وخليفته، وأثار معظم بلاد المغرب والبربر ضد القائم، وأخرجه من عاصمته وإقترب من وضع نهاية للخلافة الفاطمية. وقد كان بعد سبع سنوات فقط من الحرب الأهلية المتواصلة، أن تلاشى تمرده الرهيب على اليد الثابتة والحكيمة للخليفة الثالث المنصور(946---953م)، ذلك الرجل الشجاع الذى كان يعرف متى يضرب ومتى يسامح، وفى النهاية تم إخضاع أبويزيد ونزع جلده وحشو جسده بالتبن، وأشهاره فى قفص مع قردين مضحكين كتحذير للمتمردين.
كان الفاطميون حتى ذلك الوقت يحملون سمات البربرية والوحشية، ولم يبدو أنهم قد شجعوا الأدب أو التعليم، ولكن ذلك يمكن تفسيره بأن الثقافة كانت ملكاً للخلافة التقليدية بشكل رئيسى، ولم يكن من الممكن لمثقفيها أن يتعاملوا مع خارج منشق. إحتفظت مدينة القيروان ، والتى تعود إلى أيام الغزو العربى فى القرن الثامن ، ببعض بقايا المبانى الرائعة، ولكن بالنسبة لعواصمهم الأخرى أو مقرات إقاماتهم الملكية، مثل المهدية التى أسست بين السنوات913-918م، والمحمدية التى أسست سنة 924م والمنصورية، وهى موقع مدينة صبرا القديمة التى رُممت وأعيد تسميتها بالمنصورية سنة 948م ، فلم تكن الأخيرتين سوى ضاحيتين للقيروان، ولم يبق فى تلك المدن أى آثار للفن أو للعمارة لتشهد على ذوق مؤسسيها، وقد أخذ كل منها فى الإضمحلال بمجرد البدء فى بناء المدينة التالية لها، ومع ذلك فمع الخليفة الرابع، المعز، فاتح مصر(953-975م)، فقد دخل الفاطميون مرحلة أخرى من تاريخهم.
لقد كان رجلاً ذا مزاج سياسى، وقد ولد رجل دولة قادراً على فهم شروط النجاح، وعلى إنتهاز كل فرصة فى صالحه. وقد كان أيضاً عظيم الثقافة، فلم يكن يكتب الشعر العربى فقط ويستمتع بآدابه، ولكنه قد درس اليونانية وأجاد اللهجات البربرية والسودانية أيضاً، ويقال حتى أنه قد تعلم اللغة السلافية، كى يتحدث مع عبيده من أوربا الشرقية. كانت بلاغته تدفع جمهوره إلى البكاء. وإلى موهبة فن الحكم أضاف كرمه الواسع، كما كان حبه للعدل بين صفاته النبيلة الأخرى. وفى حدود مايمكن أن تقدمه الأفعال الظاهرية، فقد كان مسلماً متشدداً من الطائفة الشيعية، أما قول خصومه أنه كان فى الواقع ملحداً فى قلبه، فيبدو أنه يرتكز على الإعتقاد بأن كل الفاطميين قد تبنوا المعتقدات الباطنية للدعاة الإسماعيلية.
عندما إعتلى المعز العرش فى إبريل سنة 953م، كان لديه سياسة ولم يضيع أى وقت فى وضعها موضع التنفيذ، فقام أولاً بزيارة رسمية عبر مملكته، حيث زار كل مدينة مستقصياً أحوالها وإحتياجاتها، عاملاً على تحقيق سلامها ورخائها. تحدى المعز المتمردين فى حصونهم الجبلية حتى جعلهم يلقون سلاحهم ويركعون عند قدميه.، وقد أرضى الرؤساء والحكام بالهدايا والمناصب، وحصل على ولائهم فى المقابل. وعلى رأٍس وزرائه أقام جوهر الرومانى، الذى كان عبداً من الإمبراطورية الشرقية وصل إلى منصب سكرتير الخليفة السابق، ثم تمت ترقيته من قبل إبنه الآن إلى منصب الوزير وقائد القوات المسلحة. أُرسل جوهر سنة 958م لإخضاع المغرب، العصى دائماً. حققت الحملة نجاحاً تاماً، وأُخذت سجلماسة وفاس، ووصل جوهر إلى ساحل المحيط الأطلسى. ووصلت جرار من السمك الحى والطحالب البحرية إلى العاصمة، لتثبت للخليفة أن إمبراطوريته قد لامست المحيط ، آخر حدود العالم. و هكذا أصبح كل الساحل الإفريقى من المحيط الأطلسى حتى حدود مصر( بالإستثناء الوحيد لسبتة الإسبانية) خاضعاً فى سلام الآن لنفوذ الخليفة الفاطمى.
عاد ذلك جزئياً إلى الإرهاق الذى سببه الكفاح الطويل أثناء فترات الحكم السابقة، وجزئياً للتنازلات الحكيمة والتأثير الشخصى للحاكم الشاب القدير. كان المعز متسامحاً وتصالحياً تجاه الولايات البعيدة، ولكنه كان قاسياً تجاه عرب العاصمة. كانت القيروان تعج بالجماعات الساخطة من الشيوخ ورجال الدين المعادين بشدة للهرطقة الشرقية للفاطميين، والذين كانوا على إستعداد دائم لإثارة الشغب. كان المعز مصمماً على أن لايعطيهم أى فرصة، وكان الحصار هو أحد إجراءاته القمعية. كانت طبلة تُقرع عند غروب الشمس، فإذا ماوجد أحدهم خارج المدينة بعد ذلك، كان عرضة ليس لإن يفقد طريقه فقط، ولكن لإن يفقد رأسه أيضاً. و مع ذلك فطالما ظلوا هادئين فقد كان يسير فيهم بالعدل، ويحاول كسب تعاطفهم معه. وفى أحد مقابالاته ( التى سجلها المقريزى) أظهر نفسه لوفد من الشيوخ مرتدياً أبسط الملابس، جالساً أمام مواده الكتابية فى غرفة بسيطة ممتلئة بالكتب ، وكان يقصد بذلك أن يحررهم من فكرة أنه يعيش حياة خاصة من الرفاهية والترف. وبادرهم بقوله ( أترون مايشغلنى عندما أكون وحيدا ، إننى أقرأ خطابات ترد على من الشرق والغرب وأجيب عليها بنفسى ، إننى أنكر على نفسى كل مسرات العالم وأبحث فقط عن أن أحمى حياتكم و أزيد أطفالكم وأخزى منافسيكم وأرهب أعدائكم)، ثم أعطاهم كثيراً من النصائح الجيدة وأوصاهم، بشكل خاص، بالإحتفاظ بزوجة واحدة قائلاً لهم( إمرأة واحدة تكفى رجل واحد)، ثم ختم كلامه قائلاً( إذا ماإتبعتم ما أمرت به فأنا أثق أن الله ومن خلالكم سوف ينجح غزونا للشرق بنفس الطريقة التى منحنا بها الغرب).
كان غزو مصر هو هدف حياته بالفعل، فلم يكن حكم قبائل مشاغبة من العرب والبربر فى بلد فقيرهو الطموح المناسب لرجل فى مثل قدرته. كانت مصر، بثروتها وتجارتها ومينائها العظيم وبسكانها المطيعين هى حلمه. وعلى مدى سنتين راح يحفر الآبار ويبنى الإقامات على الطريق إلى الإسكندرية. كان الغرب، ظاهريا ، هادئاً الآن، ولكن بين مصر وبين أى أمل للمساعدة من الخلافة الشرقية وقفت جيوش القرامطة المدمرة. كانت مصر نفسها فى حالة بائسة من الفوضى. كان كافور العظيم قد مات وكان حاكمها الإسمى طفلا صغيراً، وقد اصبح الوزير جعفر إين الفرات مبغضاً لدى الناس لما قام به من إبتزازات وإعتقالات. كان الجند فى حالة ثورة وقام مسئولو القصر الأتراك بالتمرد ونهب قصر الوزير، وفتحوا حتى مفاوضات مع المعز.
حاول الحسين ، إبن أخ الإخشيد ، إسترداد النظام العام، ولكن بعد ثلاثة أشهر من الحكم المتأرجح والذى لم يحظى برضى الناس عاد إلى ولايته فى فلسطين للتصالح مع القرامطة. وقد أضافت المجاعة التى نتجت عن إنخفاض النيل الإستثنائى فى سنة 967م إلى شقاء البلاد، وجاء الطاعون، كالعادة، فى أعقاب المجاعة فمات فى ذلك مايزيد على ستمائة الف إنسان داخل وحول الفسطاط، وبدأ السكان التعساء فى الهجرة إلى مناطق أكثر حظاً.
نُقلت كل تلك الأمور كاملة إلى المعز بواسطة اليهودى المتمرد يعقوب بن كلس أحد رجال كافور المقربين سابقاً، والذى أبعد عن مصر بسبب حسد وإضطهاد الوزير جعفر بن الفرات، وقد كان على دراية تامة بالحالة السياسية والمالية لوادى النيل. وقد شجعت تقاريره نية الخليفة الفاطمى على غزو مصر فدعى القبائل العربية إلى لوائه، وجمع خزانة ضخمة قدرها المقريزى بنحو 24000000( أربعة وعشرين مليون دينار ذهبياً)، كلها أُنفقت على الحملة، ووزعت العطايا بسخاء بالغ على الجيش، ثم وعلى رأس مايزيد على مائة ألف رجل مدججين بالسلاح والركائب، يصاحبهم نحو ألف جمل وقطيع من الجياد تحمل الأموال والمؤن والذخائر، زحف جوهر من القيروان فى فبراير 969م، وبعد أن إستعرض الخليفة القوات بنفسه قبل القائد يده وحدوة جواده، ومر كل الأمراء وكل رجال الحاشية على أقدامهم فى إحترام شديد أمام القائد المبجل للجيش الغازى والذى، وكآخر دليل على الرضى ، إستلم ثوب سيده وجواده كهدية. وأُمر كل حكام المدن الواقعة على الطريق للركوع على أقدامهم أمام سرج جوهر، حتى حاول أحدهم عبثا تقديم رشوة كبيرة لتجنب تلك المهانة.
ملأ إقتراب هذه القوة الكاسحة الوزراء المصريين بالرعب، بحيث أصبحوا يفكرون فقط فى الحصول على شروط مرضية. وقام وفد من الأعيان بقيادة الشريف أبوجعفر مسلم بزيارة جوهر بالقرب من الإسكندرية، وطلبوا الإستسلام. وافق القائد على ذلك بدون تحفظات وفى خطاب تصالحى منحهم كل ماطلبوا. لكن الوفد لم يأخذ جيشه فى الإعتبار، فما كانت القوات فى الفسطاط يمكن أن تقبل مثل هذه الإهانة، وكان هناك حزب قوى مؤيد للحرب مال إليه كثير من الوزراء. وإستعدت المدينة للمقاومة ووقعت المناوشات مع جيش جوهر، والذى كان قد وصل فى ذلك الوقت إلى مدينة الجيزة المقابلة فى يوليو من نفس السنة 969م. إقتحم جوهر الطريق عبر النهر بمساعدة بعض القوارب التى أمده بها بعض الجنود المصريين، وإنقض الغزاة على الجيش المعادى المنتشر على الضفة المقابلة وألحقوا به هزيمة ساحقة. وهربت القوات من الفسطاط فى رعب، وناشدت النساء اللواتى هربن من منازلهن الشريف أن يستعطف الغازى. كان جوهر مثل سيده يميل دائماً للرفق الحكيم فقام بتجديد وعوده السابقة ومنح عفواً عاماً لكل من خضع، وفى فرط حماسهم قام الأهالى المبتهجون بقطع رؤوس بعض الجنود الرافضين وأرسلوهم إلى معسكر جوهر كدليل قوى على ولائهم. وركب منادى يحمل علماً أبيض فى شوارع الفسطاط معلناً العفو مانعاً النهب وفى الخامس من أغسطس من نفسة السنة 969م دخل الجيش الفاطمى بكل أبهة طبوله وأعلامه إلى العاصمة.
وفى نفس تلك الليلة وضع جوهر أساسات مدينة جديدة، أو بالأحرى قد حصن قصراً صُمم لإستقبال سيده. عسكر جوهر فى الصحراء الرملية الممتدة إلى الشمال الشرقى من الفسطاط فى الطريق إلى هليوبوليس، وهناك ، وعلى بعد حوالى ميل من النهر رسم جوهر حدود المدينة الجديدة. لم يكن هناك مايعيق خططه، فلم يكن هناك مبانى، بإستثناء دير العظام القديم ، ولا أى زراعة بإستثناء المتنزه الجميل المسمى( حديقة كافور). وتم تسوير مربع يمتد بطول ألف ومائة ياردة من كل جانب بالأعمدة الخشبية، و تشاور المنجمون المغاربة، الذين كان المعز يثق فيهم ثقة شديدة، فيما بينهم لتحديد الموعد المبارك للإحتفال بالإفتتاح.
عُلقت أجراس على الحبال الممتدة من عمود إلى عمود، وتقرر أنه مع إشارة الحكماء أن يعلن دقها اللحظة المحددة التى يبدأ فيها العمال العمل، ومع ذلك فإن حسابات المنجمين قد إستبقها غراب حط على أحد الحبال وجعل الأجراس تجلجل، والتى على أثرها ضُرب كل جاروف فى الأرض وفُتحت كل الخنادق. لقد كانت ساعة شؤم، فقد كان الكوكب مارس(القاهر) فى الطالع ولكن لم يمكن إبطال العمل وعلى ذلك فقد سمى المكان على إسم الكوكب العدوانى(القاهرة) أى الحربى أو المنتصر على أمل أن يتحول الفأل النحس إلى عاقبة منتصرة. ويمكن أن يقال بإنصاف أن كايرو، كما أصبحت القاهرة تسمى بعد ذلك، قد تجاوزت كل الإجحاف التنجيمى. وعلى الفور أُسقط إسم الخليفة العباسى من خطبة الجمعة فى جامع عمرو القديم بالفسطاط، وحُرمت الملابس العباسية السوداء وقام الواعظ ، فى ملابسه البيضاء-، بإلقاء خطبته بإسم الإمام المعز أمير المؤمنين مباركاً على أجداده على وفاطمة وكل عائلتهم المقدسة، كما تم تعديل النداء على الصلاة من المآذن تبعا للذوق الشيعى. وسرعان ماأرسلت الأخبار السارة إلى الخليفة الفاطمى على الجمال السريعة ومعها رؤوس القتلى. وضُربت العملة بالصيغ الخاصة بالمعتقد الفاطمى( على أشرف مبعوثى الله ووزير أفضل الرسل)، ودعى الإمام معد الرجال للإعتراف بوحدانية الله بالإضافة إلى معتقدات العقيدة المحمدية الأخرى. وعلى مدى قرنين ظلت المساجد ودار ضرب العملة تعلن عن شعار الشيعة.
أعد جوهر نفسه، فى الحال، لإسترجاع الهدوء وتخفيف معاناة الشعب المضروب بالمجاعة. وأرسل المعز سفناً محملة بالحبوب لتخفيف بؤسهم، ولكن حيث ظل سعر الخبز بأسعار المجاعة مع ذلك، فقد قام جوهر بجلد الطحانين علانيةً وأنشأ مركزاً لبيع الحبوب، وأجبر كل تاجر أن يبيع حبوبه هناك، تحت أعين مفتش الحكومة(المحتسب). وبرغم مجهوداته فقد إستمرت المجاعة لسنتينٍ، كما إنتشر الطاعون بشكل خطير بحيث تعذر دفن جثث الموتى سريعاً وكان يُلقى بها فى النيلٍ، وقد إستمر هذا الوضع حتى شتاء سنة 971-972م حين عاد الرخاء وإختفى الوباء. وكالعادة فقد إضطلع النائب بدور شخصى فى كل الوظائف العامة. ففى كل يوم سبت كان يجلس فى البلاط ، يساعده الوزير إبن الفرات، والقاضى ومهرة المحامين (الشهود) لسماع القضايا والإلتماسات وإقامة العدالة، ولضمان الحياد فقد عين لكل إدارة من إدارات الدولة مسئول مصرى وآخر مغربى. وقد ضمن حكمه الحازم والعادل السلام والنظام . ولم يضيف القصر العظيم الذى كان يبنيه والجامع الجديد ، الأزهر، الذى بدأ تأسيسه فى سنة 970م وإنتهى منه سنة 972م إلى جمال العاصمة فقط، ولكنه وفر أيضاً فرص عمل لعدد لامحدود من الحرفيين.
قبل سكان مصر النظام الجديد بلامبالتهم المعهودة، ولكن ضابط إخشيدى فى مقاطعة البشمور فى الوجه القبلى قام ، فى الواقع ، بتحريض الناس على الثورة، ولكن لم يكن من شأن مصيره أن يشجع الآخرين. فقد طورد إلى خارج مصر وقُبض عليه على ساحل فلسطين وهناك، وكما سُجل بشكل قاتم، أعطى زيت السمسم ليشربه لمدة شهر حتى إنسلخ جلده وعندئذ تم حشوه بالقش وعُلق على دعامة كعبرة لمن يعتبر. وعدا هذا الإستثناء فقط ، فإننا لم نقرأ عن أى أحداث شغب ولإنتفاضات طائفية، وأصبح الإستسلام كاملاً عندما وضع أنصار الملكية المعزولة، والذين قُدر عددهم بنحو خمسمائة آلاف رجل، أسلحتهم. إستقبلت البعثة التى أرسلت إلى جورج ملك النوبة، لدعوته لإعتناق الإسلام وإنتزاع الجزية المعتادة، بحفاوة وتم دفع الأموال المطلوبة، ولكن دون التحول إلى الإسلام. وإستجابت مدينتا الحجاز المقدستان مكة والمدينة، حيث وزع ذهب المعز بحكمة قبل عدة سنوات، إلى كرمه ونجاحه بإعلان سيادته فى المساجد ،وقدم الأمير الحمدانى الذى سيطر على سوريا الشمالية طاعة مماثلة للخليفة الفاطمى فى حلب، حيث كان يُعترف بسلطان العباسيين حتى ذلك الوقت. ومع ذلك فإن سوريا الجنوبية ، والتى كانت تشكل جزءً من المملكة الإخشيدية، لم تستسلم للمغتصبين دون مقاومة. كان الحسين مازال مستقلاً فى الرملة، مما إضطر جعفر بن فلاح قائد جوهر للدخول معه فى معركة. وهُزم الحسين وشُهر مكشوف الرأس فى الفسطاط تلاحقه إهانات العامة ليرسل فى النهاية ومعه باقى أفراد عائلة الإخشيد إلى مكان ما ببلاد المغرب. أما دمشق معقل الجماعة الإسلامية التقليدية، فقد إستولى عليها جعفر بعد مقاومة ضعيفة، وأُعلنت فيها العقيدة الفاطمية رغم سخط وإشمئزار سكانها السنة.
وسرعان ماإجتاج سوريا طاعون أسوء من الغزو الفاطمى، وعندما وجد القائد القرمطى الحسن بن أحمد الملقب بالأعصم، أن الأموال التى كان يبتزها من مداخيل دمشق مؤخراً قد توقفت فجأة، عزم على إنتزاعها بقوة السلاح. والواقع أن الفاطميين قد خرجوا من نفس تلك الحركة، وكان مؤسسهم يعتنق نفس الفلسفة الدينية والسياسية مثل الحسن الأعصم نفسه، ولكن ذلك لم يقف فى طريقه، كما جعلته معرفته بأصلهم أقل إستعداداً لتقديم طاعته لدعاوى الولاء للأئمة الجدد، والذى كان يشير إليهم بإحتقار بالدجالين وأعداء الإسلام. وقد حاول أن يحصل على تأييد الخليفة العباسى، ولكن المطيع(الخليفة) أجاب بأن الفاطميين والقرامطة كانوا سواء بالنسبة إليه، وأنه لاعلاقة له بأى منهما. ومع ذلك فإن أمير العراق البويهى قد زود الحسن الأعصم بالسلاح والمال، كما ساهم أبو تغلب ، الحاكم الحمدانى لمدينة الرحبة الواقعة على الفرات، بالرجال، وهكذا وبتأييد القبائل العربية فى أوقيا وطايا وغيرها زحف الحسن على دمشق، حيث أباد الفاطميين وقتل قائدهم جعفر بن فلاح. وعلى الفور بدأ لعن المعز علانية على المنبر فى العاصمة السورية وسط رضى السكان الحذر، والذين كان عليهم أن يدفعوا بسخاء لمسرات القرامطة.
ثم زحف الحسن على الرملة ، تاركاً الجيش الفاطمى المكون من إحدى عشر ألف رجلا ًمحصوراً فى يافا ، وقام بغزو مصر. فاجأت قواته مدينة القلزم الواقعة على رأس البحر الأحمر، ومدينة الفرما (بلوزيوم) القريبة من البحر المتوسط، وذلك على طرفى الحدود المصرية، وأعلنت مدينة تينيس خروجها عن الفاطميين، وظهر الحسن فى هليوبوليس (عين شمس) فى أكتوبر 971م. كان جوهر قد حصن العاصمة الجديدة بخندق عميق، تاركاً مدخلاً واحداً فقط أغلقه ببوابة من حديد. وقد سلح المصريين وكذلك القوات الإفريقية (المغربية)، وأرسل جاسوساً لمراقبة الوزير بن الفرات، خشية أن يتورط فى خيانة. وتم إستدعاء أشراف العائلة العلوية إلى المعسكر، كرهائن ، لضمان حسن تصرف السكان، وأثناء ذلك كان يجرى إغراء قادة العدو برشاوى ضخمة. حاصر الحسن القاهرة لمدة شهرين، ثم وبعد إشتباك غير حاسم، إكتسح البوابة وشق طريقه عبر الخندق وهاجم المصريين على أرضهم. كانت النتيجة هزيمة قاسية وتراجع الحسن إلى القلزم تحت غطاء الليل، تاركاً معسكره وأمتعته لينهبها الفاطميون، والذين حال دخول الليل بينهم وبين مطاردته مطاردة دامية. أظهر المتطوعون المصريون شجاعة غير متوقعة فى القتال، وأُسر كثير من أنصار المملكة السابقة الذين كانوا مع الأعداء. وهكذا فإن الخطر الداهم الذى كاد أن يقتلع الإحتلال الفاطمى من مصر لم يواجه بحزم فحسب، ولكنه حتى تحول إلى ميزة. فلم يعد هناك مزيد من التآمر لصالح الإخشيديين، وإستردت تينيس من إرتدادها المؤقت، وإحتلت بواسطة التعزيزات التى أرسلها المعزعلى عجل بقيادة إبن عمار نجدة لجوهر، مما إضطر الأسطول القرمطى الذى كان يحاول إسترداد ذلك الحصن، للتسلل هاربا تاركا سبعة سفن وخمسمائة أسير. أما يافا التى كانت مازلت تقاوم بصلابة أمام المحاصرين العرب، فقد أُسعفت بواسطة القوات الإفريقية ، التى أُرسلت من القاهرة، وتمكنت من إعادة الحامية لكنها لم تجرؤ على الإحتفاظ بالموقع. ولجأ العدو إلى دمشق بينما تشاجر قادته بين بعضهم البعض.
ومع ذلك فلم تحطم تلك الهزيمة القائد القرمطى، ففى السنة التالية كان يجمع السفن والعرب لغزو جديد، أما جوهر والذى كان يحث سيده منذ وقت طويل على أن يحضر ليحمى غزوه، فقد أشار إلى الخطر الداهم لهجوم ثان من عدو قد نجح سابقا فى شق طريقه بشجاعة إلى بوابة القاهرة. أجل المعز رحلته لإنه لم يستطع الوثوق بأمان فى ولاياته الغربية أثناء غيابه، ولكنه عند إستقبال تلك الأنباء الخطيرة، قام بتعيين يوسف بلقين بن زيرى من قبيلة صنهاجة البربرية ليقوم كنائب له فى بلاد المغرب، وغادر المعز المنصورية إلى سردانية بالقرب من القيروان فى نوفمبر 972م ( حيث سلم يوسف بن بلكين ملك إفريقية)، ومن هناك تقدم على مهل عن طريق قابس وطرابلس وأجدابيا وبرقة حتى وصل إلى الإسكندرية فى مايو التالى.ٍ وهنا إستقبل الخليفة بعثة تتكون من قاضى الفسطاط وبعض الشخصيات البارزة والذين اثارهم إلى حد البكاء بفصاحته وحديثه الصالح، وبعد شهر من ذلك التاريخ كان يعسكر فى حدائق الدير القريب من الجيزة، حيث رُحب به بإجلال من قبل خادمه المخلص جوهر الذى ظل قانعاً بحجب نفسه فى ظل سيده.
كان دخول الخليفة الجديد/الإمام إلى عاصمته الجديدة مشهدً مهيباً. كان معه كل أبنائه وإخوته وأقاربه، وحُملت أمامه كل توابيت أجداده.أضيئت الفسطاط وزُينت لإستقباله، ولكن المعز ماكان ليدخل العاصمة القديمة للخلفاء الغاصبين، فعبر من الروضة على الجسر الجديد الذى أقامه جوهر، وتقدم مباشرة إلى مدينة القصر القاهرة، وهنا ألقى بنفسه على وجهه وقدم شكره لله.
ولكن كان مازال هناك محنة يجب إجتيازها، قبل أن يُمكنه إعتبار نفسه آمناً. كانت مصر موطناً لكثير من الأشراف أو ذرية على ثابتى النسب، وقد جاء هؤلاء بجرأة ، يقودهم ممثل لعائلة طاباطابا الشهيرة، لفحص مصداقية نسبه. كان على المعز أن يثبت أحقيته للإمامة المقدسة، الموروثة من على بشكل يرضى هؤلاء الخبراء بعلم الأنساب. وتبعا للقصة فقد دعى الخليفة حشداً كبيراً من الناس ودعى الأشراف للظهور، ثم سحب نصف سيفه قائلاً (هذا نسبى)، ثم نثر ذهباً على الحاضرين قائلاً( وهذا حسبى). لقد كان ذلك ، على الأرجح ، أفضل مايمكن له أن يقوله. لقد كان يمكن للأشراف فقط أن يعلنوا رضاهم التام على هذا الدليل المقنع، وإنه لمن المؤكد على أى حال أنهم وبصرف النظر عما قد يكونوا قد إعتقدوا فى زعم الخليفة، فإنهم لم يعترضوا عليه. إكتست جدران العاصمة بإسمه، وهتف الناس الذين إحتشدوا فى أول ظهور علنى له بمديح على والمعز. ومن بين الهدايا التى قُدمت له كانت هدايا جواهر فاخرة على نحو خاص، وقد مهدت فخامتها للسجلات التالية لثروة الفاطميين الضخمة. وقد إحتوت على خمسمائة حصان بسروج وألجمة ملبسة بالذهب والكهرمان والأحجار الكريمة، وخيام من الحرير وقماش من الذهب تحملها جمال ذات سنامين، وجمال عربية وبغال وجمال حمل وصناديق مزخرفة تمتلئ بأوانى من الذهب والفضة، وسيوف ذات مقابض من الذهب وعلب من الفضة المحفورة تحتوى على أحجار ثمينة، وعمامة مرصعة بالجوهر وتسعمائة صندوق تمتلئ بعينات من كل ماتنتجه مصر من بضائع.
وفى يوم العيد أو الإحتفال الذى يعقب الصيام( عيدالفطر التركى لسنة 973م)، أدى الخليفة الصلاة بنفسه على رأس حشد من الناس، ثم ألقى خطبته من على المنبر. وقد إستعرض مواهبه الكهنوتية ومست حماسته فى تلك المناسبة كل القلوب. وعندما إنتهى الإحتفال رجع المعز إلى القصر على رأس قواته يخفره أبنائه الأربعة فى الدروع، ويتقدمه فيلان حيث مد وليمة لضيوفه. وقد بنى ذلك القصر الذى يساوى مدينة تقريبا ، فهو نواة القاهرة الحديثة ، وكما رأينا، على بعد مسافة قليلة من العاصمة القديمة الفسطاط، ورغم أنه كان يسمى أحياناً (بالمدينة)، فلم يكن فى الواقع سوى قلعة ملكية فسيحة مخصصة بشكل حصرى لإستخدام الخليفة وحريمه وعياله الكثيرين، ولحرسه وفرقه العسكرية المختارة وموظفييه الحكوميين. كان السياج الفسيح للقلعة أرضاً ممنوعة على الجمهور وحتى السفراء من الدول الأجنبية (أرسل الإمبراطور الرومانى الشرقى سفارات إلى جوهر والمعز)، كانوا مطالبين بالترجل خارجها، وكان يتم إصطحابهم إلى حضرة الخليفة بين الحراس بنفس الطريقة التى كان يتم بها ذلك فى البلاط البيزنطى والعثمانى. كانت الأبنية الرئيسية هى القصر الشرقى الكبير( أو قصر المعز)، مقر الإقامة الشخصى للخليفة، حيث كان يحتفظ بحريمه وأطفاله وعبيده وخصيانه وخدمه، والذين كان يقدر عددهم فيما بين ثمانية عشر ألف إلى ثلاثين ألف فرد، ثم القصر الغربى الأصغر أو منزل الأنس، والذى كان منفتحاً على حديقة كافور الفسيحة، حيث كان يوجد مضمار لأغراض تدريب البلاط . كان القصران منفصلان بميدان يسمى( بين القصرين)، حيث كان يمكن إستعراض حوالى عشرة آلاف من القوات، ومازال ذلك الإسم محتفظاً به فى جزء من منطقة سوق النحاسين. كما كان هناك ممر تحت الأرض يربط القصرين، والذى كان يمكن للخليفة أن يمر من خلاله دون إنتهاك ذلك الإعتزال الغامض الذى كان جزءً من شخصيته المقدسة. وبالقرب من القصرين كان يوجد الضريح الكبير حيث ترقد عظام أجداده الفاطميين والتى أحضرها معه من القيروان، والجامع الأزهر حيث إعتاد الخليفة إمامة صلاة الجمعة بصفته أمير وقائدا المؤمنين.
وعن حجم وبهاء القصر الكبير يتحدث المؤرخون العرب وقد حبسوا أنفاسهم. فنحن نقرأ عن أربعة آلاف غرفة وعن البوابة الذهبية التى تُفتح على القاعة الذهبية، وعن السرادق الفخم حيث كان الخليفة ، جالسا على عرشه الذهبى، يحيط به حجابه ووصفائه( كانوا من الإغريق والسودان بشكل عام)، يراقب من خلف ستار مزركش بالذهب إحتفالات الإسلام ،وعن قاعة الزمرد بأعمدتها الرخامية الجميلة والديوان الكبير، حيث كان يجلس فى أيام الإثنين والخميس فى نافذة تحت قبة، وعن الرواق حيث كان يستمع كل مساء إلى المضطهدين والمظلومين، الذين كانوا يأتون إلى أسفل الشرفة ويصرخون بعقيدة الشيعة حتى يسمع شكواهم ويمنحهم المواساة.
والواقع أن هذا الوصف ينطبق على القصر الفاطمى فى عصور تالية، ومع ذلك فهو حقيقياً فيما يخص الجزء الرئيسى من قاهرة المعز. فقد خطط المعز كل المبانى بنفسه إلى أصغر تفصيلة، كما عمل جوهر لأكثر من ثلاث سنوات ليحقق تصميمات سيده. إن غزارة الثروة والفخامة النفيسة للبلاط، يمكن الإستدلال عليها من إشارات كثيرة. فقد تركت إحدى بنات المعز عند موتها خمسة أكياس من الزمرد، وكمية هائلة من الأحجار الكريمة من كل الأنواع، وثلاثة آلاف آنية محفورة ومرصعة، وثلاثين ألف قطعة من التطريز الصقلى، وتسعين حوض وإبريق من الكريستال الخالص، وقد إستخدم أربعون رطلاً من الشمع لختم غرفها وخزائنها. وقد تركت إبنة أخرى عند وفاتها ثروة تقدر بإثنين مليون وسبعمائة ألف دينار، كما تركت إثنى عشر ألف ثوباً مختلفة. وقد بنت زوجته مسجداً بالقرافة، وأنفقت مبالغ كبيرة على زخرفته، وقد صممه معمارى فارسى، كما رسم السقوف والجدران فنانون من البصرة. وقد طلب المعز نفسه أن تُصنع قطعة من الحرير فى توستار بفارس، لتمثل بالذهب والألوان خريطة للعالم، والتى كلفته إثنين وعشرين ألف دينار. فإذا ماكانت الهرطقة الفاطمية قد أحبطت الثقافة والأدب فقد شجعت الفن، ولم يؤثر التحيز ضد تمثيل الأشياء الحية، الذى قيد الرسامين التقليديين أو السنة، فى عمل المنشقين ( الشيعة)، الذين سرعان ما تبنوا الأفكار الفارسية. وقد حرض الوزير الفاطمى اليازورى، الذى سيأتى ذكره ، إثنين من رسامى العراق ضد بعضهما البعض، فقام احدهما (القصير) برسم فتاة ترقص فى رداء أبيض بدت وكأنها تتراجع داخل قنطرة سوداء، وقام منافسه( إبن العزيز) بجعل فتاته فى رداء قرمزى تبدو وكأنها تخرج من القنطرة الصفراء خلفها، إن مثل ذلك التصميم ماكان ليحُتمل من قبل خليفة عباسى. وليس هناك من شك فى أن نشاطاً فنياً عظيماً قد ساد فى زمن الحكم الفاطمى، والذى قد تطور فى صقلية وأيضاً فى مصر. إن علبة الجواهر العاجية الشهيرة( التى تعود إلى مدينة بيوكس)، بزخارفها الفضية المحفورة التى تمثل ببغاوات وطيور أخرى عليها نقوش فاطمية، وكذلك الصندوق العاجى الذى يعود إلى سنة 970م فى متحف فيكتوريا وألبرت، ربما يعود أيضا إلى عمل فنانيهم. و تحمل فازة ضخمة من الكريستال فى خزانة سان مارك بفينيسيا إسم العزيز، إبن المعز. وقد أنتج( فى عصر الفاطميين) فخار ذو بريق معدنى وزجاج، كما إشتُهرت أنوال مصر. وقد صنعت الإسكندرية والقاهرة حريراً رقيقاً لدرجة أن ثوباً كاملاً كان يمكن أن يمرر من خاتم إصبع. وقد إشتهرت أسيوط بقماش العمائم الصوفية، و إشتهرت البهنسا بأصوافها البيضاء، و دبيق بالحرير، ودمياط ، بالطبع ، بالبفتة. وفى تنيس حيث كان إنتاج المصنع الملكى محفوظاً كلية للعائلة الفاطمية، فقد صنعوا بالإضافة إلى الأقمشة القطنية الناعمة القماش القزحى الجميل المعروف بإسم بوقالمون أو (الحرباء)، والذى كان يُستخدم للسروج والمحفات الملكية.
وبالإضافة إلى المصنوعات الوطنية، فقد كان هناك طلب مرتفع فى القاهرة على الأعمال الفنية لفارس وآسيا الصغرى وصقلية. ومع ذلك فلم يكن المعز مسرفاً، وقد مزج بحب الأشياء الجميلة وعى حذر بالحفاظ على قوته وتطويرها. وكان قد ورث أسطولاً من صقلية أغار على ساحل إسبانيا سنة 955م، وإستولى على كثير من الأسرى والغنائم. وقد رد خليفة قرطبة ، الناصر الكبير، بإرسال سفنه إلى تونس، حيث أحرقت ميناءً صغيراً بالقرب من بونا ونهبت الساحل المغربى.
أدى الإستحواذ على الموانئ المصرية إلى خطط بحرية أكبر، فبُنى حوض لصناعة السفن فى المكس، الموقع السابق لبولاق كميناء للقاهرة، حيث تم بناء ستمائة سفينة هناك، وهو أكبر أسطول شهدته مصر منذ الغزو العربى. وقد حوفظ على الجيش ، بعناية ، فى درجة عالية من الكفاءة، كما لم يهمل الخليفة أى وسيلة لكسب إحترام رعاياه. وقد إشتهرت محاكم المعز بالعدل، وقد إهتم إهتماماً شخصياً بكل تفاصيل الإدارة، فأعلن إرتفاع النيل كما كان يُسجل فى المقياس، وترأس إحتفال فتح خليج القاهرة، وأسعد الناس بالكسوة الحريرية المطرزة بالذهب ( الشمسية)، التى كانت تُعد للكعبة فى مكة، والتى كان يُسمح للعالم كله برؤيتها فى عيد الأضحى، والتى كانت أكبر بأربعة مرات من أى غطاء( كعبة) آخر أمر به العباسيون، أو حتى كافور. ومن الواضح، وكما إعتقد الناس، أن هذا الخليفة/الإمام كان نموذجاً للتقوى الشديدة.
وأثناء ذلك كان خطر الغزو القرمطى مازال يراوح مكانه، حيث قام القرامطة بمحاولة للإستيلاء على تنيس لكنها فشلت، ولم يقوموا بعد ذلك بأى تحركات أخرى. حاول المعز التفاوض مع رئيسهم، ولكن فى رده على رسالته التصالحية كتب الحسن( من الحسن بن أحمد الأعصم ، لقد إستلمت خطابك الملئ بالكلمات ولكن الخالى من المعنى ، وسوف أُجيب عليه). كان الحسن عند كلمته ففى ربيع سنة 974م ظهر القرامطة مرة أخرى عند هليوبوليس، وهناك ، وبعد أن إنضم إليهم أنصار الإخشيديين والمنافسين العلويين الآخرين ، إنتشروا فى كل أنحاء مصر فى موجة من أعمال التدمير. كان المعز مستعداً لهم، ولكن قواته لم تكن كافية للدفاع. إستطاع إبنه عبدالله بقوة من أربعة آلاف رجل هزيمة وقتل بعض منهم فى بعض الإشتباكات فى الدلتا، لكنه لم يستطع منع تقدم الجيش الرئيسى من التقدم نحو القاهرة، حيث إستطاعوا دفع المدافعين عن خندقها إلى المدينة. وفى موقفها المحصور خلف الأسوار، لم تتمكن قوات الخليفة/الإمام من دفع العرب، حتى إستطاع المعز تدبير رشوة رئيس قبيلة بنى طى، أقوى حلفاء القرامطة، بمبلغ مائة ألف دينار ضُربت من الرصاص وماء الذهب لذلك الغرض، حيث لم يكن هناك ذهب كافى فى الخزانة. هجر البدوى الخائن قائده فى المعركة التالية، وأُجبر الحسن على الهرب وتم الإستيلاء على معسكره ونُهب، كما ذُبح ألف وخمسمائة من أتباعه. وسرعان ما بُعث بعشرة آلاف رجل إلى سوريا حيث كان القرامطة ، ولحسن الحظ ، قد ضعفوا بسبب تحاسد قائديهم، والذى قام أحدهم بتسليم الآخر إلى الفاطميين، فوضعوه هو وإبنه فى قفصين خشبيين وبعثوا بهما إلى مصر. وتوقف الوباء القرمطى ولكن دمشق ظلت ضحية للشقاق والفوضى لبعض السنوات. ولم يستطع الخصى ريان ، والذى كان قد إستولى على طرابلس من الرومان لصالح المعز، وكان قد أُرسل الآن إلى دمشق، أن يحفظ المدينة من الأمير التركى أفتكين، الذى إسترجع إسم الخليفة العباسى، وأعطى العاصمة السورية والإقليم المحيط بها بعض السلام والحكم الرشيد.
وأثناء ذلك كان خصى آخر قد إستولى على بيروت من القوات الفاطمية، وقد أحضرت تلك الخسارة زمسكيس( الإمبراطور البيزنطى) إلى سوريا، وسرعان ماقدم له أفتكين فروض الطاعة ودخل معه فى معاهدة، ولكن ريان هاجم من طرابلس وأوقع بهم هزيمة ساحقة إنسحب الرومان على أثرها.
أضاءت أخبار ذلك الإنتصار، وحقيقة أن إسمه أصبح يُقرأ فى الصلوات فى مكة والمدينة مرة أخرى، الأيام الأخيرة من حياة الخليفة المعز، الذى توفى فى حوالى عيد الميلاد(الكريسماس) لسنة 975م، فى السادسة والأربعين من عمره. تميزت سنتى إقامة المعز فى القاهرة بكثير من الإصلاحات. كان المعز قد عين اليهودى إبن كلس (يعقوب إبن كلس)، وإبن عسلوج كمديرين عامين للأراضى، فأزال بضربة واحدة قوى وأرباح جامعى الضرائب. كان هذان المسئولان يجلسان يومياً فى دار الإمارة الملاصقة لجامع إبن طولون، مقررين ضرائب العشور، ومقيمين الأراضى، ومشرفين على الضرائب والجمارك والعشور والجزية والأوقاف وكل نواحى الدخل، مطالبين بالمتأخرات، فاحصين بدقة كل الشكاوى والمطالب، وكانت نتيجة ذلك زيادة كبيرة فى الدخل. أصبحت كل الضرائب تُدفع بالعملة الفاطمية الجديدة، وأزاح الدينار المعزى ، المقدر بحوالى خمسة عشر ونصف درهم ، الدينار العباسى تماماً، والذى كان يستخدمه الإخشيديون، مما سبب خسائر كبيرة للسكان. وفضلاً عن ذلك، فقد أصبحت الضرائب تُجمع بشدة، حيث كان المعز متحمساً لإسترداد المبلغ الضخم الذى أنفقه على غزو مصر، والتى لم تكن حتى ذلك الوقت قد إستجابت لتوقعاته كمنجم للذهب. وبرغم ذلك فقد بلغت الضرائب فى يوم واحد فى الفسطاط خمسين ألف دينار، وأحيانا كانت تصل إلى مائة وعشرين ألف دينار، وقد بلغت ذات مرة فى تنيس ودمياط والأشمونين حوالى مائتى ألف دينار فى يوم واحد.
وفى إدارته القصيرة لرعاياه المختلطين فى مصر، أظهر المعز الحكمة والعدل، وقد منع قواته الإفريقية من الإختلاط بالمقيمين فى العاصمة، وأسكنهم بالخندق بالقرب من هليوبوليس ليمنع المشاجرات. وبالطبع فلم يكن من الممكن منعهم من دخول الفسطاط أثناء النهار، ولكن فى كل مساء كان مناد يطوف بالمدينة ويحذرهم بالخروج منها قبل هبوط الليل. لم يكن المعز كارهاً للأقباط وقد وضع واحداً منهم على رأس الجمارك ، أولاً فى مصر ثم فى فلسطين ، حيث حظى برعاية وعطف الخليفة. والواقع أن المشكلة الطائفية الوحيدة التى واجهها كانت من إستيراده نفسه. كان من الطبيعى أن تجعل نجاحات الفاطميين الشيعة أكثر تأسيساً، وعلى ذلك فقد إحتفلوا بيوم إستشهاد الحسين فى العاشر من المحرم ، وهو يوم يكرهه البوليس حتى فى بومباى الآن، بعلانية غير مألوفة فى القاهرة فى سنة 973م ، وزاروا مقابر السيدة نفيسة وأم كلثوم ، من الأسرة الشريفة، فى حشود كبيرة ، وأهانوا أصحاب الحوانيت السنة فى خضم حماسهم. أمكن منع حروب الشوارع بإغلاق البوابات فى ساعات مناسبة، مما فصل أحياء المدينة المختلفة. وقد أظهرت تلك الحادثة أن الثورة الشيعية كانت لم تزل مرفوضة من قبل قطاع كبيرمن السكان، وسوف نرى كيف أنه حتى بعد قرنين أمكن إسترجاع العقيدة السنية التقليدية بإجماع مثير للدهشة.





















قائمة نسب الخلفاء الفاطميين
محمد
على – فاطمة

3-الحسين 2- الحسن
4-على زين العابدين
5-محمد الباقر
6-جعفر الصادق
7-موسى الكاظم 7-إسماعيل
8-على الرضى -محمد
9-محمد الجواد -أحمد
10-على الهادى -عبدالله
11-حسن العسكرى -أحمد
12-محمد المنتظر -حسين
أئمة الشيعةالإثنى عشرية -عبدالله
الأئمة السبعة المخفيين للشيعة الإسماعليلية
الخلفاء الفاطميون
1-المهدى -909-934م
2-القائم- 934 -946 م
3-المنصور-945-953م
4-المعز-953-975م
5-العزيز-975-996م
6-الحاكم-996-1021م
7-الظاهر-1021-1036م
8-المستنصر-1036-1094م
9-المستعلى-نزار-1094-1101م
10-الحافظ-1131-1149م
11-الظافر-1149-1154م
12-الفائز-1154-1160م
13-العاضد-1160-1171م
---------------------------------------------











أهم المراجع

1-القرطبى
2- إبن الأثير
3-إبن خلقان
4-إبن خلدون
5-المقريزى
6-كواترمير
7-ويستنفيلد

































5- الخلفاء الفاطميون
( 969- 1171 م)

إستمر الحكم الفاطمى الذى تأسس فى مصر لنحو قرنين من الزمن، بدون أى أحقية للحكام ولا أى إخلاص من قبل المحكومين. كان معظم الخلفاء غارقين فى ملذاتهم الخاصة، وكانت الحكومة تؤول إلى الوزراء، والذين كانوا دائما يتغيرون تبعا لتغير سادتهم أوتبعا لمطالب الجيش الدائمة لمزيد من المال، ونجاح الوزراء أو فشلهم فى إرضاء تلك المطالب. كان معظم الوزراء منهمكين فى تحصيل الأموال بشكل أساسى، ولم تجد أى أفكار كبيرة أو خطط طموحة مكاناً لها فى سياستهم. وسرعان ما تراجعت الإمبراطورية، والتى كانت قد شملت فى أيام المعز كل شمال إفريقيا وصقلية وسوريا والحجاز، إلى ما يزيد قليلاً فقط عن حدود مصر.
آلت الولايات الإفريقية من مجرد إرتباط دافع الجزية إلى الإستقلال الصريح فى سنة 1046م، وعادت إلى ولائها القديم ، ولو إسميا ، لخلفاء بغداد. أما سوريا فلم تكن السيطرة عليها ثابتة أبداً، وكانت مسرحاً للثورات الدائمة والحروب الأهلية. وفقط فى الجزيرة العربية حصل الفاطميون على نفوذ متزايد، والذى لم يكن نتيجة لأى جهد خاص بهم، ولكن بسبب الدعاية الشيعية التى إستمرت من تلقاء ذاتها. وفى مصر نفسها لم ترتكز سلطتهم على أساس حقيقى، ولا على أى إنضمام عام إلى العقيدة الشيعية، أو إلى نسبهم المختلف عليه ، والذى كان مرفوضاً بشكل متكرر من قبل المفكرين الشيعة والسنة على السواء ، ولكن عرشهم تأسس على الخوف وإستمر بالرعب الذى أثارته فرقهم العسكرية الأجنبية. كانت قوات البربر التى كانت تستقدم بإستمرار من مواطنها الأصلية فى الغرب، مع المرتزقة الأتراك التى كانت تجدد بعمليات الشراء أو التطوع من الشرق، بالإضافة إلى القوات السودانية الدموية الفاسدة من الجنوب، تمثل حصون الخلافة المصرية والسبب الوحيد لحياتها الطويلة. ومع ذلك وفى وجه مثل تلك الديكتاتورية العسكرية، فإننا قد نتساءل عما إذا كان يمكن لأى شعب غير المصريين الصبورين أن يخضع كل هذه الفترة الطويلة لنير لا يحتمل.
والواقع أن بداية ذلك الظلم الطويل لم تعطى أى إشارة بعبأه القادم. كان العزيز ، إبن المعز، ( 975-996م)، والذى خلف أباه فى فى ديسمبر 975م، ولكن لم يُعلن عن خلافته رسمياً حتى عيد الأضحى فى أغسطس 976م ، حاكماً ممتازاً، شجاع القلب حسن الشكل ، رغم شعره المائل إلى الإحمرار وعيونه الزرقاء، تخشاه العرب دائماً ، قناص جرئ وقائد لايعرف الخوف، ورغم ذلك فقد كان ذا مزاج تصالحى إنسانى ، حاجماً عن العدوان وكارهاً لإراقة الدماء. كان توجه السياسة الفاطمية نحو التسامح أو اللامبالاة فيما يخص الدين والعرق، ولكن فى حالة العزيز فقد كان هناك تأثير خاص لزوجة مسيحية، هى أم ، مع غرابة ذلك ، إبنه المتوحش الحاكم بأمر الله. وقد عُين أخويها بطريركين ملكانيين للإسكندرية وأورشليم، وبضغط الخليفة وأوامره السرية ، مع ذلك ، عرف المسيحيون قدراً كبيراً من التسامح لم يعرفوه تحت حكم آخر، كما أصبح للبطريرك القبطى إفرايم مكانة كبيرة فى بلاطه، وحصل على إجازة بإعادة بناء كنيسة أبى سفيان المهدمة خارج الفسطاط (كنيسة القديس مكاريوس)، وقضى الخليفة، دون إبطاء ، على معارضة المسلمين الذين كانوا قد حولوها إلى مستودع للسكر. وبطبيعة الفضول الفكرى المميز للفاطميين، شجع المعز سفيروس أسقف الأشمونين على مناقشة بعض نقاط العقيدة مع العلماء المسلمين، مثل القاضى الشهير بن النعمان إمام الصلاة، ومدير دار ضرب السكة و الموازيين والمقاييس على مدى أربعة عشر عاماً. وقد رفض المعز حتى أن يضطهد مسلماً تحول إلى المسيحية، رغم أن الإرتداد عن الإسلام كان يُعاقب بالإعدام. وقد إمتد كرمه حتى شمل أعدائه، فقد كان يعرف كيف يحترم رجلاً شجاعاً وعندما سقط فى يديه القائد التركى البطل أفتكين، الذى أقام سوريا كلها ضده، وتفوق حتى على قائده المحنك جوهر، فقد منحه وظيفة كبرى فى البلاط ،وأغرقه بالعطايا على شجاعته فى الميدان، كما كان اليهودى المهتدى، يعقوب بن كلس وزيره على مدى الخمسة عشر سنة الأولى من حكمه، والذى خدم المعز جيداً وأصبح اليد اليمنى لإبنه (العزيز). ويعود إلى الحكمة السياسية لذلك الرجل ، إلى حد كبير، الفضل فى أن تمتعت مصر بفترة طويلة من الهدوء التام، وأن فاضت خزانة الدولة بالثروة. و كان هناك مسئولاً مسيحياً كبيراً آخر، هوعيسى بن نسطوريوس، الذى أصبح وزيراً فى السنتين الأخيرين من حكم العزيز، ومنشى اليهودى، الذى كان قد أصبح سكرتيراً عاماً فى سوريا قبل ذلك. لقد كان من الطبيعى أن تسئ مثل تلك التعيينات إلى مشاعر المسلمين، الذين وجدوا أنفسهم فى الموقف القديم، فى حال أسوء تحت حكم حاكم محمدى أكثر مما كان الكفار. وقد كتب الشعراء أشعاراً ساخرة، ودُفع بقصاصات الإحتجاج إلى أيدى الخليفة عندما كان يركب فى شوارع القاهرة، فحاول أن يهدأ رعاياه شديدى التعصب بإزاحة المسئولين المبغضين عن مناصبهم، ولكن فى حالة إبن نسطوريوس، على الأقل ، فقد كان تأثير الحريم قوياً جداً، وتمكنت الإبنة القديرة والمحبوبة للخليفة، الأميرة ست الملك من إسترجاع الموقف المسيحى. والواقع أن العزيز ماكان يمكن أن يكون ماكان بدون مساعدة هؤلاء المساعدين القديرين، والذين كانوا، وبشكل واضح، أقدر من زملائهم المسلمين فى إدارة أعمال الدولة. وعندما ألقى بيعقوب بن كلس فى السجن لوضعه السم للقائد التركى المفضل أفتكين، لمجرد دافع الحسد، فقد إفتقد العزيز نصائحه بشدة، لدرجة أنه أعاده إلى منصبه بعد حوالى أربعين يوماً فقط. وقد حدث تجريد مماثل من الرتبة لنفس الوزير فى العام التالى سنة 983م، إنتهى أيضاً بإعادة مماثلة سريعة إلى منصبه. ومع ذلك فلا شك أن الإدارة الحازمة العادلة يساندها جيش قوى قد صالحت الأهالى المسلمين، ولدرجة ما، على ماإعتبروه تفضيل غير طبيعى، ولكن عدم رضاهم كان دائماً عرضة لإن ينفجر فى أعمال عداء شديدة بمجرد أى تحريض. فأثناء الحرب مع الإمبراطور باسيل سنة 996م، والذى بنى من أجلها العزيز أسطولاً ضخماً مكوناً من ستمائة سفينة، فإن إحدى عشر من أكبر سفنه التى كانت ترسوا فى ميناء المقس على النيل( ميناء القاهرة فى ذلك الوقت )، قد إشتعلت فيها النيران، فعزى البحارة والعامة الكارثة إلى السكان الإغريق فى المنطقة المجاورة، فقاموا بذبح كثيراً منهم، ونهبوا بضائعهم ولعبوا الكرة برؤوسهم. ولكن سرعان ماإسترد النظام، مع ذلك، وخلال ثلاثة اشهر أنتج نشاط إبن كلس ستة سفن جديدة من الدرجة الأولى.
وقد شارك هؤلاء الوزراء القديرون سيدهم فى حبه الشديد للثروة والرفاهية. وقد تمتع يعقوب بن كلس، الذى توفى سنة 991م ، براتب بلغ مائة الف دينار، وقد ترك ورائه ثروة ملكية من الأراضى، والمنازل والمحلات والعبيد والخيول والأثاث والثياب والجواهر، قُدرت بنحو أربعة ملايين دينار، بالإضافة إلى مهر إبنته الذى بلغ مائتى ألف دينار. وقد كان يحتفظ بنحو ثمانمائة من الحريم، بالإضافة إلى خدمه وحراسه، الذين تكونوا من أربعة آلاف رجل أبيض وأسود. وقد كان منزله المسمى( بقصر الوزراء)، محصناً ومنعزلاً كقلعة. وقد فاقت تشكيلة حمامه الزاجل تلك الخاصة بالخليفة. وقد حضر العزيز نفسه جنازته، والتى كانت فخمة مثل حياته اليومية تماما، ووفر لها مواد التحنيط من الكافور والمسك وماء الورد وخمسين رداءً فاخراً لتكفين الجثة. وقد سارالعزيز إلى منزل مستشاره المخلص راكباً على بغل، رافضاً المظلة الرسمية المعتادة، حيث وقف أمام نعشه يبكى ويتلو صلوات الميت، وأقام بيديه حجر مدخل المقبرة. وعلى مدى ثلاثة أيام لم يقم مائدة ، ولم يستقبل ضيوفاً، وظلت مكاتب الحكومة مغلقة لثمانية عشر يوماً، ولم يتم القيام بأى عمل. وعلى مدى شهر ظل القبر كمكان للحج، حيث أخذ الشعراء ينشدون مآثر الراحل على نفقة الخليفة، كما راحت فرقة من قراء القرآن تتلو آيات القرآن الكريم نهاراً وليلاً، بينما وقفت الجوارى بالأكواب والملاعق الفضية تخدم متاع الجسد من الخمر والحلويات للجمع النادب او الزوار المهتمين. وقد أعتق الخليفة كل مماليك الوزير الراحل، ودفع كل ماتبقى من ديونه، كما دبر رواتب وإحتياجات عائلته الضخمة. وبعكس ذلك المشهد، فعندما توفى القائد العظيم جوهر بعد حوالى سنة من ذلك التاريخ ، فى الغموض النسبى لسنواته الأخيرة ، فإننا نقرأ فقط عن هدية من خمسة آلاف دينار قُدمت من الخليفة لعائلته كعلامة تقدير.
وضع العزيز نفسه نموذج الرفاهية، مما يجعل سجلات الثروة الفاطمية، يبدو غير معقول لهؤلاء، الذين لايدركون العشق الشرقى للإقتناء. كان الخليفة خبيراً فى الأحجار الكريمة والطرف الفنية. وقد نسب المؤرخ جمال الدين الحلبى عدداً من الحلى العصرية، آنذاك، إلى زمن العزيز، مثل العمائم الثقيلة متعددة الألوان المطرزة بالذهب، البالغ طولها ستين ياردة، والمصنوعة من أقمشة ثمينة، والمنسوجة فى المصانع الملكية فى ديبق، والأثواب والأغطية المصنوعة من قماش العتابى البغدادى، و منسوجات رام الله وطبرية الملونة، و قماش السكلاتون القاهرى، وحلى الحصان المطعمة بالجواهر والمعطرة بالعنبر، لتغطية الدروع المطعمة بالذهب. كانت رفاهية الفرد تناظر رفاهية المائدة. كان السمك يُحضر طازجاً من البحر إلى القاهرة، وهو شئ لم يُعرف من قبل ، كما كان يبحث عن نبات الكمأة على بعد أميال قليلة من المقطم، ليباع فى الأسواق فى كميات كبيرة جعلته رخيصاً وشائعاً بالنسبة للطيبات الأخرى. وقد جلب عشق النوادر كثيراً من الحيوانات والطيور الغريبة إلى القاهرة. كانت إناث الفيلة التى حافظ عليها النوبيون بعناية تُقدم للإستيلاد بتفصيل تام، وكان وحيد قرن محنط يُبهج الحشد المذهول. كانت هذه الحلى تُشترى بأثمان باهظة وضعت عبأً كبيراً على الخزانة، وكان يُمكن تأمينها فقط من خلال إشراف مالى صارم. أحكم العزيز قبضته على خزانته، ومنع بشدة كل أنواع الرشاوى والهدايا، ولم يكن هناك شئ يُدفع بدون أمر مكتوب. ومع ذلك فلم تكن كل الأموال تُنفق على الكماليات، وقد شهد عهده كثيراً من الإنتصارات المعمارية والهندسية فى القاهرة، مثل القصر الذهبى وقصر اللؤلؤة ومسجد أمه فى القرافة، وتأسيس المسجد الكبير الذى عُرف بمسجد الحكم سنة 991م ، والذى كان يقع آنذاك خارج باب النصر، بالإضافة إلى بعض القنوات والسدود الهامة وأحواض السفن.
كان العزيز رجلاً ذا عقل منظم، وقد أدخل كثيراً من الإصلاحات فى المراسم والإدارة . وقد كان أول من نظم مواكب رسمية كل يوم جمعة فى شهر رمضان، ونظم تأدية الخدمة المطلوبة فى حضور الناس ومشايخهم، كما كان أول من أعطى رواتب محددة لخدمه وأتباعه، وأشرف على صنع زيهم الرسمى، وكان الأول فى أسرته ممن تبنى السياسة الكارثية فى إستيراد القوات التركية المفضلة. وبرغم كل ذكائه وثقافته الكبيرة وميله للشعر، فقد تصور نفسه كمتنبئ، والواقع أن ذلك كان جزءً من الإدعاء الفاطمى بأنهم يعرفون الغير معروف، وقد عرض العزيز نفسه لبعض السخرية فى ذلك الموضوع. وقد تعمد ذات مرة هجاء خليفة قرطبة الأموى فى رسالة مهينة، لكنه إستلم منه رداً ساحقاً يقول ( إنك تسخر منا لإنك سمعت عنا، وإذا كنا قد سمعنا عنك لكان وجب علينا الرد)، ومع ذلك فقد كان العزيز أحكم وأكرم خلفاء مصر الفاطميين، ويعتبر الهدوء المتواصل الذى تمتعت به البلاد فى عهده خير شاهد على ذلك، ورغم أن بلاد المغرب كانت قد بدأت تفقد إرتباطها بمصر، كما حُفظت سوريا بمجرد قوة السلاح، فقد كان إسم العزيز يُتلى فى المساجد من المحيط الأطلنطى إلى البحر الأحمر، وفى اليمن وفى مكة، وحتى ذات مرة على منبر الموصل سنة 992م. وقد أنهت مجموعة من الإضطرابات الصحية المعقدة حياة ذلك الحاكم العظيم فى بلبيس فى أكتوبر 996م، بعد لقاء مؤثر مع إبنه الصغير، فى جهل سعيد، وبرغم وهمه التنبؤى، بالشر الذى سيفعله إبنه فى المملكة التى رعاها أباه بكل عناية.
كان الحاكم( 996-1021م) الإبن الوحيد لذلك الأب الحكيم وأمه المسيحية فى الحادية عشرة من عمره، عندما سقط العزيز ميتاً فى حمامه فى بلبيسٍ. أسرع الأمير برجوان بإحضار الحاكم الذى كان يلعب عند شجرة تين، وبسرعة وضع العمامة المرصعة بالجوهر على رأسه، وأخرجه أمام الناس الذين قبلوا الأرض أمام إمامهم الجديد، وفى اليوم التالى، وبرمح فى يده وسيف يتدلى من كتفه، تبع الصبى الصغير الجمل الذى حمل جثة أبيه عائداً بها إلى القاهرة . وفى اليوم التالى تم تتويجه على العرش ، بجلال ، فى القصر الكبير فى حضور كل أعضاء البلاط، مصطفين تبعا لمراتبهم. وللسنوات القليلة الأولى خضع كالعادة للوصاية. كان معلمه الذى عينه العزيز هو العبد الخصى( الأستاذ) برجوان، والذى مازال أحد شوارع القاهرة يحمل إسمه، كما مُنح المغربى إبن عمار قيادة الجيش مع لقب الوسيط وأمين الدولة، بينما إستمر المسيحى إبن نسطوريوس فى الإشراف على المالية حتى وقت إعدامه السريع. كان القائد المغربى( إبن عمار)هو الوصى عملياً، وقد إستخدم نفوذه لتقديم مصالح قبيلته، كتامة، ولإخضاع الحزب التركى الذى إستقدمه العزيز. ونتيجة لذلك إزداد البربر/المغاربة غطرسة وأهانوا المصريين، وأساؤا معاملتهم، وراحوا يقاتلون الجنود الأتراك فى الشوارع. وقد أصبح دلك كأنه صراع بين الشرق والغرب وقد كسب فيه الشرق، فقد هُزمت كتامة وأهينت وجُرد إبن عمار من منصبه ونهب الأتراك قصره ، وعندما جازف بالحضور إلى البلاط مزقوه إرباً وقدموا رأسه للخليفة الصغير المبتهج.
أصبح برجوان ، الدى عاش حتى ذلك الوقت فى القصرالملكى، هادئاً يحمى الخليفة القاصر، وصياً على العرش، أما وقد أسكرته السلطة والغنى المفاجئين، فقد إستسلم تماما لملذاته وأصبح يقضى وقته راضياً فى صحبة المغنيين، مستمعاً إلى الموسيقى التى يحبها فى قصر اللؤلؤة، الذى كان العزيز قد بناه بالقرب من بوابة الجسر، مطلاً على حدائق كافور الجميلة من ناحية، ومن الناحية الأخرى مشرفاً على مشهد ممتداً من القناة إلى النيل إلى الأهرام. وبسبب ذلك الإنغماس فى الملذات، فقد كل حسابات القوة.أما وقد تُرك الحاكم (الخليفة) بلا رقابة، فقد بدأ يؤكد نفسه، وبدأ يستخف بالوصى عليه. وسرعان مابدأ الصبى سيرته الدموية بالأمر بإغتيال برجوان نفسه. صُدم الناس بموت الرئيس الشهير، وإجتمعوا مهددين فى القصر، ولكن الخليفة إستطاع خداعهم بالأكاذيب، وتوسل إليهم أن يساعدونه على صغر سنه. تفرق العامة وإنتهت أزمة خطيرة. وقد كان ذلك درساً فى التصرف لم ينساه الحاكم.
وكلما إزداد ظهور الخليفة الصغير أمام الجمهور، بدأت غرابة شخصيته فى الوضوح. كان وجهه الغريب بعينيه الزرقاوين الرهيبة تجعل الناس تنقبض، ويجعلهم صوته الجهورى يرتعدون. كان معلمه قد أطلق عليه لقب( سحلية)، و كان لديه أسلوب مراوغ رهيب فى التعامل مع رعاياه يفسر ذلك اللقب. كان يحب الظلام، وكان يدعو مجلسه للقاء فى الليل، وكان يركب فى الشوارع على حماره الرمادى ليلة بعد ليلة يتجسس فى الطرق عن آراء الناس، بحجة فحص مقاييس وموازين الأسواق. وقد تحول الليل إلى نهار بناء على أوامره، حيث أمر بأن تبدأ كل الأعمال والتموينات بعد غروب الشمس. كان على الأسواق أن تُفتح وعلى المنازل أن تضئ إرضاءً لنزوته، وعندما بالغ الناس التعساء فى ذلك الأمر، وبدأوا يمرحون فى تلك الساعات الغير مألوفة، صدرت لهم أوامر قمعية، ومُنعت النساء من مغادرة منازلهن، بينما أُمر الرجال بالجلوس فى حوانيتهم، كما أُمر صناع الأحذية بعدم صنع أى أحذية خروج للنساء، بحيث لايمكنهم الخروج من المنازل، ولم تعد نساء القاهرة مجبرة فقط ، تحت أى ظروف ، على منع أنفسهن من الظهورعلى المشربيات، ولكن لم يعد مسموح لهن حتى بإستنشاق الهواء على أسطح منازلهن. وصدرت كذلك قوانين صارمة خاصة بالطعام والشراب. كان الحاكم شديد التقشف، كما يُفترض أن يكون كل المسلمين. وفى عهده مُنعت البيرة وصودرت الخمور، وقُطعت أشجار الكروم وحتى الزبيب الجاف قد حُرم، كما حُرم أكل الملوخية وصودر العسل وسُكب فى النيل. وكذلك فقد حُرمت الألعاب مثل الشطرنج المصرى وأحرقت لوحاته، وقد أمر بقتل الكلاب حيث وجدت فى الشوارع، ولكن الماشية الجيدة ماكان يُسمح بأن تُذبح إلا فى عيد الأضحى. أما هؤلاء الذين كانوا يخاطرون بعدم إطاعة هذه الأوامر، فقد كانوا يُجلدون وتُضرب أعناقهم أو يعدمون بإحدى وسائل التعذيب الجديدة، التى كان الخليفة يبتهج بإختراعها. لم يكن كثيراً من هده القوانين الجديدة ، بلاشك ، مستلهماً من روح إصلاحية حقيقية، ولكن من روح مصلح مجنون. كانت نساء القاهرة الحسناوات تحتاج دائماً إلى التضييق عليهن، ولكن من كان يتوقع أن يصل الأمر إلى السيطرة على النساء بمصادرة أحذيتهن؟. كان منع المشروبات المسكرة والقمار ووسائل التسلية العامة، تتمشى مع شخصية متزمت شديد وقاس، وكانت تهدف بلاشك إلى ترقية الأخلاق، بقدر ماكانت تهدف إلى مضايقة أرواح رعاياه، ولكن الجولات الليلية والتقييدات التى لاداع لها والقوانين المغيظة والتى تعتنى بتفاصيل غير هامة، كانت دلائل على عقل غير متوازن. وأثناء السنوات الأولى من حكمه تمتع المسيحيون واليهود بالحصانة، وربما حتى بالإمتيازات التى كانوا قد حصلوا عليها فى عهد العزيز المتسامح، ولكن وبمرور الوقت بدأوا يحصلون على نصيبهم من دلك الإضطهاد الغير منطقى أيضاً. وقد أكرهوا على إرتداء ثياب سوداء كزى مميز لهم فى الشارع، أما فى الحمامات، حيث يتشابه كل الرجال عندما يتجردون من ثيابهم، فقد أكره المسيحيون العرايا على تمييز أنفسهم بإرتداء صلبان ضخمة ثقيلة، بينما أكره اليهود على إرتداء أجراس، أو بأن يعرضوا فى الشوارع تمثال خشبى لعجل صغير، فى إشارة ضمنية إلى قصة مشينة فى تاريخهم المبكر. ثم صدر أمر عام بتدمير كل الكنائس المسيحية فى مصر ومصادرة أراضيها وممتلكاتها، وقد إستمر ذلك التدمير بالفعل لحوالى خمس سنوات (1002-1007م). وقد خُير المسيحيون بين إعتناق الإسلام أو مغادرة البلاد، أو إرتداء صليب ضخم كعلامة على مرتبتهم الدنيا. وقد قبل كثير من المسيحييين، خاصة من الفلاحين، العقيدة المحمدية هرباً من ألإضطهاد، حتى أن المكتب الذى كان يتلقى طلبات إشهار الإسلام لمدة يومين فى الأسبوع، أصبح محاصراً بتلك الطلبات، لدرجة أن بعض من هؤلاء المهتدين المتحمسين قد مات فى التدافع. أما الذين ظلوا مخلصين لعقيدتهم فقد خضعوا للإذلال، ومنعوا من ركوب الخيل والإحتفاظ بخدم من المسلمين، أو الركوب مع ملاحين مسلمين أو شراء العبيد. ومع ذلك فقد كانت العقوبات التى إبتلى بها المسيحيون جزءً من إحتقار عام للجنس البشرى، أكثر من كونها مجرد علامة على كراهية جزء منه. وبينما كانت هذه الأوامر تُصدر ظل المسيحيون يعينون فى الوظائف العليا وبلاشك بسبب، إمكانياتهم العالية فى الأمور الإقتصادية. كان إبن عبدون، الذى وقع قرار هدم كنيسة القيامة بأورشليم القدس، مسيحيا، وكان خليفته مسيحياً آخر، هو الموثوق به زرعة ، إبن الوزير العجوز السابق إبن نسطوريوس، والذى توفى سنة 1012م. لقد كان حقيقياً أن طريق المجد الذى يسلكونه لا يؤدى إلا إلى القبر. كان وزراء الحاكم، سواء مسلمون أو مسيحيون، يقتلون بعدم تحيز. ففى سنة 1003 تم التخلص من فهد، وهو وزير أول مسلم ، وبعد شهر من ذلك التاريخ أعدم خليفته، وقد قُتل إبن عبدون فى سنة 1010م، وفى نفس السنة قُتل القائد العام الحسين بن جوهر(الصقلى)، بعد أن حُط من رتبته وأجبر على الفرار، ثم وبعد أن أعيد إلى منصبه وحظوته لدى الخليفة، قُتل بدناءة فى القصر بتدبير من سيده المخادع بعد كل تطمينات الأمان. كان المسئولون يُعذبون ويُقتلون مثل الذباب ، كانت الأذرع تُبتر والألسن تُقطع وكل صنوف البربرية تقع. وقد أسس ديوان خاص فى الحكومة هو ديوان المفرد، لإدارة الأملاك المصادرة للمسئولين القتلى الموصمين بالعار.
شُعر بوطأة نزوات الخليفة القاتلة فى القاهرة بشكل أكبر، ومع ذلك فإن أوامره الغريبة قد إمتدت إلى سائر نواحى مملكته وعانت منها مصر كلها. وقد زادت ثلاث سنوات من إنخفاض النيل من معاناة الناس، وقد فُسرت على أنها حكم إلهى على شر ذلك الزمن. ولم يكن غريباً أن يستطيع أحد المغامرين أن يُثير البلاد ويتحدى الجيوش الفاطمية لمدة سنتين. فقد أقام أحد أعضاء البيت ألأموى الملكى، الهاربين من الأندلس، نفسه خليفة، وبعد أن حصل على ولاء بنى قرة العرب، وبربر كتامة الذين لم ينسوا أبداً إذلالهم على أيدى الأتراك فى القاهرة ، إستطاع السيطرة على برقة، وهزيمة القوات الفاطمية التى أرسلت ضده وإجتياح مصر. تغلب أبو رقوة، نسبة إلى قربة الماء التى كان يحملها على عادة الدراويش، على جيوش الخليفة مرة أخرى عند الجيزة، وعسكر بجوار الأهرام تاركاً القاهرة فى حالة شديدة من الهلع. ومع ذلك فقد هُزم فى نهاية الأمر فى معركة دموية فى النوبة وأسر هناك، وأرسلت رأسه مع ثلاثين ألف جمجمة لأتباعه، لتعرض فى مواكب خلال المدن السورية على ظهور مائة جمل، ولتلقى فى نهر الفرات بعد ذلك. وجنى القائد فضل، الذى خلص الحاكم من منافسه، على جائزة رديئة عن خدماته. لقد كان من سوء حظ الفضل أن دخل إلى الحضرة الملكية، عندما كان الحاكم مشغولاً بتمزيق جسد طفل جميل كان قد قتله بسكينه لتوه. لم يستطع الفضل تمالك نفسه من الخوف، لكنه كان يعرف العواقب، فعاد إلى منزله مباشرة وكتب وصيته، وسلم نفسه لجلاد الخليفة بعد ساعة أخرى فقد كان قد رأى الكثير.
وبرغم كل وحشيته المجنونة، فقد كان لدى الحاكم بعض ومضات من الذكاء والتقوى، ولم يكن حكمه كله خالياً تماماً من الأعمال الدينية والعامة. إن اشهر آثاره هو المسجد الذى مازال يحمل إسمه، بالقرب من البوابة الشمالية التى كانت تُعرف بباب النصر. وقد بدأ العمل فى ذلك المسجد فى عهد والده سنة 991م، وأكمل فى سنة 1003م، وذلك بإستثناء رفع منارته. وقد بنى أيضاً مسجد الرشيدة والذى كان، غالبا، يصلى فيه أيام الجمع، وكذلك فقد أسس فى المقس مسجداً ليدفن فيه، ومقصورة تابعة له بالقرب من ضفة النيل، ومع ذلك فإن دار العلوم أو دار الحكمة، كانت هى أهم مؤسساته، وقد بنيت فى سنة 1005م ، من أجل الدعوة للفكر الشيعى، وكل نوع من الهرطقة، وأيضاً من أجل ترقية التعليم بشكل عام، كعلم الفلك وعلوم اللغة والنحو والشعر والنقد والقانون والطب. لقد أسست تلك المدرسة بشكل فاخر، وزودت بمكتبة فاخرة من مقتنيات القصر وبكل ضروريات الدراسة، وفُتحت لجميع الناس. وقد إعتاد كل مثقفى القاهرة وكثير من الزوار القادمين من بعيد أن يلتقوا هناك، وذات مرة دُعى بعضهم، بشكل جماعى، إلى القصر ولدهشتهم فقد عادوا بخلع التكريم بدلاً من فقدان رؤوسهم.
وحتى فى مبانيه، مع ذلك، فقد كان هناك شئ خيالى ومريب، فعندما أقام إسطبل ضخم فوق هضبة المقطم وملأه بالحطب، أصبح الناس مقتنعين أنه كان يفكر فى إبادة عامة فى محرقة ضخمة، و بصعوبة طمئنهم إعلان رسمى بنفى ذلك. كانت المنحدرات الصحراوية لهضبة المقطم هى مأواه المفضل. فهناك كان لديه مرصد، وكان هناك مرصد آخر فى القرافة، لكنه لم يكتمل أبداً، ومن خلال ذلك المرصد كان يتابع الحسابات الفلكية، والتى كان يحجبها عن رعاياه بشكل صارم. وإلى هناك إعتاد أن يركب على حماره الرمادى قبل طلوع الفجر، مرتدياً أبسط الملابس، والتى إستبدلها بفخامة ملابس أجداده، فكان يتشح بثوب بسيط من لون واحد بدون حتى جوهرة واحدة على عمامته، يصاحبه ركابى أو إثنين أحياناً وغالباً وحده. وهنا يجب الإعتراف بأنه كان لديه شجاعة. وعندما أثار كراهية الجميع وقتل عائلات كثيرة لمجرد الإشتباه، وأثار كل مشاعر الإنتقام، فقد ظل يركب وحيداً فى الصحارى، أو فى الشوارع المزدحمة نهاراً وليلاً منهمكاً فى خيالات جديدة، أومتطفلاً على أحوال رعاياه بتبعات دموية فى الغالب. فقط كانت وحشيته المميته وإحساس من الرعب الغامض هى التى أنقذته من مخاطر الإغتيال المستمرة، فلم يتعرض لمحاولة إغتيال واحدة على مدى ربع قرن، ومن المؤكد أنه كان لديه نظام بوليس سرى ضخم يشمل جواسيس من النساء، قمن بخدمته بشكل جيد بين الحريم.
وبتقدم الخليفة فى العمر إزدادت الأمور سوءً، وتواترت الإعدامات والمصادرات الجائرة، ووهبت أراضى الناس عشوائياً على جنود وبحارة عاديين، وعلى أى أناس آخرين. وبدأ الناس فى الهرب من البلاد، وأغلقت أسواق الفسطاط وأصاب الركود كل الأعمال. وعلى مدى سبع سنوات لم تُرى إمرأة فى الشوارع. وأصبح الجو مشحوناً بالثورة. إستقلت الإسكندرية تحت حكم بنى قرة العرب، وفى القاهرة أقيم شخص أنثى فى الشارع يحمل قصاصة هجاء فى يده، أخذها الخليفة عندما كان ماراً، وفى ثورة غضبه أمسك بالمرأة المفترضة فوجدها من الورق. وبناء على ذلك وفى إحدى نوبات الغضب الجامح أرسل الحاكم قواته السوداء لتحرق القاهرة. ولجأ السكان إلى السلاح، وكان هناك ثلاثة أيام من القتال فى الشوارع، وإمتلإ المسجد بالمتضرعين الصارخين وأحرق ونُهب نصف المدينة، وإسترق كثيراً من نسائها. ومع ذلك فقد إستمر إحتمال الناس. وهنا إستولت نوبة جنون أخرى على الخليفة المرتبك، فقد تصور نفسه تجسيداً للإلوهية، وأجبر كل الرجال على عبادة إسمه. كان ذلك هو النتيجة المنطقية لباطنية الشيعة المتطرفة والتى وجدت من يؤيدها. كان هناك رجل إشتهر بإسم الحسن الأخرم، وقد أتى من بلاد فرغانة البعيدة وبشر بإلوهية الحاكم، قام رجل من الناس العاديين بقتله وأعدم لذلك، فقام السنة بتعظيم قبره. ثم قدم حمزة من سوسان من فارس لينشر العقيدة الجديدة، وكسب كثيراً من الأتباع، الذين زينوا أنفسهم بألقاب غريبة، وركب بعض من هؤلاء المتعصبين إلى مسجد عمر العتيق فى الفسطاط ، وأخذوا فى الوعظ بينما راح أتباعهم يهللون ويصفقون بأيديهم كالرعد، وتدفق الناس لرؤية ذلك المشهد ،ولكن عندما قام أحد الواعظين بتوجيه خطابه إلى القاضى بإسم الحاكم( الرؤوف الرحيم)، كان ذلك أكثر مما يحتمل، وإشتعلت فتنة وقتل الناس هؤلاء المجدفين، وسحبوا أجسادهم فى الشوارع وقاموا بحرقها.
لم يكن الحاكم قريباً من ثورة كما كان آنذاك، كان قصره محاطاً بالقوات التركية بحثاً عن الدرازى، أحد قادة الطائفة الجديدة، والذى كان قد لجأ إليه، ولكن الحاكم كان مخلصاً لشجاعته المتغطرسة، وأخبرهم من الشرفة أن الرجل لم يكن هناك. ثم أخبرهم بعد ذلك أنه قد مات وقد كذب لكنه لم يسلم الرجل، وهرب الدرازى ليؤسس العقيدة الدرزية فى لبنان. ومؤقتا إستطاع الحاكم إخفاء غضبه لكنه وفى عزلة قصره كان يدبر خطط الإنتقام، وبعد حوالى شهر من ضبط النفس المنذر بالخطر أُرسلت القوات الزنجية إلى الفسطاط مرة أخرى، حيث كانت الثورة قد بدأت. فذهبوا بهدوء ، فى جماعات منفصلة ، ولكن بمجرد أن وصلوا إلى هناك، شرعوا فى نهب وتدمير المدينة وإندفعوا إلى داخل المنازل،وحتى إلى داخل الحمامات، قابضين على الفتيات الصغيرات ومرتكبين كل فظاعة يمكن تصورها. وقدم الخليفة راكبا على حماره ، كالعادة ، وإليه إجتمع الحشد اليائس مستطعفاً النجاة من الجنود المتوحشين، لكنه لم يجب بكلمة.
كان أحد نتائج إستئنافه لإلوهيته هو ضعف كثير من القواعد الثابتة فى الإسلام، وبصفته الجديدة، قام الحاكم بإلغاء كثيراً من قوانين الصوم والحج، وحيث أن أوامر القرآن كان يمكن تفسيرها مجازاً، فقد ترك شخصياً عادات الصلاة والصوم، التى أصبحت غير ضرورية آنذاك. وربما كان فى نفس روح الإنعتاق الدينى، وبقدر مايمكن أن يضيف ذلك إلى سخط رعاياه المسلمين المبتلين ، فقد ألغى عقوباته ضد المسيحين، وسمح لهم بإستئناف ممارسة عقيدتهم وإعادة بناء الكنائس، وبالتالى فقد قام كثير من المسلمين إسماً بالعودة صراحة إلى عقيدتهم الحقيقية، كما أستردت الكنائس إلى أفضل من حالتها السابقة. وعلى الجانب الآخر فقد عومل المسلمون ببربرية متزايدة، ولم يعد هناك شيئاً آمناً من القوات السودانية ، ودعى الناس فى المساجد وصاحواً عبثاً، فلم يكن هناك أحد يمكن أن يساعدهم. ولكن وفى النهاية توقف كل ذلك، فعندما وجد الجنود الترك وبربر كتامة أنهم قد أهملوا، فقد تبنوا موقفاً مشتركاً ضد الجنود السودان، وفى سلسلة من معارك الشوارع حطموا قوتهم وإستردوا قدراً من النظام فى المدينة الذاهلة، وهنا لم يستطع الحاكم أن يفعل شيئاً إزاء مقاومة الجنود الغاضبين. وبالإضافة إلى ذلك فقد كان قد ربى، وداخل عائلته نفسها، عدواً أكثر قوة، حيث لم تنجو أخته الوحيدة ، الأميرة الملكية ذات الشخصية والذكاء الكبير، من حقد الرجل المجنون. كانت قد وبخته بشجاعة على الرعب الذى اثاره حكمه، فرد بتشهير عنيف فى طهارتها. ولكى تحفظ مملكة أبيها لحفيده ، فلم يكن هناك أقل من أن تحتفظ ببرائتها من تلك المحنة الرهيبة، فتجنبت أخيها التعس وإنضمت إلى المؤامرة القائمة، ودخلت فى مفاوضات مع زعماء البربر وسرعان ماوضحت النتيجة.
ففى الثالث عشر من فبراير سنة 1021م، أخذ الحاكم ركوبته المعتادة إلى هضاب المقطم ،وراح يتجول هناك طوال الليل، وفى الصباح صرف السائسين ودخل بمفرده إلى الصحراء، كما إعتاد ان يفعل سابقاً. وبعد عدة أيام وُجد حماره ممزقاً على الهضبة، ثم وُجد معطفه ذو الألوان السبعة وعليه علامات خنجر، لكن جسده لم يعثر عليه أبداً. وبعد أربعة سنوات إعترف رجل بقتله بدافع الغيرة على الله والإسلام، ولكن الغموض ظل محيطاً بنهاية الخليفة المجنون. وقد رفض الناس القبول بموت الحاكم وظلوا يترقبون عودته بقلق، وظهر مدعون وقالوا بأنهم الحاكم المفقود وحتى اليوم مازال دروز لبنان يعبدون السر الإلهى الذى تجسد فى شخصه الإستثنانى التافه، ويعتقدون أنه سوف يعود مرة أخرى يوم ما فى جلال ليظهر الحقيقة والعدل.
إن تأثيرات ذلك الربع قرن الفظيع لم يكن من الممكن تجاوزها بسرعة، كما لم يكن الإبن الوحيد للحاكم، وكان فتى فى السادسة عشرة من عمره، والذى أتم إعلانه خليفة بلقب الظاهر(1021-1036م)، هو الرجل المناسب لتلك الأزمة، فقامت عمته ، الأميرة الملكية ست الملك ، بإدارة شئون الدولة لأربعة سنوات، ولكن كان عليها أن تتعامل مع أقلية عسكرية وأن تقاومهم بأسلحتهم البشعة، وبناء على أوامرها أغتيل زعيم البربر الذى ثار ضد الحاكم فى القصر، وأعقب ذلك إعدام إثنين من الوزراء. وبعد وفاتها آلت الحكومة إلى أيدى جماعة من رجال القصر والذين ، ومن أجل الحفاظ على مصالحهم ، قاموا بإقصاء المستشارين الأكثر حكمة من جانب الخليفة الشاب، وشجعوه على الإنغماس فى عبثه وحبه الطبيعى للملذات. كان الشيوخ الثلاثة الذين شكلوا هذه الجماعة يزورون الشاب الملكى مرة كل يوم بالشكل المناسب، ولكن كل شئون الحكومة الهامة كانت تُدبر بغير لقائه. وبرغم الإرتياح الذى سببه إلغاء قوانين الحاكم البغيضة، فقد إزدادت أحوال الناس سوءً بسبب إنخفاض الفيضان، الذى تسبب فى ندرة شديدة وإرتفاع فى الأسعار. وقد إرتفعت أسعار الثيران إلى خمسين دينار للرأس، وكان من الضرورى منع ذبحها لمنع إنقراضها التام، وندر وجود جمال الأحمال أما الطيور، اللحوم الطبيعية للمصريين ، فقد عز وجودها أيضاً. وحاول الناس بيع أثاث منازلهم لكنهم لم يجدوا المشترى، ومرض الناس وماتوا لنقص الغذاء ، وتحول الأقوياء منهم إلى قطاع طرق ونهبوا القوافل ، وحتى قوافل الحج. وإمتلأت الطرقات باللصوص وغزا المتمردون السوريون المدن الحدودية، وإحتشد الناس أمام القصر يصيحون( الجوع الجوع) ياأمير المؤمنين لم يكن الحال كذلك تحت حكم أبيك ولا جدك. كان القصر نفسه يعانى من قلة الطعام، حتى أنه عندما مدت مأدبة عيد الأضحى، إكتسح العبيد الجائعون السماط. كانت الخزانة فارغة والضرائب متأخرة. وإنفجر العبيد فى ثورة فشكل المواطنون لجان للأمن وصُرح لهم بقتل العبيد دفاعا عن النفس، كما أقيمت الحواجز لمنعهم . كان الوزير الجرجارائى سجيناً فى منزله، وكان الموقف خطيراً. ولكن فيضان غزير فى سنة 1027م إسترد الوفرة، ومع النجاة من المجاعة هدأت الإضطرابات.
وبالإضافة إلى الحرب السورية ( أنظر الفصل السادس)، فإن أهم حدث من الخمسة عشر عاماً من عهد الظاهر كان إضطهادا دينياً وحيداً فى سنة 1205م ،عندما نُفى كل مشايخ المالكية من مصر. وككقاعدة، فقد كان هناك تسامح رائع لكل المذاهب المحمدية، ولم يكن هناك أى إزعاج للسنة فى ممارسة شعائرهم الدينية بحرية، وكذلك فقد كان هناك معاهدة مع الإمبراطورالرومانى قسطنطين الثامن، سمح بمقتضاها بالدعاء للظاهر فى المساجد الواقعة فى الأراضى الرومانية، وبإسترجاع مسجد القسطنطينية، وذلك مقابل سماح الخليفة بإعادة بناء كنيسة القيامة فى أورشليم. كان الظاهر نفسه منغمساً تماماً فى ملذاته، وفى تدريب حرسه المملوكى، ولكن حبه للموسيقى والراقصات كان ممتزجاً بوحشية قاسية أثبتت أنه كان إبن أبيه حقاً. فقد دعى مرة كل نساء القصر الشابات لحفلة عربدة، فحضرن فى أزهى ثياب حيث تم إقتيادهن إلى المسجد لإنتظار الإحتفالات، وعندئذ أغلقت الأبواب وبنى عليها حائط فماتت 2660 فتاة جوعاً. وقد أضاف التاريخ أنه ولمدة ستة أشهر، فقد بقيت أجسادهن ملقاة هناك بدون دفن، ومن المريح أن نعلم أن التعس الذى دبر ذلك العبث البربرى( الظاهر) قد مات هو نفسه فى طاعون يونيو سنة1036م.
خلف الظاهر ولده معد البالغ من العمر سبع سنوات (1036-1094م)، والذى كان قد أعلن وريثاً عندما كان عمره ثمانية أشهر فقط، وقد تولى الخلافة الآن بلقب المستنصر. وربما يعتبر حكمه البالغ ستين سنة قمرية وأربعة اشهر هو أطول حكم مسجل لأى حاكم محمدى، وللمرة الثالثة فى تاريخ الفاطميين نجد تأثيراً طاغياً لإمرأة، فقد تبعت أم معد السودانية ، زوجة العزيز المسيحية، وأخت الحاكم السياسية. كانت أم الخليفة معد جارية سودانية إشتريت من أحد يهود توستار، وقد تمتعت هى وبائعها اليهودى، أبو سعيد، بمعظم السلطة خلال طفولة الخليفة. وبضغطهما عُزل الوزير الجديد الذى خلف الجرجارائى سنة 1044م، وأعدم وعُين بدلاً منه اليهودى المرتد صدقة. ومع ذلك فعندما وجد صدقة تدخلات أبى سعيد لاتحتمل، فقد تخلص من سيده وأمر الحرس التركى بقتله. وفى إنتقامها لمقتل أبى سعيد قامت الوالدة أم الخليفة بتدبير إغتيال الوزير صدقة. حاول الوزير التالى موازنة القوة الطاغية للأتراك بإستيراد قوات زنجية، ولكنه سرعان ماعُزل أيضاً وإستمر خلفه فى منصبه ثلاثة اشهر فقط. ثم وفى سنة 1050م تولى اليازورى وزارته التى دامت ثماني سنوات.
على المستوى الإقليمى كانت ممتلكات الفاطميين آنذاك قد أُختصرت إلى أكثر قليلاً من حدود مصر نفسها. كانت سوريا قد قاومت سلطتهم منذ فترة طويلة( أنظرالفصل السادس)، وقد إعترف شمال إفريقيا، وتحت الحكم المتوالى لأربعة من رؤساء قبيلة كتامة البربرية ومن عاصمتهم المهدية، بسلطانهم من خلال الدعاء للخليفة فى الصلوات، ورسم صورته على العملة ودفع جزية سنوية له، وإستقبال كسوة رسمية مع كل ولاية،مع وثيقة تقليد من الخليفة، ولكن حوالى سنة 1044م قام المعز ، الحاكم البربرى( المعز بن باديس) بالإنضمام إلى الطائفة السنية، وخلع طاعة الفاطمين، وقبل تقليد جديد من الخليفة العباسى سنة 1046م. وهنا ثار شيعة الغرب ضد المعز، وفى نفس الوقت فى الشرق، أرسلت الحكومة المصرية قبيلة بنى هلال العربية الضخمة لإخضاعه. إحتل بنى هلال برقة وطرابلس وإستقروا هناك، ولكن ورغم هزيمة المعز فقد إستطاع الحفاظ على إستقلاله فى المهدية، تاركاً دويلات أخرى أصغر تنتشر فى الغرب. أما صقلية حيث كان الأمراء الكلبيون يعترفون بسيادة الفاطميين، فقد سقطت فى يد النورمان سنة 1071م. ومن ثم فسوى سلطة متقطعة فى برقة، فلم يعد لدى حكام مصر أى رعايا بإتجاه الغرب.
وفى الجزيرة العربية ، من جهة أخرى ، حصلوا على مجد غير متوقع بالمبايعة التطوعية للمهتدى الشيعى على الصليحى، الذى أخضع اليمن والحجاز من حضرموت إلى مكة بحدود سنة 1063م، وأعلن الحق الإلهى للخلافة الفاطمية على كل منبر. كان مازال هناك تطور أكثر دهشة ليقع ليس فقط فى المدن المقدسة التى شهدت مولد الإسلام، ولكن أيضاً فى بغداد نفسها عاصمة الخلافة السنية، حيث دُعى لإسم المستنصر فى المساجد. كان النجاح المؤقت للقائد التركى البساسيرى هو الذى جلب ذلك المجد الذى لانظير له، ولكن عندما إكتشف ذلك المغامر أن السياسة المثلى كانت هى الخضوع للقوة السلجوقية الصاعدة، بدلاً من بناء الآمال على الدعم التى كانت الحكومة الفاطمية تقدمه بسخاء، فقد إستأنفت بغداد ولائها القديم للعباسيين.
ومع ذلك فإن حقيقة أنه على مدى أربعين جمعة كانت مساجد مدينة السلام تدوى بإسم ونمط الخليفة المصرى، وأن العباءة والعمامة والعرش المزركش للخليفة المنافس قد نُقلت بالفعل وأودعت فى القصر فى القاهرة، قد سببت حماساً كبيراً وجعلت المدينة فى حالة إحتفال، حيث أنفق المستنصر مليونى دينار فى تجديد القصر الغربى الصغير، والذى كان العزيز قد بناه للأميرة الملكية ، وذلك كسجن ذهبى للخليفة العباسى والذى توقع واثقاً بأن يحتفظ به أسيراً. ولمدة طويلة بعد ذلك عُرفت الأرض المجاورة للنيل بالقرب من البوابة الحديدية بإسم أرض الطبالة، وذلك بعد أن وهبها المستنصر لمغنية إرتجلت بعض أبيات شعرية فى ذلك النصر المذهل للفاطميين وغنتها على دقات طبلتها.
( غنت نسب الطبالة ، يابنى العباس ردوا ، ملك الأمر معد ، ملككم ملك معار ، والعوارى تسترد ، فوهبها المستنصر تلك الأراضى التى ظلت تًعرف بإسمها لزمن طويل)
ومن حسن الحظ أن الرحالة ناصر خسرو قد حفظ لنا وصفاً شيقاً للقاهرة وأماكن أخرى فى مصر. كانت المدينة الملكية ، القاهرة نفسها ، والتى كانت قد أصبحت تدعى آنذاك بقاهرة المعز، مدينة كبيرة للغاية عندما رآها ناصر خسرو خلال السنوات 1046-1049م . كانت المنازل ، والتى قُدرت بنحو عشرين ألف منزل تقريباً ، مبنية أساساً من القرميد، وقد إلتصقت بعضها ببعض بدقة، بحيث بدت كحجر مربع وإرتفعت إلى خمس أو ستة طوابق، وإنفصلت عن المنازل الأخرى، بحدائق وبساتين غناء ترويها الينابيع والسواقى. كان إيجار منزل متوسط من أربعة طوابق يبلغ إحدى عشر دينارا فى الشهر( حوالى سبعين جنية إسترلينى فى السنة)، وقد رفض مالك المنزل الذى كان يقيم فيه الرحالة خمسة دنانير فى الشهر للدور العلوى. كانت كل المنازل فى القاهرة ملكاً للخليفة، وكانت الإيجارات تحصل شهرياً. أما المنازل والتى قُدرت بنحو عشرين ألفاً، فكانت ضمن أملاكه أيضاً ، وكانت تُؤجر بحدود دينارين إلى عشرة دنانير فى الشهر، وهو مبلغ حتى وإن قدرنا أقل متوسط له بحدود خمسة دينارين، فإنه كان يمثل دخلاً يقدر بحوالى 650000 جنيه إسترلينى سنوياً. لم يعد السور القديم للمدينة قائماً سنة 1046م، ولم يكن السور الثانى قد بدأ تشييده بعد، لكن الرحالة الفارسى قد ذُهل من الجدران المرتفعة الخاوية للمنازل، و بشكل أكبر للقصور، والتى كانت أحجارها ملتصقة لدرجة أنها بدت كحجر صلب. كانت روايته عن الداخل مختصرة ، مخيبة للآمال ، لكنه ذكر غرفة العرش المجيدة، بعرشها المصنوع من الذهب المنقوش بمناظر صيد، والمحاط بستارة مزخرفة بالذهب ،ويُصعد إليه بسلالم من الفضة. وقد أُخبر الرحالة أن القصر كان يحتوى على ثلاثين ألف إنسان منهم إثنى عشر ألف خادم، وأن الحرس الراكب كل ليلة كان يتكون من ألف فارس. كانت مدينة مصر( الفسطاط) تنفصل عن القاهرة بمسافة حوالى ميل تقريبا ، وكانت تلك المسافة مغطاة بالحدائق ، تغمرها مياه النيل أثناء الفيضان ، بحيث كانت تبدو فى فصل الصيف كأنها بحر. كانت تلك هى المنطقة المعروفة والمحبوبة التى تسمى ببركة الحبش، والتى كانت بحدائقها المحيطة منتجعاً مفضلا للقاهريين، والذى غنى له إبن سعيد( آه يابركة الحبش حيث كان يومى فترة طويلة من السلام السعيد، حيث بدت السماء على صدرك وكل وقتى عيد سعيد، كيف كم كانت جميلة خيوط الكتان وهى ترتفع عليك بأزهارها وبراعمها وأوراقها مستلة منك كالسيف).
وبجانب بركة الحبش كان دير القديس جون بحدائقه الجميلة التى خططها تميم ، إبن الخليفة المعز، والتى أصبحت بعد ذلك بقعة مفضلة للخليفة الحافظ ، ونبع الخطوات التى تظلله شجرة جميز عملاقة. كانت مدينة مصر قد بُنيت على تل مرتفع كى تهرب من المياه( مياه النيل)، وقد بدت للرحالة الفارسى عن بعد ، كجبل ، بمنازلها التى ترتفع من سبع إلى أربعة عشر طابقاً، والتى يقف كل منها على مساحة ثلاثين ذراعاً مربعاً والقادرة على إحتواء 350 إنساناً. كانت بعض الشوارع مرصوفة ومضاءة بالمصابيح. كان هناك سبعة مساجد فى مصر وثمانية فى القاهرة، أما عدد الخانات(الوكالات)، فكانت تُقدر بحوالى مائتين. كان هناك جسر يتكون من ستة وثلاثين قارباً يربط مصر بجزيرة الروضة، ولكن لم يكن هناك جسر من الجزيرة إلى الجيزة ولكن فقط معدية.
كان الرحالة الفارسى مأخوذاً بصفة خاصة من سوق المصابيح بمصر، حيث شاهد نوادر من الأعمال الفنية، التى لم يشاهد مثلها فى مدينة أخرى، وكان مندهشاً من وفرة الفواكه والخضروات فى الأسواق. وقد وصف الفخار المصنوع فى الفسطاط بالرقة المتناهية، لدرجة أنه كان يمكن رؤية يدك من خلاله، ولاحظ الصقل المعدنى الذى كان مازال يُرى فى الشظايا الموجودة فى التلال، التى كانت تشغل موقع المدينة. وقد رأى ايضاً بعض الزجاج الأخضر الرائع الشفاف، الذى كان يُصنع هناك. كان البائعون يبيعون بأسعارمحددة، وإذا ماغشوا فقد كانوا يوضعون على جمل، ويشهرون فى الشوارع يقرعون جرساً معترفين بخطأهم. كان كل التجار يمتطون الحمير، والتى كانت تؤجر فى كل شارع ويبلغ عددها حوالى خمسين ألفاً، وفقط كان الجنود يمتطون الجياد. وجد ناصر خسرو مصر فى أحسن حالة من السلام والرخاء، وقد ذكر أن محلات الجواهرجية والصرافين كانت تتُرك غير مغلقة بإستثناء حبل ممتد إلى الأمام ،أو ربما شبكة كماهو الحال فى الوقت الراهن، وكان لدى الناس ثقة كاملة فى الحكومة وفى الخليفة اللطيف. وقد رأى المستنصر( الخليفة) يركب بغلته فى العيد الكبير لفتح الخليج. كان شاب بديع المنظر بوجه حليق يرتدى، ببساطة، قفطان أبيض وعمامة وعلى رأسه مظلة مطعمة بالأحجارالكريمة واللؤلؤ، يحملها ضابط كيبر. كان يتبعه ثلاثمائة فارس من قبيلة الديلم على الأقدام مسلحين بالفؤوس والرماح. وكان الخصيان يحرقون بخور العنبر والصبر على كلا الجانبين، والناس تسجد على وجوهها داعية إلى الله أن يبارك الخليفة. كان القاضى الكبير وحشد من الأطباء والمسئولين يتبع الخليفة، وكان الحرس يتكون من عشرين ألف فارس كتامى بربرى، وعشرة آلاف باتيلى، وعشرين ألف زنجى، وعشرة آلاف من المشرقيين( أتراك وفرس)، وثلاثين ألف عبد مشترى، وألف وخمسمائة بدوى من الحجاز، وثلاثين ألف من العبيد السود والبيض المرافقين والحجاب، وعشرة آلاف من خدام القصر، وثلاثين ألف حامل سيف زنجى. وبجانب هؤلاء ، الذين كانوا يشكلون كل الجيش، أو فرقا مختارة منه، فإن حاشية الخليفة كانت تشمل أيضاً العديد من الأمراء الذين يزورون البلاط ، من المغرب ، اليمن ، بلاد الروم ، سلافونيا ، جورجيا ، النوبة ، الحبشة، وحتى تتار من تركستان، وأبناء ملك دلهى. كان شعراء وكتاب الخليفة، وكل مسيحى القاهرة ومصر، يحضرون مناسبة كسر الخليفة للسد الواقع بجانب قصر السكرة، الذى بناه جده العزيز بجوار فم النهر، وبعد ذلك كان الخليفة يبحر فى النيل. كانت أولى حمولة القارب تتكون من أناس عميان وطرشان، والذى كان حضورهم يعطى إنطباع بالبهجة لإحتفالات الإفتتاح ، ورغم أن وصفه كان يرتبط أساساً بالعاصمة القاهرة، فإن الرحالة الفارسى قد سجل أيضاً قدراً كبيراً عن الريف، من تنيس إلى أسوان ، مما يؤكد الإنطباع بأنه فى الزراعة وفى المظهر العام، فإن مصر آنذاك كانت تختلف قليلاً عن مصر اليوم.
تميزت إدارة اليازورى (1050-1058م) ، وهو رجل تعود أصوله إلى أسرة متواضعة، كانت تعمل بالبحر فى بلدة يازور بالقرب من يافا، وقد وصل إلى منصب قاضى مصر ثم إلى منصب الوزير، برغبة صادقة فى تحسين أحوال المزارعين، وفى نفس الوقت زيادة الدخل المتناقص. ويُظهر تقرير عام أُخذ فى وزارته، أن المداخيل والمصروفات العامة فى كل أقاليم المملكة، وكذلك الدخل من ضرائب الأرض، كانت حوالى مليون دينار لمصر، وكذلك الحال بالنسبة لسوريا- Makr.i,99-100 . حاول اليازورى القيام بإصلاحات إقتصادية ، الصائب منها والخطأ. كانت خطوته الأولى هى بيع إحتياطى الحكومة من الحبوب،( والذى كان يساوى حوالى مائة ألف دينار سنويا) باقل سعر ممكن آنذاك، بدلاً من إنتظار إرتفاع الأسعار، كما كان الحال سابقاً، ويبدو أنه كان يستنكر مضاربة الحكومة فى ضروريات الحياة. لم تكن النتيجة مجرد خسارة كبيرة فى خزانة الدولة، و لكن عندما نتجت مجاعة سريعاً بعد ذلك عن إنخفاض للنيل ، لم يكن هناك إحتياطى من الحبوب يستعان به. وكالعادة تبع الطاعون المجاعة ويقال أن آلاف من الناس كانوا يموتون يومياً. وفى هذه المحنة رتبت الحكومة مع إمبراطور القسطنطينية توفير عشرين ألف مكيال من الحبوب، ولكن وفاة قسطنطين مونوماكوس فى سنة 1055م، والشروط التى فرضتها ثيودورا، بما فى ذلك تحالف هجومى ودفاعى بين الإمبراطوريتين ، أدى إلى إيقاف الصفقة وإلى إشتعال الحرب فى شمال سوريا. إكتشف البيزنطيون، مثلهم مثل البساسيرى، أن السلاجقة كانوا يستحقون الإسترضاء أكثر من المصريين/الفاطميين، وأصبح إسم الخليفة العباسى، وبناء على طلب السلطان السلجوقى طغرل بك ، يُدعى له فى مسجد القسطنطينية. وكرد على ذلك وضع المستنصر يديه على الكنوز المتراكمة فى كنيسة القيامة المعاد إفتتاحها حديثاً فى أورشليم.
وبعد أن تعلم من الخطأ إنتهز اليازورى فرصة فيضان جيد للنيل، وأدخل نظاماً مختلفاً فيما يخص الفلاحين، إذ أوقف الممارسة السيئة بالسماح للتجاروالمرابين بشراء المحاصيل الموجودة بسعر منخفض، وكان إجراءً مدمراً للمزارعين، وكيوسف ثان أقام مخازن ضخمة للقمح فى الفسطاط كإحتياط ضد المجاعة. لم يكن اليازورى نفسه فوق الشبهات بالثراء الغير قانونى ، ولسوء الحظ، فقد كان إبتزازه للأقباط ،بشكل خاص، أمر غيرعادل. وقد ألقى البطريرك كيريستودولوس( كيرلس) فى السجن لمجرد شبهة غير حقيقية فى أنه قد أثر على ملك النوبة المسيحى ليمنع الجزية السنوية. وقد إنتزع كثيراً من الغرامات من الأقباط لأقل الحجج، وفى بلدة ديمروه تضاعفت هذه الإبتزازات بإغلاق عام للكنائس، والتى دُمر بعضها أيضاً. وقد مُحى نقش بإسم التثليث على باب البطريرك، فكان رد البطريرك أنكم لاتستطيعون إزالته من قلبى. وسريعاً بعد أن أُمر بإغلاق كل كنائس مصر قام بسجن البطريرك والأساقفة وطُلب منهم 70 ألف دينار غرامة. وفى سنة 1058م قُتل اليازورى بالسم بسبب الشك فى تعاونه مع بغداد. ولاشك أيضاً أن ثروته الضخمة قد قادت إلى سقوطه. كان اليازورى رجلاً ذا ذوق رفيع ، محباً كبيراً للصور وراعى كريم للمثقفين.
وبعد اليازورى جاء الوزراء وذهبوا مثلهم مثل وزراء الجمهوريات الحديثة. وقد كان هناك أربعين تغييراً وزارياً فى تسع سنوات، ولكن فى ذلك الوقت كان قد أكتشف أنه ليس من الضرورى تماماً قتل الوزير المعزول، وأصبح من المعتاد منحه منصباً أقل، والذى كان يمكن له أن يصعد منه إلى الوظيفة العليا مرة أخرى. فبعض من هؤلاء الوزراء قد تولى المنصب لحوالى ثلاث أو أربع مرات، ولم يكن تغيير الوزارة يتضمن بالضرورة مذبحة. كانت هذه التغييرات المستمرة تعود إلى عدم كفاءة الخليفة، وإلى التكوين الحزبى للبلاط والجيش. كان المستنصر واقعاً تحت تأثير جميع أنواع الرجال عديمى القيمة، والذين كانوا يسدون له النصائح المتضاربة، التى كانت تربك موظفيه الأكفاء، وتتركه أكثر إرتباكا مما كان. وقد شهدت ثمانمائة رسالة يومية على آلام رعاياه، وعلى التردد الشديد لحاكمهم المنفتح على كل تأثير وإنطباع، مهما كان رديئاً أو نابعاً من دوافع شخصية. وقد رويت قصة غريبة عن إنفعاليته، فقد كان ذات يوم يشرف على ضرب أحد الوزراء ضرباً قاتلاً عندما إعترضت أمه، وأخبرت إبنها أن قتل رجل ليس هو الوسيلة الأفضل لتجعله يسلم ثروته، ولكنه إذاماسلم الوزير إليها فإنها تعرف كيف تنتزع منه أمواله. وعندئذ وقف الخليفة فى غضب شديد وإتجه ناحية مسجد عمرو، وتبعه حجابه متعجبين ماذا كان يعنى ذلك الإجراء الجديد، حتى أخبرهم المستنصر بأنه طالما كان الجميع يعارضونه ويحاولون قيادته، فإنه قد صمم على التخلى عن الحكم ، وأن ينسحب إلى المسجد ويكرس الجزءالباقى من حياته للعقيدة. ومع ذلك فإن التفكير فى النهب، الذى قد يدمر قصره الجميل قد أعاده إلى رشده، ومكن حجابه من إقناعه بالعودة . لم تكن مشاعره الدينية راسخة، وذلك إذا ماصحت القصة بأنه قد بنى فى قصره بهليوبوليس بناء شبيه بالكعبة فى مكة، وأقام بركة مليئة بالخمر تمثل بئر زمزم المقدس، وجلس هناك يشرب على أنغام الموسيقى والغناء قائلاً( إن هذا أمتع من التحديق فى الحجر الأسود والإستماع إلى طنين الحجيج وشرب ماء فاسد). وبمثل هذه المتع كان يُعزى نفسه عن إفتقاد القوة والكرامة. ومع ذلك فإن عدم إفتقاده للمشاعر الطيبة يتضح فى القصة التالية. ففى كل سنة كانت لائحة أصحاب المعاشات العادية ، والتى كانت تقدر بما يتراوح بين 100-200 ألف دينار ، تقدم له ليراجعها، لكن لم يحدث أنه فى أى مناسبة قد شطب أى إسم من منها، بل كان يصادق عليها معلقاً( بأن الفقر حمية مريرة وأنه يحنى الأعناق ، وإن إهتمامنا برخاء المعوزين يتضح فى توزيعنا الكريم للمساعدة، فدعهم يحصلون على نصيبهم بحرية، فإن مانملكه سوف يُنفق ولكن مانعطيه لله سوف يبقى للأبد).
وفى تلك الأثناء كان التحاسد بين القوات التركية والقوات السودانية، التى كانت تحظى برعاية إبنة بلدها أم الخليفة، قد نمت إلى حدود منذرة بالخطر، وعندما أدى شجارإلى إشتباك عام، تمكن الأتراك بمساعدة بربر كتامة وغيرهم من إخراج السودان، الذى كان عددهم قد وصل إلى نحو خمسين ألف إلى خارج القاهرة حتى الصعيد، حيث أخذوامن هناك وعلى مدى عدة سنوات يتقدمون براً وبحراً لمهاجمة خصومهم. ومع ذلك فقد ظل للأتراك اليد العليا فى العاصمة وذلك رغم مؤامرات أم المستنصر، حيث إستخدموا قوتهم فى نهب القصر وإفراغ الخزانة وإرهاب الوزراء المتعاقبين ومعاملة الخليفة بإزدراء. وبدلاً من ثمانية وعشرين ألف دينار كرواتب وبدلات، أصبحوا يحصلون آنذاك على حوالى أربعين ألف دينار. وكان قائدهم نصير الدولة بن حمدان، القائد العام للجيش الفاطمى، يدير الأمور بمنتهى الإستبداد، لدرجة أنه فى نهاية الأمر قد أبعد زملائه وضباطه، حتى دفعهم لإغراء الخليفة العاجز بطرده من منصبه. لكن القائد المعزول قد جعلهم يدفعون ثمناً غالياً لتمردهم، ورغم أنه كان مضطراً للهرب من أعدائه فى القاهرة، فقد تمكن من الإستيلاء على الإسكندرية، وسرعان ماحصل على تأييد بعض القبائل العربية وبربر لواتة. وقد أظهر الخليفة بعض الشجاعة أثناء تلك الإضطرابات، حتى أنه ظهر، مرتدياً درعاً، على رأس تلك القوات التى ظلت على ولائها له، والتى تمكن بمساعدتها من هزيمة نصير الدولة ، لكن سلطته أصبحت آنذاك محددة بعاصمته فقط، فقد سيطرت الفرق السودانية على كل الصعيد، بينما إكتسح الدلتا حوالى أربعين ألف فارس من لواتة، وأهملوا السدود والقنوات حتى خُربت بهدف تجويع السكان. قُطعت الإمدادات عن القاهرة والفسطاط ، وتسببت مجاعة شديدة بدأت بنيل منخفض فى سنة 1065م، وإستمرت لسبعة سنوات متتالية (1066-1072م)، فى الوصول بالبلاد إلى قمة الشقاء. وفى خوفهم الشديد من العصابات المسلحة التى إجتاحت الدلتا، لم يجرؤ الفلاحون على القيام بأعمالهم المعتادة، وبذلك فقد إستمرت الآثار المعتادة للنيل المنخفض لسنوات متتابعة. وفى العاصمة وقد قُطعت عن باقى الأقاليم، فقد شُعر بوطأة المجاعة بشدة، وأصبح رغيف الخبز يُباع بخمسة عشر دينار، رغم أن سعر أردب الحبوب كان يمكن أن يُشترى بمائة دينار، وكان يمكن إستبدال منزل مقابل عشرين مكيال من الدقيق، ووصل سعر البيضة إلى دينار، وأكلت الجياد والحمير، ووصل سعر الكلب إلى خمسة دينار، والقطة إلى ثلاثة دنانير بحيث إختفت ، وبسرعة، جميع الحيوانات تقريباً. وحتى إسطبل الخليفة نفسه، والذى كان يحتوى يوماً على حوالى عشرة آلاف حصان وبغل، قد أصبح لايحتوى على أكثر من ثلاثة من الجياد، وعندما ركب يوماً إلى خارج القصر إنهار حرسه، الذين كانوا يسيرون على الأقدام، من الجوع. وفى النهاية بدأ الناس يأكلون بعضهم البعض، وأصبح المارة يعلقون من الشوارع بخطاطيف تُلقى من النوافذ، ويسحبون ويقتلون ويتم طهيهم وأكلهم، وأصبح اللحم البشرى يُباع علانية. وقد سُجلت قصص مروعة عن الأعمال الوحشية لذلك العهد من الرعب، ورغم أن بعض المجرمين قد عوقبوا بحيث يصبحون أمثلة لردع الناس، فإن الحكومة الضعيفة لم تستطع فعل شئ إزاء السكان الذين أصابهم الجنون. ثم أتى الطاعون لينهى مابدأته المجاعة، وفُرغت كل المنازل من كل روح حية فى أربع وعشرين ساعة. وقدعانى الأغنياء فى هذه المحنة تماماً كما عانى الفقراء. وقد عمل خصيان البلاط كسائسين للخيل وكناسين، وعندما ذهب أحد الرجال إلى الحمام سأله مدير الحمام ، إذا ماكان يحب أن يُخدم بواسطة عز الدولة أو فخر الدولة أو سعد الدولة، وكانوا ثلاثة من أكبر أمراء العصر، والذين اصبحوا آنذاك يقومون بغسل الشعروالتدليك. وقد حاولت سيدات الطبقة العليا، عبثا، بيع مجوهراتها من أجل الخبز، وألقين بلؤلؤهن وزمردهن ، الذى أصبح بلا قيمة ، فى الشوارع. وقد قامت إحدى السيدات، التى إستطاعت بصعوبة شديدة، الحصول على حفنة من الدقيق مقابل عقد يساوى ألف دينار، بعمل رغيف صغير ولوحت به أمام الجموع صائحة( ياأهل القاهرة إدعو لمولانا الخليفة، الذى جلب لنا حكمه هذه البركة والرخاء، وإشكروه فقد كلفنى ذلك الرغيف ألف دينار). وللحظة إستيقظ المستنصر من السبات الذى كان غارقاً، فيه وأجبر التجار الذين كانوا يحتكرون مخازن الغلال على إفراغها، وبيع الحبوب للناس بسعر معتدل، لكن ذلك لم يفيد كثيراً. كانت موارده الضخمة نفسها تتقلص، رغم أنه من بين كل الخلفاء لم يصل أحد إلى ثراء المستنصر، ففى سنة 1050م ماتت أميرتان من بنات جده المعز طال بهما العمر كثيراً، وتركتا له كنوزاً إشتاق إليها أربعة خلفاء قبله. وقد وصلت ثرواتهما إلى ملايين، ويبدو بيان مخزون كنوز المستنصر، الذى يسجله المقريزى كحكاية خرافية من حكايات ألف ليلة وليلة، ومع ذلك فإن هذه الأعمال الرائعة والثمينة من الفن، قد تبددت بين البرابرة الأتراك أثناء إستبداد نصير الدولة. وقد أجبروا الخليفة على بيع كل شئ، ثم إشتروا الكنوز بسعر مفروض سخيف. فبيعت مجوهرات تساوى ستمائة ألف دينار بعشرين ألف دينار فقط، وبيع زمرد يساوى ثلاثمائة ألف دينار لقائد تركى بخمسمائة دينار فقط، ولم يكن هناك حتى مظهر لأى بيع ولكن مجرد مشهد لنهب مكشوف. وذكر أحد المثمنيين، انه بأقل تقدير فإن الكنوز التى بيعت فى أسبوعين وحيدين من شهر ديسمبر سنة 1067م، كانت تساوى أكثر من ثلاثين مليون دينار. وحُطمت المجموعات الثمينة لخزانة البلاط بشعلة سقطت من أحد أتباع هؤلاء البرابرة الأتراك، وهى مجموعات كانت قد تكونت بتكلفة سبعين ألف أو ثمانين ألف دينار سنوياً منذ قرن من الزمان.
ولكن أكبر الخسائر التى لايمكن تعويضها لعصر اللصوصية ذاك، كانت تبديد مكتبة الخليفة، المحتواة على أكثر من مائة ألف كتاب، فى مختلف فروع المعرفة والأدب المعروفة للعرب. كانت الكتب مخزونة فى خزائن مغلقة حول الغرفة، عليها لافتات تشير إلى محتوى كل خزانة. ويبدو أن طاقم المكتبة كان يتكون فقط من أمين المكتبة وناسخين وخادمين. وبين المخطوطات كان هناك ألفين وأربعمائة نسخة مزخرفة من القرآن، وكتب بخط إبن مقلة وخطاطين مشاهير آخرين، وثلاثين نسخة من القاموس العربى الكبير( العين)، وعشرين نسخة من تاريخ الطبرى بما فيها مخطوطة المؤلف الأصلية، ومائة نسخة من جمهرة إبن دريدس، بالإضافة إلى عدد لامحدود من الأعمال التى لانظير لقيمتها. وقد بيع كل ذلك أونُقل بواسطة الأتراك بحجة متاًخرات الرواتب، ولم يُدخر سوى المكتبة الخاصة للحريم. وذهبت المخطوطات النادرة ، والتى يمكن للعلماء أن يدفعوا أى شئ ثمناً لها الآن، لإشعال النيران وإستخدمت أربطتها لإصلاح أحذية عبيد الضباط الأتراك، كما ألقى بكثير من المجلدات الممزقة جانباً وطمستهاالرمال، وظلت تلال الكتب معروفة لوقت طويل بالقرب من مدينة الأبيار. كان الأسعد حظاً منها هى تلك التى صُدرت إلى بلاد أخرى. وقد قيل الكثير عن حماس الفاطميين الأدبى، لدرجة أنه وبرغم ذلك الدمار المؤسف، فقد شرعوا فى جمع الكتب مرة أخرى بإجتهاد كبير حتى أن صلاح الدين، قد وجد مائة وعشرين ألف مجلد على الأقل فى مكتبتهم بعد قرن من ذلك التاريخ.
وقد هوى ذلك البيع الإجبارى والسرقة لتلك الكنوز بالخليفة المستنصر ،الغير سعيد، إلى أعماق الشقاء. وقد حاصر نصير الدولة الخليفة وباقى الحامية فى القاهرة والفسطاط، ووضعهم تحت ضغط المجاعة والخوف، لدرجة أن أصبح الجنود ينهبون المنازل وهرب الناس ليلاً ومات أفراد بيت الخليفة نفسه، أو أخذوا فى الهرب، وفى سنة 1070م لجأت بناته وأمهم حتى إلى بغداد للهرب من الجوع. ولم يكن هناك مخرج سوى الإتفاق مع المتمردين، ولكن حتى عندئذ فقد إختلف الأتراك فيما بينهم، وأحرق نصير الدولة ونهب جزءً من الفسطاط، وبعد هزيمته لجيش المستنصر الصغير، والذى قاتل بشجاعة ، دخل القاهرة. ووجد مبعوث المتمردين الخليفة فى قصره الخاوى جالساً على وسادة عادية مع ثلاثة من عبيده. كانت إبنة النحوى الشهير إبن بابشاد ترسل له ، على سبيل الصدقة، رغيفين يومياً. ولمثل هذه الحالة أوصلت المجاعة والنهابون الأتراك أمير المؤمنين.
وفى النهاية فإن الحالة عندما لايمكن ان تسؤ أكثر فإنها تبدأ فى التحسن. ووضع محصول وفير فى سنة 1073م نهاية للمجاعة، التى ضربت مصر لسبع سنوات. وفى نفس السنة أغتيل نصير الدولة بواسطة بعض المنافسين الحاسدين ومُزق جسده، وأرسلت قطعه إلى مختلف أنحاء الإمبراطورية. لم يحسن تغيير المسئولين من تركى إلى تركى آخر كثيراً من شئون حكومة البلاد، ولكن عندما أرسل الخليفة، بذكاء، إلى حاكم عكا ليحضر ويحكم، فإن الأمور تغيرت تغييراً شاملاً. كان بدر الجمالى، وهو عبد أرمنى للأمير جمال الدين بن عمار، قد إرتفع إلى مكان كبير فى الحروب السورية، وكان حاكماً لدمشق مرتين، وقد حارب الأتراك بنجاح حتى أصبح أقوى القادة فى سوريا. قبل بدر الجمالى طلب المستنصر فقط، بشرط السماح له بإحضار قواته السورية القوية معه، والتى كانت تدعى بالقوات المشرقية، تمييزاً لها عن الفرق التركية والبربرية والسودانية فى مصر. وبرغم مخاطر الرحلة البحرية فى الشتاء، حيث كان من النادر أن يجرؤ أحد على السفر بحراً فى ذلك الوقت، فقد أبحر من عكا فى ديسمبر 1073م، ووصل إلى تنيس مع رياح مواتية فى أربعة أيام، ورسى فى دمياط. وعند إقترابه إستجمع الخليفة شجاعته وقبض على القائد التركى الدكز، ثم دخل بدر القاهرة فى بداية فبراير. وإستقبله الأتراك بحفاوة دون أن يعرفوا أنه قد تم إستدعائه والإستنجاد به. جعل بدر الجمالى كل قائد تركى كضحية لضابط سورى، وفى صباح اليوم التالى ظهر هؤلاء أمام بدر ، وكما كان مرتباً ، وفى يد كل منهم رأس قائد تركى، وفى ليلة واحدة تم القضاء على الإستبداد البغيض.
سعد الخليفة بتحرره من ظالميه، وأسبغ على محرره صفات الشرف ملقباً إياه بأمير الجيوش أو بالقائد، الأعلى كما أضاف إليه كل وظائف الدولة المدنية. والواقع أنه قد منحه كل السلطة الحكومية، وقد اصبح صديق الخليفة الموثوق. أقام بدر الجمالى فى شارع برجوان وشرع فى فرض النظام وقتل كل المنافسين المحتملين، معيداً إلى سيده كل ماكان يمكن العثور عليه من ممتلكات القصر. وعندما نفذ ذلك، بدأ فى إخضاع المقاطعات قاتلاً أو مخضعاً بربر لواتة فى الدلتا، كما إجتاح الإسكندرية، وزحف على الصعيد، حيث كان السودان والقبائل العربية يفعلون مايحلو لهم منذ وقت طويل، وإستطاع إسترجاع سلطة الخليفة حتى أسوان. كان الأسرى كثيرون لدرجة أنه كان يمكن شراء إمرأة بدينار واحد، وشراء حصان بنصف دينار فقط. وبعد هذه البداية الدموية القاسية أصبح كل شئ هادئاً. وسرعان مابدأ الفلاحون تحت حكمه القوى العادل الكريم، يستمتعون بأمن ورخاء لم تعرفهما مصر منذ زمن طويل. ويُظهر تقرير ضرائب طلبه بدر الجمالى فى سنة 1090م، أن دخل مصر وسوريا قد إرتفع من إثنين مليون دينار أو إثنين مليون وثمانمائة ألف دينار بحد أقصى، إلى ثلاثةملايين ومائة ألف دينار. والواقع أن العشرين سنة الباقية من حكم المستنصر، لم تشهد سوى سوى السلام والوفرة فى مصر، رغم أنه كان هناك حرب مستمرة فى سوريا، والتى هددت فى أحد المرات بالإنتشار خارج الحدود. وللمرة الأولى منذ حكم العزيز أصبحت القاهرة وطن المعماريين. وتم بناء حائط قرميدى جديد حول مدينة القصر، وأزيلت البوابات الحجرية الضخمة الثلاث ، باب النصر، وباب الفتوح (1087م)، وباب زويلة (1091م)، وأعيد بنائها داخل الحائط الجديد، وإتخذت المظهر المهيب التى هى عليه حتى اليوم. ويقال أن البوابات الثلاث كانت من عمل ثلاثة إخوة معماريين من الرها، وقد بنى كل منهم واحدة منها. وكما رأينا فقد وظف اليازورى، ووزراء آخرون فنانين من ميزوبوتاميا والعراق، ولايوجد أمر غريب فى إستيراد بدر الجمالى للمعماريين من الرها، والتى كانت مليئة برفاقه الأرمينين. ومع ذلك ، فتبعا لأبو صالح ، فقد خُطط للبوابات والحائط الجديد بواسطة حنا الراهب، ولكن التخطيط لم يشمل مبانى، ومن المحتمل أن الراهب ومعمارى الرها قد تعاونوا. ويوضح الأصل الرهوى ، كما لايمكن لمصدرقبطى أن يفعل ، المظهر البيزنطى لهذه البوابات الضخمة. كانت الرها لزمن طويل قاعدة أمامية للإمبراطورية الرومانية ضد الخلفاء، ولابد أن معمارييها كانوا على علم تام بالعمارة العسكرية البيزنطية. ولايمكن أن يكون بدر الجمالى نفسه ، وبعد حروبه الطويلة فى سوريا ، جاهلاً تماماً بمبانى العصور الوسطى الرومانية. وأثناء تلك السنوات العشرين إحتفظ الأرمينى العظيم، الذى أنقذ المسستنصر من الأتراك بسيده الضعيف المحب للملذات تحت سيطرته تماماً. وعندما مات بدر الجمالى فى ربيع سنة 1094م، عن عمرناهز الثمانين عام، ورث إبنه أبوالقاسم شاهنشاه سلطته حاملاً لقب الأفضل، أما الخليفة والذى رأى كل تقلبات الحظ الرهيبة تلك وإستحق كل متاعبه، فإنه لم يعش طويلاً بعد وزيره الموثوق. مات المستنصر فى نهاية ديسمبر من نفس السنة عن عمرناهز ثمانية وستين عاماً، وواحد وستين عاماً من حكمه الغير مجيد.
وقبل أن نروى الأسباب التى أدت إلى سقوط الخلافة الفاطمية، فلابد أن نذكر شيئاً عن آلتهم الإدارية. ويُقصر المؤرخون العرب فى العادة فى ذلك النوع من المعلومات، على أساس أنها معروفة لقرائهم، ويصبح من الصعب الحصول منهم على أى تقرير دقيق عن تفاصيل الحكومة تحت الحكام العرب والترك الأوائل، ومع ذلك ، فإنه بالنسبة للفترة الفاطمية ، فإننا نملك تخطيطاً عاماً منتظماً للنظام العسكرى والإدارى، والذى يعتبر مفيداً حتى الآن.
كان الجيش ينقسم إلى ثلاث مراتب رئيسية، وهم الأمراء وبدورهم ينقسمون، أولاً إلى أمراء السلسلة الذهبية، وهم أعلى طبقة من الأمراء، ثم حاملى السيوف، والذين كانوا يحرسون الخليفة ممتطين الجياد، ثم يأتى الضباط العاديون أخيراً. و ثانيا تأتى مرتبة ضباط الحرس، والتى تتكون من السادة أو الأساتذة أو الخصيان، والذين كان لهم شرف عظيم ويتولون مناصب هامة، ثم الحرس الصغير وهم حوالى خمسمائة شاب مختارين من شباب العائلات، ثم قوات ثكنات الخليفة، وكانوا حوالى خمسمائة أيضاً. وثالثاً تأتى الفرق العسكرية، وتسمى كل منها على إسم خليفة أو وزير أو تبعاً لأوطانها، مثل الحافظية( نسبة إلى الخليفة الحافظ)، والجيوشية( نسبة إلى الأمير بدر الجيوشى)، والرومية( نسبة إلى الرومان والإغريق)، والصقالبة( وهم العبيد البيض)، والسودانية( وهم العبيد السود). كان عدد الفرق العسكرية كبيراً للغاية ومتنوع بإختلاف الوقت، وكانت رواتب الجند تتراوح بين دينارين وعشرين دينار فى الشهر. أما الأسطول، والذى كان يرسو فى الإسكندرية ودمياط وعسقلان، وبعض الموانئ السورية الأخرى، وفى عيذاب على البحر الأحمر، فقد كان يتكون من حوالى خمسة وسبعين سفينة حربية شراعية كبيرة، وعشر سفن نقل، وعشر سفن حربية شراعية صغيرة، ويرأسه أميراً للبحر.
كان الوزراء الرسميون للخلافة ينقسمون إلى طبقتين، هما رجال السيف، ورجال القلم. وكان رجال السيف يشرفون على الجيش وديوان الحرب وكانوا يتكونون من 1. الوزير( إلا إذا كان رجلاً مدنياً من رجال القلم) و2. سيد الباب أو كبير الحجاب، والذى كان يقف إلى جانب الوزير، وكان يسمى أحياناً بالوزير الأصغر، وكان يتمتع بمزية تقديم السفراء. و3. القائد العام أو (الإسفيهسالار)، والذى كان يقود كل القوات المسلحة ويقوم بحماية القصر. و4. حامل المظلة، وهو أمير عظيم كان يحمل مظلة الدولة فوق رأس الخليفة. و5. حامل السيف. و6. حامل الرمح. و7. السلحدار( مسئول الإسطبل الملكى)،. و8. والى القاهرة. و9. والى مصر (الفسطاط). وإلى رجال السيف كان يتبع أيضاً حاشية العائلة الملكية، والمشرفون والحجاب وحامل الدواة، وآخرون من موظفى البلاط.
أما رجال القلم فكانوا يتكونون من( وبالإضافة إلى الوزير إلا إذا كان تابعاً للطبقة العسكرية). 1.كبير القضاة وكان يتمتع بسلطات واسعة لغاية، إذ كان يرأس القضاء، ويشرف على دار ضرب العملة، وكان يعقد مجلسه فى جامع عمرو فى أيام الثلاثاء والسبت، جالساً على ديوان مرتفع، بدواته أمامه والشهود مرتبين على جانبيه، تبعاً لترتيب قضاياهم، وأمامه يجلس أربعة محامون، وخمسة حجاب لحفظ النظام. 2. كبير الوعاظ،والذى كان يترأس قاعة العلوم. 3. مشرف الأسواق( المحتسب)، والذى كان يملك سيطرة لامحدودة على الأسواق والشوارع، يساعده مندوبون إثنان للقاهرة ومصر، وكان يشرف على الموازين والمقاييس والأسعار والتجارة بشكل عام، وكان يعاقب على حالات الغش والإحتيال. 4. أمين الخزانة، والذى كان يُشرف على بيت المال أو خزانة الدولة، بالإضافة إلى واجبات أخرى، مثل عتق وتزويج العبيد، وعمل عقود بناء المراكب وغير ذلك من وظائف. 5. الحاجب الوكيل، والذى كان يساعد مسئول الباب فى تقديم أى سفير إلى الخليفة، ممسكاً بإحدى يديه، غير تاركاً إياه طليقاً أبداً . 6. القارئ، وهو الذى كان يتلو القرآن على الخليفة فى الموسم وخارج الموسم.
وكان هناك قسم أقل من رجال القلم ، يتكون من كل جهاز خدم الإدارة المدنية الملحق بالأقسام التالية. 1. الوزارة ( إلا إذا كان الوزير من رجال السيف). 2. الأرشيف والذى كان ينقسم إلى السكرتارية، وفرعين من مكتب تسجيل أعمال الخليفة، وكان الأول لتدوين وصياغة تعليماته، والآخر لكتابتها فى نسخة مبيضة.3. مكتب رواتب الجيش، والذى كان مسئولاً أيضاً عن ركوبات وتجهيزات القوات العسكرية. 4.الخزانة وكانت تنقسم إلى أربعة عشر قسماً، تتعامل مع كل فرع من أفرع الموارد المالية، والحسابات والمخصصات، والهدايا والمعاشات، والجزية والمواريث، والمصانع الملكية، وكان لها مكتب خاص بالصعيد، ومكتب خاص بالإسكندرية. وأيضاً قد شكل الأطباء الذين كان الخليفة يحتفظ بأربعة أو خمسة منهم، وشعراء القصر طبقات مختلفة من رجال القلم الملحقين بالبلاط.
وخارج موظفى القصر هؤلاء كان هناك الموظفون المحليون الذين كانوا يحكمون الأجزاء الثلاثة للإمبراطورية ، مصر، وسوريا، وحدود آسيا الصغرى. كانت مصر تُدار بواسطة الحكام الأربعة لقوص أو الصعيد والشرقية (بلبيس – قليوب – أشموم)، والغربية( المحلة – منوف – أبيار)، والإسكندرية (وتشمل كل البحيرة). كان حاكم الصعيد يأتى تقريباً فى المرتبة التالية للوزير، وكان لديه العديد من الوكلاء فى المقاطعات المختلفة. وتحت هؤلاء كان يأتى مسئولى المقاطعات، ورؤساء المدن والقرى. كانت إدارة كل الشئون المحلية فى عهدة السلطات المحلية، بما فى ذلك أعمال الصيانة بواسطة القوات العسكرية، وعمال السخرة لقنوات الرى والسدودـ التابعة لكل مقاطعة أو قرية على وجه الخصوص، ولكن السدود الأكبر، والتى لم يكن من الممكن أن يُعهد بها إلى سلطة محلية واحدة، كانت تُدار بواسطة مفتش يعين سنوياً من القاهرة،ومعه فريق كبير من المعاونين المهرة. كان النظام يبدو جيداً على الورق، ولكن فى الواقع فقد كان يشوبه كثيراً من الفساد والإختلاس. ومع ذلك فإن الشهادة العامة للمؤرخين العرب، تشير إلى معاملة طيبة، بل وربما كريمة أيضاً، للفلاحين كسياسة سائدة للحكومة الفاطمية.





























أهم المراجع

1-جمال الدين الحلبى
2-أبوصالح
3-إبن الأثير
4-إبن خلقان
5-إبن خلدون
6-القلقشندى
7-المقريزى
8-ويستنفيلد
9-كواتريمير



























6- الهجوم من الشرق
سقوط الدولة الفاطمية
(969-1171م)

كانت سوريا تابعة لمصر، وذلك بإستثناء فترات إنقطاع قصيرة ، منذ أيام إبن طولون، ولكن وتحت حكم الفاطميين، فإن ذلك الإرتباط أخذ فى الضعف. فقد رفض السكان السنة بشدة، وخاصة فى دمشق، الهرطقة الشيعية، وكان يمكن إخضاعهم بالقوة فقط للإعتراف بخلفاء مصر، وسرعان ماأعقب الغزو الفاطمى لسوريا بقيادة جعفر إبن فلاح سنة 969م ثورة، ثم جاء تدخل القرامطة ليعزل سوريا عن مصرعملياً لحوالى ثمان سنوات. وحتى بعد أن قاد الخليفة العزيز بنفسه حملة ناجحة سنة 977م، وسحق التمرد الذى قاده أفتكين التركى، فلم تخضع دمشق للقاهرة سوى إسمياً فقط ، ولم يكن حتى سنة 988م أن خضعت العاصمة السورية تماماً لأول مرة. أصبحت طرابلس هى أبعد مدينة شمالية فى الإمبراطورية الفاطمية، وظلت أنطاكية تتبع الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وكانت حلب فى يد آخر أحفاد الحمدانيين ، والذين كانوا حتى أعداءً أخطر لمصر، يحميهم الرومان كسند لأنطاكية، الذى كان الإمبراطور نقفور قد إستردها مؤخراً من العرب سنة969م. وعندما حاصر منجتكين، القائد الفاطمى ، حلب لمة ثلاثة عشر شهراً فى سنة993-994م، وبعدهزيمة جيش مكون من خمسين الفاً أُرسل لتخليصها من قبل حاكم أنطاكية الرومانى، قدم الإمبراطور باسيل الثانى بنفسه لنجدتها، بعد أن ألغى حملة كانت موجهة ضد البلغار. وعند إقترابه تراجع المصريون/الفاطميون إلى دمشق، وخرب الإمبراطور حمص وشيراز، وقام بهجوم غير ناجح على طرابلس. كان إستعراض لمائتى وخمسين أسير رومانى فى القاهرة، هو الإنتصار الوحيد الذى إستمتع به الخليفة العزيز فى هذه المناسبة.
وفى عهد الحاكم بأمر الله، وبعد إنتصارين على الرومان، بحراً عند صور، وبراً بالقرب من أباميا، تم التوصل إلى سلام لمدة عشر سنوات مع الإمبراطور، ولكن سوريا ظلت فى حالة مزمنة من الثورة. كان لابد من إخضاع صور، وفى الرملة قامت عائلة الغرا بإقامة خليفة منافس فى شخص شريف مكة تحت لقب الرشيد، وهزمت الجيش الفاطمى بالقرب من الداروم، ولم يكن سوى بصعوبة أن تم إخضاعها ، إلى درجة ما ، عن طريق الرشاوى والدبلوماسية. وإسمياً فقط حصل الخليفة المصرى على بعض المجد، من خلال الإعتراف بسيادته فى مساجد وادى الفرات ، من الموصل إلى الكوفة ، من قبل العرب( حاكم كرواش العقيلى)، ولكن هذا الدمج المؤقت سرعان ما فُصل بواسطة سلطان العراق البويهى، كما لم يكن إنضمام حلب المؤقت إلى الحزب الفاطمى فى سنة 1011م، عندما تم طرد الحمدانيين بواسطة عتيقهم ، إبن لؤلؤ، ذا قيمة كيبرة. كانت تلك التبعية فى الواقع عبارة عن توسل المساعدة ضد خطر ملح.
ومع ولاية الظاهر أصبحت سلطة الحكومة المصرية غير محسوسة فى سوريا تقريباً. وكان على قائد جيشهم القدير، أنوشتيجين الدزبيرى ، حاكم قيصرية ، أن يواجه ثورة قادها حسن بن دجفال فى فلسطين، وثورة أخرى قادها سنان حول دمشق، بالإضافة إلى عداء صالح بن مرداس، الذى إستولى على حلب سنة 1025م من فيروز عبد الأميرة الملكية الهندية ، والذى كان قد إستولى على المدينة فى السنوات الثلاث الأخيرة. وفى النهاية هزم أنوشتيجين صالح وقتله فى موقعة أخوانا بالقرب من طبرية، كما دفع حسن للهرب إلى المنفى بين الرومان وإسترد معظم سوريا ، بإستثناء الشمال ، إلى الخلافة المصرية. وقد أعطت هزيمة أخرى للمرداسيين العرب على( نهر)الأورنتوس بالقرب من شيراز، حلب وباقى شمال سوريا ، بإستثناء الإقليم السورى ، إلى سيده المستنصر الخليفة الطفل . ولم يحفظ حكم أنوشتيجين الصارم السلام والنظام فى دمشق فقط، ولكنه أغرى حاكم حران ، على نهر الفرات ، بالدعاء للخلافة المصرية فى مساجد حران وساروج والرقة. وخلال عشر سنوات تم التوصل إلى السلام مع الإمبراطور ميشيل الرابع، والذى سُمح له بإكمال ترميم كنيسة القيامة المهدمة فى سنة 1048م.
ميزت حكومة أنوشتيجين مداً عالياً فى العلاقات الفاطمية مع سوريا، ولكن منذ سنة 1043م بدأت سلطتهم هناك تنحدر بسرعة. وقد وجد الحاكم الجديد ، نصير الدولة بن حمدان ، والذى ساءت سمعته بعد ذلك فى مصر ، نفسه بلا قوة فى دمشق، ومرة أخرى أصبحت فلسطين فى حالة من الثورة بقيادة حسن، وفشلت محاولتين لإسترداد حلب من المرداسيين فى سنة 1048م وسنة 1049م، ومع ذلك فقد أرسلت قوة من ثلاثين ألف مقاتل مصرى فى السنة التالية. والحقيقة أن معز الدولة المرداسى قد خضع بعد ذلك وقدم جزية أربعين ألف دينار للخليفة وجعل منزله فى القاهرة، ولكن إبن أخيه إستأنف الصراع فى سنة 1060م، والذى لم تعد حلب بعده مدينة فاطمية أبداً.
ومع ذلك فقد كان هناك قوة جبارة تتقدم بسرعة من الشرق، والتى صهرت كل الصراعات الصغيرة فى صراع من أجل مجرد الوجود. فقد أخضع التركمان السلاجقة فارس، وفى سنة 1055م، دُعى لقائدهم طغرل بك فى صلوات الجمعة ببغداد كقائد الخليفة، أو بمعنى آخر سيد الخليفة. كان السلاجقة سنة متحمسين وغيورين على العقيدة، وكان القضاء على الهرطقة المصرية/الفاطمية هو واجبهم المقدس. لم يكن إخضاع سوريا، وكخطوة أولى ، بالمهمة السهلة أبداً، وذلك فى حالتها المنقسمة التمردية. غزا القائد السلجوقى أتسيز فلسطين، ودخل أورشليم فى سنة 1071م، و أخيراً وبعد أن ألقى الحصار على دمشق سنوياً، ولمدة خمس سنوات، محطماً المحاصيل الزراعية حولها، وبتآمر أحد أحزابها العريقة، تمكن من الإستيلاء على المدينة سنة1076م، ولم تعد دمشق أبدا مرة أخرى إلى سيادة الفاطميين.
كان القائد القدير الوحيد فى مصر، بدر الجمالى، منشغلاً تماماً بإسترداد وادى النيل لسيده الرخو، ولم يكن لديه شئ من القوة يدخره لسوريا، وقد قام برشوة أستيز كى يمتنع عن عبور الحدود، وتقدم حتى غزة والعريش ، المدينة الحدودية، وذلك فى نفس الوقت الذى أعد فيه السفن لنقل البلاط الملكى إلى الإسكندرية، إذا ماحدث الأسوء. والواقع أنه إذا ماكان أستيز قد تلقى العون المناسب من الشرق، فربما كانت مخاوف الوزير العظيم قد وقعت بالفعل، وربما كان السلاجقة قد تمكنوا من القضاء على المملكة الشيعية قبل قرن كامل من تاريخ سقوطها الفعلى.
وكما حدث ، وبمجرد أن أمكن تهدئة الأمور فى مصر، فقد أصبحت القوات جاهزة للإستخدام فى سوريا، وعلى الفور تم حصار دمشق. لكن المصريين إضطروا للإنسحاب مع تقدم تتش ( أخو ملك شاه أعظم سلاطين السلاجقة)، والذى كان قد عُين نائباً على سوريا، ودخل دمشق سنة1079م. ومحتفظاً بنفس الشجاعة، قام بدر بنفسه ورغم بلوغه السبعين من العمر بقيادة حملة جديدة ضد الغزاة سنة 1085م، لكن حصاره لدمشق كان عديم الجدوى هذه المرة أيضاً. ومع ذلك فقد عاش بدر ليرى مزيداً من النجاحات الصغيرة على الساحل، حيث إستولت الجيوش المصرية التى أرسلت بناء على أوامره على صور، والتى كانت فى حالة ثورة منذ عدة سنوات، كما قامت بإعادة غزو عكا والجبيل.
وقد صنعت وفاة بدر الجمالى والخليفة المستنصر إختلافاً بسيطاً فى الموقف، فقد خلف الأفضل شاهنشاه إبن بدر الجمالى والده فى الوزارة، والذى سرعان ماأقام أصغر الأبناء السبعة للخليفة الراحل على العرش بلقب المستعلى(1094-1101م)، حيث إعتقد أن طفل فى الثامنة سوف يكون أكثر طوعاً لإدارته من رجل ناضج. وكان من الطبيعى أن يرفض الإبن الأكبر نزار ، والذى كان عمره يقترب من الخمسين، ذلك الإحلال، فأقام نفسه خليفة فى الإسكندرية بموافقة حاكمها وذلك بلقب الإمام المصطفى. ورغم أنه قد أجبر على الإستسلام بعد حوالى سنة من ذلك التاريخ، وإنتهى فى سجن أخيه، فقد ظل مبجلاً لفترة طويلة على أنه إمام الشيعة، من قبل الشيعة الإسماعيلية، وخاصة طائفة الحشاشين فى فارس. وعند وفاة المستعلى فى حوالى نهاية سنة 1101م قام الأفضل بتولية إبنه الآمر، وكان طفلاً فى الخامسة من عمره ، (1101-1131م)، وقد صنع له مقعداً صغيراً على سرج فرسه، وركب فى شوارع القاهرة مع الخليفة الطفل جالساً أمامه. كانت سلطة الوزير قد أصبحت مطلقة وحكم مصر لمدة عشرين سنة وفقاً لمشيئته، كما فعل والده من قبل. والواقع أنه منذ سنة 1074م حتى سنة 1121م، فقد كان هذان الأرمينيان العظيمان ملوكاً لمصر فى كل شئ ماعدا الإسم فقط ، وأنه لحكمهما العادل الرحيم ولطاقتهما وسيطرتهما القوية قد دانت مصر بنصف قرن من الهدوء والرخاء الداخليين.
كان الموضوع الضاغط لحكم الأفضل هو الخطر من الشرق. ولم يكن ذلك الخطر من السلاجقة لإنه مع موت ملك شاه سنة 1092م، وتتش سنة 1095م، فقد إنقسمت إمبراطوريتهم إلى أجزاء، وقد كان لحرب الوراثة التى شلت نفوذهم فى فارس صداها فى المنافسة الأقل، التى نشبت بين أبناء تتش ، فبينما إستولى دوكاك على دمشق ، إستولى رضوان على حلب ، ودعى حتى للفاطميين فى بعض المساجد على أمل الحصول على تأييدهم ضد أخيه. ولكن ورغم أن قوة السلاجقة قد إنكسرت فى سوريا، فإن الدافع الذى وجههم غرباً كان مازال قوياً وتجمع كثير من قبائل التركمان القوية حول أعلام الجريئين من القادة ، ولإنهم قد تدربوا فى الحروب السلجوقية، فقد كانوا مازالوا مستعدين للقيام بغزوات جديدة، متى ظهر قائد جديد يمكن له أن يوحدهم من أجل هدف مشترك. وأثناء ذلك وفى فترة الهدوء بين الإعصار السلجوقى وبين العاصفة المتجمعة، والتى كانت على وشك أن تضرب مصر فى شكل جيوش نور الدين ، ظهرت قوة جديدة هددت فى البداية أن تكتسح الجميع أمامها. وقد قدم الشلل المؤقت للممالك المحمدية فى سوريا وفارس والترف المنحل للفاطميين فى مصر، الفرصة للغزو. وفى سنة 1096م بدأت الحملة الصليبية الأولى زحفها نحو الشرق، وفى سنة 1098م تم الإستيلاء على المدينتين العظيمتين الرها وأنطاكية، كما سقطت كثير من القلاع. وفى سنة 1099م إسترد المسيحيون أورشليم نفسها. وفى السنوات القليلة التالية سقط الجزء الأكبر من فلسطين وساحل سوريا ، طرسوس وعكا وطرابلس وصيد (1110) فى يد الصليبيين، وكان غزو صور سنة 1124م ذروة قوتهم. لقد كانت تلك هى اللحظة المناسبة تماماً لغزو ممكن من أوربا. فقبل جيل من الزمن كانت قوة السلاجقة منيعة، وبعد جيل من الزمان كان يمكن لقوة زنكى أو نور الدين، الذين أسسوا أنفسهم بقوة فى الأماكن السلجوقية فى سوريا، أن تدفع بالغزاة إلى البحر. وقد دفع نجم محظوظ مبشرى الحملة الصليبية الأولى إلى إنتهاز فرصة لم يدركوا مغزاها تماماً فى الواقع، فقد إختار بطرس الناسك وأوربان الثانى لحظة مباركة وبحصافة شديدة وكأنهما قد قاما بدراسة عميقة للسياسات الآسيوية، فقد إخترقت الحملة الصليبية كوتد بين الخشب القديم والخشب الجديد وبدت للحظة كأنها تشق جذع الإمبراطورية المحمدية إلى شظايا.
وعندما وصلت أنباء الحملة الصليبية المقتربة إلى مصر، رحب بها الأفضل كمصدر قوة ضد السلاجقة، وبدا أنه قد توقع حتى تحالفاً مع المسيحيين ضد العدو المشترك. ومتشجعاً بذلك التوقع، قام الأفضل بالزحف على فلسطين، و بعد حوالى شهر من الحصار إستولى على أورشليم من القادة السلاجقة ، الأخوين سوكمان وإلغازى. ولكن فقط مهد طرد هذين المدافعين الشجاعين الطريق للصليبيين، وعندما ذبح الغزاة المسيحيون سبعين ألف مسلم أعزل فى المدينة المقدسة، فهم الأفضل أخيراً ماذا كان عليه أن يتوقع من حلفائه المحتملين. وقد تلقن درساً آخر عندما فاجأه الفرنجة أمام عسقلان وهاجموا المصريين، رغم رفعهم لعلم والهدنة ، وقضوا عليهم تماماً وإستولوا على معسكرهم وأمتعتهم، وأشعلوا النار فى غابة، كان كثير من الهاربين قد لجأوا إليها. وأبحر الأفضل على عجل إلى مصر، وقامت عسقلان برشوة الفرنجة ليتركونها وشأنها، ومع ذلك فقد ظل الأفضل وفيما تبقى من حياته يشن الحرب على الغزاة. وفى سنة 1101م إنتصر الصليبيون مرة أخرى بالقرب من يافا، ولكن فى سنة 1102م قام جيش مصرى، ربما كان يتكون من بعض من مقاتلى بدر السوريين، بالإنتقام لتلك الهزائم بالقرب من عسقلان، وهزم بلدوين ومعه سبعمائة فارس، وأجبر ملك أورشليم على اللجوء إلى غابة من نبات الأسل، والتى تم إشعال النار فيها ومطاردة الملك حتى يافا. ومرة أخرى أصبحت رام الله مدينة إسلامية، وفى السنة التالية حدثت مواجهات عديدة، وأرسل الأفضل إبنه الذى هزم الفرنجة فى يازور( حيث إختبا بلدوين فى كومة قش كبيرة)، وإستولى على رام الله وأرسل ثلاثمائة فارس كأسرى إلى مصر، بعد أن قتل الباقين. كما أُرسلت قوة من أربعة آلاف فارس مصرى، يساندها أسطول ، إلى يافا فى نفس السنة، ولكن كان الصليبيون أيضاً قد حصلوا على إمدادات، ولم يكن من الممكن لأى جهد مصرى أن يمنع تقدمهم. وبحلول سنة 1104م كان معظم فلسطين قد أصبح فى أيادى مسيحية، بإستثناء بعض قلاع ساحلية ومنها عكا والجبيل، والتى سقطت فى نفس السنة. تركز الصراع حول رام الله لبعض الوقت وقام الأتابك توجتين ، حاكم دمشق السلجوقى ، بالإستنجاد بالفاطميين فى محاولة لإنقاذ ماتبقى من القوى الإسلامية فى الأراضى المقدسة، ولكن وبعد معركة غير حاسمة بين يافا وعسقلان فى سبتمبر 1104م ، تراجع كلا الجانبين مرهقاً. وبعد سنة 1109م، عندما سقطت طرابلس أخيراً بعد حصار بطولى، اصبحت صور هى أمل الإسلام، وقاومت كل محاولات الصليبين حتى سنة 1124م، عندما ظلت عسقلان هى القاعدة الأمامية الشمالية والأثر الباقى تقريباً من سيادة مصر السابقة على سوريا. وفى سنة 1117م قام الملك بلدوين حتى بغزو مصر نفسها، وأحرق جزءً من الفرما، ووصل إلى تنيس عندما أجبره مرضه القاتل على التراجع. لم يحاول المصريون أى إنتقام، ومنذ ذلك الوقت وحتى نهاية الدولة الفاطمية إتبع وزرائهم سياسة دفاعية فى معظم الأحيان.
وإنتهى الحكم الحكيم للأفضل عندما قام سيده الآمر، وبعد أن شب عن الطوق ، بتدبير إغتيال الوزير العظيم فى الشارع بنهاية سنة1121م. وزار الخليفة الرجل المحتضر وعبر عن حزنه العميق، ولكن وبمجرد أن أغمضت عينيه، قضى حوالى أربعين يوماً فى نهب منزله من الكنوز التى كان قد راكمها هناك خلال فترة إدارته الطويلة. ويقول المؤرخ جمال الدين والذى كان على معرفة بأحد ضباط الأفضل، بأن ثروة الوزير كانت تتكون من ستة ملايين دينار ذهبية، ومائتى وخمسين كيس من الدراهم الفضية المصرية، وخمس وسبعين ألف ثوب من الأطلس(الساتان)، وثلاثين حمولة جمل من علب الجواهر الذهبية من العراق ، إلى آخره. كل ذلك مع برواز من الكهرمان يعرض عليه أثواب الدولة الرسمية. كان حليب قطعانه الضخمة يُقطع فى السنة الأخيرة بمبلغ ثلاثين ألف دينار، وبين مؤسساته كان هناك واحدة عبارة عن نظام للفرسان يطلق عليه (مرافقى الحجرة)، وهم جماعة من الشباب كان كل منهم يزود بحصان وسلاح ويتعهد بأن ينفذ بدون تردد أى أمر يعطيه لهم. وكان هؤلاء الذين يتميزون فى أداء خدمتهم يرقون إلى رتبة الأمير. ولم يتمكن(خلفه) إبن البطائحى ، الملقب بالمأمون( الذى دبر إغتيال الأفضل) ورغم أنه كان مالياً قديراً ووزيرا متسامحاً، من الإحتفاظ بمكانه، وسُجن فى سنة 1125م، ثم صُلب بعد ذلك. وحاول الخليفة، عندئذ ، تجربة أن يقوم بدور الوزير بنفسه، يساعده فقط الراهب أبو النجا بن كينا، والذى إلتزم بدفع مائة ألف دينار عن ضرائب النصارى وأصبح هو المحصل العام للدخل، ولكنه أعطى لنفسه مثل ذلك البهاء الذى جعل الخليفة يقوم بجلده بالسياط حتى الموت.
وقد جعل حكم الآمر المنفرد منه مكروهاً بشكل عام. وقد مارس الإضطهاد، بكل أنواعه، والإعدامات الجائرة المعبرة عن القسوة الأصيلة لطبيعته. وفى نوفمبر سنة 1130م وعندما كان راكباً عائداً من الهودج ، وهو منزل أنس بهيج على جزيرة الروضة، والذى كان قد بناه لعشيقته البدوية المفضلة، وكان ينافس حدائقه الساحرة فى قليوب ، هوجم الخليفة من قبل عشرة من الحشاشين الإسماعيلية، ومات متأثراً بجراحه فى نفس الليلة. وبصرف النظرعن حبه للزهور فإن أهم حقائق حياته الخاصة هى أنه كان يستهلك خمسة آلاف رأس غنم ، بسعر ثلاثة دنانير للرأس، فى مطبخه شهرياً.
لم يخلف الآمر أى أولاد فخلفه إبن عمه الحافظ (1131-1149م)، كوصى فى البداية فى إنتظار أن تضع أحد زوجات الخليفة الراحل ، الحامل ، ولداً، ولكن ولسوء حظها فقد أنجبت بنتاً، ولكن قبل أن يصبح الوصى خليفة فعلاً ، حدثت فترة فراغ غريبة فى الحكم. كان أبوعلى إبن الأفضل والملقب بكتيفات، والذى عُين وزيراً بإجماع الجيش ، نصيراً قوياً للشيعة الإمامية، أو الإثنى عشرية، مؤمناً بعودة المهدى ومتشككاً تماماً فى إدعاء الفاطميين للخلافة. وعلى ذلك فقد حبس الوصى فى القصر، ودعى فى الصلاة وضرب العملة بدون إسم أى حاكم حى ، ولكن بإسم المهدى المنتظر. وقد إستمرت تلك المهزلة لحوالى سنة مارس خلالها كتيفات سلطات مطلقة. والواقع أنه لم يكن حاكماً سيئاً، حيث كانت تقاليد الحكومة الجيدة قوية فى عائلته، فقد كان عادلاً خيراً، متسامحاً وكريماً مع الأقباط ، ومحباً كبيراً للشعر. ومع ذلك فلم يكن من الممكن لإستبداده أن يدوم طويلاً مع تآمر الخليفة الشرعى ضده فى القصر، ففى ديسمبر 1131م، وحيث كان راكباً للعب البولو( ضرب الكرة من فوق صهوة الجياد)، تم إغتتياله بواسطة بعض فرق الخليفة الخاصة أو الحرس الصغير.
وهنا تولى الحافظ خلافته الحقيقية فى عمر السابعة والخمسين مع يانس، أحد عبيد الأفضل الأرمن، كوزير. كان يانس رجلاً نظامياً حازماً ، صعباً ، مستقيماً ، ذكياً ومكروهاً، وفى خلال تسعة أشهر أصبح أثقل من أن يُحتمل ، فأمر الخليفه طبيب القصر بسمه. وبعد ذلك وربما لكى يتجنب إثارة الحسد بين الجنود، أو ليتجنب إستبداد وزير قوى آخر، حاول الحافظ لبعض الوقت أن يقوم بمسئولياته بدون الإستعانة بأى وزير، وأثبت أنه لم يكن إدارياً سيئاً، وإستمر ذلك حتى أدى الصراع على وراثة العرش بين أولاده، إلى قيام حرب أهلية بين الفرق العسكرية المتنافسة، الريحانية والجنود السود الجيوشية، والتى إضطر خلالها الخليفة إلى التضحية بإبنه الأكبر حسن . إحتشد حوالى عشرة آلاف من الجنود الجيوشية المنتصرين فى ميدان بين القصرين، وطالبوا برأس الأمير حسن، والذى كان قد تسبب فى موت كثير من الأمراء. وإستدعى الخليفة العاجز طبيبا القصر، لكن الطبيب اليهودى أبومنصور، رفض القيام بالمهمة، ولكن زميله المسيحى، إبن قيرفا، قام بخلط شراب قاتل أجبر الحسن على شربه. كان إبن قيرفا رجلاً ذا مؤهلات علمية كبيرة، وبصرف النظر عن معرفته العملية بعلم السموم، فقد كان يحتل مناصب هامة كثيرة فى القصر، مثل أمانة خزانة الثياب، وكان يمتلك منزلاً جميلاً على القناة، ولكن الخليفة لم يستطع إحتماله بعد أن قام بسم إبنه، فتم سجن الطبيب شديد الخضوع، وسرعان ماتم إعدامه بعد ضحيته.
شوهت السنوات الباقية من الحكم الفاطمى فى مصر بالصراعات الدائمة بين الوزراء المتنافسين، والتى كانت تؤيدها أحزاب الجيش. وأقام الجيش بهرام كوزير، وهو مسيحى أرمنى لُقب بسيف الإسلام مع ذلك، ولكن تعيينه بكثرة لأبناء جلدته فى مناصب وإدارات الدولة، وماترتب على ذلك من تساهل مع المسيحين، قد أدى إلى طرده مع حوالى ألفين من أتباعه المسيحين، وإختتياره لحياة الدير فى نهاية الأمر.
كان خلفه رضوان، وهو جندى شهم وشاعر ، أول من إتخذ لقب ملك، والذى إستخدمه كل الوزراء الفاطميين بعد ذلك. وقد سمى بالملك الأفضل والسيد الأجل، ولكن ألقابه لم تنقذه من السقوط مع ذلك، فقد ألقى فى السجن، ورغم أنه تمكن بعد عشرة أعوام من شق طريقه إلى خارج السجن من خلال جدار بأظافره الحديدية، وحشد كثيراً من أتباعه، وإقامة نفسه فى المسجد الرمادى( الأٌقمر)، أمام القصر الكبير للخليفة، فقد مُزق إرباً، وألقى برأسه إلى حضن زوجته. وتروى قصة مروعة أن جسده قد قُطع إلى أجزاء صغيرة إلتهمها صغار المحاربين، فى إعتقاد بأنهم سوف يتشربون بقوته وشجاعته.
مرت السنة الأخيرة من حكم الخليفة العجوز، إذا ماكان يمكن إستخدام كلمة حكم هنا، حيث لم تمتد سلطته إلى أكثر من حدود القصر، ولم يكن من الممكن الحفاظ عليها إلا بواسطة حارسه الزنجى السكير، فى مشهد من التحزب والفتنة الدائمين، حيث كانت الشوارع غير آمنة وعاش الناس فى رعب دائم. كان عمر الخليفة آنذاك قد ناهز الخامسة والسبعين، وكان يعانى عسر الهضم بشكل خطير. وقد إخترع له طبيبه طبلة ، تكونت ببراعة من المعادن السبعة ، لُحمت تماماً فى نفس اللحظة التى يعد فيها الإتجاه الجنوبى لكل من الكواكب السبعة، بنتائج سعيدة، فكان كلما ضُربت هذه الطبلة السحرية يخرج ريح الخليفة. كانت هذه الآلة المثيرة فى القصر وقت غزو صلاح الدين لمصر، وقام احد جنوده الأكراد المستهترين بنقرها جاهلاً بخصائصها الغريبة. كان الأثر مثيراً للدهشة الشديدة بحيث ألقى الرجل بالطبلة مرتبكاً ، فتحطمت.
وليس هناك شك أنه تحت حكم الفاطميين ، وبشكل عام ، عومل مسيحى مصر بإحترام غير عادى، ولأكثر كثيراً مما حدث مع الممالك التالية. وبصرف النظر عن إضطهادات الحاكم بأمر الله، والتى كانت مجرد جزء من إستبداد عام، فإن الأقباط والأرمن لم يحصلوا أبداً من قبل على مثل هذا الكرم من حكام مسلمين، فتحت حكم العزيز كانوا مفضلين حتى عن المحمديين، وكانوا يعينون فى أعلى مناصب الدولة، وتحت حكم المستنصر وخلفائه، فقد حمى الأرمن ، سواء أكانوا مسيحيين أم لا، أبناء بلادهم والمسيحيين الآخرين من خلال نفوذهم ، أثناء الحكم الطويل للمستنصر، عندما كانت الوزارة فى أيديهم. كانت معظم وظائف الحكومة المالية، كما كانت دائماً ، فى أيدى الأقباط، فقد كانوا ملتزمى الضرائب ومشرفى الحسابات، وقد جعلتهم قدراتهم شيئاً لايمكن الإستغناء عنه. وخلال حكم الخلفاء الآخرين نقرأ بإستمرار عن بناء وترميم الكنائس، والتى سجلها المؤرخ المسيحى أبوصالح، والذى يعكس تاريخه المعاصر حالة مصر فى أخريات العصر الفاطمى. وقد رحب الخليفة الحافظ حتى بالبطريرك الأرمنى فى إستقبالاته العامة فى أيام الإثنين والخميس كل أسبوع، وتلقى تعليمه فى التاريخ، وحافظ على ذلك التقليد حتى نهاية حياته. كان الحافظ مغرماً بزيارة الأديرة، حيث كانت تبنى أحياناً منذرة تطل على الحدائق المنعزلة، وتشرف على منظر النيل المبارك، وقد إعتاد هو وإبنه الظافر وكذلك الخليفة الأخير العاضد لهذا السبب، أن يزوروا بإستمرار دير السيدة فى العدوية الواقعة على بعد ثمانيةعشر ميلاً إلى الجنوب من القاهرة، وساهموا فى تدعيمه رداً على حفاوة الرهبان بهم. كما كان الخليفة الآمر عاشقاً للحدائق، وعاشقاً لدير الناحية، الواقع إلى الغرب من الجيزة، حيث بنى منذرة، وإعتاد أن يذهب من هناك إلى الصيد. وكان فى كل مرة يذهب فيها إلى هناك يعطى الرهبان ألف درهم ، وكان يسلى نفسه بالوقوف فى مكان القس فى الكنيسة، ولكنه كان يرفض الإنحناء للدخول من الباب المنخفض، وكان يحل المشكلة بالإنحناء والدخول بظهره. وقد وصل دخل الكنائس المصرية فى سنة 1180م، والذى كان يأتى أساساً من العطايا الفاطمية ، إلى 2923 دينار و4826 كيس من القمح، كما كانت تملك 915 فدان من الأراضى.
وعند وفاة الحافظ فى أكتوبر 1149م أُقيم إبنه الأصغر، الظافر، على العرش. كان الظافر خليعاً، وسيماً ، مستهتراً، فى السادسة عشرة من عمره، يفكر فى الفتيات والأغانى أكثر مما يفكر فى السلاح والسياسة، وكانت كل أموره تدار بواسطة الوزير الداهية إبن السلار، الكردى السنى الملقب بالملك العادل. كان إبن السلار قد أبعد مرشح الخليفة للوزارة ، إبن مصال ، وقد كان الظافر يكرهه لذلك، ولإنه أيضاً كان كان قد قمع حرسه الصغير وأبادهم تقريباً سنة 1150م، كما كان إبن السلار مكروهاً بشدة من قبل الناس، والذين لم تسلم حياتهم أبداً من جلاديه. ويدخل إغتياله بواسطة حفيد زوجته ، نصر بن عباس، والذى أعقبه مقتل الخليفة الظافر نفسه بواسطة نفس الأيادى الخائنة، فى أحد أكثر فصول التاريخ المصرى سواداً. وقد وصلت إلينا القصة من قلم معاصر هو القائد العربى أسامة بن منقذ ، والذى إعتاد أن يصيد الكركى والبلشون مع حاشية الحافظ ، والذى كان ضيفاً لإبن السلار والملمح بقتله، إن لم يكن المحرض عليه. وضع الخليفة المبتهج جمجمة الوزير إبن السلار فى متحف الرؤوس فى قسم المالية، وأعطى الشاب القاتل الوسيم عشرين طبقاً من الفضة، يمتلئ كل منها بعشرين ألف دينار وشجعه على أن يتابع تجربته فى القتل . كان الإقتراح التالى هو أنه يجب أن يتخلص من أبيه وشريكه فى المؤامرة ، عباس، والذى تولى الوزارة بعد إبن السلار، زوج أمه المغدور. لم يكن نصر رافضاً للجريمة الثانية، فقام عباس بعد أن إشتم رائحة الخطر بالتجهيز لسم إبنه، لكن الموقف المتوتر بينهما إنفرج بإغتتيال الخليفة الظافر فى سهرة أنس فى منزل الوغد الشاب( نصر إبن عباس). وفى اليوم التالى كان أسامة بن منقذ يجلس فى شرفة القصر عندما سمع فجأة قرقعة السيوف، كان ذلك صديقه عباس مع ألف سياف، وقد ذهب إلى القصر بحجة البحث عن الخليفة المختفى، وأخذ يذبح إخوة الخليفة، الذين كان يعرف أنه يمكن إلصاق تهمة تدبير الجريمة الغامضة بهم،( ثم دخل إلى غرفة الحريم وأخذ أحد الأطفال وأقامه خليفة )، وعُرض الوريث الطفل أمام البلاط النادب راكباً على كتف الوزير عباس، وصاح الجنود بيمين الولاء. كان المنظر رهيباً للغاية لدرجة أن أحد حجاب القصر القدامى فى القصر قد مات رعباً خلف بابه، والمفتاح فى يده. وقامت القاهرة فى ثورة وإندلع القتال فى الشوارع وأخذ حريم وأطفال القصر يرمون بالحجارة من نوافذ القصرعلى أتباع الوزير، والذين كانوا قد غادروه على الفور. لم يستطع عباس مقاومة عاصفة الغضب والإنتقام التى تلت، فهرب إلى سوريا. وفى الطريق داهمه الصليبيون وقتلوه، ربما من حصن مونتريال أو حصن الكرك الواقع على البحر الميت، والذين حُرضوا على قتله وعرفوا بطريقه من قبل إحدى إخوات الخليفة المغدور. وُبيع مصدر كل تلك المأساة، عديم الإنسانية نصر إبن عباس ، من قبل الفرسان الداوية إلى المطالبين بالإنتقام بمبلغ ستين ألف دينار، وأُرسل إلى القاهرة فى قفص حديدى حيث عُذب من قبل حريم القصر وعُرض فى المدينة بلا أنف أو أذنين، وصُلب حياً على باب زويلة وتُرك معلقاً هناك لعدة شهور.
( تبدو رواية تلك الأحداث معقدة بعض الشى، نظراً لتداخل عمليات القتل المتتابعة، والواقع أن عباس وإبنه نصر قتلا الوزير إبن السلار - زوج السيدة بلارا أم عباس وجدة نصر) بتحريض من الخليفة الظافر وبدافع الصراع التقليدى على السلطة فى الممالك الإسلامية ، ثم أراد الخليفة التخلص من عباس بدوره، فأوعز إلى إبنه نصر وكانت تجمعه به صداقة قوية، بفعل ذلك، لكن نصر قام بجريمة أخرى، وبتحريض من أبيه عباس، هى قتل الخليفة الظافر نفسه، وذلك لدفع تهمة العلاقة الشاذة معه، والتى كان أبوه عباس وصديقه القائد أسامة بن منقذ يتهمانه بها، وهكذا أصبح عباس وإبنه نصر المتهمين الرئيسيين فى كل تلك الجرائم البشعة، بما فيها تصفية أعمام الخليفة الظاهر فى محاولة لإلصاق تهمة إغتياله بهم وكأنهم ينتقمون له ، وقد حدث ذلك على مرأى ومسمع أهل القصر من نساء وأطفال فى مشهد مروع من أشد مشاهد التاريخ الإسلامى رعباً ، ثم هربا إلى خارج مصر بعد إرتكابهما كل هذه الجرائم على النحو الذى أورده المؤلف فى النص الأصلى هنا)
أما الخليفة الطفل المسكين ذو الأربعة سنوات والذى تولى خلافته وسط كل ذلك الرعب، وكاد أن يموت خوفاً فى يوم توليه الرهيب، فقد حمل لقب الفائز(1154-1160م). وخلال الفوضى التى تلت مقتل أهله، كانت نساء القصر قد قطعت شعورهن حداداً، وهو أقسى درجات الإسترحام فى التقاليد الإسلامية، وأرسلته إلى الأمير طلائع بن رزيك ، حاكم الأشمونين ، وناشدته أن يأتى لإنقاذهن. لقد كان تقدمه ، بمساعدة قبائل الصحراء العربية والقوات السودانية التابعة للأسرة الفاطمية، وكثير من الأمراء و عامة القاهرة، هو الذى أجبر عباس على الهرب الفورى. دخل طلائع إبن رزيك القاهرة معلقاً ضفائر حريم القصر على رمحه، وإستولى على دار المأمون ، قصر عباس الفاخر، الذى كان ملكاً للمأمون البطائحى، وذهب إلى غرفة القاتل نصر، ورفع بلاطة مشار إليها بين البلاط، حيث وجد جسد الظافر المغدور، والذى قام بدفنه فى ضريح الخلفاء وسط نواح عام. ثم بدأ فى إسترجاع النظام ومعاقبة المذنبين، وإعدام الخطيرين من القادة الذين كانوا قد أحدثوا فوضى كبيرة فى القاهرة لسنوات عديدة مقيماً حكم القانون.
كان طلائع بن رزيك ، الملك الصالح ، كما أصبح يلقب الآن، رجلاً قوياً وكانت مصر فى أشد الحاجة إلى الرجال الأقوياء فى ذلك الوقت. كانت عسقلان ، آخر معقل لها فى فلسطين ، قد خرجت من سيطرتها خلال الإنشقاقات والإرتباك اللذان تبعا إغتيال إبن السلار. لقد كانت لفترة طويلة مصدراً لقلق كبير، حيث كانت تهاجم بإستمرار من قبل ملوك أورشليم، وكان يدافع عنها بإستماتة بواسطة حامية كبيرة، كانت تجدد مرتين فى السنة من مصر. وقد تركت العودة السريعة لأحد قادة هذه الحاميات، عباس، ليستمتع بثمار إغتيال زوج أمه إبن السلار ، الحامية بلا دفاع نسبياً ، فإنتهز الصليبيون الفرصة وإستولوا على عسقلان فى صيف سنة 1153م، وقضوا على آخر معقل للفاطميين فى فلسطين. لكن الصليبيين لم يستطيعوا مد حكمهم إلى مصرنفسها، بسبب القوة المتصاعدة للدويلات التركية فى الشرق . كان ملك أورشليم منشغلاً بشدة بالهجمات الوحشية لزنكى، أتابك الموصل، والذى كان قد أضاف حلب إلى ممتلكاته على دجلة والفرات وهاجم سوريا، وهزم الصليبيين فى مذبحة كبيرة فى أثاريب سنة 1130م، وأخيراً إستولى على الرها فى غزوة الغزوات سنة 1144م. وبعد وفاة زنكى بعد عامين من ذلك التاريخ تولى إبنه نور الدين محمود مكانه كبطل الإسلام فى سوريا، وقد قوى من موقفه بشكل كبير بضمه دمشق سنة 1154م، والتى كانت قد دخلت فى تحالف دفاعى مع الصليبيين لفترة طويلة. وقد أضعف إنهيار الحملة الصليبية الثانية بقيادة الإمبراطور كونراد والملك لويس السابع من موقف الفرنجة، كما جعل تأسيس قوة كبيرة كقوة مملكة نور الدين فى حلب ودمشق فى الشمال والجنوب موقف مملكة أورشليم غيرآمن تماماً. وربما إذا ماكانت مصر قوية وتتبع نفس المذهب السنى، فإن تحالف مع دمشق كان من المؤكد أن يدفع بالصليبيين إلى الساحل ، كما فعل مثل ذلك الإتحاد بعد وقت قليل من ذلك التاريخ.
كان الوزراء المصريين مدركين تماماً لقيمة تأييد نور الدين، وكان إبن السلار قد فتح مفاوضات معه من خلال وساطة أسامة بن منقذ، والذى كان معروفاً لدى كلا البلاطين. ولكن نقطة ضعف نور الدين كانت حرصه الشديد، كما كان طموحه قانعاً بالمناطق الواسعة التى كان يمتلكها، بدون المغامرة بالدخول فى خطط أوسع. وبالإضافة إلى ذلك ففى الوقت الذى جعله كونه مسلماً شديد التقوى ملزماً بالجهاد ضد الكفار، فإن تقواه الشديدة تلك قد أثارت أيضاً شكوكاً ضد أى تحالف مع خليفة مصر المنشق. وهكذا حدث أنه بينما منع الخوف من نور الدين الصليبيين من غزو مصر، فإن الخوف من الهرطقة قد منع سلطان دمشق من التعاون مع مصر ضد العدو المشترك.
لم تكن دمشق ولا أورشليم يمكن أن تترك مصر تسقط فى يد الأخرى، ومن ثم فقد وجدنا القاهرة تصبح مركز النشاط الدبلوماسى. كان الوزير الصالح بن رزيك( طلائع بن رزيك) متحمساً لتحالف مع نور الدين، وكانت محادثاته التمهيدية المعبر عنها فى نص عربى بديع موجهاً إلى صديقه أسامة، والذى كان آنذاك فى دمشق مرة أخرى، قد زادت مع النصر الذى أحرزه جيش مصرى بقيادة ضرغام على الصليبيين بالقرب من غزة فى مارس 1158م ، وقد أثنت على بأس ومجموعات القوات والسفن المصرية، كما حثت نور الدين على القيام بمجهودات مماثلة مخططة لحملة كبرى وإنتصارات مشتركة، لكنه لم يتلقى سوى إجابات مراوغة، مغلفة فى قالب من المجاز الشعرى الغامض من صديقه أسامة. لقد كان من الواضح أن نور الدين لم يكن يثق فى الإقتراحات المصرية. وقد أرسل إبن رزيك حتى سفارة رسمية فى أكتوبر إلى دمشق مع هدايا جميلة ومجموعة من قصائد الحرب الخاصة بالوزير، مقدماً سبعين ألف دينار للحرب المقدسة لكن كل ذلك ذهب عبثاً.
ورغم فشل سياسته للعمل المشترك ضد الصليبيين، كان إبن رزيك مع ذلك ناجحاً فى الحفاظ على النظام فى مصر. وكما يقول إبن خلقان( لقد كان سامياً بفضائله الشخصية ، غزير العطاء ، مفتوح الباب ، راعياً كريماً للموهوبين من الرجال ، وشاعراً جيداً). وقد جُمعت أشعاره فى مجلدين، وكان لديه عادة سيئة فى قرائتها على أصدقائه، وليس بدون رد منهم . ومثل الوزراء الآخرين ، فقد بنى مسجداً، مازلت بقاياه تُرى بالقرب من باب زويلة، رغم أن كثيراً من زخرفته تُنسب إلى ترميم لاحق، ومع ذلك فلم يكن يخلو من الطمع، وقد منح إلتزام الضرائب لأعلى أصحاب عطاءات لفترة ستة أشهر، رغم مافى ذلك من ضرر كبير للفلاحين. وربما يكون قد إستطاع مقاومة سخطهم لفترة طويلة، لكنه قد قام بمخاطرة أكبر فى فرضه لنظام قاسى على بيت الخليفة.
مات الخليفة الصغير الفائز- إبن الظافر- فى يوليو 1160م عن عمر إحدى عشر عاما بعد ستة سنوات من الأسر الفعلى، ونوبات الصرع المستمرة. كان خليفته العاضد (1160-1171م) آخر الخلفاء الفاطميين، فى التاسعة من عمره فقط ، وقد إختير من بين الورثة العديدين الممكنين، ببساطة، لإن طفولته قد جعلت منه سهل القياد. ولكن كان على الوزير أن يحترس من نساء القصر اللاتى كرهن إشرافه القاسى، وقد نجحت إحدى عمات الخليفة، فى تدبير إغتيال الرجل العظيم. وبينما كان إبن رزيك يرقد محتضراً فقد توسل إلى الطفل - الخليفة - أن يرسل المرأة المذنبة للعقاب، وأن يجعلها تُعدم أمام عينيه. كانت آخركلماته تأسفاً على أنه لم يغزو أورشليم ويبيد الصليبيين، وكذلك تحذيراً لإبنه بأن يأخذ حذره من شاور، الحاكم العربى لصعيد مصر. كان التأسف والتحذير صحيحاً تماماً، فقد خلع شاور ، إبن الوزير، العادل رزيك، وأعدمه فى بداية سنة 1163م، وخلال نفس السنة كان ملك أورشليم المسيحى فى مصر.
كان تدخل عمورى نتيجة لتغير جديد فى الوزارة. كان شاور قد ُطُرد من القاهرة بواسطة المفضل شعبياً ، ضرغام ، وهو عربى من لخم ، كان قد قاد بنجاح القوات المصرية ضد الصليبيين فى غزة، وإحتفظ بمنصب قائد كتيبة البرقية وسيد الباب، وهو منصب كان يلى منصب الوزير مباشرة. هرب شاور إلى نور الدين، وإلتمس مساعدته. ولم يعرض أن يدفع نفقات الحملة العسكرية فقط، ولكنه وعد بثلث دخل مصر فى شكل جزية سنوية. لم يكن ملك سوريا غير عابئ بأهمية السيطرة على مصر، فقد كان يعرف أنها المفتاح الرئيسى للموقف السياسى، وأنها سوف تشكل مصدراً خصيبا للدخل. ومع ذلك فقد تردد فى قبول عروض شاور، فقد جعله عدم الثقة فى الرجل نفسه، والخوف من المخاطر التى قد تتعرض لها القوات، وهى تتقدم عبر الصحراء بحذاء الجناح الصليبى ، يرفضها مؤقتاً. ومع ذلك فقد تحركت الأحداث بسرعة شديدة تجاوزت إحتياطه، فقد إختلف ضرغام مع عمورى على الجزية السنوية( والتى من الواضح أن الوزراء المصريين كانوا يدفعونها فى الآونة الأخير إلى الصليبيين لمنعهم من غزو مصر) وبقرار فورى أقدم ملك أورشليم الجديد على غزو مصر. وبعد هزيمة مريرة بالقرب من بلبيس، وفى محاولة عبقرية لتجنب هزيمة كاملة، قام ضرغام بكسر السدود والممرات وأغرق البلد بماء الفيضان المحبوس، والذى كان فى أقصى إرتفاع له آنذاك. وتراجع عمورى فعلاً إلى فلسطين، ولكن غير راضى تماماً بالتسوية التى حصل عليها ، فعندما سمع ضرغام عن مفاوضات شاور مع نور الدين فى دمشق، فقد تنبه إلى خطأه بعدم التفاهم مع الملك اللاتينى، وأسرع بتقديم عرض بتحالف دائم تدعمه جزية متزايدة. ولابد أن نور الدين قد عرف بهذا، فقرر على الفور، مدعما بإستخارة سعيدة للقرآن، طرح شكوكه السابقة وقبل أن يتمكن عمورى من التدخل(بالتحالف مع ضرغام)، كان شاور يزحف على مصر (بالتحالف مع نور الدين) تسانده قوة كبيرة من التركمان من دمشق بقيادة شيركوه وإبن أخيه صلاح الدين ضمن مساعديه.
هُزم المصريون فى بلبيس، ولكنهم تجمعوا مرة أخرى تحت أسوار القاهرة. ولعدة أيام دارت معارك غير حاسمة كان شاور خلالها يسيطر على الفسطاط، بينما كان الطرف الآخر(ضرغام) يسيطر على قلعة القاهرة. إستولى ضرغام على أموال الأوقاف من أجل توفير المال، وعلى الفور بدأ الناس ينفضون من حوله. وزادت الأمور سوءً بهجران الخليفة والجيش له، وعندما وجد نفسه محاصراً نادى على الجمع للمرة الأخيرة. وعبثاً قرعت الطبول ودوت الأبواق (ماشاء الله) على شرفات القلعة، ولكن لم يستجيب أحد، وعبثاً وقف الأمير اليائس، يحيط به نحو خمسمائة من حرسه هى كل ماتبقى له من جيشه القوى، متضرعاً أمام قصر الخليفة على مدى يوم كامل ، وحتى بعد أن أذن الآذان لصلاة المغرب ،مستعطفاً إياه بذكرى أجداده ، أن يظهر من النافذة ويبارك قضيته. لم تصدر أى إجابة بل وأخذ حرسه نفسه يتفرقون من حوله تدريجياً، حتى لم يبق معه سوى حوالى ثلاثين فارس. وفجأة سمع صرخة تحذير( إحترس وإنجو بحياتك)، وهنا سُمع أبواق وطبول شاور داخلة من باب الجسر، وأخيرا خرج القائد المهجور من باب زويلة، لكن القوم المتقلبون قطعوا رأسه، وحملوها فى إنتصار خلال الشوارع وتركوا جسده تنهشه الكلاب. كانت تلك هى النهاية المأساوية لضرغام، رجل كريم شجاع ، شاعر ونصير.
وبعد أن عاد إلى السلطة كان شاور متحمساً لطرد كل حلفائه الذين ساعدوه على العودة. وبحرص أبعد شيؤكوه عن مدينة القاهرة المحصنة، وجعله يقيم فى الضواحى، ثم ، ولإعتقاده أنه كان آمناً داخل جدرانه القوية، بدأ فى تحدى حليفه، ونكث بكل وعوده ورفض دفع التعويض. لم يكن شيركوه بالرجل الذى يمكن أن يتخلى عن حقوقه، أو أن يعفو عمن ينكث بالوعد. أرسل شيركوه صلاح الدين ليحتل بلبيس وإقليم الشرقية. أجبرت تلك الحركة العدائية
شاور بدوره إلى أن يستغيث بعمورى(حليف ضرغام السابق) . ومع وصول الصليبيين كان الجيش السورى قد خندق على نفسه فى بلبيس، حيث أخذ يقاوم كل الهجمات على مدى ثلاثة اشهر، وفى النهاية حدث تغير سعيد فى صالحه. كان نور الدين يشن حملة ناجحة فى فلسطين، وبعد إنتكاسة على يد جلبرت دى لاسى وروبرت مانسيل إستطاع الإستيلاء على حران ووضع الحصارعلى قيصرية، بحيث أصبحت الحاجة ماسة لعودة عمورى للدفاع عن مملكته، والتى أصبحت معرضة للخطر بشكل كبير من حدودها الشرقية. لم يكن شيركوه أقل رغبة فى تخليص نفسه من موقف غير آمن ولامقبول، حيث كان معرضاً للهجوم طوال اليوم وكل يوم ، محبوساً خلف إستحكامات ضعيفة، ويعانى من نقص الطعام. و بناء على ذلك فقد تم تدبير هدنة وتوصل الطرفان إلى تفاهم، وفى السابع والعشرين من أكتوبر غادر السوريون معسكرهم وعبروا بين خطوط المتحالفين ، الصليبيين والمصريين ، بينما كان شيركوه نفسه يقود المؤخرة حاملاً بلطة فى يده.
إنتهت الحملة على مصر بدون مجد، ولكنها حققت هدفها فقد تجسست على البلد، وأصبح من الممكن لشيركوه أن يقرر بإطمئنان إمكانية وميزات ضمها. وكما قال، فقد كانت مصر (أرضاً بلا رجال) وذات حكومة غير مستقرة ضعيفة. كانت ثرواتها وعدم قدرتها على الدفاع تغرى بالعدوان. إستولت الرغبة العارمة على القائد الطموح من أجل عرش نائب الملك فى القاهرة، ومن ذلك الوقت فصاعداً أخذ يحث نور الدين بإصرار على أن يفوضه بغزو مصر. وقد ساند المزاج الجرئ السائد فى البلاط إلحاحه، حيث منح خليفة بغداد مباركته وتشجيعه لمشروع يتضمن خلع منافسه الزنديق( الخليفة الفاطمى). قاوم نور الدين، الحريص بطبعه، تلك التأثيرات لبعض الوقت، لكنه إستسلم أخيراً، ربما لإن إشاعات قد وصلته عن إتحاد قريب بين شاور والصليبيين، والذى سرعان ماثبت أنه كان قد تأسس فعلاً.
لقد كان حقاً سباقاً من أجل النيل. وقد بدأ شيركوه أولاً ، فى بداية سنة 1167م ، مع قوة من ألفى فارس مختار، آخذاً الطريق الصحراوى لوادى الغزال، كى يتجنب التصادم مع الصليبيين، ورغم أنه واجه فى الطريق عاصفة رملية عنيفة وكارثية، فقد وصل إلى أطفيح على النيل، حوالى أربعين ميلاً إلى الجنوب من القاهرة، حيث كان يمكنه العبور إلى الضفة الغربية بدون خوف من أى إزعاج. ومع ذلك فقد كان قد إستجمع جيشه بالكاد، عندما ظهر عمورى على الضفة الشرقية للنيل، بعدما أسرع بالمجئ من فلسطين بمجرد علمه بتحركات العدو. وتبع الجيشان الضفتان المتقابلتان زحفاً على القاهرة، حيث اقام عمورى معسكره بالقرب من الفسطاط، بينما إتخذ شيركوه موقعاً قبالته تماماً فى الجيزة. وهناك إنتظر كلا الطرفين أن يبدأ الطرف الآخر العمليات. وأثناء ذلك إستغل عمورى فرصة مزاج الوزير ( شاور) الودى، لوضع تحالفهما على أسس أكثر رسمية. ولإقتناعه بشخصية الوزير المتقلبة فقد صمم على عقد إتفاق معه يصادق عليه الخليفة شخصياً. كانت الشروط هى أن مصر يجب أن تدفع للملك مائتى ألف قطعة ذهبية فوراً، ومثل ذلك المبلغ فى تاريخ لاحق، وذلك مقابل مساعدته فى طرد العدو(شيركوه) . وفى هذه الإتفاقية مد عمورى يده لممثلى الخليفة، وطلب تصديق مماثل من الخليفة نفسه.
كان إدخال السفراء المسيحيين على الحضرة المقدسة، حيث كان يُسمح بذلك لقليل من المسلمين فقط، حتى من ذوى المكانة العليا، عملاً غير مسبوق، ولكن عمورى كان فى موقف يسمح له بإملاء شروطه. أعطيت الموافقة على الطلب، وتم إختيار هوف القيصرى، وجيوفرى فلشر الداوى لهذه السفارة الفريدة، وقد شرح لهم الوزير نفسه كل تفاصيل المراسم الشرقية لقصر الفاطميين الكبير. وتم إقتيادهم عبر دهاليز غامضة، وخلال أبواب محروسة، حيث حياهم سودانيون أقوياء بسيوفهم العارية، ووصلوا إلى ساحة فسيحة مفتوحة على السماء، يحيط بها قناطر مرتكزة على أعمدة رخامية. كانت السقوف المزخرفة محفورة ومطعمة بالذهب والألوان، وكان البلاط مصنوعاً من فسيفساء غنية. إمتلأت العيون الغير معتادة لهؤلاء الفرسان الخشنيين، بالدهشة الشديدة لهذا الذوق والجمال الذى كان يقابلهم فى كل خطوة ، فهنا قد رأوا نافورات رخامية، وطيور غير معروفة فى العالم الغربى، ذات أصوات كثيرة وريش رائع. وهناك فى قاعة أخرى أبدع حتى من الأولى ، رأوا أنواع عديدة من الحيوانات مثل مايمكن لليد العبقرية للرسام أن تصور، أو يخترع جنوح الشاعر، أو يستحضر عقل النائم فى رؤى الليل، ومثل مايمكن، فى الواقع ، لأقاليم الشرق والجنوب أن تستحضر من أشياء، لايمكن للغرب أن يرى أو حتى يسمع عنها. وأخيراً وبعد كثير من اللفات والدورات وصلوا إلى غرفة العرش، حيث أعلن حشد الخدم بملابسهم الزاهية عن بهاء سيدهم. ولثلاث مرات وبعد أن حل سيفه سجد الوزيرعلى الأرض، كما لو أنه فى تضرع ذليل إلى إلهه، وعندئذ وفى حركة سريعة مفاجئة فُتحت الستائر الثقيلة المزخرفة بالذهب واللؤلؤ، وعلى عرش ذهبى ظهر الخليفة جالساً مرتدياً حتى أكثر من زى الملوك.
وقام الوزير بتقديم الفرسان الأجانب فى تواضع، ووضح فى كلمات خنوعة الخطر الشديد المحدق والصداقة العظيمة لملك أورشليم. ورد الخليفة، وهو شاب أسمرخرج لتوه من مرحلة الطفولة، بكبرياء مهذب، قائلاً أنه كان مستعداً لإن يصادق بأرحب طريقة على التعهدات التى تمت مع حليفه المحبوب، ولكن عندما طُلب منه أن يعطى يده فى تعهد منه بالوفاء، تردد وجرت رجفة من الإمتعاض من جرأة الغريب خلال القاعة الصاغية. ومع ذلك ، وبعد تردد ، مد الخليفة يده، كما كانت فى قفاز، إلى السير هوف. وتكلم الفارس الجرئ إليه مباشرة قائلاً (سيدى إن العهد ليس له غطاء ، ففى صفاء نية الأمراء ، كل شئ عار ومفتوح). وأخيرا، وبشكل إضطرارى تماما ، وكأنه ينتقص من كرامته ، خلع الخليفة القفاز، وهو ينتزع إبتسامة ووضع يده فى يد هوف، وهو يقسم كلمة بكلمة على حفظ العهد بأمانة وكل صفاء نية.
وهكذا تم التصديق على المعاهدة، وحاول عمورى إقامة جسر من القوارب على النيل، ولكن وجود العدو على الجانب المقابل أفشل الخطة، فلجأ إلى حيلة أخرى. وبالنزول إلى حيث يتفرع النيل إلى مجرييه الرئيسيين، نقل جيشه إلى الدلتا ليلاً، ومن هناك عبر إلى الضفة الأخرى فى السفن. إكتشف شيركوه الحركة متأخراً كثيراً، بحيث لم يستطع مواجهتها، وعندما وجد أن العدو قد نزل ، تراجع إلى الصعيد. ولحق به الملك عند البابين ، حوالى عشرة أميال إلى الجنوب من إلمنيا. كانت المنطقة عبارة عن سهل واقع على الحدود حيث تلامس الأرض المزروعة الصحراء، وحيث أعطت كثير من الهضاب الرملية غطاءً للمتحاربين. وفى البداية نصح ضباط شيركوه بعدم المخاطرة بالدخول فى معركة، ولكن أحدهم برز إلى الأمام وصاح قائلاً ( هؤلاء الذين يخافون الموت أو الإسترقاق ليسوا جديريين بخدمة الملوك ، دعهم يحرثون الأرض أو يجلسون فى البيوت مع زوجاتهم). وصاح صلاح الدين وآخرون مستحسنيين فأعطى شيركوه ، المستعد دائما للمهام الصعبة، إشارة بدء المعركة فى 18 أبريل 1167م. وضع شيركوه أمتعة الجيش فى المركز ، تحيط بها قوات صلاح الدين، والتى كان عليها أن تتحمل الصدمة الأولى للهجوم. كانت أوامر صلاح الدين هى التراجع إلى الخلف عند الضغط وجر العدو فى مطاردة، ثم أخذ المبادرة بالضغط عليه، كيفما تسمح ظروف القتال. وأخذ شيركوه نفسه قيادة الجناح الأيمن، والذى كان يتكون من جسم من فرسان مختارين، والتى كان عليها أن تقطع مؤخرة العدو، والتى تتكون من أقل المصريين قدرة حربية. وقد حدث كما توقع، فقد جُر الصليبيون بواسطة صلاح الدين وقُطع المصريون وسحقوا، وعندما عاد الصليبيون من المطاردة ووجدوا أن حلفائهم المصريون قد هربوا، تراجعوا بسرعة أيضاً، تاركين أمتعتهم وهوف القيصرى بين الأسرى. ومع ذلك فلم يكن المنتصر قوياً للدرجة التى تسمح له بمتابعة النجاح، والزحف على القاهرة والقضاء على شاور وعمورى. ومختاراً المخاطرة الأقل، سار شيركوه شمالاً بطريق الصحراء، ودخل الإسكندرية بدون مقاومة. وهناك اًقام صلاح الدين كحاكم مع نصف جيشه، بينما إتجه جنوباً بالنصف الثانى من الجيش لتحصيل المساعدات من الوجه القبلى.
حاصرت القوات المشتركة للصليبيين والمصريين/الفاطميين الإسكندرية، بينما حاصر الأسطول المسيحى الساحل. كان الدفاع عن الإسكندرية هو أول قيادة مستقلة لصلاح الدين، وقد ابلى بلاءً حسناً. لم يكن لديه سوى حوالى ألف من أتباعه الشخصيين، وذلك وسط سكان هجين ، أجانب إلى حدما ، والذين كانوا ساخطين، بحيث لم يكونوا آسفين على الإشتراك فى عمل ضد الحكومة الضعيفة، أوعلى الدفاع عن مدينتهم ضد الصليبيين المتوحشين المتعطشين للدماء. ولكنهم ، وكتجار وأصحاب أعمال ، لم يستطيعوا إخفاء خوفهم من آلات الحصار والآلات الشيطانية، التى وضعها الكفار على جدران مدينتهم. وبالإضافة إلى ذلك فقد قلت المؤن وجاعت البطون. وفى النهاية ثاروا وأعلنوا العصيان، وتحدثوا عن الإستسلام صراحة. وأثناء ذلك أرسل صلاح الدين إلى عمه طلباً للمساعدة، وأسرع شيركوه عائداً من قوص، محملاً بثروة. شجعت تلك الأخبار الناس، والذين كانوا قد شُجعوا بالفعل بتحفيزات صلاح الدين الشجاعة والوعد بالنجدة، أو كانوا قد إستبد بهم الخوف لدرجة دفعت بهم إلى حالة من الشجاعة اليائسة، بسبب حكاياته لهم عن الأفعال البربرية الوحشية التى يلحقها الصليبيون بالمهزومين. فصمدوا لخمسة وسبعين يوماً، رغم الجوع والهجمات المتواصلة وذلك حتى اصبح معروفاً أن شيركوه قد وصل إلى بركة الحبش، وأنه قد ضرب الحصار على القاهرة. وعند هذه اللحظة تخلى عمورى عن كل تفكير فى الإسكندرية، وتم تدبير صلح إتفق بمقتضاه الطرفان على ترك مصر للمصريين. وإستسلمت الإسكندرية لشاور، وتم تبادل الأسرى وقاد شيركوه البقية المنهكة من جنوده الألفين عائداً بهم إلى دمشق.
أعلن المسيحيون الحملة إنتصاراً، وإخلاء الإسكندرية كإستسلام ، ولكن إذا كان المؤرخون العرب صادقين فى قولهم أن عمورى قد دفع لشيركوه خمسين ألف قطعة ذهب ليرحل، فإن الإنتصار سوف يبدو هنا وكأنه كان إلى جانب المسلمين.ٍ ومن ناحية أخرى ، فإن الصليبيين ، وفى إنتهاكهم لإتفاقيتهم ، لم يتركوا فقط حامية بالقاهرة، ولكنهم أيضاً قد صمموا على تزويد بوابات المدينة بحرس من جنودهم ، وأيضاً زادوا من المساعدة السنوية التى كان يدفعها شاور إلى ملك أورشليم إلى مائة ألف قطعة ذهبية. وغير قانعين بكل هذا، فإن مستشارى عمورى الأكثر تهوراً ، قد أخذوا يحثون على غزو شامل لمصر، وقد أيدهم فى ذلك وبكل قوة (جنود) الحامية التى تركها الصليبيون فى القاهرة والفسطاط ، والذين كان لديهم ، بطبيعة الحال ، أفضل الوسائل لإكتشاف ضعف دفاعاتها. وزحف ملك أورشليم مرة أخرى على مصر، ولكنه هذه المرة قد دخل كعدو بينما كان قد إستدعى من قبل كحليف(من قبل شاور). وبعد وصوله إلى بلبيس فى الثالث من نوفمبر سنة 1168م، أضاف إلى جريمة الغدر جريمة المذبحة الجماعية، والتى لم يستثنى فيها عمراً ولاجنساً فى المدينة البريئة ، كما يقول المؤرخ اللاتينى.
جعل هذا العمل البربرى المصريون يميلون إلى جانب نورالدين فوراً، كما ألهمهم كثيراً من أعمال البطولة. وقد إستفادوا من تباطئ المسيحيين الأحمق، فقاموا بتنظيم قواتهم وتعزيز دفاعاتهم. وكى لايتخذ منها الصليبيون مأوى، وبناء على أوامر شاور، أحرقت مدينة الفسطاط القديمة، والتى كانت على مدى ثلاثمائة سنة عاصمة لمصر، وكانت مازلت تُمثل ضاحية مكتظة بالسكان من ضواحى القاهرة. وتم إشعال عشرين ألف برميل نفط وعشرة آلاف شعلة.، وإستمرت النيران لأربعة وخمسين يوما، ومازلت آثارها يمكن أن تُرى فى صحراء أكوام الرمال، الممتدة لأميال من النفايات المدفونة على الجانب الجنوبى من القاهرة. وفر الناس كأنهم يفرون من قبورهم ، وهجر الأب أطفاله، والأخ توأمه، وإندفع الجميع نحو القاهرة طلباً للنجاة. وأصبح إيجار جمل للإنتقال ميل أو ميلين يكلف ثلاثين قطعة من الذهب. كانت العاصمة نفسها فى إضطراب الإستعداد للهجوم، ومع ذلك فقد تأجل الهجوم بسبب المفاوضات التى دبرها شاور ببراعة ليرشو مهاجميه الجشعين. ولكن دبلوماسيته كانت دبلوماسية الخداع وليست دبلوماسية الأمانه، ففى نفس الوقت الذى كان يتفاوض فيه مع الصليبيين كان يرسل الرسل إلى دمشق يتوسل مساعدة نور الدين. وكتب خليفة مصر الصغير إليه بنفسه، وضمن حتى خطابه بعض خصلات من شعور نسائه ،كأقصى أعمال التوسل والتى لايمكن لرجل شريف أن يرفضها. وهذه المرة لم يتردد ملك سوريا فقد كان مغتاظاً للنتائج الفقيرة للحملتين السابقتين، كما كان غاضباً على الصليبيين لما إعتبره نكثاً فاضحاً للعهد، وربما كان ينوى حتى الخروج بنفسه، لولا أنه كان مشغولاً بالحالة الغير مستقرة للعراق، ومع ذلك فلم يضع وقتاً فى إرسال قوة من ألفى فارس مختارين من حرسه الخاص، مع ستة آلاف تركمانى مستأجرين من ذوى الشجاعة الموثوقة، وذلك تحت قيادة شيركوه يساعده فريق كبير من الأمراء المتنافسين. وأشرف نورالدين بنفسه على تنظيم الجيش عند رأس النبع ، على بعد يوم من دمشق ، وأعطى كل رجل عطية من عشرين قطعة ذهبية، بينما عهد إلى شيركوه بمائتى ألف دينار لخزانته العسكرية.
وفى السابع عشر من ديسمبر سنة 1168م، بدأت الحملة الثالثة مسيرها إلى مصر، لتنقذ شاور مرة أخرى، ولكن إسمياً فقط، بينما كانت فى الواقع تحمل أهدافاً أكثر إتساعاً. كان عمورى، الجشع دائماً والمحتاج دائماً، مازال منتظراً أمام القاهرة لمزيد من الذهب الذى وعد به الوزير، وذلك عندما تمكن شيركوه فجأة من الإلتقاء بالمصريين فى الثامن من يناير 1168م، متجنباً الجيش الصليبى الذى كان قد خرج لإعتراض تقدمه. وبعد خديعته من قبل شاور وتفوق شيركوه عليه، عاد الملك المحبط إلى فلسطين بدون الدخول فى معركة، ولم يكسب أكثر من خفى حنين ، كما يقول المثل. ودخل السوريون القاهرة منتصرين، حيث رُحب بهم كمخلصين. وإلتقى الخليفة الممتن بشيركوه، وخلع عليه خلعة الشرف، والتى عاد مرتدياً إياها ليظهر بها أمام الجيش. أخذ شاور، والحسد يأكل قلبه من الداخل، يركب يومياً إلى المعسكر السورى، فى أبهة عظيمة بكل أعلامه وطبوله، غامراً شيركوه بكل آيات الحب، ولكنه وفى نفس الوقت لم يتخذ أى خطوة نحو تنفيذ إلتزاماته تجاه نور الدين، بل كان فى الواقع يفكر فى خيانة شيركوه، وترتيب القبض عليه هو وضباطه فى وليمة يعدها خصيصاً لذلك. وسرعان ما قرر القادة السوريون أنه لم يكن محلاً للثقة، وعزم جوردك وصلاح الدين على التخلص منه. وعندما كان شاور راكباً لزيارة شيركوه، والذى تصادف أنه كان فى زيارة لمقبرة الإمام الشافعى، جره صلاح الدين ورجاله من فوق ظهر جواده وأخذوه أسيراً. وتحرر شيركوه من حيرته بشأن مصير شاور بأمر نهائى من الخليفة نفسه، الذى طلب رأس الوزير. وهكذا إنتهت السيرة القصيرة المتقلبة لوزير سياسى بارز و قائد عربى ذا أصول قديمة ، له كل شجاعة البدو، وحبهم الموروث للشعر ، لدرجة أنه قد ملأ يوما فم الشاعر عمارة اليمنى بالذهب جزلاً بأحد قصائده الغنائية، وكذلك ، بكل نصيب العرب من الخداع والغش.
قام الخليفة العاضد، والذى كان متأثراً بشدة بالدعم الشهم لمخلصيه ، بتعيين شيركوه على الفور فى المنصب الخالى، خالعاً عليه خلعة الوزير، مخولاً إياه سلطات مطلقة، ومانحاً له لقب الملك الناصر، والقائد الأعلى للجيش. كان الناس سعداء أيضاً مثلهم مثل خليفتهم، فقد أحبوا الجندى المرح، بينما كان يجوب بلادهم منذ حوالى عام ونصف ، حتى ولو كان فارضاً للضرائب، كما قدر السوريون الحرية التى كان ينفق بها من خزانته العسكرية الثقيلة، ولإنه أنعشهم بالسماح لهم بنهب قصر شاور، حيث لم يتركوا حتى وسادة يجلس عليها خلفه الكريم.
وقد رأى الشاعر العربى بوضوح أكبر، عندما لاحظ أن مخالب الأسد كانت تطبق الآن على فريسته. ومع ذلك فلم يعش أسد الدين شيركوه لأكثر من شهرين ليستمتع بفريسته، حيث مات فجأة فى الثالث والعشرين من مارس سنة 1169م، وخلفه إبن أخيه الشهير، صلاح الدين ، وبعد سنتين من ذلك التاريخ تم إزالة الخلافة الفاطمية.
ومن الملاحظ أنه برغم أن كثيراً من الخلفاء الفاطمين كانوا رجالاً ذا ثقافة فكرية ، عظيمى التقدير للموهبة الأدبية، فإن فترة حكمهم لم تنتج كثيراً من الكتاب ذوى المواهب الإستثنائية. لم يكن ذلك بسبب نقص التشجيع، لإن كثيراً من وزراء مصر وكذلك الخلفاء، كانوا كرماء فى عطائهم للأدباء والشعراء ورجال الدين، فقد إعتاد الوزير يعقوب بن كلس ، مثلا ، عقد إجتماع ليلة كل خميس، حيث إعتاد أن يقرأ مصنفاته على العلماء والخطباء والنحويين ورجال الدين المجتمعين، كما إعتاد الشعراء أن يتلو أشعارهم، والتى كانت عادة فى مدح مضيفهم. وقد وظف إبن كلس موظفين دائمين لنسخ المخطوطات، وكان كل يوم يمد مأدبة عظيمة للرجال المثقفين، الذين ضمهم إلى بيته وللضيوف الآخرين. كان طبيب الخليفة تميم الأورشليمى رجلاً ذا علم حقيقى، كما كتب أمين مكتبته الشبوشطى تاريخاً للأديرة. وقد كان أبو راكماك الأنطاكى (حوالى 1008-1009م)، الذى وصفه طالابى بلؤلؤة عصره ، ومزيج كل الإبداعات وسيد الشعر فى أضوائه وفى معانيه الجادة، بين المادحين الذين حضروا إستقبالات إبن كلس، وكتب قصائد فى مدحه وفى مدح الخلفاء ، المعز والعزيز والحاكم. وقد عاش الكندى ، مؤرخ وجغرافى مصر، فى الفسطاط ( حوالى 961م)، وكذلك إبن زولاق، الذى أكمل تاريخ الكندى، عاش هناك( حوالى سنة997م)، وهو مصرى كتب تاريخاً للقضاة. ولكن أشهر رجال العصر الفاطمى المبكر، كان القاضى النعمان وأبنائه وأحفاده، والذين تولوا أعلى المناصب القضائية والدينية على مدى أربعين سنة منذ غزو الفاطميين لمصر، حتى منتصف عهد الحاكم والذى خصهم بمميزات خاصة. لم يكن هؤلاء القضاة ، مثلهم مثل معظم رجال طبقتهم ، مجرد رجال مثقفين فى القانون وقضاة قديرين، ولكنهم كانوا أيضاً رجالاً على أعلى درجة من التعليم الذى وفره ذلك العصر، ملمين بكل فروع الأدب العربى، وكانواأنفسهم مؤرخين وشعراء. ومن أشهر المسئولين المدنيين فى عهد الحاكم، كان المسبحى ( حوالى سنة 1029م)، وهو مصرى بالمولد، وقد كتب تاريخ بلاده فى ستة وعشرين ألف صفحة، كما كتب أعمالاً أخرى فى العقيدة والشعر والتنجيم وغرائب الأدب والتاريخ وفنون المائدة، فيما يقرب من خمسة وثلاثين ألف صفحة أخرى. وقد جذب غنى البلاط الفاطمى والتشجيع الذى أعطاه للعلوم الأدبية، كثيراً من الأجانب إلى القاهرة. وقد كان من هؤلاء الزوار القضاعى المؤرخ والقانونى ( حوالى سنة1062م)، وإبن بابشاد النحوى( حوالى سنة1077م)، وأبو يعقوب النجرامى البصرى ( حوالى سنة 1126م)، وهو عالم لغوى مشهور، ظلت المخطوطات العربية فى اللغة والشعر وفى أيام العرب ، والمنسوخة بآخر قلم دقيق، وبسعر معتدل للغاية ، أو مروية شفوياً بإملائه الدقيق ، هى النصوص المعتمدة فى مصر. كما كان الشاعر إبن الخلال ( حوالى سنة 1171م)، - والذى يصفه معاصره عماد الدين( سكرتير صلاح الدين)، كبؤبؤ عين مصر، وأنه يحوى كل الخصائص النبيلة لبلاده فى عصر الحافظ ، رئيساً لديوان الإنشاء، حيث نشأ فن المراسلات الكتابية فى أبهى نماذجه إتقاناً. وعندما كان يتم سؤال أحد المرشحين للقبول فى ذلك الديوان، عن المؤهلات التى يملكها لفن المراسلة، كان يجيب بأنه لايعرف شيئاً سوى أنه يحفظ القرآن والحماسة عن ظهر قلب. وكان ذلك كافياً ، كما يقول إبن الخلال. لقد كان ذلك كما لو قال رجل إنجليزى أنه يستطيع ترديد الإنجيل كله، وكذلك موسوعةالخزانة الذهبية (فى الشعر الإنجليزى). كان الوزير إبن السلار مسلماً شافعياً ورعاً، كما كان حاكماً مستبداً، وقد كان للمدرسة التى أسسها فى الإسكندرية لنشر تعاليم المذهب الدينى الذى بدأه الإمام الشافعى، رئيساً رائعاً فى شخص رجل الدين البارز السلافى الأصفهانى(حوالى سنة 1180م)، والذى كان بين تلاميذه إبن الغراء(حوالى سنة 1219م)، الشاعروالخطاط ومفخرة ديوان الإنشاء. كان القاضى الرشيد إبن الزبير( حوالى سنة 1166م)، الشاعر والرجل عظيم الثقافة ، صديقاً آخرمن أصدقاء إبن السلار.
أما لماذا لم يوجد عدد أكبر من الأدباء البارزين خلال قرنين من الحكم الفاطمى فى مصر، فيمكن إرجاع ذلك جزئياً إلى عدم أمان الحياة فى ذلك العصر، فعلى سبيل المثال فقد ضرب الحاكم بأمر الله عنق شاعر بلاطه، عبدالغفار بإستهتار، وكذلك كان الحال بالنسبة لكثير من آل النعمان ، القضاة البارزين ، ولكن سبب ذلك يعود بشكل أساسى إلى الطبيعة الهرطقية للمملكة الفاطمية. فقد تجنب المسلمون السنة بلاط خلفاء كانوا يرفضون عقائدهم ودعاويهم تماماً، ومع ذلك فإن جمهور الطلاب فى القاهرة قد عبروا عن كثير من النشاط الفكرى لهذه الفترة، ورغم أن جامعة الأزهر لم تكن بعد حققت شهرتها التى حققتها بعد ذلك تحت الحكم السنى للمالك التالية، فقد كان فيها بالفعل نواة مدرسة فكرية دينية عظيمة. لقد بدأت حقبة الكليات المصرية مع حكم صلاح الدين. وفى الفن، كما رأينا ، فإن الثروة الضخمة للفاطميين كانت تميل إلى تشجيع إنتاج الموضوعات الكمالية الثمينة والجميلة، كما كان الخلفاء ووزرائهم بنائين عظماء. ومازال الجامع الأزهر وجامع الحاكم يقفان ليشهدا على حماسهم، كما تُظهر بقايا المساجد والزوايا الأصغر للأقمر أو للصالح بن رزيك التصميمات الجريئة والفعالة والنقوش الكوفية الصارمة، التى إشتهر بها الفن الفاطمى. وتعتبر بوابات القاهرة الثلاث الضخمة ، والتى بُنيت بواسطة معماريين رومان، وتشبه فى تخطيطها وتفاصيلها البوابات الثقيلة للقلاع البيزنطية، من أهم الآثار الباقية للحكومة الشيعية فى مصر. وإنه لمن الجدير بالملاحظة أن الصيغ الهرطقية للعقيدة والمنقوشة فى شكل كوفى جميل على بوابة النصر فى حكم المستنصر قد إستمرت ، فى إنتصار، بعد ثمانية قرون من الحكم السنى.








أهم المراجع :

المراجع السابقة بالإضافة إلى أسامة بن منقذ ، و بهاء الدين زهير ، ووليم الصورى






















7- صلاح الدين
( 1169-1193م )

كانت حقبة حكم صلاح الدين ، وبرغم قصرها، هى الأمجد فى تاريخ مصر الإسلامية، ولكنها تدين بهذا المجد لأسباب تقع خارجها. فمن سنوات حكمه البالغة أربعة وعشرين سنة،قضى صلاح الدين ثمانية منها فقط فى القاهرة، بينما قضى الستة عشر عاماً الأخرى فى حروب فى سوريا والعراق وفلسطين. ويمكن أن نصف هذه الحروب الخارجية هنا بإختصار فقط ، بينما يظل تركيزنا الأساسى على شئون مصر نفسها.
ولد صلاح الدين فى تكريت سنة1137-1138م، وكان إبنا لأيوب ، وهو ضابط كردى كان فى خدمة الخليفة العباسى، ثم دخل فى خدمة الأتابك زنكى حاكم الموصل بعد ذلك. لم يكن شباب صلاح الدين مميزاً بأى حال، وعندما أصبح أبوه حاكماً لدمشق، عاش صلاح الدين عشرة أعوام فى بلاط نور الدين، دون أن يصنع شيئاً مميزاً. ومن الواضح أنه لم يشترك فى الحملات السورية لعمه شيركوه، والذى كان القائد العام لدى نور الدين، فقد أحب العزلة وظل حتى الخامسة والعشرين من عمره شخصاً مغموراً تماماً. ورغم أنه قد صاحب الحملات على مصر فى سنة 1164م، وسنة 1167م ،وصنع لنفسه شهرة فى معركة البابين، والدفاع عن الإسكندرية، فإنه لم يكن راغباً تماماً فى مصاحبة الحملة الثالثة سنة 1168م، والتى أثبتت أنها كانت نقطة إنطلاقه نحو الإمبراطورية. كان توليه لمنصب وزير الخليفة الفاطمى عند وفاة عمه فى مارس 1169م، يعود جزئياً بلا شك إلى صلة القرابة، ولكنه كان يعود بشكل أساسى ، وكما يبدو، من إعتقاد البلاط المصرى بأن رجل شاب غير طموح كهذا، سوف يكون من السهل قيادته. وقد عارض زملائه هذا التعيين، ورغم أن غالبيتهم قد أمكن إستمالته بالحيلة والهدايا، فإن عددا من المحاربين الحاسدين قد إنسحبوا إلى سوريا.
كان منصب الوزير الشاب شيئاً فريداً تماماً، فقد أصبح فوراً الوزير الأول لخليفة شيعى مهرطق، وقائد لملك سنى فى نفس الوقت( أى نور الدين). وفى تعارض جليل كان الإسمان يضمنان فى نفس الصلاة كل يوم جمعة فى المسجد. كان السكان المسلمون ينتمون إلى كلا المذهبين، ولكن يمكن الإفتراض أن قرنين من الحكم الفاطمى قد أعطيا بعض التفوق للمذهب الشيعى. كان كسب ولاء الناس هو هدف صلاح الدين الأول، وذلك من أجل أن يقوى نفسه فى مواجهة الحسد الواضح لسيده ملك سوريا، وأيضاً لكى يمهد الطريق من أجل إزالة الخلافة الشيعية وتأسيس ملكية مستقلة فى مصر.
وبسبب كرمه وسحره الشخصى، فسرعان ماحصل صلاح الدين على ثقة المصريين، كما قوى إحلاله لأبيه وإخوته، وكانوا من الواضح أسرة نبيلة قديرة، مكان بعض ضباط البلاط المشكوك فيهم من مركزه. وتم قمع إنتفاضة لقوات الخليفة السوداء بعد قتال شديد فى الشوارع، وتم نفى السودانيين إلى الصعيد، حيث إستمرت الثورة هناك لعدة سنوات. وماكاد يتم السيطرة على ثورة الزنوج حتى هوجمت دمياط من قبل الأساطيل المشتركة للإمبراطور الرومانى الشرقى ( البيزنطى)، وملك أورشليم ، والذى بلغ نحو مائتين وعشرين سفينة. وبسرعة قام صلاح الدين بتعزيز حامية دمياط ، والتى أثبتت أنها أصبحت قادرة على مقاومة منجانيقات وأبراج الحصار المتحركة القوية للعدو، وذلك بينما قام جيش القاهرة بمناوشتهم خارج دمياط. وجاءت المجاعة والعاصفة لمساعدة المسلمين، وطلب الغزاة نصف الغرقى الجائعين السلام ، وعادوا فى كمد عظيم إلى فلسطين. كانت تلك هى نقطة التحول فى الصراع الصليبى المصرى، فمن الآن وصاعداً فبدلاً أن تبادر بالهجوم، أجبرت مملكة أورشليم على إتخاذ موقف دفاعى.
تابع صلاح الدين ذلك النجاح بغارة على فلسطين قام فيها بنهب مدينة غزة، وفى نفس السنة إستولى على إيلة الواقعة على رأس خليج العقبة، مفتاح طريق البحر الأحمر بالنسبة للحجاج إلى مكة. ولكى ينفذ تلك العملية لجأ إلى وسيلة كررها خصومه بعد ذلك، حيث قام ببناء السفن فى أجزاء فى القاهرة، ثم حملها براً إلى البحر الأحمر، حيث تم تجميعها هناك. أكسبت هذه النجاحات ضد الكفار صلاح الدين شعبية كبيرة فى مصر، لدرجة جعلته يشعر أنه كان قوياً بمايكفى للقيام بخطوة حاسمة. فكسنى مخلص، كان يعانى من جراء إعترافه القهرى بخليفة مهرطق، وهو موقف كان قد خضع إليه فقط بسبب عدم يقينه من التأييد الشعبى. ولكى يثقف الرأى العام فقد أسس ثلاث مدارس سنية فى سنة 1170م، والآن ومع إضافة الشهرة التى حققها من الحرب المقدسة( الجهاد)، التى تم شنها فى فلسطين بنجاح، فقد قرر إعلان إسم الخليفة العباسى، بدلاً من الخليفة الفاطمى فى المساجد فى يوم الجمعة العاشر من سبتمبر سنة1171م. مرت هذه الثورة الدينية بدون تذمر، فقط بدت الجموع المحتشدة مندهشة. ولحسن حظه فلم يعرف آخر الخلفاء الفاطميين(العاضد) أبداً بسرعزله، فقد كان حبيساً فى قصره منذ وصول صلاح الدين، وعندما أزيل إسمه كان يرقد محتضراً. وعلى سبيل الرحمة أخفيت عنه تلك الأخبار، ومات آخر سلالة تلك الملكية ال شهيرة، والذى كان قد مُنح مثل تلك الفرص العظيمة، وكان قد أساء إستخدامها بإزدراء شديد، بعد ثلاثة أيام من ذلك التاريخ جاهلاً بسقوطه. وقد تم التحفظ على أسرته وأقربائه فى أسر ذهبى، بينما وزع عبيده وخدمه الثمانى عشر ألفا.
لم يحتفظ صلاح الدين لنفسه بشئ من كل الكنوز التى وجدها فى القصور، فأعطى البعض منها لرجاله، والبعض الآخر أهداه لسيده نور الدين، كما أعطى المكتبة المكونة من مائة وعشرين ألف مخطوط إلى مستشاره المثقف ، القاضى الفاضل ، بينما بيع الباقى للجمهور العام. وأيضاً لم تناسب الإقامة فى القاعات الملكية للخليفة الراحل مزاجه البسيط والمتقشف فى الحياة، فظل مقيماً فى منزل الوزير، وأعطى القصور لضباط الجيش. وحيث لم تعد قصور الفاطميين الجميلة مقر إقامات ملكية، فقد إستسلمت للإضمحلال وإندثرت، ولم يبق منها حتى أثر واحد. وكما صاح الشاعر عمارة اليمنى( آه يا لائمى لحبى لأبناء فاطمة، تعالى شاركنى الدموع على القاعات المقفرة للقصرين التوأمين).
تنقسم حياة صلاح الدين السياسية، ومنذ صعوده إلى السلطة، إلى ثلاث مراحل رئيسية، والتى يمكن تسميتها بالمصرية، والسورية، ثم الفلسطينية، وذلك في علاقتها بالمشهد الأساسى للفعل السياسى، أى الدفاعى والتوافقى ثم الهجومى. فمنذ اليوم الذى اصبح فيه حاكماً لمصر، نذرصلاح الدين نفسه بإخلاص للجهاد المقدس، أى حرب الإبادة ضد الصليبيين، ومن ثم فقد وجهت كل سياساته نحو ذلك الهدف العظيم. واثناء المرحلة الأولى أو المرحلة المصرية (1169-1174م) إتخذ موقفاً دفاعياً ليس فقط ضد الصليبيين، ولكن أيضا ضد أصدقاء الفاطميين، وحتى ضد مليكه الشرعى ملك سوريا نورالدين محمود. كانت سياستة فى تلك المرحلة هى مقاومة الهجوم الداخلى والخارجى، أى تجنب أى صدام مع نورالدين، وتقوية نفسه فى القاهرة بكل الوسائل المتاحة سياسياً وعسكرياً.
أما المرحلة الثانية أو المرحلة السورية(1174-1186م)، والتى بدأت بوفاة نور الدين، فقد رأى فيها صلاح الدين نفسه كالحاكم المسلم القائد للشرق الأدنى، وبدأ فى مد نفوذه على سوريا والعراق، وتجميع كل القوى الإسلامية المتاحة من أجل المعركة النهائية مع الكفار.أما المرحلة الثالثة أو المرحلة الفلسطينية (1186-1193م)، فقد كانت مكرسة تماماً إلى الحرب المقدسة ضد الصليبيين، وإنتهت بصلح الرملة والذى أعقبه بشهور قليلة وفاة بطل الإسلام (صلاح الدين).
وخلال كل تلك المراحل الثلاث، كان هناك هدف واحد حوفظ عليه بثبات، حيث وجه كل فعل سياسى وكل حملة إلى الموضوع الأساسى، أى خلق إمبراطورية إسلامية متحدة قوية بما يكفى لدفع الصليبيين إلى ساحل البحر، إن لم يكن إلى البحر نفسه. وبصرف النظر عن أى طموحات شخصية قد تكون إختلطت، بغير وعى ، بذلك الهدف، فإن التعظيم فى حالة صلاح الدين كان يعنى فى المقام الأول ، إن لم يكن المقام الوحيد ، إنتصار الإسلام على الكفار.
لقد كانت المرحلة الأولى أو المرحلة المصرية قد بدأت على نحو جيد، فلم يغامر الصليبيون بالعودة إلى مهاجمة مصر عن طريق البر مرة أخرى، كما فشل هجومهم عن طريق البحر، كما إنتهى تمرد القوات السودانية فى القاهرة، وكانت أعظم الأخطار الداخلية، بطردهم إلى الصعيد، وأزيلت الخلافة الفاطمية دون أن يكلف ذلك سوى مجرد إشارة خافتة من عدم الرضى الشعبى.
كانت الخطوة التالية هى تحصين نفسه، بالمثل، ضد الثورة الداخلية والغزو الخارجى. كان الفاطميون قد إكتفوا بقصر محصن على السهل، لكن صلاح الدين أدرك بعين الجندى ضعف ذلك الموقع، وإختار بالفعل موقعاً أفضل لذلك الغرض. فحتى ذلك الوقت كانت كل الملكيات المتعاقبة التى حكمت مصر قد وسعت العاصمة بمدها على شكل ضواحى بإتجاه الشمال الشرقى، ولكن بدلاً من ذلك فقد فكر صلاح الدين فى توحيد مواقع العواصم الأربع وبناء قلعة، وهى قلعة الجبل الشهيرة، على أقصى حافة الطرف الغربى لجبل المقطم، وذلك كى تكون مركز الحكومة، ولتمثل موقع عسكرى حصين قادراً على ترهيب كل المدينة، وعلى صد الهجمات الخارجية. كانت خطته هى ربط هذه القلعة بجدار حصين مع التحصينات القديمة للمدينة الفاطمية، ومده بحيث يشمل موقع الفسطاط والقطائع ومن ثم يصل إلى النهر، ولكن الخطة لم تكتمل، وحتى القلعة نفسها لم تكتمل إلا بعد فترة طويلة من وفاة صلاح الدين. صاحب توسيع صلاح الدين لمساحة المدينة، هدم لكل الضواحى الواقعة بين المدينة القديمة ومقام نفيسة، حيث إستبدلت تلك الأماكن بحدائق للنزهة، ويقال أن بوابة زويلة الطويلة كان يمكن رؤيتها من باب مسجد إبن طولون، وقد وجد جيهان ثينود، الذى صاحب سفارة من لويس السابع إلى القاهرة فى فترة لاحقة، أن هذه الحدائق كانت مازالت تمثل لمحة بارزة من المدينة. والواقع أن آثار بعض هذه الحدائق ربما مازال حتى يمكن رؤيتها من شرف القلعة.
لقد كان يفترض أن صلاح الدين قد صمم قلعة القاهرة ليحمى نفسه ضد الثورة المحتملة لأنصارالمملكة السابقة، ومع ذلك يمكن أن يوجد تفسير كاف لذلك فى أقوال نُسبت إليه فى مرحلة مبكرة حيث قال(أن كل مدينة سورية لها قلعتها أو حصنها، وقد أظهرت التجربة فى أوقات عديدة أن المدينة يمكن أن تؤخذ بينما تبقى القلعة منيعة وملجأ للناس ووسيلة لإسترجاع المدينة، ولذا فلابد أن يكون للقاهرة قلعة ايضاً)، وربما كان سيحتاج إليها سريعاً كبرج دفاع ضد سيده الإقطاعى نور الدين نفسه. كان صلاح الدين قد إسترضى ملك سوريا (نورالدين) بالهدايا من كنوز القصر الفاطمى، كما دعى لإسمه كسيد فى كل جمعة فى المساجد، وخاصة فى مسجد الحاكم الكبير، والذى حل محل الأذهر، مؤقتا، كالمسجد الرئيسى للمدينة، كما ظهر إسمه على العملة التى ضربها صلاح الدين فى القاهرة. ولكن رغم ذلك الخضوع الظاهرى وغياب كل رموز السيادة الشخصية، فقد كان صلاح الدين سيد نفسه فى الواقع، وحيث كان يؤيده، جيش قوى يقوده إخوته وأبناء إخوته، فقد كان فى الواقع ملكاً على مصر. كان نور الدين مدركاً لذلك ولكن المصاعب التى كان يواجهها مع الصليبيين ومع سلطان الروم السلجوقى ومع العديد من المشاكسين من حكام العراق، لم تترك له الوقت ليقص جناحى تابعه فى مصر. ولم يستطع حتى أن يعتمد على تأييده فى الحرب المقدسة، حيث كان صلاح الدين مقتنعاً بإنه إذا ما سمحت الظروف لسيده بالإمساك بشخصه، فإن سلطته سوف تنتهى، ولذا فلم يكن هناك شئ يمكن إغرائه بالمغامرة بجعل نفسه فى متناول يد نورالدين. وليس هذا فقط ولكن يبدو أنه كان يحمل ذلك الخوف إلى درجة جعلته يفضل وجود الصليبيين على حدوده، كعقبة فى طريق تقدم نورالدين.
وربما يفسر ذلك الخوف هجماته الفاترة والعرضية على حصنى مونتريال والكرك بالقرب من البحر الميت فى سنة 1171م وسنة 1173م، كما يمكن الظن إلى حد كبير أن حملاته الجنوبية لسنتى 1173-1174م، قد نُفذت بهدف توفير مكان للإنسحاب فى حالة تنفيذ نورالدين لتهديده بغزو مصر. وكان قسم من جيش صلاح الدين قد قام بغزو منطقة الساحل الإفريقى من برقة إلى جابس، ولكن هذا الشريط الساحلى لم يوفر أى موقع إسترتيجى للدفاع. دُفعت الحملة على السودان بضرورة تأديب القوات السودانية المنسحبة ، والتى ظلت فى حالة تمرد ، ولكن ربما كان هناك هدف آخر بإختبار موارد البلاد كملجأ محتمل. قام تورانشاه ، أكبر إخوة صلاح الدين ، وبعد أن طارد القوات السودانية حتى النوبة، بإحتلال مدينة إبريم بالقرب من كوروسكو، ونهب كنيسة المسيحيين المونوفيزيين وعذب الأسقف، كما أرضى ظلمه الإسلامى بذبح سبعمائة من الخنازير التى تكاثرت هناك، ولكن تقريره عن المناخ ومنتجات السودان لم يكن مشجعاً، فأرسله صلاح الدين إلى الجزيرة العربية، للبحث عن بلد أفضل. أخضع تورانشاه كل بلاد اليمن، بمدن صنعاء وعدن وزبيد وجنيد وأسس حكومته فى تعز، حيث حُكمت اليمن بأعضاء من أسرة صلاح الدين لمدة خمس وخمسين سنة.
وفرغياب قائد قوى وجزء كبير من الجيش فى اليمن الفرصة لأنصار الفاطميين، والذين كانوا مازالوا يأملون فى طرد المملوك الصغير، كما كانوا يدعون صلاح الدين، من مكانه وإعادة تأسيس النظام القديم، والذى وعد بمكاسب أفضل لطفيلى البلاط الغنى. وتُنسب المؤامرة، وبشكل عام ، إلى الشاعر عمارة اليمنى، ولكن وبصرف النظر عمن كان المحرض الأساسى، فقد حاذت على كثير من التأييد. وقدإ إنضم الضباط المصريون والسودانيون إلى المؤامرة ، يحرضهم حتى بعض من تركمان صلاح الدين الحساد، كما أغرى ملكا صقلية وأورشليم بالتعاون بوعود الذهب والأرض، وكذلك دُعى رئيس الحشاشين لكى يرسل بعض القتلة السريين من رجاله، وتمت الترتيبات للهجوم المشترك بالبحر والبر بحيث يوقع بصلاح الدين. ولحسن الحظ فقد تسرب السر إلى الضحية، فقام صلاح الدين بالقبض على المتآمرين الرئيسين بما فيهم الشاعر السياسى، عمارة اليمنى، وقام بصلبهم جميعا كما تم نفى المتآمرين الأصغر إلى الصعيد.
لم يتم الهجوم البحرى، والذى كان يفترض أن يساند مؤامرة القاهرة ، حتى نهاية الصيف. ولم يتحرك صليبو فلسطين عندما سمعوا أن المؤامرة قد فشلت، ولكن ملك صقلية ، والذى كان أقل إطلاعا بما يجرى ، كان قد أرسل أسطولا كبيراً من حوالى مائتيى وإثنين وثمانين سفينة، والتى وصلت خارج الإسكندرية فى 28 يوليو. أخذت الحامية الصغيرة بالمفاجأة تماماً، ومع ذلك فقد حاولت صد عملية الإنزال، والذى تم مع ذلك بالقرب من فاروس. وسرعان مالعبت المنجانيقات التى أحضرها النورمان على جدران المدينة، وأجبر المدافعون على القتال بإستماتة طوال اليوم الأول لصد الجماعات المهاجمة حتى هبط الليل. وفى اليوم التالى دفع المسيحيون آلاتهم قريباً من الجدران، ولكن التعزيزات إنضمت إلى الحامية من القرى المجاورة، ومرة أخرى تم إحباط الهجوم. وفى اليوم الثالث كان هناك غارة شديدة أحرقت فيها آلات العدو، وتكبد خشائر فادحة وعادت الحامية مبتهجة بالنصر. وبالكاد كانوا داخل البوابات عندما وصل رسول من صلاح الدين، والذين كانواقد ارسلوا إليه طلباً للنجدة. كان المرسال قد ركب من القاهرة فى نفس اليوم على جياد الأبدال، ووصل الإسكندرية بين الثالثة والرابعة عند الظهر، معلناً بصوت مرتفع عن إقتراب جيش صلاح الدين. منحت تلك الأخبار المدافعين قوة جديدة، فإندفعوا خارجين مرة أخرى فى الظلام المتجمع وهجموا على النورمان، ودفعوا بعضهم نحو السفن وبعضهم نحو البحر. أكملت أخبار زحف صلاح الدين الهزيمة، فحل النورمان مراسيهم وهربوا بنفس السرعة والمفاجأة التى جاءوا بها، وإنتهى ذهول الأيام الثلاثة وتنفست الإسكندرية الصعداء مرة أخرى.
تم إحباط المؤامرة فى القاهرة فى إبريل، و فى يوليو تم صد الهجوم النورمانى، وفى نفس الشهر مات عمورى ملك أورشليم وخلفه بلدوين ، الطفل المجذوم ، وأثناء ذلك أزيلت من أمام صلاح الدين عقبة كأداء أخرى ففى شهر مايو مات نور الدين سلطان سوريا النبيل. وبهذا الحدث بعيد الأثر أصبح صلاح الدين الحاكم المسلم القائد للشرق الأدنى. وبهذا فقد ظل منافسيه المحتملين الوحيدين هم ، إبن نور الدين وكان مجرد طفل فى سوريا ، وإبن أخ نور الدين سيف الدين أمير الموصل ، ورأس أسرة زنكى ، وسلطان رومية السلجوقى أو آسيا الصغرى ، ولم يكن أحد فى هؤلاء كفؤ له فى القوة العسكرية أو المقدرة. ومن أجل مقاومة الصليبيين بنجاح فقد كان لابد أن يكون هناك ملك واحد وإمبراطورية إسلامية موحدة، ولذا فقد كان لابد من جعل هذه الإمارات المتعددة تسير كلها فى إتجاه واحد، ومن ثم فقد بدأت المرحلة الثانية من سيرة صلاح الدين وهى المرحلة السورية أو المرحلة التوحيدية.
تعامل صلاح الدين مع هذه الإمارات كل على حدا، وكانت سوريا بالطبع هى هدفه الأول. كان ملكها الطفل أسيراً فى يد عصابة، وكان هؤلاء الأمراء المتآمرون يصالحون الصليبيبون. وقد وفر إلتماس من دمشق المبرر للخطوة الأولى. وفقط بسبعمائة فارس مختارين ركب صلاح الدين عبر الصحراء إلى العاصمة السورية، وإستولى عليها بإسم الملك الطفل. ومن هناك وصل إلى حلب ، مارا بحمص وحماه ، حيث قام وريث نور الدين أو بالأحرى وزيره، بغلق البوابة فى وجهه بحكمة. ولم يصدق أحد توكيدات الولاء التى عبر عنها صلاح الدين لإبن سيده القديم، وكان هناك محاولة لإغتياله من قبل مبعوثى( رجل الجبل العجوز- الوزير)، وفى نفس الوقت فقد قام الصليبيون بقيادة ريموند كونت طرابلس بهجوم مضلل لصالح حليفهم المسلم. وعلى هذا فقد رُفع الحصار عن حلب وكُبح طموح صلاح الدين، وكان عليه أن يظل قانعاً بملكية كل سوريا إلى الجنوب من حلب، لكنه لم يستطع حتى السيطرة على هذه المناطق بدون عقبات، فقد أرسل أتابك الموصل جيشاً من العراق، ليتحد مع جيش إبن عمه أتابك حلب- الأتابك هو الحاكم العسكرى- وزحفت القوات المشتركة على حماة. وفى مواجهة هذا الهجوم الكبير حاول صلاح الدين التفاهم، ولكن حيث رُفضت كل إقتراحاته فقد دخل فى معركة وحقق نصراً كبيراً عند قرون حماة، وإستطاع دفع أعدائه حتى بوابات حلب. وفى السنة التالية مكنه إنتصار ثان على سيف الدين نفسه عند ينابيع التركمان، من القضاء على العراقيين نهائياً، وتوقيع معاهدة تحالف مع ملك حلب الشاب، جعلت من صلاح الدين سيداً على كل البلاد التى غزاها من مصر إلى نهر الفرات تقريباً.
ومرت فترة ست سنوات (1177-1182م)، قبل أن تتُبع تلك الخطوة الأولى بضم العراق. وساد السلام بين صلاح الدين وآل زنكى، وكان هناك أيضاً هدنة إسمية مع الصليبيين، فاوضها هممفرى أمير تورون، والتى وصلت صداقته لصلاح الدين حد منحه رتبة الفرسان. وقد شغل تنظيم الأملاك الواسعة، وكذلك تحصين القاهرة، جزءً كبيراً من وقت صلاح الدين، ووضعت الجدران الحجرية الجديدة وبدأ بناء القلعة رغم أنها لم تنتهى إلا فى عهد إبن أخيه الكامل بعد حوالى ثلاثين سنة. ومازال يمكن التعرف على السور من خلال جزء كبير من الجدران، ولكن القلعة قد أعيد ترميمها وتغييرها كثيراً بواسطة سلاطين المماليك، وبواسطة محمد على باشا، بحيث أصبح من الصعب التعرف على النموذج الأصلى لها، وذلك رغم أن نقش مؤسسها مازال يمكن قرائته على بوابة السلالم القديمة، وهى باب مظلم فى الوجه الغربى للسورالأصلى، وهو يسجل كيف أن بناء هذه القلعة العظيمة، والقريبة من القاهرة المحروسة على الأرض التى تربط المنفعة بالجمال والفضاء بالقوة لهؤلاء الذين يبحثون عن مأوى قوته ، قد أُمر ببنائها بواسطة مولانا الملك ، فخر العالم والعقيدة ، المحمل بالغزوات ، يوسف إبن أيوب مسترد إمبراطورية الخليفة، وبتوجيه من أخيه ووريثه الملك العادل سيف الدين أبوبكر محمد صديق أمير المؤمنين، وتحت إدارة أمير مملكته ومعين إمبراطوريته قراقوش إبن عبدالله عبد الملك الناصر فى سنة 57779هـ (1183-1184م).
حُفر جب السلالم الملتوية الشهير وبعمق 280 قدماً فى الصخور الصلبة بواسطة الخصى قراقوش، بناء على أوامر صلاح الدين، ولكن الأبنية الأخرى(قد هُدمت الآن)، والتى إرتبطت بإسمه قد بُنيت فى أزمان أخرى. أصبح الشعب المصرى فخوراً بتسمية المنشآت العامة بإسم ملكه العظيم، وهكذا خُلدت ذكراه فى قناة القاهرة( وهى عمل مملوكى)، وحتى فى القناة الرئيسية لمصر العليا( الصعيد)، والتى مازلت تُعرف بإسم بحر يوسف، رغم أنها تعود فى تاريخها إلى أيام الفراعنة. كان أكبر منشآت صلاح الدين خارج القاهرة هو خندق الجيزة الكبير، والذى بنى سنة 1183-1184م، مثل القلعة من أحجار أُخذت من الأهرامات الأصغر وحملت على أربعين قنطرة على طول حدود الصحراء، وذلك كتحصين ضد أى غزو محتمل من جهة الصحراء.
ولكن ربما لم يكن لأى من إبتكاراته تأثير دائم، كما كان للمدرسة أو المسجد الكلية، فحتى ذلك الوقت لم يكن هناك مدارس ثيولوجية فى القاهرة، فبإستثناء المدارس الإبتدائية العادية، فإن المحاضرات الوحيدة التى كان يمكن حضورها تقريباً، كانت تُعطى فى جامع عمرو القديم. كانت قاعة العلم الفاطمية إستثناءً، لكنها كانت مكرسة بشكل كبير لتعليم الدرجات المتعددة للشيعة الباطنية، ومناقشة الفلسفة التأملية، أما الكلية أو المسجد، حيث كان التعليم النظامى يُمنح، مجانا فى الغالب لكل من يحضر، فقد كانت إبتكاراً من فارس أُدخل إلى سوريا بواسطة نور الدين، ثم أدخل إلى مصر بواسطة صلاح الدين، الذى كان متحمساً لنقل المذهب الشافعى إلى المصريين المضللين. وقد أسس كليات لهذا الغرض فى الإسكندرية والقاهرة، وقد بنى أولها بالقرب من مقام الإمام الشافعى نفسه فى القرافة الجنوبية، أما الكليات الأخرى فقد كانت النصيرية أو الشريفية والقمحية بالقرب من جامع عمرو بالفسطاط ،وكذلك مدرسة صناع السيوف، التى أقيمت فى قصر المأمون القديم فى القاهرة نفسها. ولم يبق أى من هذه المدارس، ولكننا فقط بعد زمان صلاح الدين نجد المدرسة ذات الشكل الصليبى المعروف ، أو الكلية الجامع ، بأروقتها الأربع العميقة، حيث كان فقهاء المذاهب السنية الأربعة( الحنفى والشافعى والمالكى والحنبلى) يدرسون دوائر طلابهم.
وفى إدارة مملكته حصل صلاح الدين على المساعدة القيمة لخادم مخلص مثقف، كان القاضى الفاضل، وهو عربى من عسقلان ، ضمن سكرتارية الخليفة الفاطمى منذ زمن الوزيرالعادل، ومع صعود صلاح الدين للسلطة، أصبح مستشاره أو وزيره، ومارس تاثيرا كبيراً فى هذا المنصب الرفيع خلال كل حكم صلاح الدين وإبنه وحفيده، وحتى وفاته هو نفسه فى يناير سنة 1200م. وقد إشتهر القاضى الفاضل بأسلوبه المنمق والنهاية البديعة لمراسالاته، وقد وثق به صلاح الدين بشكل مطلق. لقد كان سنياً شديد الإيمان مثل سيده، وقد أسس أيضاً كلية سنية فى القاهرة. وربما يعود إلى معتقداته الصارمة أن المسيحين ، والذين كانوا قد عوملوا بتساهل تحت حكم الفاطميين الوضيع، قد خضعوا إن لم يكن للإضطهاد ، فبالتأكيد للمصادرة تحت حكم صلاح الدين المستنير.
ومع ذلك فلم تنقضى فترة السنوات الست فى أعمال السلم تماماً، فقد كان هناك جولات عديدة سريعة مع الصليبيين، والذين كانوا قد نسوا هدنتهم بالفعل، وغزو المناطق الواقعة حول دمشق. ورد صلاد الدين بغزو ولايتهم الغريبة، الأرض المقدسة. وعند تل الجزار بالقرب من رام الله فوجئ صلاح الدين، وهُزم تماماً بواسطة الملك بلدوين يسانده 375 فارساً، وإضطر للنجاة بنفسه. والواقع أن تلك كانت هزيمته الأولى، أو بالأحرى هزيمته الخطيرة الوحيدة، ومع ذلك ففى خلال ثلاثة أشهر، كان قادراً على إسترداد زمام المبادرة مرة أخرى فى حمص بجيش جديد، وفى سنة 1179م كسب نصراً باهراً على ملك أورشليم فى مرج عيون، وأخذ سبعين فارساً اسرى، بما فيهم رؤساء الفرسان الداوية والإسبتارية، وريموند حاكم طرابلس وباليان وبلدوين حاكم إبلين وهوف حاكم منطقة طبرية، وتبع ذلك النصر بتدمير القلعة فى مخاضة يعقوب، والتى كان الملك قد شيدها كتهديد للمسلمين.
وأثناء ذلك قام الأسطول المصرى المكون من سبعين مركب بغزو ساحل فلسطين، وأسر نحو ألف أسير مسيحى، وتم توظيفهم بنجاح فى بناء قلعة القاهرة، وقُضى الشتاء فى تجهيز أسطول أكبر، وعندما بدأ صلاح الدين الحملة فى الربيع بتقدم مشترك بحراً وبراً ، إقترح الملك بلدوين ، بحكمة، هدنة، و تم إبرامها على الفور لمدة سنتين، وتم التأكيد عليها بالإيمان المغلظة. وبالإتجاه شمالاً نحو سيليشيا دخل صلاح الدين فى مفاوضات مع سلطان قونية السلجوقى، وملك أرمينيا الصغرى، وأمراء الموصل والجزيرة وأربيل وكيفا وماردين، والذين وضعوا أختامهم جميعاً على حلف مقدس، ألزموا أنفسهم بموجبه بحفظ السلم والصداقة لمدة سنتين بين بعضهم البعض. ولم تشهد هذه الفترة أى حروب داخل حدودهم بالفعل، وسادت هدنة مقدسة فى الشرق الأدنى.
أظهرت الهدنة الكبيرة أن نفوذ صلاح الدين قد أرهب كل القوى الأصغر، من البحر الأسود والخليج الفارسى حتى البحر المتوسط، وأن الإتحاد المؤقت لكل الدويلات الإسلامية المجاورة كان خطوة بعيدة إلى الأمام، وحدت المجهود الذى قصد القيام به ضد القوى الصليبية. لقد كان ذلك بداية السياسة التى إستخدمت رجال القبائل العراقيين المحبين للقتال، كمجندين فى الحرب المقدسة، وقد فتحت وفاة إبن نور الدين ، ملك حلب ، والمفاوضات الخيانية بين أمراء العراق والصليبيين ، الطريق، وعندما غادر صلاح الدين القاهرة، إلى الأبد، فى 11 مايو سنة 1182م، كان ذلك لتنفيذ خططه الكبيرة كبطل للإسلام. وبعد بعض الإشتباكات مع الصليبيين وحصار غير ناجح لبيروت، زحف على العراق وأخضع كل البلد فيما عدا مدينة الموصل. وتم شراء حلب بالتبادل، وبعد حصارين غير ناجحين ولكن مجهدين، قبلت الموصل أخيراً أن تكون تابعة لصلاح الدين. وبموجب هذه المعاهدة ، إنضم كل شمال العراق وجزء من كردستان إلى إمبراطوريته بشكل دائم. وبذلك تحقق الهدف من كل حملاته الطويلة المجهدة على دجلة والفرات، وقد أصبح لديه الآن حلفاء بدلاً من أعداء على جناحه الشمالى. وقبل هذا لم يكن من الممكن أن يتم بأمان أى غزو للمنطقة المسيحية، بدون وضع جيش للمراقبة ضد الهجوم من الشمال، ولكن الآن فقد أصبح يستطيع التقدم بثقة. وقد أصبح لديه أيضاً مزيداً من القوات فى ظهره، ولم يعد يستطيع أن يستخدم أقصى جهد لقواته السورية والمصرية فقط، بل أصبح يستطيع أيضاً الإعتماد على فرق كبيرة من المقاطعات العراقية. وفى الحرب المقدسة التى أصبح على وشك أن يشرع فيها الآن بجدية مميتة، جاء كل الأمراء العظام لهذه المناطق لإمداد الجيش الإسلامى، حيث قام أمراء بيت زنكى وأمراء الموصل وسنجار والجزيرة وأربيل وحران وحتى الأكراد من خلف دجلة، بتوسيع الحشد العام بتابعيهم وخدمهم.
وهكذا وبعد أن إستعد وتقوى، دخل صلاح الدين إلى المرحلة الثالثة من سيرة حياته وهى المرحلة الفلسطينية أو الهجومية. فلكثير من السنوات كان هناك إستفزازات وإنتقامات، فقد كان ريجنالد القطالونى حاكم الكرك قد دخل البحر الأحمر وإستولى على سفن الحج، وقام حتى بغزو الجزيرة العربية بنية هدم قبر النبى فى المدينة والكعبة فى مكة، لكنه طورد بواسطة الأسطول المصرى، و دُمرت حملته تماماً. وفى فلسطين كانت تدور معركة غير حاسمة بالقرب من الفولا، ولمرتين قام صلاح الدين بضرب حصار غير ناجح على قلعة ريجنالد المنيعة ، الكرك، ثم تم تدبير معاهدة سلام لمدة أربع سنوات بواسطة ريموند حاكم طرابلس( الوصى على الملك الطفل بلدوين الخامس)، والذى كان شخصياً على علاقات صداقة إن لم يكن تحالفاً فعلياً مع صلاح الدين. لكن هذا السلام كان شكلاً كاذباً حيث كانت كل أوربا تقرع السلاح، وكان الفرسان الإنجليز من الشيفويت إلى البيرانيس يحملون الصليب، كما كان النظامان العسكريان الكبيران يحترقات بحماسة ، كما كان صلاح الدين نفسه ، لتوجيه ضربة من أجل العقيدة.
كانت أقل شرارة يمكن أن تشعل الحريق الكبير، وقد جاءت هذه الشرارة من ريجنالد القطالونى، والذى وبرغم الهدنة وللمرة الثالثة، قد إنقض على قافلة مسالمة من التجار المسافرين أعلى قلعته المنيعة. لم تكن القافلة جائزة ثمينة فقط، ولكن قد أشيع أنه كان بها إحدى إخوات صلاح الدين أيضاً. كان الإستفزاز كبيراً وأقسم صلاح الدين ليقتلن خائن الهدنة بيديه وقد فعل. إن تاريخ الأرض المقدسة من 1187م إلى 1192م معروف للطلاب، ولايشكل جزءً من تاريخ مصر. إن ترتيب الأحداث هو كل مانحتاج إلى ذكره فى هذا الخصوص.
تبع هزيمة الصليبيين الساحقة، تحت قيادة ملكهم الجديد جاى لوزيجنان فى حطين بالقرب من بحيرة طبرية، غزواً سريعا لفلسطين، فقد إنتشر جيش صلاح الدين فى الأرض المقدسة، وفى خلال شهر أُخضعت كل مملكة أورشليم، بإستثناء بعض القلاع والمدن المحصنة. وسقطت عسقلان فى سبتمبر، وفى 2 سبتمبر إستسلمت أورشليم نفسها بشروط مشرفة، فقط نجت صور من السقوط فى موجة الغزو الأولى فيما يشبه المعجزة، وكانت مقاومتها الناجحة الثانية فى نوفمبر ودديسمبر، هى نقطة التحول فى سيرة حياة صلاح الدين المنتصرة. أما مقاطعة طرابلس وإمارة أنطاكية وكل المدن الساحلية إلى الشمال من صيدا، فقد إحتلت بسهولة فى حملة باهرة واحدة فى مايو وسبتمبر سنة 1188م، وإضطرت أنطاكية نفسها للموافقة على هدنة مذلة. وبالنسبة للقلاع الأرضية الضخمة فى بلفوار وصفد والكرك ، والتى كانت مازالت تقاوم ، فقد سقطت فى ديسمبر ويناير. ولم يبق شئ من كل الأراضى التى كان الصليبيون قد غزوها سوى صيدا وبلفورت.
ومع ذلك فقد أصبحت صيدا نقطة تجمع للصليبيين، فإلى هناك لجأت على الفور كل الحاميات التى تركها صلاح الدين حرة بعد إستسلام كل مدينة أو قلعة، وذلك بدافع الشهامة أكثر مما هو بدافع الحكمة. فإلى هناك لجأ الملك جاى لوزيجنان ومعظم النبلاء والفرسان، الذين كان قد أطُلق سراحهم مقابل تعهدهم المقدس بعدم حمل السيف مرة أخرى ضد صلاح الدين. ومن صيدا زحف الجيش الذى بدأ حصار عكا الشهير، ورحب بالتعزيزات الضخمة للحملة الصليبية الثالثة. كانت صيدا هى الحصان الخشبى القاتل لطروادة صلاح الدين، لإنه إذا ماكان قاوم نفاذ الصبر، أوأنعش قواته المرهقة، وضحى بكل هدف آخر من أجل تحقيق هدف الإستيلاء على صيدا، فربما ماكان هناك حصار لعكا ولا حملة صليبية ثالثة. فبدون صيدا لكان حتى ريتشارد ملك إنجلترا قد وجد أنه من الصعب أن يحضر فأس حربه الدنماركية لحرب المسلمين.
بدأ حصار عكا بواسطة جاى لوزيجنان فى 28 أغسطس سنة 1189م، كما بدأ حصار المحاصرين بواسطة صلاح الدين بعد يومين من ذلك التاريخ، و فى 4 أكتوبر حوربت أولى المعارك الكبرى بين الصليبيين وبين العدو المزدوج ، الحامية الإسلامية فى الداخل والجيش المنقذ المحيط بالصليبيين، وإنتهت بدفع الصليبيين متكبدين خسائر فادحة، وأهمل صلاح الدين متابعة إنتصاره، وقضى الصليبيون الشتاء فى تحصين وتعزيز موقعهم أمام عكا. وفى الربيع إستنزفت أنباء وصول الحملة الألمانية بقيادة فردريك بارباروسا جزءً كبيراً من قوى المسلمين، ومع ذلك فقد فشل الهجوم الكبير الثانى على المسلمين فى 25 يوليو فشلاً ذريعاً، ولكن ذلك النجاح لم تتم متابعته، وتلاشت تماماً فرص القضاء على الجيش المحاصر لعكا، بنزول هنرى أوف شامبين مع عشرة آلاف جندى جديد. وإستمر الحصار والحصار المضاد مع آمال تتضائل بإستمرار بالنسبة للمسلمين، وأحضر دوق سوابيا الناجين من الجيش الألمانى إلى عكا فى أكتوبر، كما وصلت أولى قطع الأسطول الإنجليزى فى نفس الشهر. لكن صلاح الدين ظل صامداً، وتم إحباط محاولة للمسيحيين لجلب المؤن من حيفا بإشتباك عنيف عند رأس النبع، ثم حول الشتاء السهل إلى بحيرة من الطمى، فإنتظر الجانبان الربيع، بينما كانت المجاعة والحمى تهلكا المعسكر الصليبى. وأثناء ذلك كان صلاح الدين يحاول تزويد عكا بالمؤن ونجدة الحامية المجهدة.
وأخيراً وصل قادة الحملة الصليبية الثالثة، وصل فيليب ملك فرنسا يوم عيد القيامة، وريتشارد ملك إنجلترا فى 8 يونيو.( كان الإمبراطور الألمانى فردريك بارباروسا قد غرق فى نهر اللامس وتفرق جيشه وعاد معظمه إلى أوربا وربما كان هذا هو السبب الرئيسى فى فشل الحملة فى نهاية الأمر)، وبهذه التعزيزات سرعان ماوصل الحصار الطويل إلى نهايته، ففى 12 يوليو إستسلمت عكا. لم يكن صلاح الدين طرفاً فى هذا التصرف الصادر عن الحامية المجهدة، ولكنه لم يكن قادراً على نجدتها، ولذا فقد كان مضطراً لقبول ذلك الموقف. فُتحت مفاوضات السلام قبل الإستسلام ثم خُتمت بعده، ولكن بعض التأخير فى تنفيذ الشروط فيما يخص تسليم الأسرى المسيحيين قد أثارت حنق ريتشارد، لدرجة جعلته يقوم بذبح 2700 أسير مسلم بدماء باردة على مرأى من المعسكرين. ولم يعد هناك مزيد من محادثات السلام، وزحف الملك الإنجليزى( كان فيليب ملك فرنسا قدعاد بالفعل إلى فرنسا بسبب مرضه)، نازلاً على الساحل بنية الإستيلاء على عسقلان، ثم تحول إلى الداخل بنية الإستيلاء على أورشليم. ظل صلاح الدين يضايق الصليبيين خلال كل الزحف، ولكن بعد هزيمة فى أرسوف، إضطر لسحب قواته إلى الرملة، ثم إلى أورشليم مع إقتراب الشتاء.كادت محاولتان قام بهما ريتشارد للزحف على المدينة المقدسة أن تمكنه بالفعل من تحقيق هدفه، ولكن الخلافات فى مجلس الصليبين المختلط والقوة المتزايدة للمسلمين، قد أحبطت التخطيط. وإنسحب ريتنشارد خائب الأمل إلى عكا، وإنتهز صلاح الدين الفرصة للقيام بهجوم على يافا، لكنها سرعان مانُجدت ودوفع عنها بواسطة ملك إنجلترا وحفنة من الفرسان، مما يعتبر أعظم مأثرة فى كل الحرب التى أصبح الطرفان مرهقاً منها الآن. ومنذ معركة أرسوف كانت مفاوضات السلام تجرى بشكل متقطع، ولكن بمجرد أن مرض ريتشارد وإستدعت إنجلترا حضوره بشكل ملح، دُفع بالمفاوضات إلى نتيجة، وتم توقيع معاهدة لمدة ثلاث سنوات، إحتفظ الصليبيون بموجبها بمدن الساحل من عكا إلى يافا، وسُمح للحجاج بزيارة الأماكن المقدسة فى أورشليم.
إستمرت الحرب المقدسة خمس سنوات. وقبل النصر الحاسم فى حطين فى يوليو 1187م، لم تكن أى بوصة من فلسطين إلى الغرب من الأردن فى أيدى مسلمة، وبعد صلح الرملة فى سبتمبر 1192م، أصبحت كل الأرض إقليماً إسلامياً بإستثناء شريط ضيق من الساحل يمتد من صور إلى يافا. وكى تسترد هذا الشريط رفعت كل أوربا السلاح وسقط مئات الآلاف من الصليبيين، ولم تبرر النتيجة ذلك الثمن. أما صلاح الدين، ومن جهة أخرى، فقد خرج من الحرب بقوة لم تهتز، وقد أيده بإخلاص كل قوة إمبراطوريته وتابعيه من مصر حتى دجلة، الأكراد والتركمان والسوريون والعرب والمصريون الذين إختلطوا بجيوشه، وكان الجميع مسلمين وخدامه حين كان يدعوهم لبذل أى جهد. لم ينشق أى إقليم، وفقط تمرد تابع صغير لللحظة، رغم أن المحن والمعاناة للحملات الطويلة قد أثرت بشدة على تحمل الجنود وإيمانهم بقائدهم. وبعد أن إنتهت الحرب كان مازال يحكم غير منازع من جبال كردستان إلى الصحراء الليبية، وحتى أبعد من هذه الحدود كثيراً، فقد كان ملوك جورجيا وكاثوليك أرمينيا وسلطان قونية، وحتى إمبراطور القسطنطينية كلهم متحمسين للتحالف معه. وقد عاش ليرى إنتصار طموح حياته ، فقد طرد الصليبيين من المدينة المقدسة، وإسترد وحدة الإسلام، ومع ذلك فإن إرهاق الحملات الطويلة قد أضعف صحته القوية فقضت عليه حمى فى دمشق ، بعد السلام بستة أشهر. ولم يخطئ التصور الشائع لشخصيته. شهم ، فارس ، مهذب ، عطوف ، نقى القلب والحياة ، زاهد ، مجتهد ، بسيط العادات ، شديد التدين ، وفقط قاسى فى حماسه الدينى، بحيث أصبح ، بشكل ثابت ، نموذجا للفروسية الإسلامية.


















قائمة سلاطين الدولة الأيوبية


1-الملك الناصر صلاح الدين يوسف نجم الدين أيوب 569-588هـ1174-1193م

2-الملك العزيز عماد الدين عثمان إبن الناصر صلاح الدين يوسف588-594هـ1193-1198م

3-الملك المنصور محمد إبن العزيز عمادالدين عثمان594-596هـ1198-1200م

4-الملك العادل سيف الدين أحمد نجم الدين أيوب596-614هـ1200-1218م

5-الملك الكامل ناصر الدين محمد إبن العادل سيف الدين أحمد614-635هـ1218-1238م

6-الملك العادل الثانى سيف الدين إبن الكامل ناصر الدين محمد635-637هـ1238-1240م

7-الملك الصالح نجم الدين أيوب إبن الكامل ناصر الدين محمد637-646هـ1240-1249م

8-الملك المعظم تورانشاه إبن الصالح نجم الدين أيوب646-647هـ1249-1250م

به إنتهت الدولة الأيوبية فعلياً وظل آخر أمرائها تحت السلطة الإسمية لدولة المماليك

9-الملك الأشرف موسى647-649هـ1250-1252م


ملحوظة/ تم قصر الترجمة على كبار حكام البيت الأيوبى.

















أهم المراجع :

1-بهاء الدين
2-إبن الأثير
3-عمادالدين
4-أبوصالح
5-أبوشامة
6-إبن خلقان
7-المقريزى
8-وليم الصورى
9-إرنوول
10-لين بول



























8- الأيوبيون
خلفاء صلاح الدين
(1193-1250م)

منذ سنة 1182م، عندما غادر صلاح الدين مصر للمرة الأخيرة، أصبحت مصر تلعب دوراً مساعداً فى الإمبراطورية التى كانت هى رأسها، فقد تحول مركز السياسات إلى سوريا، وأصبح على مصر أن تكون راضية بدور أرض التوظيف للفرق العسكرية، الذى كان سلطانها يطلبها بإستمرار، من أجل تقوية جيوشه المنهكة. كان المتبع فى خلال كل تلك الحروب هو الحرب فى الصيف، وعندما توقف أمطار الشتاء التحركات العسكرية فى سوريا وفلسطين، فإن الفرق العسكرية المختلفة كانت تُرسل إلى أوطانها لإسترداد صحتها ولرعاية مزارعها. وفى مصر وفر هذا الأسلوب كثيراً من المشقة، لإن الشتاء كان فصل العمليات الزراعية الأساسية. وأثناء غياب السلطان كان أخوه العادل سيف الدين، المعروف عند الصليبيين بإسم صفادين يدير مصر بمساعدة القاضى الفاضل. وفى سنة 1184م نُقل العادل إلى حلب وأُرسل إبن أخيه تقى الدين عمر إلى مصر بدلاً منه، لكن عمر لم يكن فعالاً، و أُعيد العادل إلى القاهرة فى سنة 1186م مع العزيز، الإبن الثانى لصلاح الدين، كرئيس إسمى. كان العادل هو أقدر أقارب أخيه، كان جنرالاً جيداً ومحارباً قوياً، لكن أيضاً والأهم أنه كان دبلوماسياً بارعاً وسياسياً حاذقاً،. وقد أيد أخاه بأمانة فى حملاته، وقاد الفرقة المصرية للقاء السنوى فى فلسطين، وإستطاع أن يصنع لنفسه إسماً، خاصة فى بعض المعارك التى دارت فى سهل عكا، وكان لايكل فى تجنيد جنود جدد وتجهيز السفن وتوفير الإمدادات والأموال لحملات صلاح الدين. وقد كان شخصيا ًعلى علاقات قوية ودية مع ريتشارد ملك إنجلترا، وكان هو وليس صلاح الدين ، الذى حل ضيفاً فى المعسكر الإنجليزى. وقد حصل أحد أبنائه على لقب فارس من ريتتشارد قلب الأسد، وكان صفادين النبيل هو الوسيط الذى لجأ إاليه ريتشارد، عندما كان يفاوض معاهدة الرملة. كان كل شئ يشير إلى أن العادل هو خليفة أخيه البطل.
ومع ذلك فقد كان طبيعياً أن يوصى صلاح الدين بالخلافة لصالح أبنائه، الذين كان ثلاثة منهم ، ولبعض السنوات قبل وفاته ، قد ترأسوا حكومات الولايات الثلاث الرئيسية. حكم الأكبر، ألأفضل ، دمشق ووسط سوريا، بينما حكم العزيز مصر، وحكم الظاهر حلب. وقد حكم أبناء عمومتهم فى حماة وحمص وبعلبك، بينما حكم أحد أعمامه اليمن. وقد أصبح العراق وديار بكر إقطاعاً خاصاً لأخى صلاح الدين ، العادل، ومع ذلك فمنذ بداية هذا التقسيم ، كان من الواضح أن مصر قد إعتبرت الولاية الأهم. وقد ضربت دمشق عملة فى نفس سنة وفاة صلاح الدين بإسم العزيز حاكم مصر، رغم أن الأفضل كان حاكمها. ولكن ومهما كانت فروض الطاعة التى قُدمت، فلم يكن هناك وحدة بين أعضاء الأسرة. فقد حاصر العزيز أخاه فى دمشق فى نفس السنة، ورغم أنه قد تم التوصل إلى سلام بشكل ما بتوسط العادل والظاهر، فقد نشب النزاع مرة أخرى فى السنة التالية، عندما طارد الأفضل أخاه الأصغر إلى مصر حتى بلبيس. ومرة أخرى تدخل العم الحكيم(العادل) يساعده القاضى المحترم الفاضل، والذى كان مستشار صلاح الدين الرئيسى، ووجد العزيز نفسه محاطاً بالعادل كوزير له فى القاهرة، مما قوض سلطته المستقلة بعد ذلك.
كان العادل اليد اليمنى المخلصة لأخيه، ولكنه لم يكن ذلك الرجل الذى يجعل العواطف تقف فى طريق تقدمه. كان أبناء صلاح الدين يمزقون الإمبراطورية، وصمم العادل على إعادة توحيدها تحت قيادته الشخصية. كان العادل يعرف أن مصر هى مفتاح الموقف، فبدأ فى حث الأفضل بهدوء ليتخلى عن تصميمه على الإستيلاء على مصر، لإنه كان يريدها لنفسه. كان من شأن الأفضل ، محب الملذات ، السكير المتهتك ، أن يكون خطراً على مصر، بينما كان لدى العزيز كل الفضائل، وخاصة فضيلة أنه كان مطيعاً بشكل إستثنائى. وكما قال أحد الناس الذين عرفوه، فقد كان العزيز شديد الكرم شديد الشجاعة والتواضع ، شاب ذا أخلاق رفيعةة بدون لمسة بخل، ولايعرف كيف يقول لا. وكانت تلك هى الأداة المناسبة للعادل كى يلعب عليها. إتفق الإثنان على طرد الأفضل من دمشق، حيث لم يمكن لإصلاحه الذاتى البطئ أن يمحو ذكرى نقاط ضعفه، وتم إحتلال المدينة بسهولة وسُلمت للعادل كنائب للعزيز. وهكذا وبعد أن أصبح العادل على علاقات ودية بمصر وسيداً لوسط سوريا، مضى شمالاً لترتيب أملاكه العراقية (1198-1199م)، والتى كانت مهددة بعد وفاة صلاح الدين من قبل منافسه القديم أتابك الموصل. وبسرعة أعاد النظام إلى البلد، ومنذ ذلك التاريخ فصاعداً وحتى الغزو المغولى ظلت بلاد الفرات فى أيادى أبنائه.
إستدعت أنباء وفاة العزيز المبكرة نتيجة لحمى أثناء رحلة صيد فى الفيوم، وكذلك أنباء الوصول الفورى لوغد العائلة، الأفضل، إلى القاهرة ، العادل من الشمال. مثل الأفضل دور الحارس لوريث أخيه الطفل، المنصور، وإنتهز الفرصة ليقود القوات المصرية لغزو دمشق، بمساعدة الظاهر صاحب حلب، الذى كان يشارك أخيه كراهيته لعمهما. ولكن العادل كان فى دمشق قبلهما، وإنسحب المحاصرون وأُجبر الأفضل على الإستسلام وتسليم مصر. وأصبح العادل الآن سيداً على كل إمبراطورية صلاح الدين، بإستثناء الجزيرة العربية وشمال سوريا، حيث إحتفظت الولايات الثلاث حلب وحمص وحماة، وبرغم إعترافها بسيادة العادل وتقديمها للخدمات العسكرية، بإستقلالها الذاتى الفعلى. وسرعان ماتمت إزاحة الطفل المنصور، وعين العادل أبنائه كنواب على المقاطعات المختلفة تحت إشرافه، حيث مثله الكامل فى مصر، والمعظم فى دمشق، والأوحد والفائز والأشرف والحافظ فى الأقاليم المختلفة لبلاد دجلة والفرات. ( وهكذا إنتقلت السلالة الحاكمة الأيوبية ، من ذرية صلاح الدين إلى ذرية أخيه العادل)
ظلت مصر رأس الإمبراطورية، لكنها كانت تمر خلال فترة من المحن، حيث سبب إنخفاضاً إستثنائياً للنيل، نقصان المحاصيل فى سنة 1201م ، وقد تكرر ذلك فى السنة التالية 1202م، مما تسبب فى المجاعة والوباء. وقد سجل عبداللطيف، الطبيب البغدادى الذى عاش فى القاهرة لمدة عشر سنوات(1194-1204م)، لحضور محاضرات أساتذة الجامع الأزهر، تجربة المجاعة الرهيبة تلك. كانت المحنة شديدة لدرجة أن الأهالى قد هاجروا فى حشود كبيرة، وهُجر كثير من البلاد والقرى، بينما وطن هؤلاء الذين بقوا أنفسهم على ممارسات رهيبة. أصبح الناس معتادين على أكل اللحوم البشرية، وحتى الوالدين كانوا يقتلون أولادهم ويطهونهم، وقد وجدت زوجة تأكل لحم زوجها المتوفى نيأً. وكمن الرجال للنساء فى الطرقات ليخطفون أطفالهن الرضع، وأصبحت أحشاء ورؤوس الأطفال أصناف عادية فى الوجبات الغذائية. كان المجرمون الذين يقترفون هذه الأفعال يحرقون أحياءً ، ولكن قليل منهم فقط كان يمكن ضبطه.كانت القبور تُنهب من أجل الطعام، وقد إنتشر هذا فى كل أنحاء مصر، من أدناها إلى أقصاها. وأصبحت الطرق مصائد للموت، وإنتشر القتل والسرقة بلا ضابط، وأصبحت النساء عرضة للإعتداء عليهن من قبل الأشرار، الذين أطلقتهم الفوضى واليأس أحراراً. وأصبحت الواحدة من الفتيات الأحرار تباع بخمسة شلنات، وكانت كثير من النساء تستعطف كى تباع كعبيد، لتهربن من المجاعة. وبيع ثور بسبعين دينار، وبيع مكيال الحبوب بأكثر من عشرة شلنات. وظلت الجثث غير مدفونة فى الشوارع والمنازل، وإنتشر وباء خبيث فى كافة أنحاء الدلتا. وفى البلد وعلى طرق القوافل، رسمت أسراب النسور وقطعان الضباع وإبن آوى طريق الموت. وسقط الرجال عند المحراث وقد ضربهم الطاعون. وفى يوم واحد فى الإسكندرية قال أحد الأئمة أنه قد صلى على أكثر من سبعمائة متوفى، وفى شهر واحد تم إنتقال حق أحد الملكيات إلى أربعين وريث فى تتابع سريع. كان إنخفاض قيمة الممتلكات كارثياً. ونظراً لتناقص عدد السكان، هبط إيجار المنازل فى القاهرة إلى سبع قيمته الأصلية، كما كُسرت أثاثات ونقوش القصور لتغذى نيران الأفران. وقد حطمت الزلازل القوية، والتى شُعر بها أيضا فى كل أنحاء سوريا وحتى أرمينيا، عدداً كبيراً من المنازل ودمرت مدناً كاملة وزادت من الشقاء العام.
وفى تلك الأثناء كان العادل مازال يحاول جاهداً توحيد إمبراطوريته، كان خوفه الكبير هو أن ينتهز الصليبيون فرصة الإنشقاقات الداخلية بين خلفاء صلاح الدين، لإستئناف الهجمات الصليبية. وهذا هو مافعلوه فى الواقع، ولكن بشكل ضعيف عديم الهدف، بحيث لم تلحق مجهوداتهم أذى يُذكر بالقوى الإسلامية. كان هنرى أوف شامبيون ، الملك الإسمى لبيت المقدس ، ضعيفاً لدرجة لاتمكنه بالمغامرة على الهجوم، وكان مضطراً لإن يرضى بحكم مدنه الساحلية، ويراعى الهدنة التى جددها العزيز بحكمة عند توليه الحكم. وكان أمير أنطاكية وطرابلس منشغلاً بإستمرار فى جعل جاره، ملك سيليشيا الأرمينى، فى موقف دفاعى حرج.
لم يكن هناك خطر حالى من صليبى سوريا، وإذا كان لابد من قيام حملة صليبية جديدة، فقد كان لابد أن تأتى من أوربا. ومرة أخرى قام البابا سيليستين الثالث بدعوة المسيحيين إلى الحرب المقدسة. كانت إنجلترا وفرنسا مشغولتين بصراعهما الخاص، بحيث لم يمكنهما الإستجابة لندائه، ولكن الإمبراطور هنرى السادس قرر حمل الصليب فى سنة 1195م، وجمع جيشاً من ستين ألف رجل، وأسطول من أربعة وأربعين سفينة على الساحل الأبولونى، وبعث بهم تحت قيادة أسقف ويرزبرج إلى عكا، حيث وصلوا فى سبتمبر 1197م. ومع ذلك فلم يكن الألمان حلفاءً مرحباً بهم من قبل الأتباع الفرنسيين لهنرى أوف شامبيون، ووجدوا أنفسهم يعملون بمفردهم. وإستغل العادل فرصة ترددهم فى حصار يافا، كما خلق موت الملك هنرى أوف شامبيون تقريباُ فى نفس الوقت مزيداً من الإرتباك. إختير عمورى لوزيجنان ، ملك قبرص ، خلفاً له على عرش أورشليم الإسمى، وتزوج من أرملته إيزابيلا، والتى كانت قد عاشت بعد ثلاثة أزواج حتى ذلك الوقت. قام الألمان، الذين لم يكونوا قد جرؤا بعد على الزحف على أورشليم، وبعد أن هزموا العادل بالقرب من صيدا، بإحتلال بيروت، والتى كانت قد نزعت سلاحها بالفعل مع إقترابهم، ثم وبالتنسيق مع بيموند أمير أنطاكية، قاموا بالإستعداد لهجوم على المدينة المقدسة. وفى هذه اللحظة جاءت الأخبار بالموت المفاجئ لإمبراطورهم فترك الألمان حصار طورون (تبنين)، وأسرعوا عائدين إلى بلادهم، وسعد العادل والعزيز بعقد الصلح.
توقفت الحملة الصليبية اللاتينية (الرابعة)،ولحسن حظ المسلمين، فى القسطنطينية، حيث أسست المملكة اللاتينية، التى دامت لحوالى نصف قرن تقريباً، وجذبت كثيراً من المغامرين من القوى المسيحية فى سوريا. وبإستثناء قليل من المناوشات فى مجاورات الكرك والمرقب وغارة على ساحل مصر، لم تحدث معارك ذات أهمية، وفى سنة 1204م قام عمورى لوزيجنان بعمل هدنة جديدة مع السلطان المصرى، والذى كان سعيداً بشراء راحته بإعادة يافا ورام الله إلى الصليبيين، وأيضاً تم التوصل إلى إتفاقية مماثلة مع طرابلس سنة 1207م. كان السلطان دبلوماساً بالفطرة ، وكان دائماً يفضل المعاهدة على المعركة. وقد حصل على تأييد قوى وحصانة مماثلة بالمعاهدة التجارية، التى فاوضها مع فينيسيا سنة 1208م، والتى بموجبها حصل الفينيسيون على تسهيلات تجارية خاصة فى الإسكندرية وأعالى النيل، مقابل مساعيهم الحميدة المزعومة فى منع زحف الصليبيين على مصر.
وفى تلك الأثناء كان عمورى قد مات سنة 1205م، وتولت إبنته بالتبنى مارى عرش أورشليم، - إبنة إيزابيلا من كونراد مونتفرات - وتم تزويجها إلى جون أوف بريين، والذى سرعان ما أظهر أنه صليبى قوى، ولكن فى البداية لم تكن قواته كفؤة لأى محاولة هجوم على المدينة المقدسة. ومرة أخرى أطلق البابا إنوسنت الثالث صيحة الحرب، ولكن الإستجابة الأولى – حملة الأطفال التعسة – فقط ملأت مصر بأسرى فتيان ضللوا لصالح الأعداء. وربما بدافع من خجله من المثال البطولى للأطفال، قرر أندريه ملك هنغاريا يؤيده ليوبولد ، دوق أوستريا الكبير وهوف ملك قبرص، وملك أرمينيا ، ورانولف أوف شستر، وكثير من النبلاء والأساقفة، إنزال قوة كبيرة فى عكا، حيث تجمع الهنغاريون والألمان الجنوبيون والفريزيون وأهل الراين خلف أعلامهم. وقد قاموا بثلاث حملات فاشلة ، أولاً على بيسان ، وحتى إلى ماخلف الأردن، ثم على القلعة التى بناها العادل على جبل طابور، والتى فشلوا فى أخذها، ثم على بيفورت. وراقب سلطان مصر تحركاتهم، لكنه لم يجرؤ على الإشتباك معهم. وأخيراً عاد ملك هنغاريا إلى بلاده فى غم كبير، ولكن بعض الألمان ظلوا وساعدوا فى تقوية القلاع الساحلية، وخاصة فى بناء قلعة الحجاج بالقرب من حيفا. وقبل هذا كان الصليبيون قد بدأوا يدركون أن أفضل طريقة للتغلب على عدو هى أن تضربه فى جزئه الحيوى، وكانت مصر هى الجزء الحيوى للإمبراطورية الإسلامية، وحتى يمكن إخضاعها فإن الغارات التافهة فى فلسطين كانت مجرد مضيعة للجهد.
وبعد أن تقوى بأسطول من الفريزيين ورجال الراين، إستجمع جون أوف بريين شجاعته أخيراً وقرر القيام بإنزال فى دمياط . وقد صاحب ملك أورشليم فى ذلك أرشيدوق أستريا، والكونت ويليام أف هولند، وكونت ويلد، وفرسان المعبد، والإسبتارية، والنظام التيتونى، وهكذا سرعان ماعسكر جيش ضخم على شاطئ الدلتا. كانت دمياط محصنة بقوة بجدار ثلاثى محصن، وببرج ضخم مبنى على جزيرة فى النيل، وبسلاسل ممتدة عبر النهر وبالميزات الطبيعية لموقعها على شبه جزيرة محمية جزئياً بالمياه.
كان الصليبيون على الشاطئ الغربى، وكانت جهودهم موجهة نحو السيطرة على البرج الضخم فى وسط النهر، فأقاموا أبراج حصار على سفنهم وبها سلالم لتسلق أسوار الحصون، ولكن النيران ورماة الحصن يساندهم جيش الكامل على الضفة الشرقية للنهر، تمكنت من صد هجومها الأول، فقاموا بعد ذلك بربط مجموعة من السفن ببعضها البعض، وبنوا بها قلعة أكثر قوة ذات جسر متحرك، أرسوه على طول برج النهر، وفى يوم عيد القديس بارثلميو وبعد معركة عنيفة، أجبر المدافعون على الإستسلام. وقد قتل الإستيلاء على هذا الحصن السلطان.
مات العادل فى 31 أغسطس سنة 1218م عن عمر يناهز الثلاث والسبعين أو الخامسة والسبعين ، وقد إستمتع بحياة طويلة باهرة، منذ أن دخل مصر قبل نحو خمسين سنة مع شيركوه. وقد خدم أخاه المشهور بإخلاص، وبقدرة إستثنائية لحوالى ربع قرن، وبعد وفاة أخيه قضى نحو خمسة وعشرين سنة أخرى يعمل جاهداً فى سبيل إسترداد الإمبراطورية، التى مزقها أبناء صلاح الدين المتحاسدين. وقد نجح فى كل خططه، وأصبح كل جزء من إمبراطورية صلاح الدين، بإستثناء سوريا الشمالية تحت سيطرته، يحكمه واحد أو آخر من أبنائه العديدين. فأصبح لكل من القاهرة ودمشق والرها وحران وقعبر وميافارقين وحتى اليمن، حاكماً من أبناء السلطان العظيم، وقد حفظت رحلاته المتكررة فى كل أنحاء إمبراطوريته كل شئ فى حالة من الكفاءة والإستعداد.وقد كان الصليبيون بلا حول ولا قوة معه، ولم تؤذيه غاراتهم البسيطة إلا فى النادر، أما التضحيات القليلة التى قدمها لأقاليم كبيروت ويافا والناصرة، فقد إعتاض عنها بفترات طويلة من الهدوء كان خلالها يقوم بزيادة قوته بإستمرار. ولابد أن شخصيته كانت جذابة لإنه قد كسب إعجاب وصداقة الملك ريتشارد، وكثير من الصليبيين الآخرين، وقد وصفه كاتب سيرته الشرقى برجل فائق الحكمة والبصيرة، مسلحاً بالمعلومات ومحصناً بالتجربة ومن ثم فقد نجح فى كل ماإضطلع به. وقد وهُب قوة بدنية مميزة وصحة جيدة وروح عالية، وكان محباً للطعام، لدرجة أنه كان يستطيع تناول خروف مشوى فى وجبة واحدة ، كما كان مغرماً بالنساء لدرجة كبيرة، وقد إستغرق فى ملذاته بكل روحه، ومثله مثل كل الرجال الأقوياء، فقد كان يمتع نفسه على أحسن وجه، تماماً كما كان يقوم بعمله بنفس الطريقة.
ترك العادل لإبنه الأكبر المهمة الصعبة لطرد الفرنجة، وقد ورث الكامل معظم صفات أبيه، فقد كان جندياً قوياً، ودبلوماسياً بارعاً ، بل حتى ماكراً ، بالنسبة لمقاييس عصره. بدأ الكامل العمل من دمياط، وبهمة عظيمة، أنشأ جسراً من السفن على النيل، ليمنع سفن الفرنجة من التقدم، ثم بدأ فى القيام بهجمات متكررة ، ولو كانت غير مثمرة ، على مواقع العدو. وعندما تمكن الصليبيون من قطع الجسر، فقد أغرق السفن لسد النهر. وسببت الحمى التى إنتشرت فى المعسكر وفيضان النيل مزيداً من الضرر للصليبين، أكثر مما سببته هجمات الكامل، ومع ذلك فقد إضطرتهم ظروفهم السيئة إلى المجازفة بالتقدم، فصمموا على عبور النيل بأى ثمن ، وبهذا الهدف، حفروا قناة واسعة ، وتقدموا بأسطولهم إلى نقطة تقع عند حوالى ثلاثة عشر ميلاً جنوب دمياط. وبرغم أنهم قد أصيبوا بالإحباط عند المحاولة الأولى ، نتيجة للنظام الصلب لجنود الكامل على الجانب المقابل للنهر، فإن مؤامرة بين كبار قادة الكامل ، هددت عرشه وحياته، وأدت إالى فراره ليلاً ، بإتجاه جنوب البلاد، قد أحدثت كثيراً من الإضطراب فى معسكره ، لدرجة مكنت الصليبيين من عبور النهر بسهولة، والإستيلاء على المعسكر الإسلامى، ومحاصرة دمياط من جميع الجهات، ومع ذلك فإن مشاكلهم لم تنتهى، فقد أعد الكامل بمساعدة أخيه المعظم ، حاكم دمشق، جيشاً جديداً، وبدأ فى مناوشة المحاصرين ليلاً ونهاراً، حارقاً جسورهم ، مدمراً خنادقهم وتحصيناتهم. ومع ذلك، وبرغم كل مجهوداته، فقد إستمر حصار دمياط، وبدأت المجاعة تعمل عملها. وبينما كان الصليبيون المنهكون يزودون بإستمرار من أوربا، وفرسان فرنسا وإنجلترا، كما جاء المقاتلون، الذين قادهم كونتات نيفيرس ومارش ، وأرائل وينشستر وأروندل وشيستر، لنجدتهم، فقد تقلصت حامية دمياط من حوالى خمسين ألف مقاتل قادراً على حمل السلاح إلى أربعة آلاف فقط، بحيث أصبح الصراع غير متكافئ وغير ممكن أن يستمر لأكثر من ذلك.
وبإدراكه لهذا الموقف ، طلب السلطان المفاوضات، وعرض تسليم كل مملكة أورشليم ( بيت المقدس)، كما كانت قبل غزو صلاح الدين لها سنة 1187، بشرط فك الحصار عن دمياط. وبشكل لايصدق فقد رُفض هذا العرض الثمين ، وطلب الجانب الصليبى مزيداً من التنازلات، فلم يكن المزاج الصليبى مستعداً لأى مفاوضات، كان الكاردينال بلاجيوس، مندوب البابا، والذى كان قد تم إنتخابه كقائد عام للقوات الصليبية، مشبعاً بالروح الصليبية ، ولم يكن مستعداً لمنح الكفار أى مخرج. كما كان بعض القادة يرون، أن دمياط كانت عظيمة الأهمية كمركز تجارى، بحيث لايمكن التنازل عنها. جادل ملك أ ورشليم ، وفرسان الشمال ، ميزات عرض الكامل، بلا جدوى، وإنتصر رأى الكاردينال، وتقرر مواصلة الحرب إلى نهايتها. وهكذا خسر الصليبيون أعظم الفرص التى أتيحت لهم ، بشكل لارجعة فيه. وعندما سمع فيليب أغسطس ، والذى كان قد شهد كيف قاتل المسلمون أمام عكا، أن الصليبيين قد رفضوا مبادلة مملكة بمدينة، صاح قائلاً ، أنهم سذج حمقى. ورغم أن دمياط قد سقطت بالحرب بعد ذلك فعلاً ، وتم ذبح الباقى من حاميتها المرهقة بلا رحمة، كما دفع الذعر بالمسلمين إلى التعجل بتدمير جدران أورشليم ومدن أخرى فى فلسطين ، خشية أن يتخذها الصليبيون حصوناً، فإن إحتلال دمياط ، لم يعنى سقوط مصر. وبتقصيرهم المعتاد ، أجل الفرنجة التقدم جنوباً ، وقضوا سنة ونصف فى دمياط يتنازعون فيما بينهم، ولم يكن حتى يوليو 1221 وبعدما حصلوا على تعزيزات قوية من ألمانيا، أن إستأنفوا الحرب ضد السلطان. وفضلاً عن ذلك التأخير، فقد إختاروا الطريق الخطأ لغزو مصر. كانت دمياط ميناءً هاماً، ولكنها لم تكن القاعدة المناسبة التى يمكن التقدم منها نحو القاهرة، الهدف الأساسى للهجوم، لقد كان من الطبيعى أن يختار أى جيش زاحفاً على عاصمة مصر الطريق القديم من بلوزيوم إلى بلبيس، ولقد إستخدم هذا الطريق مرات ومرات من قبل الغزاة، منذ أيام قمبيز والإسكندر وحتى عمرو بن العاص وحملات عمورى الأول. فبصرف النظر عن مشقة الزحف فى الصحراء ، فقد كان خالياً من أى عقبات فى الطريق إلى القاهرة. بينما كان بين دمياط والعاصمة سلسلة من قنوات وأذرع النيل، تمثل درزن من التحصينات الدفاعية، مكونة سلسلة من الشراك لأى جيش غازى ، جاهلاً تماماً بجغرافية البلاد.
وفى ذلك الوقت، كان الكامل قد شيد تحصينات قوية على النيل، على مسافة قريبة من جنوب دمياط، فى قرية وسعها بعد ذلك إلى مدينة المنصورة ، بمعنى المنتصرة، كما إستدعى أقربائه ، والذين طرحوا جميعاً خلافاتهم جانباً فى مواجهة الخطر المشترك، ولبوا ندائه. ومنذ البداية إنضم إليه المعظم صاحب دمشق، والآن فقد قاد أمراء حلب وحماة وحمص وكل جزء من الإمبراطورية لأيوبية ، قواتهم لإنقاذ رئيسهم. ومنذ حصار صلاح الدين لعكا ، لم تظهر المملكة الأيوبية مثل هذه الجبهة الموحدة ، عندما إصطفوا على ضفة النيل ، لمنع مرور الصليبيين.
تقدم الفرنجة جنوباً، ولكنهم سرعان ما أجبروا على التوقف عند عقبة المنصورة وحاميتها القوية المكونة من السوريين الأشداء، وسكان الهضاب الشمالية، متحصنين خلف بحر أشموم ، الذراع التانيتى القديم للنيل، لقد إسئ إختيار موسم الزحف، حيث كان فيضان النيل قد بدأ، وقطع عدد من القنوات أرض الدلتا المسطحة، معرقلة تحركات الجيوش ، وممكنة المسلمين من إستدعاء أسطول للمساعدة. وبمجرد أن إرتفع الفيضان بقدر كاف، إنتشرت القوات الإسلامية فى الوديان خلف وحول العدو، وقطعت السدود التى تحجب مياه النيل، وأصبحت البلاد كأنها بحيرة ، ووجد الصليبيون أنفسهم فى شبه جزيرة، محاطين بالمياه، وبالعدو اللدود، عاجزين ، عملياً ، عن التقدم أو التقهقر.
وفى ليلة 26 أغسطس، قاموا بمحاولتهم اليائسة للهرب إلى دمياط عن طريق الممر المرتفع الضيق، الذى كان مازال يمكن المرور منه. وبمجرد تحركهم أحاط بهم العدو من كل جانب، كان الطريق شمالأ محتلاً تماماً بقوات المسلمين، و بين الحقول الغارقة، ومصيدة القنوات الأكثر عمقاً، شق الفرسان طريقهم بشجاعة عظيمة، وعلى مدى ليليتين ونهارين، إستمر الصراع اليائس، ثم صرخ الصليبيون فى طلب الرحمة. كان المسلمون الأكثر تعصباً مع إبادة الكفار بضربة واحدة، لكن الكامل، وفى تمسكه بطبيعة رجل الدولة التى كان عليها أبيه، تغلب عليهم. وقد تصور أن الشروط المنصفة سوف تنهى حرب الأديان، على الأقل لبعض الوقت، بينما كان من شأن المذبحة أن تقود بالتأكيد إلى حملة صليبية إنتقامية، كما قد تحفز حامية دمياط الصليبية على المقاومة، فسمح للصليبين بالرحيل، بشرط إخلاء مصر وتسليم دمياط، والحفاظ على السلام لثمانى سنوات.، ثم أضيفت فقرة شرطية، بأن أى ملك أوربى متوج ، يمكن له أن يكسر الهدنة. وفى حدود ذلك الوقت نزلت تعزيزات ألمانية بالقرب من دمياط، وإستقبلت أنباء المعاهدة بمنتهى الإستياء. ولكن رفضها كان خارج أى إحتمال ، فقد كان الجيش الأساسى وكثيراً من الرهائن، مازالوا فى يد المسلمين. وفى خلال أسبوع ، كان كل الجيش الصليبى ، والذى بدأ تلك الحملة قبل أربعين شهراً بآمال عريضة ودلائل ناجحة، قد غادر السواحل المصرية مجللاً بالعار.
وخلال كل هذا الوقت لم تُبذل أى محاولة لإسترداد أورشليم، لم يكن إهمال ذلك يعود إلى أسباب إستراتيجية فقط، فقد كانت روح الصليبيين قد تغيرت، ونضج الحماس الدينى إلى حكمة أرضية، وفضل الصليبيون المحليون، الفرنجة المستقرون فى سوريا، مدنهم الساحلية الغنية، المزدحمة بالتجار الإيطاليين، والمحاطة بالأراضى المزروعة الغنية، عن الداخل الفلسطينى المنعزل، والذى أصبح خراباً من جراء الصراع مع صلاح الدين، والتجاهل الممنهج من قبل خلفائه، والذين لم يرغبوا فى إغراء المسيحيين بإعادة إحتلاله مرة أخرى.وبعد أن أدرك التجار، وخاصة تجار فينيسيا، أنه لم تعد هناك أى فرص تجارية فى الوديان القحلة والقرى المهجورة والطرق المقفرة، وضعوا أعينهم على دمياط والإسكندرية، والتى كانت بالنسبة إليهم أثمن من أورشليم بخمسين مرة. وقد إنطفأ النهم العاطفى لمدينة المسيح مقابل شهوة الثروة. ومع ذلك فلم تكن الروح الدينية قد ماتت تماماً، فقد كانت مازلت تحفز باباوات روما الجبابرة، فبرغم موقفه الفلسفى تجاه الدين، فإن النداء من أجل المسيحية قد أجبر الإمبراطور الشاب ، فردريك الثانى، على القيام بحملة صليبية جديدة( وهى المعروفة بالحملة السادسة، أما فردريك الأول بارباروسا، فقد كان من قادة الحملة الثالثة) . وقد إحتفظت معاهدة سلام 1221 بحق نقد الهدنة لأى ملك أوربى متوج كما رأينا ، ومن الواضح أن فردريك كان هو المقصود بهذه الفقرة. وكان قد حمل الصليب مبكراً منذ ،1215 وأرسل قواته لتعزيز الجيش الصليبى المحاصر فى مصر، تماماً فى الوقت الذى كان فيه هذا الجيش يستسلم. وفى سنة 1225 تزوج من يولاند، إبنة الملك جان دى برين، وارشة عرش مملكة أورشليم الصليبية، وبرغم وفاتها بعد ثلاث سنوات من هذا الزواج، فقد ظل متمسكأ بحقه فى وراثة العرش وقام بإقصاء والدها. وقد تأخرت حملته سنة بعد أخرى ، بحجة أو بأخرى، حتى سبب لنفسه عقوبة الحرمان البابوى، ولكن أخيراً، وبرغم تحريم البابا، أبحر إلى سوريا، مع حوالى ستمائة فارس فقط، وكما قال جريجورى التاسع ، كقرصان من أصحاب محمد، أكثر من كونه ملك وجندى للمسيح.
كانت حملة فردريك فريدة من نوعها فى كل الظروف، فقد إسترد أورشليم ضد رغبة الكنيسة ، وبدون معركة واحدة، وقد كانت قواته، فى الواقع ، على درجة من الضعف لايمكنها أن تجازف معها بأى إشتباك بجيوش المسلمين القوية، وقد أفقدته معاملته المزدرية للملك جون دى برين كثيراً من تعاطف المستوطنين المسيحيين، كما أفقده صراعه مع روما تأييد رجال الكنيسة المتشددين، وقد رفضت النظم الدينية الإسبتارية والداوية أن تتبع قائداً كان تحت لعنة الحرمان الكنسى. ولم يبدو أن أحد فى سوريا قد إهتم كثيراً بإسترداد أورشليم، لكن كان لدى فردريك ميزة تغلبت على كل هذه المواقف السلبية، فقد واجه الكامل منافساً فى أخيه المعظم، حاكم دمشق، والذى كان يُشك بإنتهازه فرصة الإنهاك الذى أعقب حصار دمياط، وإعتماداً على خدماته فى الحرب، ليحطم السلطة العليا التى كانت لمصر على إمبراطورية صلاح الدين. وبإدراك الكامل لهذا الجفاء ، قام بإرسال سفارة إلى فردريك، بصفته السيد على مسلمى صقلية، عارضاً عليه مملكة أورشليم الصليبية، مقابل تأييده ضد أخيه المعظم، ورداً على ذلك حضر الأسقف برنارد أوف بالريمو فى بعثة إلى القاهرة، وتم تبادل الهدايا الثمينة. كان فردريك على علاقة جيدة بالمسلمين بشكل إستثنائى للغاية، لدرجة أن تسامحه معهم قد ولد الشك فى إيمانه المسيحى. وكما رأينا ، فقد كان البابا يصفه بأنه من أتباع محمد، كما كانت المراسلات التى نشرت، بين الإمبراطور وبين الفيلسوف العربى، إبن سابين، بالإضافة إلى المناقشات الميتافيزيقية، والتى كان فريدريك يحب دفع مبعوثى الكامل إلى الخوض فيها بعد وصوله إلى سوريا، تشير إلى مايمكن أن نسميه اليوم بالآراء التحررية، والتى كانت تؤدى فى تلك الأيام ، وفى حالة اشخاص أقل مكانة، إلى الخازوق مباشرة. وقد إعترف أحد المؤرخين العرب بأن الإمبراطور كان الأشد ذكاءً بين كل ملوك الفرنجة، محباً للعلم والفلسفة والطب، إيجابى الموقف تجاه المسلمين، وبعد عشرين سنة من ذلك التاريخ، وجد جوينفيل أن نسبه إلى فريدريك، كان أفضل جواز مرور إلى المماليك. كان الكامل يشاركه هذا التسامح تقريباً، والذى كان على تواصل مع النبلاء الأوربيين، وقد أدى ذلك بطبيعة الحال إلى الإعجاب المتبادل. وليس هناك دليل على توقيع أى معاهدة، ولكن كان قد تم الوصول إلى نوع من التفاهم. وفى نفس الوقت كان الموقف قد تغير، حيث مات المعظم فى شتاء سنة ،1227 ولم يعد خطر المنافسة السورية شديداً للدرجة التى تدفع الكامل إلى تنازلات ضخمة، بحيث يمكن أن يقال أن دبلوماسية الإمبراطور هى التى مكنته من الوصول إلى درجة المعاهدة مع نظيره المصرى، والتى تم التوقيع عليها فى 11 فبراير 1229، و تم التصديق عليها بالقسم، بعد التوقيع عليها بأسبوع من قبل الملكين. كان الكامل ملتزماً ، بالتأكيد وإلى درجة ما، بإقتراحاته السابقة، ولكن دافعه الأساسى يمكن العثور عليه فى الضمانات المقابلة القيمة من جانب الإمبراطور.
كانت معاهدة 1229، أفضل معاهدة تم توقيعها بين أى قوتين مسيحية وإسلامية قبل زمن الإشتباك الأوربى مع الإمبراطورية العثمانية، فمن جانبه قام سلطان مصر بتسليم اورشليم، بشرط عدم تحصينها ، بالإضافة إلى بيت لحم والناصرة وطريق الحجاج إلى يافا ومنها إلى عكا، إلى الملكية المطلقة للإمبراطور، محتفظاً فقط بالحرم القدسى، والذى يحتوى على مسجد عمر، للملكية والإستخدام الإستثنائى للمسلمين الغير مسلحين، كما قام بإطلاق سراح كل الأسرى المسيحيين، بما فى ذلك كثير من الضحايا البؤساء لحملة الأطفال، وفى المقابل إشتبك الإمبراطور فى الدفاع عن السلطان ضد جميع أعدائه، بما فى ذلك المسيحيين منهم، كما ضمن أن لا يتلقى أمراء شمال سوريا، أنطاكية وطرابلس، وأماكن أخرى، أى مساعدة من أى قوى خارجية. وقد صمدت هذه الضمانات لنحو عشر سنوات ونصف السنة. وهكذا ، ومما لاشك فيه، فلو كان قد حوفظ على المعاهدة بأمانة ، لكان الكامل قد كسب منها أكثر كثيراً مما خسر. كانت الأقاليم التى ضحى بها قليلة الفائدة، كما أن الجانب المقدس بالنسبة للمسلمين من أورشليم ، قد حوفظ عليه ، بينما كانت إمتيازات التحالف الدفاعى مع الإمبراطور ساحقة. ومع ذلك ، ورغم أن المعاهدة بدت مرضية للطرفين الأساسيين الموقعين عليها، ففقد أثارت عاصفة من السخط بين المتعصبين من كل جانب. كانت المدينة المقدسة قد أصبحت مسيحية مرة أخرى، بإستثناء جانب منها ، ولكن على حساب كثير من الشرف المسيحى، وقد علق الحزب البابوى عليها قائلاً ، لقد تفاوض فردريك مع الكفار بدلاً من ذبحهم. كما كانت معظم الممالك اللاتينية القديمة مازلت فى يد المسلمين، وقد رفض أمير أنطاكية ، ومعه رؤساء النظم الدينية التى كانت تسيطر على كثير من القلاع فى شمال سوريا ، وبمنتهى الشعور بالإزدراء ، الفقرة التى منعتهم جميعاً من كل المساعدات من أوربا، وقد بدت فى الواقع وكأنها إنتقام خبيث من جفائهم لفريدريك، أما بالنسبة للمسلمين، فقد إعتبروا كل الصفقة كخديعة مخزية جلبها الكفار على المسلمين. دخل فردريك أورشليم فى خلال شهر من توقيع المعاهدة، وتوج نفسه ملكاً فى كنيسة اللحد المقدس، واضعاً التاج على رأسه بنفسه، وفى اليوم التالى قام أسقف قيصرية بوضع المدينة تحت الحرمان، مما أثار دهشة وغضب جموع الحجاج المسيحيين، الذين أخذوا فى الصياح، إن المكان الذى عانى فيه المسيح ودُفن، قد حرمه البابا علينا. وفى فزعهم من المصيبة، أسرعوا بإتباع الإمبراطور إلى عكا، حيث ، وبعد أن عين رجال أمناء لإدارة ممتلكاته الجديدة، والقيام وبكل الوسائل الممكنة ، لتقوية النظام التيتونى، أبحر إالى إيطاليا. وإنتهت حملته الصليبية على هذا النحو، ورغم أنها قد نجحت فى إسترداد أورشليم، فقد كانت المدينة فى عمق بلد معادى، ولم تكن تستطيع الصمود أمام أى هجوم عسكرى. راعى الكامل المعاهدة بحكم القسم الدينى الذى أقسمه ، وكذلك فعل المسيحيون بناء على الأوامر الجديدة للبابا، لكن الكامل لم يستطع فى كل الأحيان منع عصابات بعض المسلمين المتعصبين من الإساءة إلى الحجاج المسيحيين وتعكير سلم المدينة المقدسة. وقد تركت معاملة الإمبراطور المتغطرسة لكثير من النبلاء السوريين والقبارصة جراح لاتندمل، وأدت إالى سلسلة من الشجارات. كان المكسب الذى حققته الحملة للمسيحية عديم الفائدة، لكن الخطأ يقع أكثر على البابا ومؤيديه، أكثر مما يقع على الإمبراطور المتهور.
خلت السنوات التسع الباقية من حياة الكامل من الإزعاج الصليبى، وأيضا من أى منافسات خطيرة مع اٌقربائه، وإعترف به كرئيس للإمارات المختلفة التى يحكمها الأيوبيون. وضع الكامل أخاه الأشرف كنائب له فى دمشق، وقام الأخوان بحملة على الفرات ، وإستولوا على آمد من الأمير الأرتقى، الذين حكم أجداده هذه المناطق لنحو مائة وثلاثين عام. وحاول الكامل تدعيم وحدة الأسرة بتزويج بناته لأمراء حلب وحماة، ورغم عدم نجاح حملته ضد قاى قاباد، سلطان آسيا الصغرى السلجوقى، فقد إسترجع أوديسة( الرها) منه، وحافظ على سلطانه على كل الإمبراطورية التى ورثها من أبيه. لكن ذلك لم يتم بدون إحتكاك ، لإن صغار أمراء العائلة الأيوبية قد نظروا إليه بريبة وحسد، ولم يثقوا بدبلوماسيته الماكرة. وفى سنة 1236 حدث إنفصال مع الأشرف، وعند وفاته سنة 1237 زحف الكامل على دمشق لتأكيد حقوقه كالملك الأكبر. دافع أخاه الصالح إسماعيل عن المدينه بمعاونة أمراء حلب وحمص، الذين لم يكونوا من ذرية العادل، والذين كانوا دائماً بعيدين، بقدر خشيتهم منه ومن الكامل. وبعد حصار قوى للمدينة ، تم التوصل إلى إتفاق، وحصل السلطان على دمشق ، بينما حصل الصالح على بعلبك ومدن أخرى، كما تم معاقبة حمص على تدخلها. لكن برد ومشقة حملة الشتاء كانت أقوى مما تحتمل صحة الكامل ، فأصيب بالحمى ومات فى دمشق.
حكم الكامل مصر لمدة أربعين عاماً، عشرين فى حياة العادل، وعشرين بعد وفاته، وكرجل دولة كان نظيراً لأبيه، حكيماً، صلباً فى مفاوضاته ، إدارياً قديراً نشطاً، إستطاع إدارة مملكته بمفرده، فبعد وفاة صفى الدين وزير أبيه بشكل كبير، لم يوظف أى رئيس وزراء ، وأدار كل شئون مملكته بنفسه. وقد إزدهرت مصر تحت حكمه إزدهاراً كبيراً ، وقد عمل على تحسين نظام الرى، وأشرف بنفسه على أعمال المهندسين، كما عمل على مد وتحسين القنوات، والقناطر والسدود، وتأمين سلامة المسافرين، وأتم تحصين قلعة القاهرة، وكمسلم تقى، فقد أسس كثيراً من المؤسسات، مثل دار الحديث، أو المدرسة الكاميلية فى بين القصرين. وكمعظم افراد عائلته فقد أحب العلم ومجالس العلماء، وكان قادراً على الدفاع عن أرائه فى المجادلات الأدبية، التى كانت تجرى فى الإستقبالات التى كان ينظمها كل خميس . وقد خلفه إبنه العادل الثانى، وكان حاكماً فاسداً ، أطاح به قواده فى مؤامرة فى خلال سنتين، وخلفه أخوه الصالح أيوب.
جرت الأحداث الرئيسية فى عهد الصالح أيوب فى سوريا، حيث وجد عدواً لدوداً فى شخص عمه الصالح إسماعيل، الذى إستولى على دمشق سنة ،1239 وحاول بعد ذلك تثبيت نفسه بمساعدة الفرنجة، وسلم لهم قلاع شقيف وصفد وطيبرية وعسقلان. ولم يكن المسيحييين ، مع ذلك ، فى ظرف جيد أبداً، فقد كانت الحملة الكارثية لملك نافارى ودوق بورجاندى وكونت مونتفورت، والتى هُزمت فى غزة.، ونجت بالكاد من الإبادة بسبب حكمة وشجاعة ريتشارد كورنول وسيمون مونتفورت، قد شلت طاقة الفرنجة. قامت القبائل الخوارزمية المتوحشة ، التى دفعها غزو جنكيز خان غرباً، وإستدعاها الصالح نجم الدين أيوب ، للمساعدة فى إجتثاث المسيحيين، بالإستيلاء على أورشليم ، وقتل نحو سبعة ألاف من سكانها العزل، وهكذا أسترجعت المدينة المقدسة ، مرة واحدة وإلى الأبد ، إلى الإسلام، كما تم إبادة القوات المشتركة للفرنجة وللمسلمين السوريين بواسطة المصريين/الأيوبيين، والخوارزميين بالقرب من غزة ، وإسترد الصالح دمشق سنة ،1245 وعسقلان سنة ،1247 وإستعاد مملكته إلى نفس درجة القوة والإتساع التى كانت عليها أيام أبيه وجده. وقد توقفت حملاته الظافرة فقط بمرض شديد وصلت أثنائه أخبار حملة لويس التاسع على مصر، وعلى الفور جهز نفسه فى محفة إلى مسرح الحرب المهدد.
كانت حملة لويس التاسع ملك فرنسا هى الحملة الوحيدة التى يمكن أن تستحق وصفها بالحرب المقدسة ، منذ أيام جودفرى بلدوين، فقد كان يقودها بطل قديس، فارس حقيقى ، قضى كل حياته فى الصلاة ، وكل أمله تنفيذ مشيئة الله، ملك حظيت شخصيته النبيلة ، بثقة وإحترام عالميين، وقائد إرتكزت شجاعته وتحمله على قواعد الإيمان، وعلى إلتزامات شرف الفارس فى نفس الوقت. ومع ذلك ، فقد كان سمو طبيعته ونقائها ، يمثل عقبات أمام السيطرة على جيش جامح غير منضبط، لكن سبب فشله المؤسف يجب أن يبحث عنه ، بشكل ما ، فى جهله ، بطبيعة جغرافية أرض المعركة، وبشكل آخر، فى عدم جاهزية قواته لتلك المعركة. لم تكن حملته الصليبية تمثل كل أوربا، كما علق عليها القديس برنار، فقد كانت ألمانيا وإيطاليا منهمكتين فى الصراع بين البابا والإمبراطور، وكان الملك مضطراً للإعتماد على رعاياه فقط، فقام بحشد نحو 2800 فارس فرنسى ومساعديهم، وحوالى 5000 رامى، وقد إنضم إليهم بعض قوات قليلة من إنجلترا وقبرص وفرنجة سوريا. أبحر الفرنسيون فى 1720 سفينة ولكن النصف الأكبر منها فرقته العواصف بين قبرص ومصر، ودُفع نحو الموانى السورية، ووصلت 700 سفينة فقط إلى دمياط فى بدايات يونيو. كان عرب كنانة المعروفون بشجاعنهم ، يحرسون حامية المدينة ، يساعدهم جيش مصرى بقيادة فخر الدين ، ولكن وبمجرد أن ظهر الفرنسيون ، لاذ أفراد الحامية بالفرار، يتبعهم كل السكان، وإتجه الجميع إلى المنصورة. وإحتل لويس دمياط بدون ضربة واحدة تقريباً، ومثل جان دى برين، نزل على الجانب الخطأ للنيل، ولكن ولإن الأعداء فى عجلتهم أهملوا تدمير الجسور، فقد عبر إلى االضفة الأخرى بدون صعوبة. ومرة أخرى، مثل مافعل سلفه قبل ثلاثين عام، إرتكب الخطأ القاتل بتأجيل الزحف جنوباً. كانت فرصته الوحيدة أن يندفع نحو القاهرة قبل أن يرتفع الفيضان، بينما كان المسلمون قد أصابهم الرعب من خسارة دمياط، والشلل بسبب مرض سلطانهم المحتضر، والذى لم ينجح إعدامه القاسى للفارين من قبيلة كنانة فى طمأنة أتباعه.
وبدلاً من ذلك ، فقد إنتظر الفرنسيون فى دمياط لحوالى ستة أشهر، متوقعين وصول باقى القوات، التى دفعتها العواصف إالى سوريا، وقد وصلت هذه القوات فى أكتوبر، حيث ثار جدل آخر حول الذهاب الى الإسكندرية أو الزحف على القاهرة مباشرة، وتقرر الضرب على رأس الأفعى، وبدأ الزحف على القاهرة. ومرة أخرى تُبعت السابقة الكارثية لسنة 1219، ناسين أو متجاهلين الدروس الكارثية التى تعلموها آنذاك، خاطر الصليبيون مرة أخرى بالتقدم عبر طريق من العقبات اللانهائية، فى بلد تقطعه القنوات العميقة وأذرع النيل، بدلاً من إختيار تقدم نشط وزحف سهل خلال بلد مفتوح من بلوزيوم. وقد إستغرقوا شهراً ليقطعوا أقل من خمسين ميلاً أعلى النهر، وخلال كل ذلك الوقت، الذى إستغرق حوالى سبعة أشهر من إمهال غير متوقع، كانت جيوش المسلمين تعزز بإستمرار، كما أفاقت تماماً من الصدمة ،حتى أصبح المسيحيين عرضة بإستمرار للهجمات المفاجئة، التى كان يقوم بها مغامرو المسلمين، المتحمسين لنيل الجائزة المعلن عنها مقابل رأس كل كافر.
وإضطر الفرنسيون للتوقف تماماً عند نفس البقعة التى توقف عندها أسلافهم سيئي الحظ سنة 1219، فقد وصلوا شارمساح عند الركن الذى يتفرع فيه فرع النيل التانيسى القديم، والذى كان يعرف آنذاك بقناة أشموم ، ويعرف الآن بإسم البحر الصغير، شرقاً من فرع دمياط الكبير.
فعلى يمينهم كان المجرى الرئيسى للنيل الشرقى، وأمامهم البحر الصغير، والذى كان يمكن من جانبه المقابل، رؤية معسكر الجيش المصرى متركزاً فى مدينة المنصورة، على بعد حوالى أربعة أميال جنوب النقطة التى يتفرع عندها النيل ، تعززه السفن على المجرى الرئيسى، ومن أجل التقدم كان لابد من عبور أحد النهرين، فإختار لويس النهر الأصغر، وبدأ على الفور إنشاء ممر عبر البحر الصغير، وقبل الكريسماس كان قد تمكن من تشييد سقيفتين لحماية العاملين، وجرسين أو برجين مسلحين، لحماية السقيفتين. وعلى الجانب الآخر كان المسلمون قد قاموا بتخريب ضفة البحر، والتى جرفها التيار بسهولة ، من أجل الحفاظ على عرض القنال، ووجهوا دفعات كثيفة من القواذف من ستة عشر مقلاع ،كانت لديهم، على الدفاعات الفرنسية. ورد الفرنسيون من ثمانية عشر مقلاع ،كانت لديهم، وإستمرت هذه المبارزة المدفعية عبر النهر لبعض الوقت. كان الممر هو مركز الهجوم، ولذا فقد عمل المسلمون على مضايقة العاملين به ، بنيران متواصلة من المسامير والسهام والحجارة من البر ومن البحر، وإستطاعوا لمرتين تدمير السقيفتين وبعض الأعمال الخشبية الأخرى، بقذف ضخم للنار الإغريقية، ولكى يزيدوا الأمر سوءً، عبر المسلمون البحر الصغير على نطاق ضيق وهاجموا مؤخرة جيش الملك، ورغم هزيمتهم، فقد أصبح لويس مضطراً لتحصين معسكره فى الشمال الشرقى، وحراسته من كل الجهات.
لم يكن بناء الممر قد إكتمل بعد، والنهر غير ممكن عبوره، كما كان حاله دائماً، عندما قام أحد الخونة المرتدين (infidel of Salmun)، كما قيل ، بالكشف عن مخاضة سرية فى أعلى البحر الصغير، مقابل خمسمائة قطعة ذهبية، وفى يوم ثلاثاء المرافع ، قام ملك فرنسا بأخذ زهرة فرسانه، ومعهم باقى الفرسان ، ورماة الفرسان ، إلى ذلك المكان. وعبرت الفرسان فى ثلاث فرق ، الدواية أولاً، ثم الفرقة الثانية و الفرسان رماة السهام، تحت قيادة أخو الملك الكونت روبرت أرتيوس، وفى المؤخرة فرقة الملك وأتباعه الشخصيين. كان الممر بلا عقبات ، رغم أنه كان مراقباً، ولكن بمجرد أن وصل كونت أرتيوس إلى الجانب الآخر، أصر، وفى عصيان تام لأوامر الملك، على الزحف فوراً على العدو، ورغم توسلات قائد الداوية وويليام لونجزورد، إيرل سالسبورى، بالتمهل لحين عبور فرقة الملك، فقد رفض ساخراً ، بحيث لم يعد أمامهم خيار سوى إتباعه فى تعجله المتهور. وإنقضوا جميعاً بعنف على معسكر المسلمين، مباشرة داخل المنصورة ، وعلى جانبها الآخر، وقتلوا فخر الدين قائد القوات الإسلامية، والذى كان فى الحمام ، ولم يستطع حتى الوصول إلى سلاحه، وكان فردريك الثانى قد منحه رتبة الفارس، لكن ذلك لم ينقذ حياته. وإندفع الصليبون داخل القوات المتناثرة ، وتمتعوا بشهوتهم للمواجهات المباشرة ، دون أى إعتبار للتشكيل القتالى، أو إمكانية الهجوم المضاد، وقد غامروا حتى بالإنقضاض على قصر الملك على ضفة النهر خلف المدينة ، حيث إستحقوا مصيرهم المحتوم.
كانت القوات المصرية العادية ومعها الوحدات العربية قد تحولت إالى فوضى ، ولكن السرايا الخاصة محل الثقة، والتى كانت تتكون من نحو 10000 مملوك، والذى كان الصالح قد دربهم بعناية وجعل منهم قوات خاصة، لم يستولى عليهم الرعب بتلك السهولة، فإحتشدوا بالقرب من القصر، وغير هجومهم العنيف بقيادة بيبرس البندقدارى مصير المعركة. دُفع الصليبيون نحو الشوارع الضيقة لمدينة المنصورة، والتى كانت قد إمتلأت بالمتاريس، كما إمتلأت النوافذ والأسطح برماة السهام، وهنا، أو فى شراك الخيام ، قُطعت فرسان فرنسا إرباً. وقتل الكونت آرتيوس وثلاثمائة من فرسانه، ونجى خمسة بالكاد من الداوية، أما لونجزورد ، وكل القوات الإنجليزية تقريباً، فقد دافعوا عن أنفسهم حتى الموت.وأبيد رماة الفرسان، وأحصى المسلمون 1500 فارس ونبيل بين القتلى. ودُفع الباقون نحو البحر الصغير، حيث كان لويس ، وبعد عدة هجمات، نجح فى السيطرة على موقع مقابل للممر الذى لم ينتهى بنائه. ومن أجل صد هجمات المماليك ، عرض الملك نفسه لخطر عظيم، وإستطاع تخليص عدداً كبيراً من أفضل فرسانه بعد أن وقعوا فى الأسر.،لقد كان من المستحيل دفع فرسان رماة العدو بالسيف وحده ، والذى كان يتمتع بميزة المدى الطويل، لكن الجيش على ضفتى النهر كان يعمل فى إجتهاد شديد فى بناء جسر مؤقت حول المساحة، التى كانت مازالت مفتوحة بين الممر والضفة الجنوبية للنهر. ولقد مثلت الاًلات التى تم الإستيلاء عليها من العدو، كما وفرت العيدان والأخشاب المتنوعة ، المواد المطلوبة. ومع غروب الشمس، إستطاع دوق بورجاندى، الذى كان يقود المعسكر أن يرسل مجموعة من المشاة والرماة تحت قيادة حاكم فرنسا، الذى إستطاع بكفاءة تغطية الباقى المنهك من الفرسان، وأجبر المماليك على الإنسحاب.ومع ذلك، وقبل هذا، فإن كثيراً من الفرنسيين الذين أصابهم الذعر ، كانوا قد غاصوا بجيادهم فى النهر على أمل الوصول إلى المعسكر، حتى أصبح المجرى داكناً، بالأجساد الطافية للغارقين من الرجال والجياد.
لم تكن معركة المنصورة فى الواقع سوى نصر باهظ الثمن، فقد إستولى لويس على الساحل الجنوبى للبحر الصغير ، كما إستولى على معسكر العدو ودمر معداته الحربية، لكنه خسر تقريباً ، نصف قوة فرسانه، وكل رماة الفرسان، كما لم يستطع هزيمة المسلمين هزيمة مؤثرة حتى أنهم على مدى ثلاثة أيام راحوا يهاجمون بقوة، رأس الجسر الذى أقامه لحراسة الممر، بينما إستطاع الحفاظ على موقفه الدفاعى فقط. كانت المعركة دليل واضح على الإعتماد المتبادل الضرورى للفرسان والمشاة، فبدون رماته المترجلين ، لكان لويس قد دُفع إلى النهر. ويبدو أنه قد كان من المحتم أن يكون عبوره خلال تلك المخاضة بواسطة القوات الراكبة فقط، ولكن وبمجرد عبورهم ، فلابد أن هدفهم الأول كان هو الإتصال بالمشاة الذين تركوهم خلفهم على الجانب الشمالى، وأن يكملوا الجسر. لقد كانت تلك هى خطة الملك الواضحة، وكان فشلها يعود إلى سبب وحيد هو تهور الكونت أرتيوس. أما الفخر الأساسى لهذا اليوم فمستحق لقتال المماليك الشجعان، الذين تحملوا وطأة المعركة، وأوقعوا بخصومهم المندفعين عقوبة كبرى.
لقدكان ثبات المماليك فى هذه المعركة هو الأبرز، لإنهم كانوا بدون ملك يقودهم، فقد مات الصالح نجم الدين أيوب فى 21 نوفمبر، تماما عندما كان الفرنجة قد بدأوا زحفهم المهلك من دمياط.
وُصف الصالح كأمير ذو شخصية قوية، زاهداً، متحفظاً، صارماً، شديد الغرور والطغيان، كما كان طموحاً، وقد إستطاع فعلاً الحفاظ على كل السلطة التى ورثها من الكامل وتوسيعها، وقد كان موته فى هذه اللحظة الحاسمة بمثابة كارثة. كان إبنه الأكبر تورانشاه بعيداً فى حصن كيفا بديار بكر. كانت النتيجة الطبيعية لخلو العرش فى مثل هذا الوقت هى النزاع بين الأمراء المرشحين للنيابة أو حتى للعرش، وإنهيار أى جهة قيادة ضد العدو. ولحسن الحظ فقد كان الصالح قد ترك بين حريمه إمرأة قوية بشكل إستثنائى، جارية تركية ، أو أرمينية، إسمها شجر الدر، فعلى الفور تصدت للموقف، وإستدعت أميرين أو ثلاثة من الموثوق بهم، وتشاورت معهم فيما يجب فعله، وتقرر إخفاء وفاة السلطان، وبدلاً من ذلك تقرر الإعلان عن مرضه الشديد، وظلت وجباته ترسل بإنتظام إلى مكان إقامته المفترض، كما بدت أوامر الدولة الضرورية مصدقة تماماً بتوقيعه المزور من قبل الخصى سهيل. وبرغم أية شكوك تكون قد ثارت، فلم يحدث أى إضطراب واضح، وإستطاعت شجر الدر والقادة تسيير أمور الحكومة والدفاع عن البلاد بنجاح كبير. ظلت شجر الدر المدبر الحقيقى لشئون الدولة ، تحضر البلاط وتستقبل الوزراء والقادة نيابة عن سيدها المريض، كما تشرف على إنضباط الجيش، أثناء معركة المنصورة، وأثناء كل تلك الفترة القلقة بين نوفمبر وفبراير، حينما وصل الوريث ، والذى كان قد تم إستدعائه على وجه السرعة، إستطاعت شجر الدر الحفاظ على المملكة الإسلامية.
بعد وصول تورانشاه ، تخلت شجر الدر عن سلطتها المؤقتة فوراً، وقام الشاب ، والذى لم يكن يتمتع بسمعة طيبة، بقيادة الحملة بقدرة ومهارة، وقام فى أول تحرك له بتقطيع بعض السفن وتحميلها على الجمال، إلى نقطة على فرع دمياط على مسافة ما أسفل السفن الفرنسية، حيث أعيدد تجميعها مرة أخرى فى خدعة عسكرية، مكنته من الإستيلاء على إثين وثلاثين سفينة فرنسية، وقطع كل إمدادات الجيش الصليبى. أصبح لويس فى موقف يائس، فلم يكن من القوة بحيث يمكنه إقتحام العدو وشق طريقه نحو القاهرة، حيث قُطعت إمداداته، وبدأت قواته تشعر بتأثير نقص المؤنة ، بالإضافة إلى التأثير المدمر لحمى إجتاجت المعسكر. وقد إنتظر مع ذلك، شديد الكبرياء رافضاً التراجع أمام العدو، لكنه إنسحب إلى الجانب الشمالى من البحر الصغير، وظل مسيطراً على رأس الجسر جنوباً، وفى النهاية فتح باب المفاوضات ، على الأمل اليائس فى أن يجدد المسلمون الشروط التى عرضها الكامل سنة 1219، أى تسليم دمياط مقابل أورشليم، ولكن هذه المرة كان المسلمون هم الذين رفضوا الصفقة، وأخيراً وعندما أصبح الجيش يعانى الجوع والحمى، وقد بدد العوز والجروح طاقاته، أحرق الملك آلاته الحربية، وهجر معسكره وأمتعته، وشرع ليلاً فى تراجع يائس نحو دمياط، واضعاً نفسه فى موقع مؤخرة الجيش الخطرة. وفى ذلك الإضطراب ، تُرك الجسر والممر أعلى النهر كما هما، فإندفع المسلمون عليهما، وذبحوا الجنود الذين تُركوا مرضى، وأمعنوا قتلاً فى الجيش الهارب حتى فارسكور، ثلثى الطريق نحو دمياط، وهناك وضعوا نهاية الجيش المسيحى، وكتب تورانشاه نفسه أن حوالى 30000 صليبى قد ذُبحوا، وإنه من المؤكد على الأقل، أن كل الجيش الفرنسى تقريباً، إما قُتل أو أُخذ أسيراً، وأن هؤلاء الأسرى قد قتلوا جميعاً ، بإستثناء من ينتمى إلى طبقة النبلاء منهم.
كان الملك لويس قد سقط مريضاً بالحمى عندما أُخذ أسيراً، وكذلك السير دى جوينفيل، الذى كتب القصة المؤثرة للحملة، والذى كان هو نفسه قد لعب دوراً شجاعاً فى معركة المنصورة، وأخيراً عُرضوا للفدية، بمائة ألف ليفرز( حوالى مليون فرانك )، مقابل حياة الأسرى، وتسليم مدينة دمياط مقابل حياة الملك. ويروى أن لويس قد عبر عن إباء الملوك ، عندما عًرض عليه المبلغ، لدرجة أن تورانشاه، ولكى لايبدو أقل منه، قد خفض المبلغ إلى الربع. وقد عانى الأسرى خطر كبير، عندما أغتيل السلطان ، الذى لم يدخر وسعاً فى أن يجعل نفسه مكروهاً خلال الشهرين اللذين حكمهما ، بالإساءة إلى زوجة أبيه وإهانة قادة المماليك البحرية. ولحسن الحظ ، فقد إعتلت المرأة التى إنقذت مصر، العرش مرة أخرى. وتم إحترام شروط إتفاق الفدية، بالرغم من معارضة المسلمين الأكثر تشدداً، ورحل الفرنسيون إلى دمياط ، حيث تمكنت زوجة الملك من تدبير نصف مبلغ الفدية المتفق عليها. وفى مايو أبحر لويس إلى عكا بما تبقى من جيشه النبيل سئ الحظ ، أما دمياط والتى أغرت كثيراً من الغزوات المسيحية، فسرعان ماسويت بالأرض ، وأعيد بنائها على موقع أكثر أماناً إلى الداخل ، بينما مد ذراع حاجز على فم النهر.وبمقتل تورانشاه إنتهت المملكة الأيوبية فى مصر. وأصبح المماليك الآن هم السادة ، وسوف نروى تاريخهم فى الفصل التالى.
وبالإضافة إلى وصف عبداللطيف لسنوات المجاعة لدينا بعض الملاحظات التفصيلية عن الحالة الداخلية لمصر فى عهد سلاطين أسرة صلاح الدين ، حيث تذهب الشهادة العامة للمؤرخين، والغامضة مع ذلك ، لتظهر أن البلد كان مزدهراً بشكل عام، وأن الملوك الثلاثة ، والذين غطى حكمهم تقريباً كل الفترة من 1196 إالى 1250، كانوا حكاماً أذكياء ذوى قدرة ، شديدى الإهتمام بالمصالح الزراعية للبلد، ولأهمية النظام والعدل. ولم نسمع عن أى ثورات أو مؤامرات، بإستثناء ضد إثنين من السلاطين عديمى الأهمية، ولكن عن الشخصية المتميزة والذوق المهذب للحكام الكبار الثلاثة، العادل والكامل والصالح، فلدينا دليل واضح من إبن خلقان، وإبن الأثير، وبهاء الدين ( زهير)، ومن الواضح أن المجتمع الذى وجدته هذه الشخصيات المثقفة الثلاث مع عبداللطيف البغدادى فى القاهرة، كان مجتمعاً مثقفا متميزاً ، يحظى بتقدير البلاط. كان بهاء الدين السكرتير والصديق المقرب للصالح، وتعكس أشعاره حياة البلاط فى مصر قبل منتصف القرن الثالث عشر. لم تعبر تلك الأشعار عما هو متوقع عموماً فى الشعر الشرقى، ولكن دعابتها ومرحها ومعالجتها الخفيفة للأمور الجادة، تشابه الشعر الإجتماعى الأوربى، بينما تتفوق عليه فى بعض جوانبها الإطرائية، فى كونها فخمة بدون تعلق ، معُجبة بدون مذلة. أظهر الملوك الأيوبيون إستعداداً عملياً لفتح البلد للتجارة الأوربية، ففى سنة 1208 منح العادل تسهيلات خاصة للتجار الفينيسيين فى كل أنحاء مصر، كما سمح لهم ببناء فندق يسمى سوق الديدك فى الإسكندرية، وقد مُنحت إمتيازات مماثلة حوالى نفس الوقت للبيزييين، الذين أرسلوا قنصل إلى الإسكندرية ، وجددت هذه الإمتيازات سنة 1215-1216. كان من الطبيعى أن يتعارض الغزو المسيحى لسنة 1219 مع العلاقات التجارية، ولذا فلم تسجل أى إمتيازات تجارية أخرى حتى سنة ،1238 عندما أعاد العادل الثانى تأكيد الحقوق التجارية السابقة للفينيسين. كان التجار غير المسلمين يدفعون جمارك على كل السلع المستوردة إلى مصر بما يساوى عشر قيمتها.
كانت علاقة الأيوبيين برعاياهم المسيحيين تزداد مودة بمرور الوقت، كان صلاح الدين وأخوه العادل صارمين قساة، لكن الكنيسة المصرية إعترفت بالكامل كالحاكم الأكثر كرماً وخيراً فى كل تاريخها، وكولى للعهد فكثيراً ماتوسط لدى أبيه من أجل المسيحيين، وعندما خلفه فى الحكم فقد إستمر على نفس السياسة ، ورفض بشدة التدخل فى النزاعات الصغيرة للكنيسة الوطنية. وتظهر مراسالاته مع الإمبراطور فردريك الثانى تسامحاً كان نادراً بين المسلمين، مما أدى بالمسيحيين إلى الإعتقاد بأن السلطان قد تحول إلى عقيدتهم. وقد زار القديس فرانس الأسيسى نفسه البلاط سنة 1219، وإستقبل بإحترام ووعظ أمام السلطان، وفى سنة 1245 نجد الصالح يكتب إالى البابا إنوسنت الرابع متأسفاً أنه لم يكن قادراً على مناقشة الوعاظ الفيريارز بسبب عائق اللغة، ومع ذلك فقد أغاظت حملة لويس المسلمين، وقد قيل ان نحو 115 كنيسة قد هُدمت بسبب غزو دمياط. وبشكل عام فإن عصر الحكم الأيوبى فى مصر، وفيما يخص القوة الإمبراطورية، والرخاء الداخلى، والدفاع القوى ضد الغزو الأجنبى، يقف متفوقاً فى تاريخ البلاد.
















أهم المراجع

1-إبن لأثير
2-أبوشامة
3-عبداللطيف
4-إبن خلقان
5-جيونفيل
6-أبوالفدا
7-المقريزى
8-العينى
9-كيجلر
10-وينكلمان





























9- المماليك الأوائل
1250-1277

تعنى كلمة مملوك ، الرجل الذى يملكه أحد الأشخاص، أو التابع لأحد الأشخاص، وهى كلمة تنطبق بشكل خاص على العبيد من الرجال البيض، الذين وقعوا فى الأسر فى الحروب، أو بيعوا فى الأسواق. ترجع عادة توظيف عدد كبير من الحراس الأجانب، خاصة من العبيد الأتراك، إلى أيام الخلفاء العباسيين فى بغداد، والذين إستوردوا الشباب النشط الوسيم من وسط آسيا ، لحمايتهم ضد القبائل العربية، ومن القوى الصاعدة لحكام الأقاليم، لكنهم سرعان ماوجدوا أن حراسهم الأتراك قد أصبحوا سجانيهم. وفى نفس السياق، فإن الأكثر قدرة وطموحاً من الجنرالات العبيد للسلاطين السلاجقة ، أصبحوا مؤسسين للعديد من الممالك المستقلة، التى شاركت تدريجيا ماتبقى من الإمبراطورية السلجوقية. ومن ثم ساد، طبيعياً ، تقليد توظيف الضباط والجنود العبيد ، بين الممالك التى قامت فى نفس الظروف. لقد كان نور الدين وصلاح الدين محاطين بمجموعات مختارة من المماليك، والذين تمت تربيتهم بعناية، وتدريبهم على كل مآثر الرجال ، وتسليحهم ببهاء، وتدريبهم على فن الحرب.
وقد إستمر نظام الحلقة أو الحرس من العبيد البيض المحررين فى عهد صلاح الدين وخلفائه، ووصل إلى ذروة فعاليته على يد حفيده الصالح نجم الدين أيوب. لقد أدرك ذلك السلطان مبكراً حسد أقربائه وعداء الفرنجة، كما كان يضع قليل من الثقة فى المصرى العادى، وفى القوات العربية، ومن ثم فقد أنشأ جيشاً كفؤً صغيراً من العبيد المشترين، والذين دانوا فى كل شئ بفضله عليهم. وقد إستورد هؤلاء المماليك من العديد من الأسواق، ولكن ومن حيث إبتاعوا، فقد كان الأتراك أغلبية بينهم. وقد أقامت قوات الفرسان المختارة فى القلعة ، التى بناها فى جزيرة الروضة، مقابل الفسطاط، على النيل، ومن إسم ثكناتهم النهرية إكتسبوا إسم المماليك البحرية، أى عبيد النهر البيض. ولم يكونوا المماليك الوحيدين فى خدمته، لكنهم كانوا المفضلين لديه والفرقة الأقوى. كانت ظروف الرق فى ذلك الزمن بعيدة عن أن تكون وصمة عار، بحيث نجد أن أمير شهير مثل قوصون ، كان ينظر إليه بإزدراء حيث لم يكن من العبيد، فقد كانت علاقة العبد بسيد فى الشرق تقترب من علاقة القربى أكثر من علاقة الإسترقاق. كان المماليك البحرية فخورين بأصلهم، الذى لم يشكل أى حاجز أمام ترقيهم. وقد كان لرؤسائهم أو أمراء الألوف، نفوذ كبير وقد خلف واحد منهم ، وهو فارس الدين أقطاى، الأمير فخر الدين كقائد للجيش بعد معركة المنصورة. وقد علا نجم هؤلاء الضباط قبل وفاة الصالح أيوب من مراتب العبيد العاديين، إلى مراكز الشرف فى بلاط سيدهم، فأصبحوا سقاة، ومسئولين عن الخيول السلطانية ، وحصلوا على حريتهم ، ثم أصبح هؤلاء المماليك المحررين ، وبدورهم ، سادة وملاكاً لعبيد آخرين. ولهذا، وفى البداية المبكرة لتاريخهم، نجد عدداً من الأمراء المماليك الأقوياء، ممن إمتلكوا مجموعة كبيرة من الأتباع، قادوهم فى المعارك، وكان هؤلاء على إستعداد للدفاع عن أمرائهم حتى الموت.
وبعد مقتل تورانشاه على يد المماليك البحرية، أصبح هناك مجرد خطوة قصيرة نحو العرش، وعلى مدى المائة والثلاثين سنة التالية، سرعان ماخلف ذرية رؤساء هذه الفرق الشهيرة ، بعضهم البعض، كسلاطين على مصر. كان الحق الأول للملكية بين هؤلاء النبلاء هو الشجاعة الشخصية، وقيادة أكبر عدد من الأتباع. وفى غياب مؤثرات أخرى، فقد أصبح المبدأ الوراثى هو المبدأ الوحيد فى الحكم، بحيث نجد ان أسرة واحدة مثل أسرة قلاوون، تحتفظ بحق إعتلاء العرش لعدة أجيال ، ولكن وكقاعدة ، فإن وريث السلطة الملكية كان يجب أن يكون أقوى الأمراء منهم، كما كان إحتفاظه بالعرش يعتمد بشكل رئيسى على قوة أتباعه، وقدرته على إسترضاء النبلاء الآخرين. وتمتلئ حوليات حكم المماليك بأمثلة من الأمراء الأقوياء، الذين إستطاعوا السيطرة الكاملة على السلطان الحاكم ، ثم القفزعلى جسده المذبوح إلى العرش. وقد مات معظم سلاطين المماليك قتلى على يد منافسيهم الأمراء، وإعتمد أمان كل حاكم ، وبشكل أساسى، على عدد ، وشجاعة حراسه. وقد تمتع هؤلاء الحراس بمزايا كبيرة، وكانوا دائماً محل الرعاية المستمرة من قبل السلطان. ولإن أمنه الخاص وقوته كانا يعتمدان على ولاء الحراس، فقد كان معتاداً على أن يمنحهم هبات من الأراضى، وملابس التشريف الثمينة، وعطايا بلا حدود. كانت معظم أراضى مصر مملوكة للأمراء، وجنود الحرس على شكل إقطاعات ممنوحة من العرش. وقد وصل عدد هؤلاء الجنود إلى عدة آلاف، ولابد أن ملكيتهم كانت تنتقل من سلطان إلى سلطان مع كل إنتقال للحكم. وقد أصبح رؤسائهم عامل هام فى إختيار الحكام ، وغالباً ماكانوا يزيحون أو يولون ملكاً، كما كان يترائى لهم مناسباً أم لا. ولقد كان السلطان ، أو المملوك الأكبر، فى الواقع ، وبشكل يقل أو يزيد ، وتبعاً لقدرته الشخصية، تحت رحمة ضباط حرسه، وكان كابحه الأساسى للسيطرة على طموحهم أو تذمرهم، هو تحاسدهم بين بعضهم البعض، والذى كان يمكن له إستخدامه من أجل تحييد تمردهم.
لقد كان كل أمير كبير، سواء أكان ضابطاً من الحرس، أو مسئولاً فى البلاط، أو مجرد نبيل عادى، مشروعاً لسلطان مصغر. فقد كان هو أيضاً يملك حرسه من العبيد المماليك، ينتظرون على بابه ليحرسونه فى خروجهً، مستعدين عند إشارته للهجوم على الحمامات العامة وخطف النساء، ويدافعون عنه عندما يحاصر أمير منافس قصره، ويتبعونه بشجاعة عندما يقود هجوم فرقته فى ميدان المعركة. لقد كان هؤلاء الأمراء الكبار، بتابعيهم، يمثلون تهديداً مستمراً للسلطان الحاكم. فقد كان يمكن أن يتكون تحالف بين عدد من النبلاء المتذمرين، وبمساعدة بعض من ضباط العائلة الملكية أو الحرس، وكان يمكن أن يحتشد الأتباع فى المداخل المؤدية إلى المقام الملكى، وبينما يتقدم ساقى من أهل الثقة، أو ضابط آخر، من الذين تسمح لهم طبيعة عملهم من الإقتراب من شخص الملك، ليضرب ضربته القاتلة، ثم ينتخب المتآمرون واحداً منهم ليرتقى العرش الفارغ. ولكن لم يكن من الممكن أن ينجح ذلك بدون صراع، فلم يكن من الممكن رشوة الحرس الملكى أو التغلب عليه فى كل الأحوال، كما كان هناك غالباً أمراء آخرون إرتبطت مصالحهم بالسلطان الحاكم أكثر من أى خليفة محتمل له ، بإستثناء أنفسهم، والذى كانوا من المؤكد أن يعارضوا المؤامرة. وبعد ذلك كان قتال الشوارع، حيث يغلق الناس المذعورون محلاتهم، ويفرون إلى منازلهم، ويغلقون البوابات الضخمة لتى تفصل أحياء وأسواق المدينة المختلفة، وتركب جماعات المماليك المتنافسة خلال الشوارع، التى مازلت مفتوحة، ناهبين منازل خصومهم، خاطفين النساء والأطفال، مشتبكين فى قتال شرس فى الطريق، أو قاذفين بسهامهم ورماحهم من النوافذ على أعدائهم تحت فى الشارع. لقد كانت مثل هذه الأشياء دائمة الحدوث، ولابد أن حياة الطبقات التجارية فى القاهرة كانت مثيرة للغاية، وقد قرأنا كيف كان السوق الكبير، المسمى بخان الخليلى، يغُلق أحياناً لأسبوع ، بينما تستمر مثل هذه المنازلات فى الشوارع بدون توقف، ويحتشد تجار القاهرة الأغنياء مرتعشين خلف البوابات الضخمة.
لقد كانت العشوائية فى نظام الحكم، وقصر فترة الحكم بشكل عام ، والذى كان يبلغ حوالى خمس سنوات فى المتوسط، قد جعل من المثير للإستغراب أن نجد سلاطين المماليك وقد وجدوا فسحة من الفراغ لإنجاز كل هذه الأعمال الجليلة فى العمارة والهندسة، والتى تميز حكمهم عن أى فترة أخرى من فترات التاريخ المصرى منذ الحقبة المسيحية. لم تكن وظيفة السلطان االفعلية وظيفة العاطل، بإستثناء اليقظة الدائمة المطلوبة لمراقبة المماليك دائمى التذمر، فقد كان السلطان هو كبير القضاة، وكان عليه الجلوس بإستمرار، ليس فقط ليستمع إلى القضايا، ولكن أيضاً ليستلم الشكاوى والعرائض من أى من رعاياه، والذى إختار أن يمثلهم بنفسه . ولقد كان عليه الإشراف على عدد كبير من المراسلات ، وقد شارك كثير من السلاطين بأنفسهم فى صياغة المكاتبات إلى كل أجزاء الإمبراطورية، وإلى الدول الأجنبية. ولقد أسس أشهر وأقوى السلاطين البحرية، السلطان بيبرس، نظام بريد متقن، يربط كل جزء من ممتلكاته الواسعة بالعاصمة. كانت أبدال الأفراس جاهزة فى كل مركز بريد، كما كان السلطان يقوم مرتين أسبوعياً بإستلام التقارير والرد عليها، من كل أنحاء الإمبراطورية. وبالإضافة إلى البريد العادى، كان هناك أيضاً محطات بريد الحمام، والتى لم تكن العناية بها تقل عن العناية بمحطات البريد العادى. كان الحمام يحفظ فى أبراج فى القلعة، وعند المراحل المعينة، والتى كانت أكثر إختلافاً عن تلك الخاصة بالجياد، كان فرد الحمام يًدرب على الوقوف على أول مركز برج، حيث تربط رسالته إلى جناح حمامة أخرى للمرحلة التالية، كان للحمام السلطانى علامة مميزة، وعندما كانت إحدى هذه الحمامات السلطانية تصل إلى القلعة برسالة، لم يكن مسموحاً لأحد بفك الرسالة سوى السلطان نفسه، ومن ثم فقد كان هناك قواعد مشددة، بحيث أنه حتى ولو كان السلطان يتناول طعامه، أو نائماً، أو حتى فى الحمام، فقد كان يتم إشعاره فوراً بوصول الحمام، وكان بدوره يتوجه فوراً لفك الرسالة. كانت المراسلات التى تحملها مراكز الحمام غاية فى الأهمية، كما قد نرى من نموذج ساعات عمل بيبرس. وصل بيبرس أمام صور ذات ليلة، وسرعان مانصبت خيمته على ضوء المشاعل، وتم إستدعاء السكرتارية المكونة من سبعة أفراد، ومعهم قائد الجيش، والقائد المساعد، الأمير علم، وأُمرت السكرتارية العسكرية بكتابة الأوامر. وعلى مدى ساعات لم يتوقفوا عن كتابة الرسائل والوثائق، والتى كان السلطان يختمها بخاتمه، وفى تلك الليلة تحديداً كتبوا فى حضوره ستة وخمسين وثيقة لكبار النبلاء، بمقدمة مناسبة لكل منها مع الشكر والحمدلله.
وبالإضافة إلى الأعمال الضرورية، فقد إحتلت الإحتفالات الرسمية حيزاً هاماً من وقت السلطان. كان البلاط المملوكى نظاماً دقيقاً محكماً، ولابد أن إختيار الضباط لشغل المراكز المختلفة للعائلة السلطانية، والتكتيك المطلوب لتهدئة تحاسدهم وتنازعهم، ناهيك عن العرض المستمر لملابس الشرف الإحتفالية، وكتابة الوثائق، ومنح الألقاب، والإقطاعات، كان عبأً ثقيلاً على سيدهم. كانت الوظائف المرتبطة بالعائلة السلطانية قيمة وثمينة، وتحتاج إلى بعض الديبلوماسية لترتيب مجلس الوزراء، ومواعيد العائلة السلطانية، بالشكل الذى يرضى الجميع. وبجانب كبار ضباط الدولة، مثل نائب السلطان، أو الوزير، وقائد الجيش، أو أتابك العسكر، أوالأمير الكبير، والإستادار، مسئول العائلة السلطانية، ورأس النوبة أو رئيس الحرس، والسلحدار أو حامل الدرع، وأمير أخور أو مسئول الجياد، والساقى أو حامل الكأس، والجاشنكير أو متذوق طعام السلطان، والحاجب، ومسئول الإسطبل ، والسكرتارية، والخدم ، وغيرهم، كان هناك العديد من الوظائف الأصغر، والتى كانت تمنح أيضاً قوة ونفوذ كبيرين، فأمير المجلس، والذى سمى بهذا الإسم لإنه كان يتمتع بمزية الجلوس فى حضرة السلطان، كان المشرف على أطباء وجراحى البلاط، وكان الجمدار، أو لبيس الملك موظفاً كبيراً، وكان الأمير شكار، المشرف على الجوارح السلطانية، يساعد السلطان فى الصيد، وكان الأمير طابار أو الطبردار، رئيس حملة الفؤوس العشرة من حرس السلطان، وكان الباشمحضر هو حامل خف السلطان، وكان الجوكاندار هو حامل مضرب السلطان للعبة البولو، وكان عبارة عن عصا ملونة من أربعة أذرع ورأس معقوفة، وكان الزمامدار هو رئيس الحرس الخصيان والمسئول عن حريم السلطان، كما كان لأقسام العائلة السلطانية المختلفة ضباطها أيضاً، والذين كانوا فى الغالب من كبار النبلاء ومن أصحاب النفوذ فى المملكة.
كان أستدار الصحبة، يشرف على مطابخ السلطان، وكانت الطبلخاناة أو الطبول ، هى القسم الذى تحفظ فيه الآلات الموسيقية السلطانية، وكان يترأسها موظف كبير يسمى أمير علم أو القائد المساعد، ويقال أن آلالات الموسيقية السلطانية قد تكونت فى أحد الأوقات من أربع طبلات كبيرة، وأربعين طبلة صغيرة، وأربعة مزامير، وعشرين بوقاً. كان التصريح بملكية الفرق الموسيقية من أهم المميزات المشتهاة فى العصر المملوكى، وكان هؤلاء الأمراء المسموح لهم بإمتلاك فرق موسيقية تعزف أمام بواباتهم يسمون بأمير طبلخاناة ، أو أمير طبلة، وكان عددهم حوالى ثلاثين أميراً، وكان لكل منهم القيادة على فرقة من أربعين فارس، بفرقة موسيقية من عشرة طبول، ومزمارين ، وأربعة أبواق، وإقطاع يساوى حوالى 30000 دينار، وقد إستمرت عادة توظيف هذه الفرق الإحتفالية حتى العصر العثمانى.
كما كان هناك الطشت خانة، أو مخزن الثياب السلطانية ، حيث تُغسل الملابس، وتُحفظ الأثواب والجواهر والأختام والسيوف السلطانية، والشراب خانة ، أو مخزن المشروبات ، حيث تُحفظ المشروبات الروحية، والحلوى، والفواكه، والعطور، والمياه السلطانية، وكذلك الحوايج خانة ، أو المخازن السلطانية حيث تُجهز اللحوم والطعام والخضروات المطلوبة يومياً. وقد وصلت الكمية المعدة من الطعام يوميا فى زمن كتبغا حوالى 20000 رطل ، وفى حكم الناصر تراوحت التكاليف اليومية للمخازن السلطانية إلى مابين 21000 - 30000 درهم. وسوف نرى أن حياة البلاط كانت شديدة البزخ حتى فى القرن الرابع عشر، وكانت الإحتفالات الرسمية للسلطان المملوكى تحتوى على كثير من البروتوكول ، كأى حفل إستقبال حديث ، وكانت تمثل مشهداً شديد الفخامة. وعندما كان السلطان يخرج فى سفر رسمى لتفقد ممتلكاته ، كان موكبه يُرتب بعناية شديدة. فعلى سبيل مثال، كان بيبرس يركب فى الوسط، مرتدياً جبة حريرية سوداء بأكمام طويلة، ولكن بدون تطريز أو ذهب، وعلى رأسه عمامة من الحرير الخالص ، بذيل يتدلى بين الكتفين، وسيف بدوى معلقاً فى جانبه، وتحت جبته دروع داويدية. وأمام الأميرالعظيم تُحمل الغاشية، أو السرج المطرز، رمز السيادة، يغطيه الذهب والأحجار الكريمة، وعلى رأس السلطان يسير أمير الدم ، أو القائد العام، يحمل المظلة السلطانية من الحرير الأصفر، مطرزة بالذهب ومتوجة بطائر ذهبى، يقف على قبة ذهبية. وكان غطاء عنق فرسه يتكون من الحرير الأصفر المطرز بالذهب، و يغطى الزنارى- قطعة من الأطلس الأحمر- كفله. وكان العلم السلطانى المكون من خيوط الحرير والذهب يُحمل عالياً، وكان للجنود الألوان الخاصة بفرقتها المكونة من الحرير القاهرى الأصفر، والمطرزة يشعارات قادتها. وأمام السلطان مباشرة ، كان يركب غلامان على فرسين بيض ذوى سرج مزركش ، ملابسهما من الحرير الأصفر، بحواف من القماش المطرز، وكوفية من نفس النوع. لقد كان واجبهما التأكد من سلامة الطريق. وأمام السلطان يسير نافخ فليوت ، ويتبعه مغنى ، متغنياً بالأعمال البطولية للملوك السابقين ، على إيقاع طبلة يدوية، وينشد الشعراء الأشعار إرتجالاً على إيقاع الكمنجا.
وأمام السلطان وخلفه يحمل الطبردارية الفؤوس، ويحمل الجوكندار الخنجر الرسمى للدولة فى غمد، على يسار السلطان، بينما يحُمل خنجر آخر مع ترس على يمينه، وبالقرب منه كان يركب الجمكدار، أو حامل الصولجان ، رجلاً طويلاً وسيماً، يحمل الصولجان ذو الرأس الذهبى عالياً ، دون أن يبعد عينيه عن محيا سيده أبداً.
كان كبار ضباط البلاط يتبعون موكب السلطان، فى موكب أقل فخامة. وعندما كان ينادى بالتوقف ليلاً فى السفرات الطويلة، كانت المشاعل تُحمل أمام السلطان، وعندما كان يقترب من الخيمة، والتى تكون قد سبقته، ونُصبت قبل وصوله، يأتى خدمه لمقابلته بالشموع المحمولة على قواعد مطعمة بالذهب، يحيط به الغلمان وحاملو الفؤوس، وينشد الجنود مجتمعين، ويترجل الجميع فيما عدا السلطان، والذى يركب حتى مدخل الخيمة، حيث يترك فرسه، ثم يدخل الفسطاط المستدير الضخم خلفه. ومن ذلك الفسطاط تتفرع غرفة نوم خشبية صغيرة، أكثر دفأً من الخيمة، حيث يكون الحمام الساخن فى إنتظاره . كان كل ذلك محاطاً بحاجز دفاعى، بينما يتم التفتيش على حرس المماليك الفرسان، الذين يقومون بالحراسة العادية، مرتين فى كل ليلة، من قبل دوريات تفتيش أكبر، .كان الأمير باب دار، مسئول باب السلطان، يقود الدوريات الأكبر، بينما كان الخدم والخصيان ينامون عند الباب. ويصف جيونفيل معسكر السلطان فى دمياط بأنه كان يُدخل إليه من خلال برج من أعمدة خشب التنوب مغطى بأشكال ملونة، وفى الداخل كانت الخيمة التى يترك فيها الضباط أسلحتهم عندما يستدعون لحضرة السلطان، وخلف هذه الخيمة كان هناك باب يشبه الممر الأول، والذى يتم من خلاله الدخول إلى خيمة كبرى، هى قاعة السلطان، التى كان يوجد خلفها برج يشبه البرج الأمامى، والذى كان يتم من خلاله الدخول إلى غرفة السلطان. وخلف غرفة السلطان كان هناك مساحة مغلقة، وفى منتصف هذه المساحة كان يوجد برج أعلى من كل الأبراج الأخرى، والذى كان السلطان ينظر منه على المعسكر وكل البلد. ومن نفس المكان كان هناك ممر ينحدر إلى النهر، إلى المكان الذى نشر فيه السلطان خيمة فوق الماء من أجل الإستحمام. وكان كل ذلك المعسكر الكبير محاطاً بتعريشات من الخشب، وعلى الجانب الخارجى، إمتدت التعريشات بقماش الكاليكو القطنى الأزرق، وكانت الأبراج الأربعة مغطاة أيضاً بقماش الكاليكو.
لقد كان المقريزى المؤرخ مغرماً برواية كيف كان السلطان يقضى يومه، مستعرضاً قواته، قائداً لهجوم فى المعارك، أو لاعباً للرياضة فى المنزل. كان المماليك عشاقاً شديدين للرياضة، والتدريبات البدنية. كان الناصر عاشقاً للصيد والمطاردة ، وقد إستورد عدداً من الصقور والنسور والبازات، وقدم كثيراً من الإقطاعات الهامة هدايا لحاملى الصقور، الذين كانوا يركبون بجانبه. وكان بيبرس عاشقاً للرماية ورامى ماهر، وقد أسس ميداناً للرماية خارج باب النصر فى القاهرة، وكان يبقى هناك من الظهيرة حتى الغروب، يشجع الأمراء فى تدريباتهم. وقد أصبحت الرماية هى الشاغل الأكبر لأمراء بلاطه. لكن بيبرس، وكمعظم المماليك، كان كاثوليكياً ،عاماً ، فى أذواقه، لقد كان مغرماً بسباق الخيول، ويقضى يومين فى الأسبوع فى لعبة البولو، كما كان معروفاً بمهارته فى تصويب الرماح فى المسابقات، التى كانت تشكل جزءً من تسالى اليوم، كما كان سباحاً ماهراً، لدرجة أنه قد سبح ذات مرة عبر النيل فى دروعه، ساحباً خلفه عدداً من كبار الأمراء، على سجاجيد منتفخة.
إن مثل هذه التفاصيل الخارجية عن حياة المماليك، يُمكن أن تكون قد تجمعت عند المقريزى ، ولكنا وإذا ماأردنا التعرف على تفاصيل الحياة الإجتماعية لهذه الفترة، فيجب أن نذهب إلى مصدرآخر. والواقع أننا نجد عند المقريزى، أحياناً، رواية عن عربدات البلاط فى الإحتفالات الكبرى، وكيف كان هناك حفلات موسيقية فى القلعة، حيث كان يلوح بأحد المشاعل فى رفق، ذهاباً وإياباً ، لتنظيم سرعة الموسيقى. ولكن من أجل فهم الحياة الإجتماعية للمماليك، لابد أن نلجأ الى ألف ليلة وليلة، حيث صُورت العادات والتقاليد، وبصرف النظر عن أصل ومشهد القصص، من المجتمع الذى شاهده رواتها فى القاهرة فى زمن المماليك، وإن قصص الرفاهية الكثيرة التى وصلت إلينا ، الكؤوس والمباخر والسلطانيات والأطباق المطعمة بالذهب والفضة تؤكد صحة الصورة. فمع كل صلواتهم وصيامهم وطقوسهم الثقيلة، فقد إجتهد مسلمو العصور الوسطى فى تسلية أنفسهم، وحتى فى عقيدتهم، فقد وجدوا فرصاً للمتعة. وقد إستغلوا إحتفالاتهم الدينية للبس أفضل الثياب، وإقامة الحفلات، وزيارة المقابر أيضاً ، مرحين على ظهور الحمير، كما تركوا خدمهم يخرجون ويمرحون أيضاً فى الشوارع المنيرة السعيدة، ملفعين بالحرير والساتان، محتشدين مع الراقصين والحواة والمعربدين والشخصيات الخيالية، كقراقوش و خيال الظل.
ويعطينا الشاعر بهاء الدين زهير، سكرتير الصالح نجم الدين أيوب، الذى عاش بعده ومات سنة 1258، صورة حية فى أشعاره عن المجتمع السعيد فى الزمن المملوكى المبكر، والتى يتضح منها أنه لم يكن هناك ذلك التقيد الشديد، بقاعدة الإعتدال الإسلامى بين أفراد الحاشية الخلعاء. لقد كان كأس الخمر حاضراً فى أشعار زهير، مثلما كان فى أشعار عمر الخيام، ولقد وُصف كثير من سلاطين المماليك على أنهم مدمنى شراب ،وقد قيل أن الأمير الكبير بيزارى كان فى فترة ما غير قادر على القيام بواجباته بسبب إنقطاعه التام للنرد والسكر، ومع ذلك فقد كان هناك بعض نقاط تعويض عن هذا السكر.
لم يكن المسلمون فى أيام هارون الرشيد، ولا فى العصر الذهبى الآخر لبيبرس وبرقوق، يجلسون للشراب فى إكتئاب أو فى عزلة، فقد أحبوا أن تحيط بهم صحبة مرحة، وكثير من الزهور والعطور على الطاولة، ولقد أحبوا أن يعطروا لحاهم بالزباد، ويرشون ثيابهم الجميلة بماء الورد، بينما تحترق حبات العنبر والبخور فى المباخر، ناشرة رائحة عبقة فى أرجاء المكان. ولم يكن الحفل يكتمل بدون الموسيقى وأصوات النساء الصادحة بالغناء، وعادة ماكان مكان مرحهم أحد القصور، كما قد يكون قبلاى خان قد صور فى أحلامه. إنه من الصعب أن نرى الآن حانات اللهو الفخمة التى قننها المماليك ذات مرة، وكيف ملأوها بالمواد الثمينة وفرشوها بالسجاد الفاخر، ومدى فخامة النقوش وأعمال العاج التى زينوا بها أبوابها وسقوفها، وكيف ُطُعمت بإتقان أوانى شرابهم وغسيلهم ، ومدى غنى زخرفة نوافذها. ففى هذا العصر المزدهر للفن الإسلامى، كان هناك إرتباط وثيق بالحياة وبالظروف الإجتماعية للناس، الذين أنجزوا وشجعوا أجمل منتجاب الفن الشرقى. إن التاريخ يمكن أن يُظهر نماذج قليلة فقط من تلك المتناقضات الصارخة، التى يقدمها مشهد جماعة من الجنود الغير منضبطين، جيش دائم من الأجانب، نادراً مايتزاوج مع أبناء البلد، ويمثل طبقة منعزلة تماماً، بربرية فى كل ملامحها، ميالة إلى سفك الدماء، عديمة الرحمة مع أعدائها، طاغية مع رعاياها، لكنها متذوقة للثقافة الرفيعة التى يمكن للفن أن يوفرها لحياتها الإجتماعية، كريمة فى الإغداق على المؤسسات الدينية، فاخرة فى مساجدها وقصورها ، شديدة التأنق فى أقل تفاصيل ملابسها وأثاثها. إن كل ذلك يمكن أن يعزى إلى عشق البرابرة للمظاهر، لكنا فى الواقع مازلنا بعيدين عن تفسير كيف أصبح الترك أنبل مشجعى الفنون والآداب والمبانى العامة ، التى عرفتها مصر منذ أيام البطالمة.
وأثناء تلك الفترة المزدهرة إنقسم سكان مصر إلى طبقتين منفصلتين تماماً، يملكان القليل من المشتركات . كانت الأقلية العسكرية المملوكية هى الطبقة الأولى، وكانت جموع المصريين هى الطبقة الثانية. كانت الطبقة الأخيرة مفيدة لزراعة الأرض، ودفع الضرائب التى يعيش عليها المماليك، ويصنعون بها ثيابهم، ولكن خلف هذه الوظائف، كانت هذه الطلبقة توفر الوظائف الدينية والقضائية للإمبراطورية، وكان لها جزء بسيط من الثروة، ونادراً ماكانت تندمج فى مقامات حكامها الأجانب. إن أسماء المماليك التى وصلت إلينا فى الصفحات الصحيحة والتفصيلية للمقريزى هى تركية يشكل عام، وحتى إذا حملوا أسماء عربية عادية، فقد كان ذلك لأتراك حملوا أسماء عربية بعد ذلك ، مع لغة ولباس البلد الذى تبناهم. لم يكن لسكان البلاد نصيب فى الحياة الإحتفالية العسكرية الفخمة للمماليك. ولقد كانوا حقاً يشعرون عندما يعتلى العرش حاكم معتدل مثل لاجين وعندما كانت الضرائب تُخفض ويُوزع البقشيش. حيث كانوا يشاركون، ومثل كل الغوغاء، بتزيين الشوارع ومناسبات الإحتفال العامة، عندما يعود السلطان من الغزو أو يتعافى من المرض، ولكن لم يكن لهم نصيب فى حكم البلاد، وكان عليهم أن يكيفوا أنفسهم مع الصفات الغامضة لحكامهم دائمى التغير.
وبعد موت تورانشاه، أصبح من المحتم أن يستولى المماليك على عرش مصر، لكنهم أظهروا إحترامهم للمملكة السابقة، والعرفان لتقاليدها السياسية بإنتخاب أرملة الصالح، شجر الدر، كملكة عليهم، وكانت المرأة الوحيدة تقريباً التى حكمت بلداً محمدياً قبل ملكة الهند الحالية. جمعت شجر الدر أهلية لأصل المملوكى، والزمالة للبحرية والزواج بالسلطان الأيوبى، التى كانت قد إنجبت منه إبناً، ورغم أن الإبن خليل كان قد مات فى طفولته، فقد أصرت شجر الدر على حقها فى الحكم على أساس أمومتها لأمير من الأسرة المالكة، كما يتأكد من توقيعها الرسمى على كل الوثائق الرسمية بوصفها أم خليل. وهكذا تم الدعاء لها فى الصلوات، كما ُضربت العملة بالألقاب الأنثوية، المستعصمية، الصالحية، ملكة المسلمين، والدة الملك المنصور، خليل أمير المؤمنين، والذى يشير إليها كالجارية السابقة للخليفة المستعصم، ثم للملك للصالح، ملكة المسلمين، أم الملك المنصور خليل، أمير المؤمنين. كان أولى أعمال السلطان الجديد هى التصديق على المعاهدة السابقة مع الملك لويس، وإرساله سالماً مع جيشه خارج البلاد بأمان. وإنه من المرجح تماماً، ولو جزئياً على الأقل، أن الصليبيين مدينين لها بحياتهم ، لإنه فى الإنفعال الذى ثار بعد مصرع تورانشاه، وأيضاً فى النشوة بإستعادة دمياط، تصارع المماليك رأيان حول قتل المسيحيين أم لا؟ ، وربما يكون دفع الفدية أيضاً قد رجح رأى الإبقاء على حياتهم ، حيث قامت الملكة زوجة لويس، والتى كانت فى دمياط، بدفع نصف الفدية المتفق عليها، 800000 بيزنت، ولم يضيع الملك وقتاً فى مغادرة الساحل.
لقد كان تولية إمرأة للملك شيئاً كريهاً للغاية بالنسبة للأفكار المحمدية، بحيث لم يكن من الممكن أن يستمر، فقد قال النبى الكريم، لا يفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة ، كما أن خليفة بغداد، الذى لم يقبل بحقيقة أن السلطان الجديد فى مصر ، كان يوماً من حريمه، قد كتب للقادة المصريين قائلاً ، إذا لم يكن عندكم رجال، إبعثوا إلينا نرسل إليكم واحداً. وقد فُهمت الرسالة، وإختار الأمراء عزالدين أيبك، أحد قادة البحرية، وأتابك العسكر فى ذلك الوقت، القائد العام للجيش، ليكون زوجاً لشجر الدر وسلطان مصر، بلقب الملك المعز، وكذلك تم إتخاذ إجراء إحترازى آخر على ضوء عداوة الأيوبيين فى سوريا، فلم يكن أحفاد صلاح الدين مستعدين لترك مصر تضييع منهم، بدون محاولة الحفاظ عليها ضمن ممتلكات العائلة، ولذلك قام الناصر صاحب حلب وحفيد صلاح الدين الأكبر، بالسيطرة على دمشق، والتى كانت تتبع مصر فى ذلك الوقت، كخطوة نحو الزحف على النيل، ولكى يتم تجريده من ذريعته، أقام المماليك ملكاً مشتركاً ليحكم مع أيبك فى شخص الأشرف موسى، وهو طفل من الأحفاد الستة الأكبر للكامل، لكن السلطة الحقيقية إستمرت فى يد الملكة، حيث سيطرت على الموارد المالية، ورفضت أن تخبر أيبك عن مكان إيداع كنوز السلطان الراحل ، وقيدت زوجها فى مرتبة التابع. لقد كانت وظيفته الحقيقية هى محاربة أعداء الملكة، بينما أدارت هى الشئون الداخلية للدولة، بإسم الملكين المشتركين مع ذلك، وبمساعدة الأقلية العسكرية المكونة من كبار المماليك، والتى كان أقطاى وبيبرس وبلبان أشهرهم، وأصحاب المناصب الرسمية الرئيسية فيها.
كان حول أيبك خطران يجب الإحتراز منهما، الأول هو الغزو من قبل الأيوبيين الشرعيين فى سوريا، والثانى هو المؤامرة بين إخوته المماليك والرعايا العرب، بينما كان يمكن إهمال خطر أهالى البلاد الأصليين. كان الخطر الأكبر هو من أصحاب الحق الشرعيين، وبالفعل كان جزءً من جيش المماليك فى الصالحية بالقرب من الحدود السورية، قد أعلن ملكاً منافساً فى شخص المغيث عمر، إبن العادل الثانى وحفيد الكامل، والذى كان مرشحاً ذا إستحقاق جيد للعرش ، جيداً للغايةً ، حتى أن عمه الصالح كان قد إحتفظ به فى سجن قريب بقلعة الشوبك. ومن هناك كان قد أفرج عنه فقط بسبب سجانه الإنتهازى، وسرعان ماإحتل قلعة الكرك القوية. رد إيبك على منافسته بوضع مصر تحت حماية خليفة بغداد، بإعلان مصر ولاية عباسية، وإعلان نفسه كنائب للخليفة، ومن ثم إكتسب لقباً شرعياً جديداً، أقدم كثيراً من ألقاب الأيوبيين، وبدأ فى الإستعداد للحرب. وفى البداية أرسل أقطاى ، قائد المماليك البحرية، لإسترداد غزة التى كان يحاصرها السوريون، وفى نفس الوقت أخذ فى بذل جهوده لإقناع الشعب المصرى بإحترامه للمملكة السابقة. وتم نقل جثمان الصالح أيوب من قلعة الروضة، حيث كانت شجر الدر قد أخفته على عجل، فى جنازة فخمة إلى مسجد المقبرة ، التى كانت قد شيدتها له فى بين القصرين، والتى مازال قائماً إلى اليوم. وحضر الملكان المشتركان ، أيبك والأشرف ، وكبار ضباط الدولة ، الجنازة فى أبهة شديدة. وإرتدى كل المماليك ملابس الحداد البيضاء حالقى الرؤوس. وغُطيت المقبرة بالرايات ، ووضع فوقها قوس وكنانة السلطان الراحل، فى إجلال كبير، كما تم تشجيع الناس على الإعتقاد فى إنشقاق المعارضة الأيوبية، وأن المغيث صاحب الكرك قد أصبح حليفاً لأيبك، وتم نشر كل أنواع الشائعات الزائفة.
ومع ذلك فقد توقع الجميع إنتصار المملكة القديمة، وعندما وصل الناصر صاحب دمشق إلى الحدود، أصبح شعب القاهرة واثقاً من نجاحه، وإستعد للترحيب به. وإلتقى أيبك وأقطاى مع جيش كبير من المماليك وعرب الصعيد بمدعى العرش الشرعى بالقرب من العباسة، حيث جرت معركة طاحنة. وهرب العرب المصريون، الذين تم دحرهم فى أول هجوم، إلى بيوتهم معلنين فى طريقهم هزيمة أيبك، وفوراً جهزت القاهرة نفسها لأخذ جانب المنتصر المفترض، وتم الدعاء لإسم الناصر فى صلوات الجمعة فى اليوم التالى، كما تم تجهيز الإستعدادات للإحتفال به، ومع ذلك فلم تكن المعركة قد حُسمت عندما هرب العرب، فقد إقتحم المصريون/المماليك ، جناح السوريين الأيسر/الأيوبييين ، بينما تم الحفاظ على توازن القلب، وتأرجحت المعركة. وفى النهاية قلب هرب مماليك الناصر إلى زملائهم على الجانب المصرى، مصير المعركة، وهرب الباقى من الجيش السورى إلى دمشق، تاركين معسكرهم وأمتعتهم، مخلفين كثيراً من القتلى والأسرى. وبين هؤلاء الأسرى االذين زينوا دخول أيبك المنتصر إلى القاهرة ، كان الصالح إسماعيل ، أمير دمشق السابق، ومنافس الصالح أيوب ، مع العديد من الأمراء الآخرين ، من ذرية صلاح الدين. وتم إستعراض الصالح إسماعيل أمام مقبرة منافسه القديم، الصالح أيوب، ثم شُنق فى القلعة كعدو لدود لمصر.
متشجعاً بذلك النصر، أرسل أيبك أقطاى لإسترداد غزة وفلسطين، وإنتهز فرصة شعبيته المتزايدة لخلع شريكه الإسمى، الطفل أشرف ، وأرسله بعيداً إلى إسطنبول سنة 1254م، وأثناء ذلك تدخل الخليفة لتشجيع تفاهم سلمى بين رعاياه المتصارعين فى سوريا ومصر. كان دافعه واضحاً، فقد كان الغزو المغولى قد بدأ يلامس حدوده، وكان البرابرة قد وصلوا إلى ديار بكر، فكان من المحتم طى كل الخلافات الصغيرة وتكوين جبهة متحدة ضد أعداء الإسلام. وتم ترتيب السلام بواسطة سفراء من بغداد على أساس أن تسيطر مصر على فلسطين غرب الأردن، بما فى ذلك أورشليم، والجزء الإسلامى من الساحل. وتم تجديد المعاهدة سنة 1256م، عندما تخلى الناصرعن حمايتة للمنشقين المصريين/المماليك ، ولم يعد لدى أيبك مزيداً من المشاكل مع الورثة الشرعيين.
كان الإحتراز ضد المؤامرات داخل بيته أكثر صعوبة من هجوم العدو المكشوف. كان أقطاى، الذى كان الأبرز بين بين القادة المماليك، والذى لم يكن قد هزم لويس التاسع فقط ، ولكن كرر هزيمة السوريين أيضا، هو أخطر منافسى أيبك. ولم يكن من الممكن أن يطيع المماليك البحرية قائداً آخر. وبإئتمار أقطاى أصبح هؤلاء الجنود المتوحشين يمثلون رعباً للأهالى، حيث كانوا يقضون أوقات أجازاتهم فى الإنغماس فى أفعال من العنف الشنيع، ينهبون المنازل البريئة، ويخطفون النساء من الحمامات العامة، وكما يقول المقريزى، فإن الفرنجة الكفرة ، ماكانوا ليفعلون ذلك. وقد زاد تمرد عرب الصعيد من الفوضى العامة، والذين رفعوا شعار ، مصر للعرب، وليس للترك، وقد إنتشرت هذه الحركة الإثنية لدرجة أن أصبح لدى العرب حوالى 12000 فارس، وحشداً كبيراً من جنود المشاة، فقابلهم أقطاى عند رأس الدلتا، مع حوالى 5000 فقط من جنوده الموثوقين، وتمكن بفضل مهارته وشجاعة قواته، من الإنتصار عليهم. وسرعان ماوضعت حملة فى الشمال حداً لنفوذ العرب فى الدلتا، والذين كانوا فى حالة تمرد دائم، كما قام أيبك بالإيقاع بقائدهم والكثير من أتباعه، وعاقب القبائل بمزيد من الضرائب. كانت النتيجة دمارهم. لقد كان عرب مصر أغنياءً، وإمتلكوا كثيراً من الجياد والقطعان، ولكن ومن ذلك الوقت فصاعدا، كما يذكر المؤرخ فى القرن الخامس عشر/المقريزى ، فقد تم إخضاعهم للدولة وأخذ أمرهم فى إضمحلال.
لقد جعل ذلك الإنتصار من أقطاى خصماً لايطاق أكثر من أى وقت مضى، وعزم أيبك على التخلص منه، وتم الإيقاع به فى قلعة القاهرة، والقيت رأسه لحراسه الواقفين أسفل الجدران. وتملك الرعب كثيراً من المماليك البحرية من هذه الضربة المفاجئة، فهربوا من البلد، وتم القبض على بعض من بقى منهم. وبهذا أنقذ أيبك العرش مؤقتاً، لكن المماليك المنفيين ظلوا مع ذلك يمثلون تهديداً دائماً، وقاموا بالإغارة على فلسطين وإستغاثوا بالناصر فى دمشق، ولكن وعندما أقنعه الخليفة بالتخلص منهم، إلتحقوا بالمغيث فى الكرك، وحاموا حول حدود مصر. قضى أيبك جزءً كبيراً من سنوات حكمه الثلاث فى معسكر على الحدود، لصد أى هجوم منهم. وقد أصبح الآن يميل إلى إضفاء الشرعية على لقبه، وأرسل بعثة إلى الخليفة فى بغداد لطلب ثوب الولاية وشعارات التقليد المعتادة. وفى نفس الوقت إقترح الزواج من إبنة لولو، أمير الموصل. وقد سبب هذا فراق نهائى مع زوجته شجر الدر، والتى وبرغم أنها قد عاشت فى أسوء الظروف مع زوجها، فقد شعرت بالغيرة الشديدة من مشاركة إمرأة أخرى فيه. وكانت قد أجبرته على طلاق من زوجة سابقة، فماكان يمكن أن تقبل بزوجة جديدة، خاصة من أميرة ذو مقام. كان أيبك قد أُخبر بواسطة عراف البلاط أنه سوف يموت بمؤامرة تدبرها إمرأة، كما كان قد تم تحذيره، سراً، بأن الملكة تفكر فى عزله. ويبدو أنه كان لديه خططاً مماثلة، لكنها قد سبقتها. وبعدما قامت بدعوته إلى القلعة بكل التأكيد على إخلاصها، قامت بتدبير قتله فى الحمام ، وبعدما تمت عملية القتل حاولت أن تظهرها كوفاة عادية ، لكن المماليك سرعان ماإنتزعوا الحقيقة من الخدم تحت ضغط التعذيب، وعبثاً حاولت الملكة تقديم العرش للعديد من الأمراء، لكن أحد منهم لم يجرؤ على قبول تلك الهدية الخطيرة.
ولقد كان يمكن أن يقتلها المماليك فى غضبهم الشديد، لكن روابط الزمالة القديمة قد ضمنت لها حماية المماليك البحرية، والذين لم يكن لديهم بالإضافة إلى ذلك سببا لحب أيبك. وتم حبسها فى البرج الأحمر، وفى تنبؤها بمصيرها ، كرست المرأة البطل ساعاتها الأخيرة لسحق مجوهراتها فى هون حتى لاترتديها إمرأة أخرى. وبعد ثلاثة أيام تم سحبها أمام الزوجة التى كانت قد أجبرت أيبك على طلاقها، وفى حضور منافستها ، ضرب عبيد الزوجة الملكة شجر الدر بالقباقيب الخشبية حتى الموت. ثم سحبوا جسدها شبه العارى إلى خندق القلعة، حيث ظل هناك لعدة أيام تلتهمه الكلاب، حتى قام بعض الناس بدفنه فى النهاية. ومازلت مقبرتها قائمة بالقرب من مقام السيدة نفيسة، وقد قامت بعض الأيادى التقية الحديثة بتغطيتها بقماش مطرزاً بإسمها. لقد كانت نهايتها شبيهة بنهاية جيزابيل فى سفر الملوك ، لكنها كانت قد أنقذت مصر.
وتم إقامة إبن أيبك من زوجته المطلقة على العرش الخالى بإختيار المماليك، ولكن الفتى ذا الخمسة عشر عاماً، والذى كان قد قضى وقته فى التسلية العبثية لمصارعة الديوك وركوب الحمير، كان فقط مجرد بديلاً مؤقتاً لتجنب الصراع بين الأمراء المتحاسدين. لم يكن الملك المنصورعلى ، كما لُقب ، يصلح أن يكون عاهلاً فى ظروف الأزمة آنذاك ، وسرعان ماتم تنحيته فى نوفمبر 1259م بواسطة قطز نائب السلطان السابق أيبك، والذى إعتلى العرش بلقب الملك المظفر. وكما ذكر قطز لأتباعه، إن الظرف لايسمح بملوك إمعات أطفال، نحن نريد ملكاً محارباً. لم يكن الخطر آنذاك يأتى من المطالبين الشرعيين، فقد قام قطز بالقضاء تماماً على المغيث الأيوبى صاحب قلعة الكرك، عندما حاول غزو مصر بمساعدة بعض المماليك البحرية المنفيين، لقد كان هناك خطر أعظم يهدد كل الشرق المحمدى بتقدم المغول بقيادة هولاكو، الذى إستولى على بغداد وقتل الخليفة فى فبراير 1258م، ثم غزا كل سوريا فى 1260م، ومن هناك إندفع نحو غزة ، غازياً ومدمراً كل شئ فى طريقه.
أرسل هولاكو سفارة إلى سلطان مصر، تحمل رسالة مليئة بالتهديد، مطالباً بخضوعه الذليل. رد قطز بإعدام السفراء وتعليق رؤوسهم على باب زويلة، فما كان له أن يقبل بالتفاوض مع العدو خشية أن يستميل بعض الأمراء ضعفاء القلوب. وكما حدث، فقد كان عليه أن يقدم لهم دليلاً صارماً قبل أن يمكنه قيادة جيش موحد حاسم إلى الحدود. وخمدت الهمهمات وإرتفعت الهمم عندما إستطاع بيبرس والمقدمة دفع حامية المغول بعيداً عن غزة، وزحف كل الجيش المصرى شمالاً على طول الساحل، لتأمين تحييد فرنجة عكا، ومن هناك زحف لمقابلة البرابرة. ووجدهم بالقرب من بيسان عند عين جالوت، وهو موقع شهير فى الحروب الصليبية، وشتتت الصدمة المهولة لهجوم المغول العساكر المصرية، ولكن الفرار السريع أدى إلى النصر، حيث تفرق المغول فى مطاردتهم للمصريين، وفقدوا التشكيل، فتم حصارهم بسهولة بهجوم مضاد للمماليك الشجعان، وسقط القائد المغولى كتبغا، وسرعان مأاصبح كل جيشه فى حالة إنسحاب تام ، تصاحبه حامية دمشق، حيث إنتفض المسلمون على الفور، وذبحوا السكان المسيحيين ، الذين كانوا قد تسرعوا بالإحتفال بسقوط الإسلام. وإسترد قطز النظام فى كل المدن المدمرة، وأعاد تعيين الأمراء الأيوبيين كتابعيين فى ولاياتهم القديمة فى حمص وحماة، وتليت الصلوات العامة بإسمه حتى حلب والفرات. وبينما كان عائداً منتصراً من حملته الباهرة، والتى أنقذت مصر وإستردت سوريا، سقط ضحية للتحاسد ، الآفة الحتمية لأى ديكتاتورية عسكرية. فقد قام بيبرس، أقدر قادته، وبعد رفض طلبه فى ولاية حلب، بالتآمر مع بعض الأمراء الآخرين، بتدبير إغتيال قطز، عندما كان عائداً من الصيد على الحدود المصرية. وعلى الفور تم إنتخاب المتآمر الأول سلطاناً ، بيبرس أو السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارى الصالحى ، الذى كان المؤسس الحقيقى للإمبراطورية المملوكية.
لم يحتفظ أسلاف بيبرس بالسلطة إلا بصعوبة، ولفترات بسيطة ضد منافسيهم والثورات والخصوم الأجانب، لكنه قد جعل نفسه الأقوى بينهم جميعاً. لقد كان من أبناء القبجاق، الواقعة بين بحر قزوين وجبال الأورال، رجل طويل أحمر، بعينيين زرقاوين، شوهت إحداها ببياض، ولذا فلم يساوى فى سوق الرقيق سوى حوال 20 إسترلينى. ولقد كان مملوكاً للأمير علاء الدين إيدكين البندقدارى، رامى القوس، والتى أتت منها كنيته بالبندقدارى، والتى كتبها ماركو بولو بيندوكودار. وبعد ذلك إنتقل إلى خدمة الصالح أيوب وأصبح أحد أبرز مماليكه البحرية، والذى أظهر بطولة مميزة فى معركة المنصورة. لقد كان أول سلاطين المماليك العظام، والرجل المناسب لوضع أسس الإمبراطورية، وكما يقول وليام الصورى، لم يكن بوندوجار يقل عن يوليوس قيصر كفاءة ، ولا عن نيرون فى الشرور. لكنه يقر بأن السلطان كان معتدلاً رزيناً بالنسبة لرعاياه، وحتى رؤفاً برعاياه المسيحيين. ولقد رتب ولاياته الممتدة بحيث لايمكن لأى ضعف أو شقاق أن يهدم البناء الذى أقامه، والذى إستمر حتى إكتسحت موجة الغزو العثمانى مصر وسوريا فى النهاية ، وإليه يرجع الفضل فى تنظيم الجيش المملوكى، وإعادة بناء أسطول، وتخصيص الإقطاعات للأمراء والجنود، وبناء الطرق والسدود، وحفر القنوات فى العديد من أنحاء مصر. ولقد قام بتحصين قلعة سوريا وأسكن بها المماليك، كما ربط دمشق بالقاهرة بخط خدمات بريد يستغرق أربعة أيام، وإعتاد أن يلعب البولو فى كلا المدينتين فى نفس الأسبوع. ومازال مسجده قائماً ولكن بدون البوابات الشمالية، كما أن المدرسة التى أقامها يوماً، مازلت قائمة على مقربة منه فى حى بين القصرين. ولقد أسس وقفاً لدفن فقراء المسلمين. ومن نواحى عديدة فلقد كان حاكماً عظيماً، ولابد أن قدراته كانت إستثنائية بحيث رفعته من مستوى عبد أعور إلى مؤسس إمبراطورية دامت 250 عام.
كان بيبرس مصمماً أن يكون صلاح الدين الثانى، وأن يحيى قوة وبهاء الإمبراطورية المصرية، وأن يشن الحرب على الكفار، الذين كانوا مازالوا يتسكعون على ساحل المتوسط. ولقد تم إسترداد سوريا تماماً بواسطة خلفائه، وكان حريصاً على مراجعة الوظائف المحلية وإسترضاء الولاة، لكن بنفس الريبة المميزة للماليك. وقد أعلن أحد المنافسين نفسه ملكاً فى دمشق، ورغم إخضاع تمرده فى يناير 1261، فإن طموحه كان خطيراً. لقد كان الهدف الأساسى للسلطان الجديد هو إبعاد المغول إلى الجانب الآخر من الفرات، والذين كانوا قد أسسوا مملكة عُرفت بإسم إيلخانات فارس، وكان الهدف الثانى هو معاقبة الإمارات الصليبية، والتى تحالفت مع البرابرة ضد بقايا دولة الخلافة الكبيرة الزائلة. ولكى يؤكد موقفه كسلطان الإسلام القوى، لم ينفق فقط على المساجد والأوقاف الدينية بسخاء، ولكنه قد دعى أيضاً أحد ممثلى الخلافة العباسية المنفيين للإقامة فى القاهرة، حيث توجهه بأبهة وفخامة بصفته الحبر الأعظم للإسلام بلقب المستنصر بالله، وإستلم منه العمامة السوداء المطرزة بالذهب، والثوب الأرجوانى، والسلسلة الذهبية والخلاخيل، والتى تشير إلى الحاكم المعين والمعترف به روحياً فى مملكة الخليفة.
وهكذا، وبحصوله على اللقب الذى يمكنه من العمل كقائد للمسلمين، بدأ بيبرس فى تدعيم قوته بالتحالف مع الأمراء الأجانب. وبمصادفة سعيدة إعتنق بركة الإسلام، خان القبيلة الذهبية أو مغول القبجاق، الذين يرعون فى وادى الفولجا ، وكان فى منافسة قاتلة مع أقربائه إيلخانات فارس. وبين سنتى 1261-1263م تم تبادل السفارات بين بركة وبيبرس، مصحوبة بهدايا ثمينة، وأصبح الطرفان حلفاءً ضد فارس، حتى إن إسم بركة قد أصبح يُذكر فى صلوات الجمعة بعد إسم بيبرس فى مساجد القاهرة وأورشليم ومكة والمدينة، وأصبحت إبنته زوجة لبيبرس. وسافر مبعوثو السلطان إلى الخان عن طريق القسطنطينية ، حيث كان قد تم تأسيس تفاهم ودى مع الإمبراطور ميخائيل باليولوج ، الذى كان مستعداً بطبعه للتحالف مع أى إنسان على عداء دائم بالمسيحية اللاتينية، كما مثلها الصليبيون، والتى عانت الإمبراطورية الرومانية الشرقية من عنفهم وسوء حكمهم لحوالى نصف قرن. وبناء على طلب الإمبراطور فقد قام بيبرس بتزويد القسطنطينية ببطرك ملكانى، والتى كانت قد أُسترجعت أخيراً إلى الكنيسة الأرثوذكسية، ومن جانبه أمر ميخائيل بإعادة المسجد القديم، والذى كان قد تواجد فى العاصمة لقرون قبل أن يدمره اللاتين. وسافرت سفارة أخرى من القاهرة إلى منفريد ملك صقلية وتوسكانيا، والذى وبصفته إبناً لفردريك الثانى وعدواً للبابوية، قد رحب بالمبعوثين، رغم أنه لم يكن لديه مايقدمه من مساعدة. وبالإضافة إالى ذلك فقد تم توقيع معاهدات تجارية بين سلطان مصر وجيمس حاكم أرجون، وبعد ذلك مع الفونسو حاكم سافوى سنة 1271-1272. وقد أرسل شارلز حاكم أنجوى وأخو لويس التاسع ببعثة إلى القاهرة سنة 1264م. وقد وُجد حليفاً آخر أيضاً فى كيخسرو، أحد امراء السلاجقة المقاتلين فى آسيا الصغرى، والذى خضع فى النهاية إلى حكم المغول. إن كل تلك المعاهدات تُظهر بيبرس فى شخصية رجل الدولة الحصيف بعيد الرؤية، ولكن التحالف مع خان القبيلة الذهبية القوى هو الذى حفظ الإمبراطورية الإسلامية من الغزو الخطير لمغول فارس. والواقع انهم قد كرروا غزو البيرة الواقعة على طريق الفرات، كما قاموا بالغزو داخل سوريا حتى أباميى، لكن بيبرس، وبحكمة، قد جعل من المقاطعات الشمالية خراباً، بحيث لايجد الغزاة طعاماً ولاعلفا. ومن ذلك الحين فصاعداً، وبرغم أنهم قد ظلوا يمثلون تهديداً دائماً ، لم تحقق جيوش المغول أى نجاحات هامة خلال حكمه.
ومع ذلك فقد كان هناك متعاطفون مع المغول على الساحل السورى، وكان يجب التعامل معهم، فقد كان الفرنجة، وخاصة بيموند الرابع أمير أنطاكية وطرابلس ، قد وجدوهم ميالين لتفضيل المسيحية على حساب الإسلام ، ولذلك كانوا مؤيدين للإلخانيين. وبناء على ذلك كانوا أهدافاً دائمة لهجوم بيبرس. وعلى مدى عشر سنوات 1261-1271 ، راح يشن حملة سنوية تقريباً ضد الإمارات الصليبية. وفى البداية كانت تلك الهجمات مجرد غارات داخل إقليم أنطاكية وسيليشيا/كيليكيا ، ومقاطعة عكا، يصاحبها كثير من الوحشية والدمار، أو التسلية بمطاردة حيوانات الصيد. وضمن كنائس أخرى ، تم تدمير كنيسة الناصرة. ومع ذلك ، ففى سنة 1265م بدأ سلسلة من الغزوات. وفى تلك السنة تم الإستيلاء على قيصرية وأرسوف وتسويتهما بالأرض، بحيث لايمكن أن يصبحا معاقل للكفار مرة أخرى. وباسلوب من الإهانة المهذبة ، كان المدافعون المسيحيون عن القلاع التى تم غزوها يجبرون على المساعدة فى تفكيكها، ثم يقادون بصلبان مكسورة حول أعناقهم، وأعلام منكسة ، لتزيين الدخول المنتصر إلى القاهرة. وكان الدراويش والمهاويس ، تتبعهم النساء المتدينات، يشجعون ويشعلون حماس القوات الإسلامية، ويعملون فى الخنادق، كما كان بيبرس نفسه يكدح كمجرد عامل عند إزالة أى قلاع.
وفى سنة 1268م تم الإستيلاء على يافا وسويت بالأرض، وإستخدم رخامها الفاخر لتزيين مساجد القاهرة. وتم إستسلام شقيف أرنون- بيلفورت – فى إبريل، وكان إجتياح أنطاكية تتويجاً لتلك الإنتصارات، وكانت مركز المسيحية فى شمال سوريا. وتم إحراق المدينة النبيلة وسويت بالأرض.
وإتخذ بيبرس من مناسبة غزو أنطاكية ليكتب إلى أميرها بيموند الرابع، أحد تلك الرسائل الفخورة المعروفة عن المسلمين، والتى كان مشهوراً بها. مخاطباً إياه بالكونت، حيث كان قد فقد إمارته فى تلك اللحظة، مذكراً إياه بأنه كان يبدو كرجل فى غيبوبة أبدية، بينما تقتطع منه أملاكه قطعة قطعة. ثم يصف الغازى حملته التى إنتهت بإجتياح عاصمة بيموند، بكل التفاصيل.
قائلاً، ألم ترى كيف وطئت فرسانك تحت حوافر الجياد، وغُزا النهابون قصورك بحثاُ عن الغنائم، وبيعت كنوزك بالميزان، وأشتريت نسائك وبيعت بأمتعتها كل أربعة بدينار، ألم ترى كيف هُدمت كنائسك ، وصلبانك وقد قُطعت قطعاً، وأناجيلك المحرفة تباع على الملأ من شارع إلى شارع، وكيف هدمت مقابر نبلائك، وكيف ذُبح الراهب، والقس والشماس على المذبح، وكيف إنحدر الغنى إلى الشقاء، وسقط أمراء الدم الملكى فى العبودية، ألم ترى النيران تلتهم جدرانك، وموتاك يرمون إلى النار المؤقته بينما النار الأبدية فى إنتظار، وكنائس بولس وكوزموس تهتز وتسقط، لتقول عندئذ ، آه يا إلهى ليتنى كنت تراباً، إن هذا الخطاب يحمل لك أشياء سارة ، إنه يقول لك أن الله قد رعالك وأطال عمرك، لإنه فى أيام هذا الخطاب لم تكن فى إنطاكية، لإنك لو كنت هناك ، لكنت الآن ذبيحاً أو أسيراً، جريحاً أو معاقاً. إن الرجل الحى يبتهج بأمانه ، حينما ينظر إلى ميدان ملئ بالقتلى، ولإنه لم يستطع رجل واحد الهرب ليخبرك بالقصة، فسوف نخبرك بها نحن، ولإنه لايوجد روح واحدة يمكن أن تبلغك بأنك فى أمان، بينما الجميع قد فنيوا، فسوف نبلغك نحن.
لقد أصابت تلك الخسارة روح الفرنجة حتى أنهم قد طلبوا السلام، وصاحب بيبرس نفسه مبعوثيه إلى طرابلس، متخفياً كسائس للخيل ، كى يتجسس على المكان وإمكانية حصاره مستقبلاً. وكذلك فتح فرنجة عكا مفاوضات السلام، لكنها أخفقت. وتبع غارة على البلد بالقرب من صور وعكا سنة 1269م غارة أقوى سنة 1271م سلم خلالها الإسبتارية قلعة حصن الأكرد الضخمة، وحصلت طرسوس والمرقب على هدنة من خلال التنازل عن بعض الأراضى. وإستسلمت عكار ولم يستطع فرسان التيتون الدفاع عن قلعة مونتفورت – القرين. وكتب بيبرس إلى بيموند مرة أخرى، لقد تغلب علمنا الأصفر على علمكم الأحمر، وسكتت أجراسك بصيحة صلاتنا ، الله أكبر. وبعد بعض المعارك الأخرى ، تصالحت صور بإقتسام بعض الأراضى مع مصر، ونجح هوف الثالث ملك قبرص، والذى كان يسمى نفسه بملك أورشليم ، فى التوصل إلى معاهدة سلام لعكا وقبرص مدتها عشر سنوات وعشر أشهر وعشر أيام. ويعود التوصل إلى تلك الترتيبات، وإلى حد ما، إالى وصول التعزيزات من إنجلترا بقيادة الأمير إدوارد بلانتاجينت فى مايو 1271م، والذى رفع من روح صليبى عكا، وجدد شجاعتهم ونجح حتى فى تحقيق إنتصارين صغيرين، وأيضاً بسبب تحركات المغول التهديدية، والذين أغاروا على شمال سوريا سنة 1271-1272م. وبالإضافة إلى ذلك ، فقد كان الأسطول المصرى قد أصيب إصابة كبيرة فى ليماسول عندما كان يحاول غزو قبرص، حليف بيموند الأساسى، وأصبح بيبرس مشغولاً بمعالجة هذا الضرر ببناء سريع لأسطول جديد. وعند موت بيموند سنة 1275م تم تجديد السلام مع خليفته، والذى وافق على دفع جزية سنوية بعشرين ألف دينار.
وهكذا تم تحييد خطر الفرنجة، وقبلهم كان قد تم القضاء على خطر آخر بإخضاع طائفة الحشاشين. كان هؤلاء المهاوييس من طائفة الإسماعيلية، المحصنين فى قلاعهم الصخرية التسع فى جبال الأنصارية بين المرقب وحماة، يمثلون الرعب فى سوريا منذ بدايات القرن الثانى عشر وكان الفدائيون أو جواسيسهم ، قد نفذوا الأوامر القاتلة لشيخهم فى كثير من الإغتيالات. وقد حاول صلاح الدين إخضاعهم بلاجدوى، ومنذ فشله فى ذلك راحت كثير من القوى المسيحية تغازلهم، وأصبحوا تحت الحماية الخاصة لفرسان الإسبتارية. ومع ذلك ففى سنة 1267م ومن خلال معاهدة مع الإسبتارية ، تحمل بيبرس جزية الحشاشين وأصبح له نفوذ عليهم وبدأ فى تفكيك قوتهم. وبين 1270-1273م إستولى على قلاعهم واحدة فى أثر الأخرى سواء بالقوة أو بالإستسلام وأغرى أفظع المنظمات السرية بالإقامة فى مصر حيث فقدوا تدريجياً هوسهم الدينى وإنصهروا فى الأهالى المسالمين.
وبعدما تحرر بيبرس من عبْ العمليات الحربية على الساحل السورى ، حول قواته شمالاً، ومرة أخرى إجتاح سيليشيا/كيليكيا ، وفاجأ وأحرق المصيصة وسيس إستمر فى الغزو حتى طرسوس، حيث تليت صلوات الإسلام فى إنتصار. هزم بيبرس المغول بالقرب من البيرة سنة 1273م، بعد إكتساح االفرات على رأس قواته، وفى سنة 1277م شن حملته الأخيرة ضد أقوى أعدائه. كان المغول يحكمون آسيا الصغرى آنذاك ، و يحكمون صغار الأمراء السلاجقة كحكام تابعين لهم ، وضد المغول قاد بيبرس الرايات الصفراء لجيشه دائم الإنتصار. وبالقرب من أبلستين إنقض على العدو بجيشه المكون من 11000مملوك، وأوقع به هزيمة قاسية خلف فيها المغول فى الميدان نحو 7000قتيلاً، وتم الإستيلاء على معسكرهم وقتل أسراهم.
وأجلس السلطان نفسه على العرش فى قيصرية، حيث كان سلاجقة الروم قد حكموا لحوالى قرنينن، وهنا إستقبل البيعة من الناس، وتُلى إسمه فى الصلاة فى الجامع، ومدحه الشعراء ، ورتلت له الفرقة الملكية السلجوقية، وهنا أمر بضرب العملة بإسمه، وقسم كنوز الأمراء السلاجقة على جنوده. وهنا أيضاً إستقبل ولاء الحاكم التركمانى لإقليم كرمان، والذى أثبت رجال قبائله فائدتهم فى تكوين منطقة عازلة على الحد الشمالى. لقد كان مجرد إحتلال مؤقت لإن الإيلخان الفارسى كان يحشد جيش ضخم لإسترجاع خسائره ، وبتعقل قرر بيبرس العودة إلى سوريا تاركاً قيصرية للمذبحة الشنيعة التى قام بها المغول الحانقون ، ولكن مجد الجلوس على عرش السلاجقة لم يكن الأقل بين إنتصاراته.
لم يكن التوسع الشمالى هو الجانب الوحيد الذى إمتدت إليه الإمبراطورية المصرية. ففى بطء وثبات تم ضم السودان. كان داوود ، ملك النوبة المسيحى، والذى كان عليه وبحكم المعاهدة القديمة أن يدفع إلى السلطان جزية سنوية من العبيد تسمى بالبقط، ، قد أرسل حملات عديدة على الأراضى المصرية، وأخذ أسرى مسلمين فى أسوان على النيل وفى عيذاب على ساحل البحر الأحمر. ورداً على ذلك ، قام حاكم قوص المصرى بالإغارة على النوبة حتى دنجلة سنة1272-1273م وفى سنة 1275م، إنتهز بيبرس فرصة وصول شكندا إبن أخ ملك النوبة إلى مصر لتبنى قضيته وإقامته ملكاً معارضاً لعمه. وتم إرسال جيش جديد إلى السودان، وتم الإستيلاء على قلاع داو، وسيس ، ودنجلة ، وهُزم داود وتم تولية شكندا العرش، بعد تعهده بأوثق الإيمان وبكل مقدساته أن يكون تابعاً مخلصاً لسلطان مصر، وأن يعيد الإلتزام بمعاهدة البقط، ويدفع نصف دخل مملكته، مع عدد من الفيلة والزراف و النمور والجمال والثيران، كجزية وكذلك دينار ذهبى عن كل ذكر راشد من السكان، والذين أجبروا أيضاً على أداء يمين الولاء. كانت محاولة غزو السودان قد حدثت قبل ذلك سنة 652م ، ومرة أخرى بواسطة أخو صلاح الدين سنة 1173م، ولكن تبعيته ظلت مجرد تبعية إسمية، وسرعان ماستصبح كذلك مرة أخرى.
كان بيبرس الآن قد وصل إلى أقصى طموحاته. وإرتفع العبد، بقتل قادته مرتين ، ليصبح أعظم سلطان فى قرنه. فقد أطيعت أوامره من الشلال الرابع للنيل إلى نهر السيحان، وإلى الشرق من البيرة على الفرات إلى الحسكة على نهر الخابور. وأصبح بدو الصحراء جنوده التابعين، وأشراف المدن المقدسة فى الجزيرة العربية تحت سيطرته، وخضعت له كل سوريا، بإستثناء قليل من المدن على الساحل، والتى كانت مازلت فى قبضة الصليبيين، بالإضافة إلى إمارة حماة. وخاطب ملك اليمن وده وأرسل له هدايا ثمينة، وبحث حاكم الحبشة عن مركز البطرك على يديه، وملك سواكن على البحر الأحمر، ودفع له رؤساء شمال إفريقيا الجزية من برقة حتى الغرب. وفى عز مجده مات، ربما من كأس مسموم ، كان قد أعده لشخص آخر.
قضى بيبرس الشطر الأعظم من حكمه فى حملات خارج مصر، لكنه كان يقضى، عموماً ، أشهر الشتاء فى القاهرة، حيث ترتاح قواته وتعطل الأمطار والثلوج زحف الجيوش، وكان يخصص هذه الإستراحات لتحسين العاصمة والبلاد. ولم يتبدى إهتمامه بالأشغال العامة فقط فى تأسيس وترميم المساجد والمدارس ، أو إعادة بناء قاعة العدل عند مدخل القلعة، ولكنه قد وسع قنوات الرى، وحفر الجديد منها، وأنشأ الطرق والجسور ، وحصن الإسكتدرية ، ورمم فاروس. وحمى مداخل النيل من خطر الغزو الأجنبى. وقد جدد الأسطول المصرى، وبنى أربعين سفينة حربية، وجند 12000 من القوات النظامية، بدون حساب، الميليشيات العربية المصرية، أو القوات الطارئة، كما يجب ان نفترض. وقد سببت نفقات حروبه الكثيرة، ضرائب ثقيلة، ورغم أنه ورغبة فى الشعبية قد بدأ حكمه بتخفيض الضرائب الثقيلة التى فرضها قطز إلى 600000 دينار سنوياً، فقد وجد نفسه مضطراً لزيادة الأعباء المالية مع تزايد حملاته العسكرية. ومع ذلك فإننا نقرأ أكثر عن ضرائب قديمة تُسترجع بدلأً من ضرائب جديدة تُفرض، وكان يتم ملء خزائنه بالقيل من الضرائب على المصريين، والكثير من مساهمات المدن والمقاطعات السورية التى تم غزوها، وجزية الدول والقبائل التابعة، ورسوم الموانئ القيمة. إن فكرة عن ثروته يمكن أن تتكون من خلال قائمة الهدايا التى كان يرسلها لحليفه خان القبيلة الذهبية. لقد كان بها عرشاً مطعماً بالعاج والأبنوس ، وصندوق من الفضة، وسجاجيد فاخرة للصلاة ’، وستائر، وعدد لايحصى من الوسائد، وسيوف مصقولة بمقابض فضية، وسروج من خوارزم، وأقواس من دمشق، وسهام عربية، ولمبات وثرايا من المينا والفضة، وقرآن نادر فى صندوق مزخرف بالذهب، وخصيان سود، وطهاة، وخيول عربية، وجمال، وبغال، وحمير وحشية، وزراف، وقرود، وببغاوات، وغيرها.
كانت حكومته مستنيرة، عادلة ، وحاسمة. وقد واجه المجاعة القاسية لسنة 1264م بإجراءات فورية، حكيمة وكريمة، عن طريق تخفيض سعر بيع القمح، وبالإلتزام، وإجبار ضباطه وأمرائه على الإلتزام أيضاً، بمساعدة المعوذين لمدة ثلاثة أشهر. وقد منع الخمر والبيرة والحشيش فى ممتلكاته، رغم أن ذلك كان يدر نحو 6000 دينار سنوياً. وقد حاول القضاء على الأمراض المعدية عن طريق العزل الطبى، وكان حاسماً فى أخلاقيات رعاياه، فأغلق الحوانيت وبيوت الدعارة، وطرد النساء الأوربيات من المدينة، رغم أنه شخصياً كان مدمناً لنوع من الخمر يسمى القمز التترى، كما كان متهماً بالشذوذ الشرقى. ولكن ومهما كانت عيوبه، فلم يكن منهمكاً فى ملذاته، ولم يكن هناك رجل أكثر منه مليئاً بالنشاط وقوة العمل. وإذا كانت أيامه غالباً ماتُقضى فى الصيد أو فى لعبة البولو، أو الرماية، فإن لياليه كانت مخصصة للعمل. لقد أستقبل أحد المراسيل الذين وصلوا عند الفجر، رسائل الإجابة على رسائله، بعد ثلاث ساعات فقط، وفى الموعد الثابت تماماً. وقد رأينا قبل ذلك، كيف تم كتابة وتوقيع وختم ستة وخمسين وثيقة فى ليلة واحدة.
كان بيبرس ذا شعبية بين الناس، الذين أحبوا دائماً السلطان المقاتل ، خاصة إذا ماكان كريماً ، وكان بيبرس كريماً فى العطايا وفى الصدقات. ولذلك إستطاع كسب ثقة رجال الدين، ليس فقط بسبب أوقافه الدينية ، ولكن أيضاً لإنه لم ينحاز إلى أى مذهب من مذاهب الإسلام ، وللمرة الأولى عين أربعة قضاة ، قاضى لكل مذهب من المذاهب التقليدية، وبالتلاعب بكل منهم ضد الآخر، إستطاع أن يحصل على مايريد فى كل ماله تأثير فى الدين والقانون. وقد عاش نبلاء وضباط الدولة والجيش فى فزع من غضبه. وقد شك فى كل شخص، وبإستمرار كان ينقل الأمراء من موقع إلى آخر، كى يمنعهم من إكتساب نفوذ محلى. وإذا ماأظهر أحد الأمراء علامة على الخيانة، لم يكن هناك مجال لرحمته، وعلى العكس، فقد كانت تتم مكافأة الخادم الأمين مكافأة سخية، وترقية سريعة ومشاركة فى الأراضى المغزوة. كانت أسوء عادات السلطان هى الغدر. كانت كلمته ويمينه بلاقيمة، وكان يفتخر بقدرته على خداع العدو حتى الموت. كانت المكيدة الغادرة التى إستطاع بها التخلص من أحد رجال الكنيسة الأرمن، بأن أرسل له خطاب تراضى، وتركه يقع فى يد عميل مصرى، ليسلمه إلى الحاكم المغولى، هى مجرد مثل من أمثلة خداعه. ولكن من الإنصاف أن نتذكر أنه قد تعامل مع الناس بالمثل، وأن البلاط الذى تدرب فيه، مضافاً إلى خبرة سيرته الشخصية، لم تكن تلك التى تشجع الثقة بلاحدود فى زملائه أو خدمه. فبمثل تلك الخطوات التى صعد بها كان يمكن أن يصعد آخرون أيضاً، وأنه من غير المستغرب أن الشك قد جعلت زنازينه فى القلعة ممتلئة دائماً. وقد أدى عدم ثقته فى وكلائه إلى كثير من المكائد من أجل مراقبتهم دون أن يدروا، فذات مرة كان من المفترض أن يلزم خيمته فى فلسطين بسبب مرضه، لكنه فى الواقع كان قد ركب إلى القاهرة مستتراً على طول الطريق، حيث بقى عدة أيام مختفياً فى القلعة، مراقباً تصرفات أهل الثقة من نوابه. وفى مناسبة أخرى، يقال أنه قد غامر متخفياً إلى آسيا الصغرى للتجسس على البلاد، وبعد أن ترك خاتماً كضمان أو رهن، فى مطعم صغير، تجرأ وكتب فى وقاحة إلى إيلخان المغول أباجا، يرجوه إستعادته. كانت شجاعته إستثنائية ، سواء فى المعركة أو فى الإستطلاع الخطر. لقد عاشت الصفات البطولية للسلطان بيبرس بعد أخطائه وحقارته. ومازال المستمعون فى مقاهى القاهرة حتى القرن الحالى يسعدون برواية الحكائين عن المآثر الشجاعة، والكرم السخى لملك أثر فى خيال المصريين، أكثر من أى ملك آخر، بإستثناء الإسكندر، وصلاح الدين.








قائمة سلاطين المماليك البحرية، بما فيهم من تولى ولاية سريعة


1-شجر الدر 1250م
2-المعز عزالدين أيبك 1250
3-المنصور نور الدين على بن أيبك 57 12
4-المظفر سيف الدين قطز 1259
5-الظاهر خان الدين بيبرس 1260
6-السعيد ناصر الدين بركة 1277
7-العادل بدر الدين سلامش 1279
8-المنصور سيف الدين قلاوون 1279
9-الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاوون 1290
10-الناصر ناصر الدين محمد بن قلاوون 1293
11-العادل زين الدين كتبغا 1294
12-المنصور حسام الدين لاجين 1296
13-ولاية الناصر محمد الثانية 1298
14-المظفر ركن الدين بيبرس الثانى 1308
15-ولاية الناصر محمد الثالثة 1309
16-المنصور سيف الدين أبوبكر بن الناصر 1341
17-الأشرف علاء الدين كوجاك بن الناصر 1341
18-الناصر شهاب الدين أحمد بن الناصر 1342
19-الصالح عماد الدين إسماعيل بن الناصر 1342
20-الكامل سيف الدين شعبان بن الناصر 1345
21-المظفر سيف الدين حاجى بن الناصر 1346
22-الناصر ناصر الدين حسن بن الناصر 1347
23-الصالح صلاح الدين حسن بن الناصر 1351
24-الولاية الثانية للناصر حسن 1354
25-المنصور صلاح الدين محمد بن حاجى 1361
26-الأشرف ناصر الدين شعبان بن حسين بن الناصر 1363
27-المنصور علاء الدين على بن شعبان 1376
28-الصالح صلاح الدين حاجى بن شعبان 1381
29-برقوق – مؤسس دولة المماليك البرجية أو الشركسية 1382
30- الولاية الثانية لحاجى بلقب المنصور
نهاية الدولة البحرية
-------------------








أهم المراجع :

1-أبو الفدا
2-النويرى
3-االمقريزى
4-العينى
5-أبوالمحاسن
6-السيوطى
7-ويل
8-كواتريمير
9-لين بول
10-هوروث





























10- بيت قلاوون

إرتقى الأكبر من أولاد بيبرس الثلاثة العرش ، والمولود من أحد بنات بركة خان زعيم القبيلة الذهبية، بلقب الملك السعيد ناصر الدين بركة خان. وكان بيبرس قد أعلنه خليفةً له مبكراً فى حوالى سنة 1264م، وبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ جعله يتلقى تحية السلطان ، حيث كان قلقاً على تأمين الولاية الملكية فى ذريته، ولكن ولسوء الحظ فلم يكن قد نقل صفاته العظيمة إلى أبنائه. كان الملك السعيد شاباً ضعيفاً فى التاسعة عشر من العمر، عاشقاً للملذات ، مجرد أداة فى يد أمه المغولية، وفى يد شباب حاشيته العابثين، والذين إختارهم بنفسه، وأغدق عليهم أرفع المناصب فى الدولة. أهمل السعيد كبار أمراء حروب أبيه، وسجن بعضهم، أو حتى تم تسميمهم بواسطة الملكة الأم، حتى تنامى غضبهم وإنفجر فى عصيان مفتوح، وبعد حصار السعيد فى قلعة القاهرة، تم إجباره على التنازل عن العرش، والإعتزال فى قلعة الكرك. وتوسل المماليك إلى قلاوون، وهو أحد أقدر القادة القدامى، كى يقبل العرش، ولكن الأمير الحكيم تنبأ بالمعارضة، وفضل أن يقيم الإبن الأصغر لسيده، بدر الدين سلامش ، بلقب العادل. ولمدة مائة يوم عمل قلاوون كأتابك للعسكر، أو كنائب للسلطان البالغ سبع سنوات من العمر، واضعاً فى نفس الوقت مؤيديه فى كل وظائف الدولة ، ممهداً الطريق بهذا الشكل للخطوة التالية. ثم أذيح سلامش بهدوء، وأصبح قلاوون سلطان مصر.
أسس الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفى الصالحى، أحد أتراك قبيلة برج أوجلو فى القبجاق – القوقاز- ، والأكثر حظاً فى ذريته من بيبرس، بيتاً ملكياً دام مائة عام، وحافظ بل زاد فى عظمة وحدود الإمبراطورية المصرية، وملاً العاصمة بالآثار الجليلة، ومع ذلك فقد كان عليه أن يخوض قتالاً شرساً قبل أن يتمكن من عرشه. كان فى النظام المملوكى نقطة ضعف خاصة، وهى انه وعند موت السلطان، والذين إنتخبه المماليك من بينهم ، فإن كل الأمراء الكبار يصبحون مرشحين محتماين لشغل المكان الشاغر. وعلى ذلك فلم يكن هناك نظام وراثى لولاية العرش، رغم أن الإتجاه كان تفضيل توافق حزبى مؤقت، من خلال الإعتراف المؤقت بإبن السلطان الراحل. كان هناك العديد من قادة بيبرس الذين شعروا أن لديهم الحق فى العرش مثل قلاوون، وأعلن أحدهم ، الأمير سنقر، نفسه ملكاً على سوريا بلقب الملك الكامل. وقد تمتع بتأيد كثير من قادة المماليك الظاهرية، مماليك بيبرس، وبتأييد بدو الصحراء، وأمير حماة الأيوبى. لكن قواتهم المشتركة هُزمت على يد قلاوون فى قتال إستغرق ساعات قليلة فقط، وبمساعدة حركة إنشقاق كبيرة فى معركة الجسورة بالقرب من دمشق، وجزئياً بالقسوة التمييزية، أو بالمصالحة الحكيمة، تم وضع حد للتمرد . وبسرعة بعد ذلك ، جدد قلاوون الهدنة التى كان بيبرس قد عقدها مع إسبتارية المرقب، رغم خروقاتهم، كما توصل إلى معاهدات مع أمير طرابلس فى 16 يوليو 1281م ، وداوية طرسوس فى 15 إبريل 1282م، وأمير عكا فى 3 يونيو 1283م. كانت هذه المعاهدات محددة إسمياً لمدة عشر سنوات، وكانت أهم الشروط التى إحتوت عليها هى حرية دخول السفن المصرية إلى الموانى المسيحية، والقيود المشؤومة على مزيد من التحصينات. كانت موافقة الإمارات المسيحية على إهمال إجراءات الدفاع عن النفس، دليلاً على أنها كانت قد شعرت بعدم الحيلة ضد جيوش مصر، وأن نهايتها لم تكن بعيدة.
لقد تم إنجاز هذه المعاهدات المتعددة مع المدن المسيحية تحت ضغط الغزو المغولى. أراد قلاوون أن يكون حراً للتفرغ للإشتباك مع عدوه الرهيب الوحيد، والذى إنتهز فرصة الإضطراب الذى أشاعه التمرد فى سوريا، وعبر الفرات ونهب حلب. وحشد السلطان كل رجل يستطيعه، من المماليك والتركمان، وقوات من حماة والكرك، وبدو الصحراء، وعرب من الحجاز والفرات. بلغ مجموع حشد قلاوون حوالى 50000، بينما بلغ حشد المغول بقيادة منكوتمر، اخو الإليخان أباجا، وتبعاً لتقديرات مختلفة، مابين 50000 إلى 80000، والذى تكون حوالى ثلثهم من قوات من جورجيا وأرمينيا والحدود الرومانية الشرقية. وإلتقى الجيشان بالقرب من حمص، ونشبت المعركة الحاسمة فى يوم الخميس 30 أكتوبر 1281م. كسرت تكتيكات الفرسان المغول المربكة، والذى لاشك أنهم قد وظفوا حركات إلتفافهم الشهيرة، ميسرة المسلمين تماماً، والذين هربوا فى فوضى إلى أبواب حمص، مطاردين فى شراسة من قبل رماة السهوب السريعة، وذُبح بعض المصريىن فى أرض المعركة وواصل البعض فراره نحو مصر حاملاً معه الأنباء الحزينة بهزيمة السلطان، بينما أقام المنتصرون المطاردون معسكرهم خارج حمص، وأحتفلوا بغنائمهم، ولم يفكر أى من الطرفين بأن ماحدث للميسرة المصرية ، كان يمكن أن لايحدث للميمنة أو القلب.
كانت القوات الشجاعة القديمة لأمير حلب الأيوبى متمركزة هنا ، مع قوات البدو النشطة المربكة، ولم تقم تلك القوات بصد وطأة الهجوم المغولى، وجعلت ميسرتهم تولى الفرار فقط، ولكنها قد جرحت قائدهم أيضاً، وفى لحظة الفوضى المترتبة على غياب القائد، هاجمت العدو وأوقعت به هزيمة كاملة. وتماماً عندما طاردت ميمنة المغول ميسرة المصريين، كانت ميمنة المصريين تطارد ميسرة المغول، وتبين هذا المشهد الإستثنائى ، لنصفى الجيشين الكبيرين يطارد كل منهما الآخر بعنف شديد ، فى إتجاهين معاكسين، إلى سلطان مصرالمذهول، الهارب على أحد التلال مع حوالى ألف فقط من الحرس المماليك ، وسرعان ماعرف المغول المحتفلون بكارثة ميسرتهم، وأسرعوا باللحاق بزملائهم المنسحبين. وقد كانوا فى عجلة من أمرهم حتى أنهم لم يستديروا لقطع الطريق على فرقة السلطان الصغيرة، رغم أنهم مروا بالقرب الشديد منه، لدرجة جعلته يشعر بالخوف ويخفى راياته ويسكت طبوله. ومع ذلك ، فبمجرد أن رأى مؤخرة جيشهم ، إنقض عليهم وعرقل إنسحابهم ، وأرسل الأوامر بالحمام الزاجل إلى ولاته فى الفرات لسد مخاضات النهر. وكانت أكبر كارثة عرفها المغول فى محاولاتهم لغزو سوريا ، حيث هزمهم قطز وبيبرس والآن قلاوون، وكانت الهزيمة الأخيرة هى الأكبر.
كانت النتيجة هدنة حربية لسبعة عشر عام، ومات كل من منكوتمر وأباجا فى الربيع التالى. كان أحمد، إيلخان فارس التالى متحولاً إلى الإسلام. لكنه لم يتخلى عن سياسة أسلافه لهذا السبب ، وتلمح مراسلاته المتبادلة مع قلاوون من خلال سفيره إلى أنهما كانا مازالا فى حرب خفية، لكن منافس له فى بلده قد غير سياسته ، وأحضرت السفارة الثانية معها الهدايا الجميلة والتطمينات الودية. إستقبل قلاوون السفراء فى دمشق، يحيط به حرس من نحو 1500 مملوك، يرتدون الأطلس والساتان الأحمر بالأحزمة الذهبية، والعمامات المطرزة بالذهب وفى يد كل منهم شمعة، ولكن عند هذه اللحظة كان أحمد قد مات، ولم يعد لسلطان مصر أى مشاكل أخرى مع المغول خلال الفترة الباقية من حكمه.
حافظ قلاوون على العلاقات الودية التى أسسها بيبرس مع مغول القبيلة الذهبية المنافسة، وأيضاً مع إمبراطور القسطنطينية وملوك فرنسا وقشتالية وصقلية وجمهورية جنوة والإمبراطور رودلف إمبراطور الهابسبرج. وقد عقد معاهدة تجارية مع جنوة، بينما عقد الفونسوا ملك قشتالية وجيمس ملك صقلية معاهدة دفاعية مع السلطان المسلم ضد جميع القوى الصاعدة سنة 1289م. وأرسل له ملك اليمن هدايا قيمة، وحتى حاكم سيلان قد أرسل سفارة مع خطاب لم يسمح لأحد فى القاهرة بقرائته، وبمزيد من التواصل الشفوى العلنى دعاه للتجارة مع بلده الغنى، عارضاً إمداد عشرين سفينة. كان قلاوون مثل بيبرس، سياسياً بعيد النظر، وقد بذل قصارى جهده لجذب التجار إلى مصر. كانت جوازات سفره، والتى تكفل الحماية للتجار الأجانب فى كل أنحاء ممتلكاته، معروفة حتى الهند والصين. وعندما خفت الخوف من المغول ، لم يضع السلطان وقتاً فى القضاء على المدن الصليبية. كانت معاهداته سارية المفعول طالما رآها مناسبة ، ولم يكن قسمه أكثر قداسة من قسم بيبرس، فبالرغم من إلتزامه لعشر سنوات مع الإسبتارية فقد إنقض فجأة على قلعتهم الكبيرة فى المرقب، والتى لم تكن مستعدة للحصار بأى حال، فإستسلمت بسهولة. وعندئذ إضطر كونت طرابلس لتسليمه مراقية على الساحل، رغم أن موقعها كان يستعصى على الحصار البرى. وإشترت مرجريت أميرة صور السلام لعشر سنوات - على الورق - بتسليم نصف دخلها والتعهد بعدم تجديد تحصيناتها. وتم الإغارة على مملكة الأرمينية الصغيرة، وأجبرت على شراء هدنة من عشر سنوات مقابل جزية قدرها مليون درهم فى السنة، والإفراج عن كل الأسرى المسلمين، وأيضاً بالكف عن كل إجراءات الدفاع. وفى إستخفاف بالهدنة مع طرابلس تم الإستيلاء على اللاذقية ، وبعد موت بوهمند السابع ، إتخذ موته بصفته الموقع على الإتفاقية حجة لإلغائها، وتم حصار طرابلس نفسها، وتلغيمها وإكتساحها، وقُتل الرجال، وأُسر النساء والأطفال، وأُحرقت المدينة. وأخيراً، نقض سكان عكا الهدنة، متذرعين بأى حجة، وأُعلنت الحرب المقدسة، وبدأ السلطان إستعداده لغزوها، عندما مات فجأة فى خيمته عن عمر يناهز السبعين.
سار قلاوون على خطى بيبرس بشكل قريب، كانت ظروفهما متشابهة للغاية، كما أنه قد واجه نفس الصعوبات بنفس السياسة، محصناً نفسه بتحالفات خارجية وتجارية، مهادناً للأعداء القريبين الأصغر، كى يواجه بكل قواه الخطر الواحد الحقيقى، الغزو المغولى. وقد إستطاع الحفاظ على توسع وعظمة الإمبراطورية بشكل تام، ورغم عدم نجاح حملتين إلى النوبة سنة 1287 و1289م، فى قمع ملك متكبر كشيماموم ، فإن الأخير قد شعر بوطأة الغزوات المتكررة مؤقتة النجاح للمصريين ، حتى أنه قد جدد جزية البقط السنوية، والتى كان قد ألغاها فى تهور. وفى عهد قلاوون تم الحفاظ على الجيش فى أحسن حالة، ولم يحدث أن كان الـ 12000 مملوك منضبطين وممتنعين عن تجاوزاتهم المعروفة مثلما كانوا فى عهده. كان حوالى ثلث هؤلاء يسكنون قلعة القاهرة، وكان هؤلاء يعرفون بإسم البرجية ، بمعنى رجال البرج أو الذين يسكنون أبراج القلعة. كان الكثيرون منهم جراكسة ، أو مغول من القبيلة الذهبية. كان قلاوون معظماً من قبل معاصريه الشرقيين، كملك شجاع حكيم ، عادل ورقيق ، يكره إراقة الدماء، لكنه يستطيع أن يكون صارماً وقاسياً مع الغير مخلصين من الأمراء، والذين تم إعدام الكثيرين منهم ، أو سجنهم أو نهبهم ، كما كانت عقوباته بربرية أحياناً، فالمسيحى الذى يتزوج مسلمة، بعكس الشريعة، كان يُحرق وتشوه زوجته. وقد كان ظالماً للمسيحيين بشكل عام ، سواء على الساحل السورى، أو فى المحاكم المصرية، ومع نهاية عهده كان قد تم إستبعادهم من كل وظائف الحكومة، أما بالنسبة لرعاياه المسلمين فقد كان كريماً ، وقد كُرست مؤسسته الدينية الرئيسية إلى الرفاه المادى والروحى لشعبه. فعندما كان قلاوون راقداً فى حالة مرضية خطيرة فى مستشفى نورالدين بدمشق ، أخذ عهداً على نفسه بأنه إذا ما شُفى فسوف يبنى مستشفى فى القاهرة. وكانت النتيجة المستشفى الشهيرة بالمارستان، والتى إكتمل بنائها سنة 1284م. ويتكون المبنى من ثلاثة مبانى فى الواقع ، مسجد ومستشفى ومدفن صاحب المبنى، وقد زُين المدفن بأرابيسك رائع ومجسمات من البلاستر، وموزايك من الرخام الرقيق، وأعمدة جرانيتية حمراء، وقد حُفظت فيه ملابس السلطان وإبنه، حيث إعتاد أن يلمسها المرضى، والزوجات العاقر، والأطفال البكم ، على مدى قرون، فى إعتقاد فى فضائلها العلاجية.
كان المسجد أقل بهاءً ، لكن المستشفى كانت واحدة من أروع الأبنية فى القاهرة. كانت تتكون من ثلاث قاعات ، تحيط غرف صغيرة بإثنين منها، بينما ينفتح عدد من الغرف من قاعة أكبر ذو رواق على كل جانب. كان هناك أجنحة مخصصة لكل مرض معروف ، وطاقم طبى منتظم، وقاعة للمحاضرات، ومعامل، ومستوصف لتوزيع الأدوية مجاناً ، وحمامات، ومطابخ ، وكل جهازمعروف فى ذلك الوقت. كان الموسيقيون يخففون من ساعات المرضى المؤرقة، بينما وفى المسجد الملاصق، كان خمسون قارئ للقرآن مدفوعى الأجر، يقدمون مواساة العقيدة، كما كان هناك أمين مكتبة، ومعه خمسة مساعدين، يشرف على مجموعة بديعة من الكتب الطبية والدينية والقانونية. وفى المدرسة المجاورة كان يتم إيواء وتعليم حوالى ستين يتيماً. كانت المستشفى هى الأولى من نوعها فى القاهرة، وقد حظيت قيمتها بالتقدير فوراً. كان الأغنياء والفقراء يعالجون مجاناً على السواء ، وقد جعل هذا العمل العظيم إسم قلاوون مباركاً بين السلاطين فى مصر، لإنهم بالأعمال الخيرية كانوا يكفرون عن كثير من الخطايا.
ومن أبناء قلاوون الأربعة ، تم إعلان علاء الدين خلفاً له فى 1280م ، ولكن عندما مات فى ظروف غامضة سنة 1288م، عين الإبن الثانى ، خليل ، وريثاً ، رغم أن أبيه ، سواء بسبب عدم حبه لطبيعته العنيفة الغير الورعة ، أو لشكه فى تسميمه لأخيه ، ماكان يمكن أن يوافق على توقيع القرار الرسمى بهذا التعيين ، حيث كان قد قال ذات مرة ، أننى لن أعطى المسلمين ملكاً مثل خليل. ومن المحتمل أنه كان فى إنتظار بلوغ محمد ، الإبن الأصغر، سن الرشد. لكن موت قلاوون ، والإعتراف العام بخليل ، فعلا ماكانت تنوى الوثيقة الغير موقعة أن تفعله. وبدون معارضة جلس الملك الأشرف صلاح الدين خليل على عرش أبيه. ومن البداية شرع فى الإذلال والتخلص من أتباع أبيه الموثوقين فى البلاط والجيش. إمتلاً حكم خليل ذو الثلاث سنوات بإعدام وسجن ونهب كبار الأمراء. كان كبار وزراء الدولة هم أول من عانى. وقد تم تقطيع طرنطاى ، الوزير الأول ، أمام أعين السلطان. ونجى لاجين من الموت أمام العرش فقط بسبب إنقطاع الوتر الحامل للقوس ، وتوسل الأمراء. ومن مصادرة ممتلكات طرنطاى حصل السلطان على 600000 دينار ذهبيا ، و17000 رطلاً من العملات الفضية، وعدد لايحصى من العبيد والخيول، والمجوهرات، بينما تدهورت أحوال الإبن الأعمى للقتيل إلى درجة إستجداء الطعام. جمع خليل فى سن السابعة والعشرين أقصى شرور الطاغية المتقلب الشرير. كانت الشجاعة هى فضيلته الوحيدة، وكان غزو عكا هو مأثرته الوحيدة. ورغم أن الحملة كانت ميراث أبيه الذى كان يكرهه ، فقد كان متحمساً لتنفيذ سياسة إبادة الكفار، ورغم تدينه الضعيف فقد كان لديه مايكفى من إعتقادات خرافية ، بحيث كان يستهل كل حملة بالصلوات المهيبة وقراءة القرآن تحت قبة مقبرة أبيه الجميلة. وصدرت الأوامر إلى المسئولين السوريين بإرسال قواتهم إلى سهل عكا ، مع كميات كثير من آلات ومواد الحصار حُملت على نحو مائة عربة تجرها الثيران. وإنضم خليل والجيش المصرى إلى المعسكر فى 5 إبريل ، وفى غضون أسبوع كان إثنين وتسعين من آلات الحصار تلعب على الجدران والتحصينات الخارجية. كانت عكا تُعرف منذ أيام صلاح الدين بأنها القلعة الأقوى تحصيناً فى سوريا، وقد جمع خليل لها تجهيزات من الحصار الضخم غير العادى. ومع ذلك فلم تكن االدفاعات كما كانت فى زمن القوة السابق، فقد ملأ سقوط كثير من المدن المسيحية، فى حملات بيبرس وقلاوون ، عكا بسكان مختلطين ومحبطين بشكل خطير، من نفاية أوربا.
وداخل أسوار عكا تجمع ممثلون عن كل أمة من المسيحية، ولكل فرد كان هناك جماعة منفصلة. وقد مارس أمراء الأرض العديدين، وسادة النظم الكبرى، وممثلى ملوك فرنسا وإنجلترا وأورشليم، سلطة منفصلة ، بحيث أصبح فى مدينة واحدة سبعة عشر قوى مستقلة، ولذلك فقد فقد كان هناك إضطراب كبير. ولم يكن من الغريب، وفى مثل هذه الظروف، أن أصبحت المدينة، مثل البالوعة التى وجد كل لئام المسيحية طريقهم فيها. وعلى سكانها المختلطين حكم الكثيريين ، ولكن لم يكن لأحدهم سلطة، وداخل جدرانها كانت كل المبادئ الدينية والقانونية، والأخلاقية خاوية على السواء ، وهكذا أصبحت عكا فى أيامها الأخيرة نموذجاً سيئاً فى كل الأراضى المسيحية بسب إسراف وشغب ورزيلة سكانها.
لم يكن هناك رغبة لوجود عدد كاف من الجنود للدفاع عن المدينة بنجاح ، ولكن حتى فى هذه الساعة الأخيرة من الخطر العظيم ، كان سكانها ميالين إلى الإحتفال أكثر من القتال. وقد لعب الجبن والشقاق دوره أيضاً فى تخريب آمال دفاع ناجح ، فكثيريين ومع أول تهديد بالخطر أسرعوا إلى الهرب فى البحر، بينما البعض الآخر ، والذى بقى لبعض الوقت ، هرب بمجرد أن أصبحت إحتمالات النجاح ميئوساً منها. وحتى عندما أصبح كل الهدف من وجودهما فى خطر شديد، لم يستطع الداوية والإسبتارية وضع تحاسدهما جانباً ، وعلى ذلك فإن الدفاع ، حتى ولو تم فى شجاعة متفرقة ، فقد كان يفتقد الى وحدة الهدف العامة، والتى كان يمكن لها وحدها أن تجعل منه دفاعاً ناجحاً. وفى النهاية ، وفى يوم الجمعة 18 مايو، أحدثت آلات خليل ثغرة ضخمة فى الجدران، حتى أمتلأ الخندق المائى بالأحجار وأجساد الموتى، وإندفع جيشه داخل المدينة، وهرب الناس أمامه إلى الأبراج، وقصور النبلاء، أو منزل الداوية الكبير، وآخرون شقوا طريقهم نحو الميناء وتزاحموا على ظهر السفن فى أعداد كبيرة حتى غرق بعضها فى المرسى. وهرب هنرى الثانى ملك قبرص ، والذى لعب دوراً هاماً فى الأيام الأولى للحصار، إلى مملكته الجزيرة ، حيث تبعه رئيس الإسبتارية ، وعدد من آخر من الفارين. ومع ذلك فقد ظل هناك حوالى 60000 مسيحياً كان مصيرهم الإسترقاق ، أو القتل ، أو ما هو أسوء من ذلك. واجه الداوية ومن لجأ إليهم أنبل نهاية ، ففى مقاومتهم حتى النهاية ، فقد خضعوا فقط عندما تم تقويض قلعتهم ، وقضوا مع بعض مهاجميهم فى الركام.
وهكذا إقتحمت ونُهبت آخر قلاع مملكة أورشليم اللاتينية ، وسُلمت للنيران. وتم هدم أبراجها وحصونها الشهيرة ، وسويت تحصيناتها بالأرض ، ورغم أن مدينة جديدة قد أقيمت فى مكانها، فإن عكا العصور الوسطى ، مدينة قرن من القتال الشجاع ، قد إنتهت إلى الأبد. وبسقوطها إختفت بقايا الممتلكات الصليبية، فبعد فقدان عكا، لم تستطع صور وصيدا وبيروت والمدن الباقية القليلة للفرنجة ، سوى الإستسلام لمصيرها. وتم غزو البعض، والبعض إستسلم، وتم محو الجميع ، بإستثناء بيروت ، كما تم ذبح أو إسترقاق السكان، ومحى الإسم الصليبى من البلاد، ووصل الصراع العالمى إلى ختام.
دخل خليل دمشق بحشد كبير من الأسرى ، وبعرض شجاع للجماجم المسيحية على رماحه. وقد قوى نجاحه من عزيمته، فإنتزع الخليفة العجوز، الحاكم، من معتزله الهادئ فى قلعة القاهرة، وجعله للمرة الثالثة يخطب للحرب المقدسة فى المسجد، وعلى قبر أبيه قام بإحتفالية دينية مهيبة أخرى. ثم زحف على الفرات ، وحاصر وإستولى على قلعة الروم، وأعاد تسميتها بقلعة المسلمين. وأعلن أنه على وشك غزو آسيا كلها، وأراضىى الرومان، حتى يسود حكمه من الفجر حتى الغروب ، ثم عاد إلى القاهرة. وأعلن عن غزو اليمن ، وعن حملة أخرى إلى أرمينية، لكنها إنتهت فى دمشق، حيث سلم السيليشى الحكيم - نسبة إالى سيليشيا - ، مرعش وبيحسنة، من أجل الحفاظ على السلام. وأرسل إيلخان فارس سفارة تخبره بأنه يرغب أن يعيش فى حلب التى إستولى عليها أبوه يوما، ويرجوه فى تسليمها، فأجابه خليل بأنه لديه رؤية مماثلة بشأن بغداد، التى تبعت الخلفاء يوماً، وأنهم سوف يرون من سيحقق هدفه أولاً. وإنتهى هذا التفاخر الكسول فجأة عندما أُغرى خليل بحضور حفل رماية حيث تم إغتياله بواسطة بعض أمرائه الحانقين. وعندما تم القبض على المتآمر الرئيسى، والذى لم يكن أقل من شخص بيدرا، رئيس وزراء مصر، خاطب الأمراء المجتمعين قبل إعدامه مبرراً فعلته بقوله ، إن رجل مثل خليل، يشرب الخمر فى شهر رمضان، ويميل إلى الشر بشكل غير طبيعى ، ويحول عبيده إلى نبلاء ، ويزدرى قدامى أمراء أبيه، يسجن بعضهم ، ويقتل بعضهم، لم يكن مناسباً ليحكم المسلمين.
إحتل الناصر محمد بن قلاوون، الإبن الباقى لقلاوون من زوجته الأميرة المغولية أصلون خاتون، النصف التالى من التاريخ المملوكى ، خلال فترات حكمه المتقطعة الثلاث، والذى أقامه كبار الأمراء على العرش فى سن التاسعة بعد موت أخيه ، ثم تم خلعه خلال سنة ، ثم أعيد بعد خمس سنوات فى سنة 1299م، ليعتزل مرة أخرى بعد عشر سنوات، ليعود بعد سنة للمرة الثالثة سنة 1309م، ليبقى على العرش لثلاثين سنة حتى وفاته سنة 1341م. لم تكن إعادته إلى العرش تعود إلى أى مبادئ متعلقة بحقوق الوراثة، رغم أن إحترام ذكرى أبيه قد جعلت الناس تميل إلى ذريته ، بدلاً من تحاسدات كبار الأمراء التى جعلت إختيار أى سلطان منهم أفضل قليلاً من حافز للحرب الأهلية والقتل. كانت فترة حكم الناصر الأولى إسمية بطبيعة الحال، حيث تركزت القوة الحقيقية فى يد كبار النبلاء، الذين إقتسموا مراكز الدولة الكبرى فيما بينهم. كان كتبغا نائب السلطنة، وكان سنقر الشجاعى وزيراً، وكان بيبرس الجاشنجار مسئولاً عن البيت المالك. وفى البداية أظهرت الحكومة الجديدة قوة فعالة فى القبض على المتآمرين والإنتقام منهم لمقتل خليل بأشكال شنيعة من الموت. كانت إحدى وسائل التعذيب المفضلة هى تسمير المجرم إلى ألواح والدوران به فى الشوارع على جمل حتى يموت من العطش والعذاب. ومثل كل تلك العصابات العسكرية، فسرعان ماإنشق الحزب إلى مجموعات متحاسدة، واحدة تؤيد كتبغا ، والأخرى تؤيد سنقر الشجاعى. ونشب االقتال فى الشوارع، وفى النهاية تم محاصرة الشجاعى فى القلعة من قبل حشد من العامة الغاضبين المطالبين برأسه، ثم نجحت أم الناصر المغولية فى خديعته، وكانت تتعاطف مع إبن بلدها كتبغا خارج الجدران. وإستعرضت رأس الشجاعى على رمح، وأكد العامة على ولائهم الدائم للبيت الملكى.
وبذلك أصبح كتبغا فعلياً سلطان، وتلى إسمه فى صلوات الجمعة بجانب إسم الناصر، ومن أجل تقوية مركزه ، حصل على عفو للمتآمرين الإثنين الرئيسيين ، لاجين وقرا سنقر، والذين كانوا يتمتعون بشعبية كبيرة ، ولديهم كثيراً من ألأتباع ، وبدأ معهما التخطيط للوصول إلى العرش. أثار تفضيله لهذين المملوكين غضب الأشرفية ، مماليك السلطان المغدور، الأشرف خليل ، وكانوا حوالى 300 ، فقاموا بثورة وإستولوا على الإسطبلات الملكية وسوق السلاح ، وبعدما نهبوا وحطموا كل ماوقعت عليه إيديهم، عسكروا ببوابة القلعة وألقوا بالحصار على حصنها. وركبت قوات كتبغا ونزلت لتفريقهم، وبعد هزيمتهم ، أوقع بهم أنواع عديدة من التعذيب، السمل ،والبتر والتغريق، وقطع الرأس، والشنق، أو التسمير على باب زويلة. وتم العفو عن قليل منهم فقط وإتخذوا كعبيد. وهكذا تم قمع الثورة، ولكن فى اليوم التالى ، إستدعى نائب السلطان مجلساً من كبار نبلاء البلاط ، معترضاً على أن مثل هذه التظاهرات غير مشرفة للدولة الملكية، وأن كرامة السلطان ستكون دائماً مهانة ، إذا ماتكبد طفل مثل الناصر عناء ولاية العرش. وعلى ذلك تقرر إبعاد الطفل حتى يبلغ سن الرشد ، وخلفه كتبغا بطبيعة الحال. لكنه لم يكن محظوظاً حيث إرتبط حكمه بمجاعة شديدة وطاعون شنيع، عندما طُرحت 700 جثة خارج بوابة واحدة فى القاهرة وفى يوم واحد كما تم تسجيل 17500 حالة وفاة فى شهر واحد. وقد أدت هذه المصائب ، بالإضافة إلى الحنق الذى أثاره إنحياز السلطان إلى الضباط المغول ، إلى مؤامرة. وفى نهاية سنة 1296م، وعند عودته من رحلة إلى سوريا، هوجمت خيمته لكن حراسه ومماليكه ، نجحوا بمقاومتهم المخلصة فى تمكين سيدهم من الهرب، وأُختير قائد التمرد، النائب الجديد للسلطان، لاجين، سلطاناً بدلاً منه.
كان حسام الدين لاجين المنصورى، والذى إرتقى العرش عندئذ بلقب المنصور، أصلاً عبداً من عبيد المنصور على إبن أيبك، وكان قلاوون قد إشتراه بحوالى 40 إسترلينى، وفى ظل رعايته ترقى من رتبة خادم إلى رتبة السلحدار، أى حامل الرمح ، وعندما وصل قلاوون إلى العرش منحه رتبة أمير، وجعله نائباً على سوريا. كان خليل قد أرسل لاجين إلى السجن ، ورداً على ذلك ، ساعد لاجين على قتله. وأثناء حكم كتبغا القصير ، تولى أعلى منصب كنائب للسلطان ، ثم إنقلب على سيده الأخير، وإستولى على التاج لنفسه. لقد كان يملك على الأقل بعض المزاعم فى الإرتباط بالأسرة المالكة- إذا ماكان هناك إعتبار لأى مبدأ خاص بحقوق الوراثة آنذاك- حيث أنه كان متزوجاً من إحدى بنات قلاوون. وقد ألقت شروط إنتخابه ضوءً هاماً على السلطة الغير مستقرة لسلاطين المماليك ، حيث أحاط زملائه فى المؤامرة بسرجه ودعوه بالسلطان، وأعلنوا مبايعته، لكنهم أكدوا كشرط لولائهم ، أن العاهل الجديد يجب أن يستمر كواحد منهم، وأن لايفعل شيئاً بدون مشورتهم، وأن لايظهر أبداً أى تفضيل غير مستحق لمماليكه عليهم. وقد أقسم لاجين على ذلك لكنهم كانوا فى غاية التوجس من إيمانه لدرجة أن جعلوه يقسم مرة أخرى، فى إشارة صريحة إلى أنه بمجرد أن يتم تنصيبه فقد يحننث بيمينه وينحاز إلى أتباعه ويؤذى النبلاء الذين أقاموه على العرش.
وبعدما تم ترتيب ذلك بشكل مرض، ركب لاجين إلى القاهرة محاطاً بشارات السيادة، والمظلة الملكية فوق رأسه يحملها الأمير الكبير بيسارى، وقد تُليت الصلوات بإسمه فى المسجد، وضُربت الطبول فى المدن التى مر بها، وخرج نبلاء القاهرة لتقديم الولاء، ثم ركب إلى القلعة، يغفره حشد من النبلاء والضباط، عارضاَ نفسه كسلطان للشعب فى الميدان ، ثم شق موكبه الملكى خلال الشوارع من القلعة حتى باب النصر. وركب الخليفة العباسى إلى جواره، كأثر ضعيف من بيت بغداد القديم، وأمامهما حُملت وثيقة تكليف الخليفة له، والتى بدونها ماكان يمكن لأى سلطان أن يعتبر تتويجه مكتملاً. كانت الشوارع مزينة بالحرير الثمين وشعارات النبالة، وكان إبتهاج الناس عظيماً، حيث جعل كرم وسخاء لاجين منه حاكماً محبوباً من قبل الشعب، وكان قد وعد بالفعل بإلغاء الباقى من ضرائب السنة، وأقسم أنه إذا ماعاش ، فلن يترك حتى ضريبة واحدة. وإنخفض سعر المواد الغذائية ، والتى كانت قد إرتفعت إلى أسعار المجاعة خلال الإضطرابات الأخيرة، بنحو ستين بالمائة، ورخص الخبز، وأصبح السلطان، وبطبيعة الحال، معبوداً من قبل شعبه.
وبرغم مشاركته فى إغتيال ملكى ، وإغتصاب غادر للسلطة، فقد بدا أنه قد نجح فى كسب حب رعاياه، حيث أنه لم يحررهم فقط من الضغط والظلم والضرائب التعسفية الذين كانوا يأنون منها ، بل انه إمتنع ، على الأقل حتى وقع تحت تأثير عقل آخر، عن السجن والتعذيب الظالمين ، التى كان يؤمن بهما حكم المماليك فى العادة . كما كان سلوكه مع منافسيه رحيماً لدرجة من الصعب أن نجد لها مثيلاً بين أمراء عصره، فلم يحاول تحطيم السلطان السابق كتبغا ، بل أعطاه حكومة صرخد على سبيل التعويض ، ولم يكن لدى الطفل الناصر شيئاً يخشاه من لاجين ، والذى أخبره أنه وكمملوك لأبيه، فإنه فقط يعتبر نفسه كممثل له، محافظاً على العرش حتى يكبر الناصر بما يكفى للحكم. كان لاجين متحمساً لأعمال الخير، كان يعطى صدقات كثيرة سراً، كما أسس كثيراً من الأوقاف الخيرية. كان تجديده لجامع إبن طولون بتكلفة 10000 إسترلينى مدفوعاً بظروف هربه إلى أروقته المهجورة آنذاك، أثناء التعقب الذى تبع مقتل خليل. وفى إختفائه فى القاعات والممرات المهجورة فى المسجد القديم، حيث لم يصلح بعض المتعبدين القليلين سوى لمبة واحدة كانت تضاء أمام المحراب ليلاً، ولم يكن المؤذنين يقتربون إلى أكثر من عتبة الباب للنداء على الصلاة، أقسم لاجين بأنه سوف يرد دين من أبقاه على الحياة ، بترميم المسجد الذى آواه. كان من شأن تلك الأعمال الطيبة بالإضافة إلى الإفراج السمح عن كثير من السجناء أن لاتفشل فى تحبيبه إلى الجماهير، فبعدما لزم القلعة لمدة شهرين بعد جروح نتجت عن سقوطه فى مباراة بولو، كان الفرح بعودته إلى الحياة العامة حقيقياً وعاماً، حيث زُينت كل الشوارع بالحرير والساتان، وأستؤجرت المحلات والنوافذ للمشاهدين المتحمسين لمجرد رؤية خاطفة للسلطان، وقُرعت الطبول أثناء عبوره الأميرى خلال شوارع العاصمة. وقد إحتفل بالمناسبة بمنح عدداً من خلع التشريف لكبار الأمراء، وتحرير الأسرى، وتوزيع الصدقات على الفقراء. وقد قربته حياته الخاصة إلى أتقياء المسلمين فى القاهرة، فبرغم أنه كان مدمناً للخمر فى شبابه، مقامراً ، منشغلاً بالرياضة، فعندما إرتقى العرش ، أصبح متقشفاً فى عاداته، يصوم شهرين فى السنة بالإضافة إلى رمضان، محباً لمجتمع الأتقياء من القضاة ورجال الدين، بسيطاً فى ملبسه، كما أمر النبى بأن يكون المسلم، وحاسماً فى فرض البساطة على أتباعه أيضاً. كانت بشرته الحمراء وعيناه الزرقاوان وطوله قامته وشخصيته المهيبة تؤثر فى الأجانب فعلاً ، لكن عاداته نفسها كانت مستقيمة، فقد كان يجلد السكارى، حتى ولو كانوا من النبلاء، أما إفراطه فى الطعام ، فلم يكن بالضرورة باهظ التكاليف.
ومع ذلك ، فإن لاجين ورغم وعده بعدم التفضيل ، فقد بدأ سياسة التفضيل ، وفى البداية وضع زملائه المتآمرين فى المراكز الكبرى فى الدولة ، وتدريجياً بدأ فى تغيير الأمراء القدامى برجال جدد، وإكتسب الأمير منكتمر نفوذ سئ كبير على حاكمه اللطيف. وتم إختبار الموثوقين من كبار النبلاء بإقتراح إذا ماكان يجب أن يكون نائب السلطان لاجين خليفته ، وعند رفضهم الغاضب لإمكانية مثل تلك الخطوة، ألقى بهم فى السجون ، حيث قضوا نحبهم فى إنتظام مريب. وفى النهاية تم القبض حتى على الأمير الكبير بيسارى، أغنى وأشهر أمير فى مصر، وقاده السجان إلى السجن والدموع فى عينيه. وأصبحت الشائعات أعلى صوتاً ، ولكى يخرسها أرسل لاجين الجيش لنهب أرمينيا الصغيرة، وإنتهز الفرصة لتفريق النبلاء السوريين، الذين لم يكن يثق بهم. فهرب البعض إلى مغول فارس، وخضعت سوريا لحالة من الفوضى. كانت مصر أقل إضطراباً بشكل نادر، ولم يخضع الأمراء لقمع وإنتقام منكتمر، رغم أنه لم يكن شيئاً بسيطاً أن يخاطروا برعب الإعتقال فى برج القلعة، تلك الحفرة الكريهة، حيث كانت القاذورات والروائح القاتلة، والهوام القذرة ، والخفافيش تجعل الظلام أكثر رعباً. وفى النهاية تم تخطيط مؤامرة من قبل رجلين قويين، وإغتيل لاجين بينما كان ينهض لصلاة العشاء، كما تم القبض على منكوتمر فوراً، وإقتيد مؤقتاً إلى حفرة تحت القلعة ’ لكن الأمير الذى وجه الطعنة القاتلة إلى لاجين، وصل الى هناك وهو يصيح بصوت عال ، ماذا فعل لى السلطان حتى أقتله، أقسم بالله أننى لم أنل منه سوى المنافع ، فقد ربانى وساعدنى على الترقى، وإذا ماكنت أعرف أنه عندما يموت السلطان فسوف يعيش هذا المنكوتمر، لما أقدمت على هذا القتل أبداً، لإن أفعال ذلك الرجل هى التى أدت إلى ذلك الفعل ثم قفز إلى الحفرة وذبح صاحب الحظوة الكريه بيديه، وسلم بيته إلى الجنود لينهبوه.
وبالنسبة للقتلة، والذين إرتقى أحدهم العرش لأيام قليلة ، فقد تم إعدامهم فى حينه ، بموجب العدالة التى كان يحب المماليك التعبير عنها تجاه جرائم الآخرين من الناس. ولكن بعد هذه التجربة من حكم أحد الأمراء ، كان الطريق الوحيد هو العودة إلى البيت الحاكم ، وتم إعادة الناصر إلى القاهرة ، حيث تم الترحيب به فى حماس شديد، وبعد يومين تم تنصيبه على العرش مرة أخرى، بوثيقة تولية جديدة من الخليفة الإسمى، ووزعت خلع التشريف وزُينت المدن، وقُرعت الطبول فى كل أنحاء الإمبراطورية. كان الناصر مازال فى الرابعة عشر من العمر، ولم يكن كفؤً للأمراء الأشداء الذين كان يحكمهم. كان الأمراء الذين غادروا آنذاك إلى وظائفهم فى حكم الولايات، بعد أن قبلوا عتبة القلعة تبعاً للعادات المتبعة ، كلهم مخلوقات من نوع الأمير سلار وبيبرس الجاشنكير، الأول من التتار، والثانى من الشركس، والذين كانوا يديرون أمور الدولة تبعاً لمصالحهم الخاصة. كان الخليفة يعقد مجالساً فى أيام السبت، ولكن كل ماكان يفعله هو تسجيل قرارات أمرائه ، كان السلار يقترح إجراءً ما، وكان الناصر يعلن موافقته عليه. وبينما كان كبار الأمراء يجمعون الثروات الضخمة من إقطاعاتهم الزراعية والعديد من المنح الأخرى- بلغ مهر إبنة سلار 160000 دينار على سبيل المثال - فقد ظل الناصر فى فاقة تقريباً ، مجرداً من المتع والرفاهية التى إعتاد عليها. وبدا أن السؤال الوحيد الذى ينتظر الإجابة هو، أى من القائدين سوف يطيح بالآخر ويستولى على العرش ، وحتى ذلك الحين كانا يعملان معاً، لايفترقان فى المناسبات العامة والإحتفالات ، ولكن كان لابد أن يحدث الصراع قبل مضى وقت طويل.
وأثناء ذلك تاهت كل الإهتمامات فى الصراع المتجدد مع المغول ، حيث كان المماليك البحرية ، الذين فروا إلى غازان ، أحد أعظم وأفضل إيلخانات فارس ، قد كشفوا له عن وضع سوريا المضطرب ، فى نهاية حكم لاجين ، وبنصيحتهم عبر المغول الفرات مرة أخرى بقوة هائلة، لإسترداد ماكانوا قد خسروه فى 1282م. وركب السلطان الصغير/الناصر محمد ، ورغم أنه لم يكن محارباً، على رأس الجيش المصرى لمقابلة الغزاة ، تاركاً القيادة الحقيقية للأمراء والتى كانت الحرب بالنسبة إليهم مثل روح الحياة. أصاب الحظ السئ الزحف منذ البداية ، كان الأمراء متحاسدين متنازعين، وقد ولدت مؤامرة قام بها اللاجئون التتار فى سوريا ضد القادة المصريين/المماليك ، ورغم قمعها بوحشية، مزيداً من الإرتياب ، وفقدـت معظم أمتعة المعسكر فى السيول الغزيرة ، كما أظلم السماء حشد كثيف من طائر السنونو، وهوفأل نحس ، مما أحبط معنويات الجيش. ثم وعندما كانوا يقتربون من دمشق ، دلت الجموع الهاربة من حلب ومن الشمال على رعب الغزو، ومع ذلك ظل المصريون يتقدمون ، لكن بقلوب ضعيفة، وعند حمص إلتقوا بالمغول. وصدرت الأوامر، إلقوا برماحكم، وقاتلوا بالسيف والصولجان. كانت الفرصة الوحيد تكمن فى الإلتحام المباشر، عين فى عين، حيث لايمكن للرماة المغول إستخدام سهامهم. وفى وادى الخازندار، إلتقى نحو 20000 من المماليك بجيش مغولى يفوق عددهم بحوالى أربع أو خمس مرات، لكن جميع كبار الأمراء كانوا هناك، رجال حروب أقوياء، وكانت الفرسان مسلحة تسليحاً ثقيلاً، ترتبط برابطة القبيلة لقادتها. وتم التشكيل المعتاد فى ثلاث فرق ، القلب ، والميمنة والميسرة، كما تم وضع قوة من خمسمائة من الرماة المسلحة بقنابل الجاز فى الخط الأمامى. ومر رجال الدين أمام القوات يحثونهم على الثبات ، حتى جعلوهم يبكون إنفعالاً. إحتفظ غازان بمغوله راجلين خلف جيادهم، ودفع بالهجوم الأول على المصريين، وتم إطلاق قنابل الجاز بلا تأثير، وعندئذ تخلى المغول عن تحفظهم ، وبعد أن أطلقوا وابلاً من السهام القاتلة على المصريين المتقدمين ، ركبوا فرسانهم وهاجموا بإندفاعهم المعتاد. وكما حدث فى معركة حمص السابقة ، فقد سجل كل طرف نجاحاً على الجناح المعاكس، وللحظات ، إهتز الإندفاع، وعندذ تخلى غازان عن مخاوفه، وأعاد تجميع قواته من أجل هجوم ثان كسر به القلب، وإستدار فرسان مصر الباهرون وولوا الفرار، وهرب كبار الأمراء نجاة بحياتهم، سلار وبكتمر وبورلوجى ، وسهام متعقبيهم تزن خلف آذانهم بينما تُرك السلطان الباكى مع ثمانية عشر مملوكاً لحمايته، وقد أنقذته الميسرة المصرية ، التى حالفها التوفيق فى بداية القتال، وعند عودتها من تتبع العدو وجدت لدهشتها أن المعركة قد خُسرت وأن السلطان قد تُرك وحيداً. كان لوصولها بالإضافة إلى خسائر المغول الجسيمة أثراً فى إيقاف الهزيمة ، وتمكن باقى الجيش من العودة إلى دمشق فى نظام نسبى ، ومن هناك وبأقصى سرعة إلى مصر. وعلى الفور إحتل المغول دمشق بلا مقاومة، وبأمانه الشخصى ، أظهر غازان ، الذى كان مسلماً ، وملكاً حكيماً وكريماً أيضاً ، أقصى الرحمة بالسكان ، ليس فقط من كان منهم مسلماً مثله، ولكن للمسيحيين واليهود أيضاً. ولم يسمح بأى نهب أو تكدير. وكان من الطلبيعى أن تميز الجماعة الإسلامية هذا الغزو عن الغزوات المبكرة الأخرى عندما كان المغول وثنيين، لكن كان مازال هناك كمية كبيرة من الخميرة القديمة بينهم ، بحيث انهم لم يستطعوا التماسك خارج دمشق ، حيث أحدثوا خراباً أكبر، وحتى داخل دمشق ، فقد وقع قدر كبير من الأذى، حيث قُتل وبيع حوالى 10000 من السكان، كما تم حرق وتدمير كثيراً من الآثار الثمينة لعصر نورالدين، لكن هذا الحنث بالقسم لابد أن يُعزى بدرجة أقل لغدر المغول، وبدرجة أكبر إلى إستحالة السيطرة على جيش بربرى، وللدمار الحتمى الذى سببه الدفاع الباسل عن القلعة، والتى رفض القائد المصرى أراجوش تسليمها بإصرار، وجعله يخوض صراعاً عنيفاً مع المدينة. وأثناء ذلك كانت مصر تعمل بحماس من أجل الإنتقام، وتم توفير إستعدادات ضخمة من السلاح والمال ، وإرتفع الطلب على الدواب حتى إرتفع ثمن الحصان من حوالى 12 إسترلينى إلى 40 ، وأصبح الذهب متوفراً بكثرة لدرجة جعلت الدينار يساوى سبعة عشر درهماً بدلاً من خمس وعشرين. وبالنظر إلى تلك الإستعدادات ، والخطر على الحدود الشرقية، وعدم إمكانية إقتحام القلعة ، قرر المغول إخلاء دمشق ، بعد عربدة من السكر والفسوق ، لم تعرف مثلها هذه المدينة المحافظة من قبل.
عاد المماليك البحرية ، الذين كانوا إنضموا إلى غازان، إلى ولائهم المصرى، ونزل أراجوش من القلعة التى دافع عنها ببسالة وإسترد النظام ، وقمع الشغب، وسكب الخمور المغولية وحطم زجاجاتها. وأعاد المصريون إحتلال دمشق وحلب وكل سوريا، وعوقب بقسوة الإثنى عشر ألف من دروز لبنان، الذين كانوا قد أربكوا المماليك فى إنسحابهم قبل أربعة أشهر. وتبع ذلك مفاوضات، وبعد حملة كارثية على شمال سوريا ، حيث أبادت الأمطار والثلوج جزءً كبيراً من جيشه، أرسل غازان سفارتين إلى القاهرة من أجل توقيع معاهدة سلام ، لكنهما لم تسفرا عن نتيجة. ومرة أخرى كان لابد من خيار الحرب ، وزحف نحو 100000 مغولى بقيادة كوتلج شاه على سوريا. فُزعت دمشق وترك الرجال عائلاتهم وفروا طلباُ للحماية، ودُهس الناس موتاً فى الزحام حول البوابات، ودُفعت أسعار خيالية من أجل الخيول والحمير لحمل السكان المذعورين. لم تزعج مثل هذه المخاوف بيبرس وكبار المماليك ، الذين دخلوا المدينة المرتعبة فى إبريل، وركبوا لمواجهة المغول، الذين كانوا فى حوالى 50000، وإلتقوا بهم عند شقحب فى سهل مرج السفر، حيث هزم المسلمون جيش هرقل قبل حوالى سبعة قرون. وخرج الناصر والخليفة والقسم الأساسى من الجيش المصرى من القاهرة فى نفس اليوم. وتكرر مشهد هزيمة المغول للميمنة المصرية ، بخسائر فادحة، بينما ثبتت الميسرة والقلب ، وقاومت كل هجمة، وبنهاية اليوم سيطر المصريون على ميدان المعركة ، وتراجع المغول إلى هضبة قريبة. وقضى السلطان وجيشه الليل على ظهور الجياد ، بينما ظل ضرب الطبول ونفخ النفير لإرشاد اللاجئين إلى مكان التجمع. وسرعان ماتم حصار الجبل الذى لجأ إليه المغول. وقضى سلار وقبجك وباقى كبار الأمراء الليل يدورون على القوات لتشجيعهم على القتال. وعند شروق الشمس شوهد الجيش المصرى مصطفاً فى إنتظام فى مشهد مهيب. و على الفور نزل المغول لمواجهتهم ، وبدأ قتال عنيف سقط فيه كثير من خيول مماليك السلطان ، وإستمرت المعركة حتى الظهيرة ، عندما إنسحب كوتلج شاه إلى الجبل مرة أخرى. ومرة أخرى ، نزل المغول ، مدفوعين بالعطش، لشق طريقهم بين صفوف العدو المحيط بهم ، وهذه المرة سمح لهم المصريون بالمرور على سبيل الخديعة، فقط لينقضوا على مؤخرات قواتهم المنسحبة. وتم تقطيع العدو المنهك إرباً ، أو فُقد فى الصحراء ، ولم ينجو سوى بقية هزيلة تبعت كتلج شاه إلى الفرات. ووقع نحو 10000 أسير و20000 من رؤوس الماشية فى يد المماليك ، وكسرت المصيبة قلب غازان تقريباً، ومات بعدها فوراً، ولم يجرؤ خليفته أوليجتو على المخاطرة بمواجهة المماليك مرة أخرى، والذين، وللمرة الرابعة ، هزموا أخطر الأعداء الذين واجهتهم مصر منذ الغزوات الإسلامية.
عاد الناصر إلى القاهرة فى موجة من المجد ، وأعلن الرسل الأخبار، وتبارى الأمراء مع بعضهم البعض فى إقامة السرادق الفخمة ، والأكشاك الضخمة ، فاخرة الزينة والمفروشات، على طول طريق موكبه. ومُنع العمال من إقامة أى شئ سوى منشآت النصر تلك. وأستؤجرت الغرف على طول الطريق فى ذلك اليوم بما يساوى 2 إلى 4 إسترلينى، وفُرشت السجاجيد الحريرية فى الشوارع، وركب السلطان الفخور بين واجهات المنشآت الباهرة وعبر عن إعجابه بسرادق الأمراء ، بينما أكمل مشهد الإنتصار ، أسرى المغول فى السلاسل ، تتدلى من عنق كل منهم رأس قتيل من رفاقه. كان صخب الفرح شديداً ، وضجيج الطبول والموسيقى يصم الآذان فى كل أنحاء مصر، حتى أنه لم يكن أقل من زلزال يمكن أن يرد الناس إلى رشدهم.
كانت الحرب المغولية أكبر أحداث عهد الناصر الثانى، وبالإضافة إليها كان هناك حملات متتابعة على تراقيا لإجبار ملك أرمينية الصغرى على دفع جزيته، أو لصرف إنتباه الجيش المملوكى عن الطموح الداخلى ، وحملة غير مجدية على النوبة سنة 130401306م، لكنها لم تكن حملات مهمة. وكذلك كان هناك حملة مزودة بسفن تم بنائها على النيل لطرد الداوية من جزيرة أنطرطوس على الساحل السورى ، آخر موطئ قدم للصليبين ، حققت هدفها بالمذابح المعتادة. وإستمرت علاقة السلطان المصرى بالدول الأجنبية ودية ، وتم الحفاظ على التحالف القديم مع خانات القبيلة الذهبية، رغم أنه لم يعد للمماليك أى ضرورة لقضية مشتركة ضد مغول فارس. وأرسلت النوبة هدايا الجزية سنة 1305م ، وحضر السفراء من المغرب، وفرنسا ، وإمبراطور القسطنطينية سنة 1306م، والذى حصل على تصريح بإعادة فتح كنيسة Musalliya فى أورشليم.
كانت كل الأمور الخارجية جيدة ، لكن الظرف الداخلى لمصر لم يكن جيداً تماماً، فقد سببت ضرائب الحرب كثيراً من الفقر والتذمر. وخلعلت قبائل بدو الصعيد طاعة السلطان بعد كارثة حمص سنة 1299م، وأطلقوا على رؤسائهم إسم سلار وبيبرس ، على إسمى الأميرين المسيطرين فى القاهرة ، على سبيل السخرية. وفرضوا إتاوات على القرى، وأطلقوا عليها تسمية الضرائب. وسريعاً واجه المماليك هذه الثورة ، وقاد سلار وبيبرس الحقيقيان قواتهما على التوالى، شرق وغرب النيل، وتوجه بكتاش إلى الفيوم ، وتوجه أمراء آخرون إلى السويس ، بينما قطع حاكم قوص ، مع العرب الموالين، الطرق الصحراوية.وتم تنفيذ تلك التحركات المتعددة فى سرية وسرعة ، وأُخذ البدو التعساء على غرة تماماً. ومن الجيزة حتى أطفيح ومابعدها ، وُضع السكان تحت السيف حتى تم قتل نحو 16000 رجلاً، وسبيت نسائهم وأطفالهم وصودرت ممتلكاتهم. و كان إذا ماإدعى أحد الرجال أنه ليس بدوياً ، ولكنه مدنياً، كانوا يأمرونه بنطق كلمة دقيق ، والتى لايستطيع أى مصرى نطقها ، وبمجرد أن يسمعوا اللكنة البدوية الحقيقية ، يقطعون رأسه فوراً. وكشف الإختبار اللغوى عن كثير من المتهربين، وأصبح الريف مسرحاً لمذابح رهيبة ، وسممت الجثث الهواء، وهرب البدو إلى الكهوف فى التلال ، لكن المماليك أشعلوا حولهم النيران وقتلوهم خنقاً. وبين الغنائم كان هناك متاع حوالى 1600 من ملاك الأراضى ، 8000 ثور ، و6000 من الغنم والماعز، 4000 حصان، و32000 جمل. وأصبحت المؤن متوفرة حتى بيع الخروف الثمين بشلنين، والماعز بتسعة بنسات، ورطل الزبدة ببنسين. وبعد نهب البلد عادت الحملة التأديبية إلى القاهرة، تاركة خلفها أرضاً فارغة ، لايمكن أن يُرى فيها إنسان.
وقد عانى المسيحيون واليهود من إنتقام لاعقلانى أيضاً. وكانوا قد تمتعوا حديثاً بعفو إستثنائى، وجمعوا ثروات طائلة، وركبوا الجياد والبغال المزركشة الفخمة، وإرتدوا الملابس الفاخرة، وشغلوا عدداً من وظائف الحكومة الهامة. وقد تعاظم نفوذهم وإستقلاهم وبدوا شديدى الغطرسة فى نظر المسلمين، حتى أن أحد السفراء من المغرب، حيث كان مثل ذلك التسامح مستحيلاً ، أخذ على عاتقه أن يحتج لدى الأمراء، وتم إستدعاء القضاة فى مجلس، وكانت النتيجة إحياء قوانين الذمة القديمة. وتقرر أن يرتدى المسيحيون فى كل أنحاء الإمبراطورية عمامة زرقاء، وأن يرتدى اليهود عمامة صفراء، وأن لايسمح لهم بركوب الخيول أو البغال ، ولكن فقط الحمير ، وأن يفسحوا منتصف الطريق للمسلمين، وأن لايقرعوا الأجراس ، ولايرفعوا الصوت ، مع عدد من القيود المذلة الأخرى. ونتيجة لذلك فقد تحول كثير من المسيحيين المهتمين بمظهرهم إلى الإسلام. وهدم الغوغاء المبتهجون بعض الكنائس فى الإسكندرية وأماكن أخرى، وظلت جميع الكنائس فى مصر مغلقة طوال العام. وكان فقط وبناء على رجاء إمبراطور القنسطينية أن فُتحت قليل من الكنائس، مثل الكنيسة المعلقة فى قصر الشمع، وكنيسة القديس ميشيل، والقديس نيقولا. كما أهمل بيبرس الإحتفال بعيد الشهيد، أو الإحتفال بوفاء النيل السنوى، وكان إحتفالاً عاماً يقام على نهر النيل بالقرب من شبرا، بحجة السكر والعربدة التى يسببها. كانت اخلاق الناس قد وصلت فعلاً إلى درجة غير عادية من الإباحية. كانت الأفراح التى صاحبت عودة السلطان المنتصرة من سوريا قد تطورت إلى حالة من السكر والعربدة. كانت النساء السافرات ترىً فى صحبة رجال يشربون الخمر بلاخجل على المراكب فى قناة الحاكمى حتى مُنعت قوارب السرور تلك من مياهها بعد ذلك. لكن الصدمة الهائلة للزلزال الذى أعقب ذلك قد أعطاهم شيئاً آخر للتفكير فيه، حيث سببت الإهتزازات وتصدع الجدران وسقوط المنازل والمساجد حالة من الفزع الشديد، حتى هرعت النساء إلى الشوارع سافرات ، ووضعت بعضهن حملها قبل الأوان، وعندما رأى الرجال منازلهم تنهار إلى الأرض وكل مايملكون يضيع أو يطير فى ذهول، تركوا منازلهم ينهبها اللصوص. ودفع النيل قواربه إلى اليابسة كرمية السهم، وتجمع السكان خارج المدينة مرتعدين من سقوط السماوات ونهاية العالم. شُعر بقوة الزلزال فى كل أنحاء مصر وقد أحدث أضراراً من الإسكندرية حتى قوص ، وقد شعرت دمشق وعكا بالهزة. وفى القاهرة أصيبت مساجد الحاكم والأزهر وصالح بن رزيك وقلاوون وجامع عمرو بن العاص القديم فى الفسطاط بأضرار، ولمدة أكثر من عام أنفق كبار الأمراء وخاصة سلار وبيبرس مبالغ كبيرة على ترميمها. وبدت القاهرة بعد الزلزال كمدينة دمرها جيش غازى.
ولحسن الحظ، كانت ثروة الطبقة الحاكمة كافية لنفقات ترميم المساجد، وأظهر النبلاء روح عامة ودينية رائعة فى تخصيص مبالغ كبيرة لهذا الغرض، وبالإضافة إلى إصلاح ماهدمه الزلزال ، أكملت الحكومة ووهبت بسخاء المدرسة الناصرية الجديدة ، أو مدرسة جامع الناصر سنة 1304م، والتى مازلت قائمة حتى اليوم فى سوق النحاسين، وقد احضرت بوابتها القوطية من كاتدرائية عكا أثناء تدمير المدينة بناء على أوامر خليل. لم يكن هناك نقص فى الأموال فى مصر. فعندما قام بكتمر ، مسئول رياضة البولو فى البلاط ، بالحج إلى مكة سنة 1301م، أنفق 85000 دينار على الرحلة، وبشكل كبير على العطايا الخيرية، أما الأمير بيسارى، أكثر المماليك شرفاً وشعبية، والذى رفض العرش بعد موت خليل، فلم يكن يضع حدوداً لإسرافه، فلم يشرب مرتين من نفس الكأس، وكانت كؤوسه من الفضة المطعمة والمنقوشة، مثل مبخرته المحفوظة فى المتحف البريطانى، وقد عاش فى أفخر قصر يمكن للمال أن يبنيه، وقد إفتخر بأنه كان دائماً مدينا ب15000 إسترلينى. مكنت الإقطاعات الغنية النبلاء المماليك، والتى إزدادات بعدد من المخصصات والمنح، من الإحتفاظ بمستوى حياة الأمراء ، رغم النبذ والسجن والمصادرة الدائمين. إن الرخاء ووفرة الإبداعات الفنية لهذه الفترة، وتطور الدراسات الأدبية والتاريخية، والموقف الرفيع للمثقفين، يمثل تناقضاً غريباً لأعمال العنف الدائمة، وأعمال الشغب وحروب الشوارع والقتل والتعذيب الوحشى. كانت مصر فى رخاء لاشك فيه تحت حكم هذه الطبقة المركبة بشكل غريب من الحكام. كانت الضرائب فادحة ، لكن فيضانات النيل كانت جيدة، وكانت التجارة مع أوربا ضخمة، كانت أى سفينة تدخل ميناء الإسكندرية تدفع نحو 40000 دينار جمارك، ولابد أن التجارة مع الهند كانت بنفس الأهمية. كان كل مايمر عبر مصر تفرض عليه الرسوم الجمركية ، وكانت قيمة العشر فى المائة جمارك على التجارة تمثل دخلاً كبيراً.
لم يكن السلطان نفسه يستلم شيئاً من كل هذا، فقد كان شبه محتجزاً من قبل وزرائه الجبارين، وعندما إنفصل سلار وبيبرس وتنازعوا على الغنيمة، وجد موقفه أكثر ضيقاً. وعلى الفور حاول تدبير قتلهما، لكن المؤامرة أكتشفت، وساءت الأمور أكثر. كان الناس إلى جانبه فعلاً، وقد جعلتهم إشاعة عن تهديد حياته فى ذروة خطيرة من الإنفعال، حيث كان الشعور بالولاء لبيت قلاوون قد أصبح جزءً من شخصيتهم. لكن سلوك الأمراء كان قد جعل من حكم الناصر مستحيلاً، وفى أحد ألأيام خرج إلى الكرك بذريعة الحج ، ومرة أخرى ومن داخل أسوار القلعة الحصينة أعلن تنازله عن العرش، ولم تجدى الإحتجاجات نفعاً ، سواء كانت صادقة أم لا ، فقد كان مصمماً على الحياة الهادئة ، وكان على الأمراء إختيار خلفاً له.
إكتسب بيبرس الجاشنكير، الإستادار ، المشرف على البيت المالك ، النفوذ الأكبر ،كان سلار هو نائب السلطان فعلاً ، لكن بيبرس كان مؤيداً من قبل كل المماليك البرجية أو مماليك القلعة، الذين لم يكن من الممكن مقاومة قوتهم، والذين كانوا يخططون منذ فترة طويلة لترقيته العرش، وقد وافق تنحى الناصر مقاصدهم، وهكذا أصبح الملك المظفر ركن الدين بيبرس الثانى المنصورى سلطاناً. كان حكمه القصير فشلاً تاماً، فلم يحظى أبداً بتأييد الناس، كما إرتبطت فى أذهان الناس، وبشكل ما، سلسلة من الفيضانات المنخفضة ومانتج عنها من ضائقة ، بسوء إدارته.
إنحازعدد كبير من أمراء المماليك إلى حزب سلار، الذى كان قد قبل بمنصب نائب السلطان، لكنه بدأ العمل ضد زميله السابق سراً. فى نفس الوقت لم يكن السلطان السابق خاملاً فى الكرك، حيث كان قد إعتزل من أجل الراحة كما زعم، لكن أعماله تُظهر أنه كان فقط ينسحب من سيطرة أمرائه االمصريين من أجل تكوين حزب موالى فى سوريا. وفى مواجهة إستعدادات وإشارات الثورة تلك، كان كل مافعله بيبرس هو جعل الخليفة سليمان المستكفى يعلن ولايته للعرش من جديد. لم يحترم أحد أمير المؤمنين العاطل، وضحك الأمير برلغى، أحد أنصار بيبرس ، قائلاً، سليمان ليس أمير المؤمنين، بل أمير الريح، وعندما سمع الناس إسم الناصر فى الإعلان ، صاحوا ، يحيا الناصر، وعندما قُرئ إسم بيبرس ، صاحوا ، لانريده. ووصلت الأنباء بدخول الناصر إلى دمشق ، وحصوله على بيعة أمراء سوريا، فى حلب وحماة وحمص وطرابلس وصفد والقدس، وأن مقدمة حرسه قد وصلت غزة، وطردت حاميات الحدود المصرية. لم يكن لدى بيبرس خطة مضادة ، ولم يستطع توفير أى تأييد فعال، وإتخذ الطريق الحكيم الوحيد وأرسل تنازله وخضوعه للسلطان المتقدم. وقبل االناصر منه وعفى عنه وقدم له ولاية صهيون، لكن خوف بيبرس دفعه للهرب من القاهرة بحرسه المملوكى، الذى سرعان ماتخلى عنه وتركه حائراً بين العديد من خطط الهرب، حتى سلم نفسه فى غزة فى نهاية الأمر.
وبدأ الناصر ولايته الثالثة ، ودخل القاهرة فى 5 مارس 1310م بعد إحدى عشر شهراً من الإعتزال، ورغم كل الفضائل الطيبة التى تمتع بها فى صباه ، فقد كان قد أصبح مليئاً بالبغض والمرارة بسبب تجربته. ورغم أنه كان فى الخامسة والعشرين من عمره فقط، فقد كان قد أصبح متشائماً ، منافقاً ، متعطشاً للإنتقام من بؤس صباه وشبابه ، ولتحرير نفسه بشكل تام من تدخل كبار الأمراء، وقد حقق ذلك بالخديعة والإحتيال. ورغم العفو الظاهرى عن بيبرس وتعيينه والياً، فقد تم إستدعائه إلى القاهرة حيث أُعدم . لم يستطع الناصر العفو عنه لرفضه تقديمه أوزة محمرة قد كان قد طلبها فى سنوات إذلاله، بالإضافة إلى كثير من الذكريات المؤلمة الأخرى. وسرعان مالحق سلار بمنافسه. كان سلار قد ساعد على إعادة الناصر إلى العرش ورحب به بحفاوة وقدم له هدايا ثمينة، وفى المقابل منحه الناصر القيادة البسيطة لقلعة الشوبك ، لكنه إستدعى إلى القاهرة وسُجن وتم تجويعه حتى الموت. فبعد ثمانية أيام من الجوع ، أرسلت له ثلاثة أطباق مغطاة من قبل السلطان ، وبعد رفع الأغطية ، وجد الأول طبقاً من النقد الذهبى ، والثانى من الفضة، والثالث من الأحجار الكريمة واللؤلؤ، وعندما رآها قال ، الحمدلله ، الذى خلصنى من عقابى فى هذه الحياة الدنيا ، وفى اليوم الثانى عشر وجد ميتاً وفى فمه قطعة مقضومة من إصبعه. وصودرت ثروته الضخمة لصالح الدولة ، وقد قُدر دخل تركته وممتلكاته بحوالى 1000 دينار فى اليوم. وقد ذكر أحد المؤرخين المعاصرين، الذى رأى قائمة جرد ممتلكاته الشخصية ، بأن فحصها قد إستغرق أربعة أيام ، وأنهم قد وجدوا حوالى أكثر من نصف مليون دينار أو مايعادل ذلك بالدرهم ، بالإضافة إلى صناديق من الأحجار الكريمة واللؤلؤ، وأوانى فضية، وأثواب، وخيول، وجمال ، وقطعان من الماشية والغنم، وعدداً ضخماً من العبيد. وواحد فى أثر الآخر ، هوجم الأمراء القدامى الذين حاربوا حروب أبيه وسيطروا عليه فى حكمه المبكر، وتم خداعهم وسجنهم وإعدامهم، وقد تعلم الناصر الدرس وصمم على أن يحكم منفرداً ، فلم يراعى أى ضمير فى القضاء على المتميزيين منهم.
تبع الناصر فى سياسته الخارجية، خطى والده قلاوون ، وبيبرس ، بإستثناء الظروف المتغيرة التى جعلته متحمساً للإقتراب من مغول فارس. ولذلك فقد إرتبط بعلاقات دائمة مع الإليخان أبو سعيد ، والذى توصل إلى معاهدة صداقة معه سنة 1333م ، ومع إنقسام دولة الإليخانات عند موت أبى سعيد، دخل الناصر فى العديد من المفاوضات مع المرشحين للعرش، وكان تأييده مطلوباً لدرجة جعلت الشيخ حسن بوزورج ، أحد أقوى المتصارعين على السلطة ، يذهب بعيداً لدرجة الإعتراف بالتبعية للناصر فى الصلوات، وعلى العملة فى بغداد سنة 1341م ، مقابل الوعد بالمساعدة العسكرية، والتى لم تأت أبداً. ومع ذلك فقد إحتفظ الناصر وجدد الصداقة القديمة مع دولة المغول المنافسة ، قبيلة الساراى الذهبية على نهر الفولجا، رغم أن التعامل مع فارس قد سبب بعض التوتر للخان أوزبج ، وقد فشل إقتراح الناصر للزواج من إبنة الخان بسبب المبالغة فى المهر الذى طلبته مصر. ومع ذلك فقد وجدت عروس أرخص فى إمرأة من أقارب الخان ، وهى السيدة طلبية، والتى مازال ضريحها فى القرافة الشرقية يحمل شهادة على ذلك التحالف ، والتى قد تكون الأميرة المسلمة الوحيدة التى مدحها أحد الشعراء الغربيين.
حتى ذلك الوقت كان هناك كثير من الحروب الصغيرة مع مملكة سيليشيا. وفى مكة كان يتم تعيين الحكام الأشراف من قبل مصر، تؤيدهم قوات عسكرية ، ليس بدون نزاع فى الغالب، وفى سنة 1317م، تم الإعتراف بسلطة الناصر فى المدينة أيضاً. وقد قام السلطان نفسه بالحج ثلاث مرات إلى مكة بمظاهر الإسراف االمعتادة فى منح الصدقات. أما اليمن المستقل تحت حكم ملوك آل رسول فقد كان يرسل الهدايا بين الحين والآخر إلى القاهرة ، والتى كان السلاطين متشوقين لإعتبارها جزية، ولكن رغم أن حملة من 5000 مصرى قد أرسلت سنة 1325م ، بناء على طلب أحد أمراء بنى رسول، والذى كانت ولايته للملك محل نزاع ، فإن الحملة قد إنتهت بكارثة ، ولم يعد من الممكن إعتبار جنوب الجزيرة العربية ضمن سلطة الناصر، بأى حال . وكذلك كانت النوبة تحت حكم مغتصب الحكم ، كنز الدولة، مستقلة بنفس القدر فى ذلك الوقت. وعلى العكس من ذلك ، وبإتجاه الغرب، فقد كانت الخطبة تقام بإسم السلطان فى طرابلس وتونس بين السنوات 1311-1317م من قبل الملك الحفصى أبو زكريا يحيى، والذى كان الناصر قد ساعده على إرتقاء العرش.
كانت معظم هذه الحالات من التبعية الواضحة تعود إلى المساعدة المصرية أثناء فترات من الحرب الأهلية والتنازع على ولاية الحكم ، وكانت تعبر عن الكفاءة العسكرية للجيش المملوكى أكثر من التعبير عن أى سلطة للسلطان. أصبحت مصر فاعلاً مؤثراً فى أى مشاكل تنشأ بين جيرانها ، لكنها لم تتوسع لأبعد من حدودها الطلبيعية ، والتى كانت قد إستقرت ولزمن طويل من حدود الصحراء السورية، والفرات ، وقبرص فى الشرق والشمال، وسواكن وأسوان فى الجنوب ، وطرابلس فى الغرب. كان الناصر نفسه طامحاً للإمبراطورية لكنه لم يكن قائداً عسكرياً وكان يخشى تسليح منافس محتمل ، بقيادة جيش كبير. ولقد كان مجبراً فى الواقع على قمع ثورة للدروز والنصيرية بالقوة ، ولشن حرب على أرمينيا الصغرى، لكنه كان يثق أكثر فى الديبلوماسية من أجل توسيع نفوذه. وقد مكنته مفاوضاته فى الشمال من ضم أرتينا فى آسيا الصغرى، ورئيس قبيلة ذو القدر، وقد تبادل البعثات بشكل مستمر مع مغول القوقاز وفارس وملوك اليمن واالحبشة وغرب إفريقيا وأباطرة القسطنطينية وملوك بلغاريا، وحتى سلطان الهند وملك أراجون والبابا وملك فرنسا قد أرسلوا بعثات إلى بلاطه. كانت بعثات الأباطرة البيزنطيين المتكررة بين السنوات 1317-1326م معنية بشكل واضح بمناقشة تحالف مع الناصر ضد قبائل التركمان، التى كانت قوتها فى تزايد مستمر فى آسيا الصغرى فى ذلك الوقت. وكانت قد هددت الإمبراطورية الرومانية الشرقية بالفعل. كان سلطان هندوستان، الذى أرسل سفارة إلى الناصر سنة 1331-1332م، عن طريق بغداد هو السلطان محمد بن طغلق ، والذى كان يفكر فى غزو فارس الشرقية ، وربما يكون قد أراد أن يدفع الناصر إلى هجوم متزامن على المملكة المغولية فى فارس الغربية. وفى سنة 1327م وصلت بعثة من البابا لحثه على معاملة رعاياه المسيحيين بشكل إنسانى، واعداً فى المقابل بحماية ، وبقدر الإمكان ، الرعايا المحمديين الذين يعيشون فى العالم المسيحى، من المضايقة. وقد ارسل فيليب السادس ملك فرنسا بعثة سنة 1330م ، طالباً من الناصر تسليم أورشليم وجزء من ساحل فلسطين ، وكان من الطبيعى أن يزدريها ويرفض إستقباله. كانت حال المسيحيين أفضل فى ولاية الناصر الثالثة عما سبقها ، وقد حاول السلطان التخفيف من قسوة مرسوم سنة 1301م المذل ، بقدر المستطاع، وبدون إثارة غضب الفقهاء والمشايخ المتعصبين. وقد حمى الكنائس من التدمير ورفض تصديق أن كل حريق أو أى مصيبة أخرى كان لابد أن تعود إالى تآمر مسيحى ، كما كان يقول متعصبى المسلمين، لكن التعصب كان أقوى منه ، حيث إجتمع نحو 20000 رجل فى الميدان وصاحوا ، إن الدين عند الله الإسلام ، الله ينصر دين محمد ، ياسلطان المسلمين ، إحمنا نحن ، وليس الكفار المسيحيين. إستسلم الناصر للرأى العام ، وتم فرض المرسوم السابق مرة أخرى ، مع التهديد بالقتل فى حالة عدم التقيد به. وأغلق المسيحيون كنائسهم ، ولم يعدوا يجرؤن على الظهور إلا متخفين، ولاشك أنهم قد أحرقوا العديد من المساجد والمنازل، وإنتقم المسلمون بإحراق وتدمير عشرات من كنائسهم وأديرتهم. وظل السلطان يستخدم نفوذه لصالحهم، حيثما كان هناك فرصة، بينما إجتهد وزرائه، والذين كان العدين منهم مسيحيين إعتنقوا الإسلام إسمياً فقط ، فى مساعدة رفقائهم القدامى ، وبإستنزاف الرعايا المحمديين من خلال الضرائب بقدر الممكن. كان الناصر قد وظف المسيحيين االأقباط ، كما وظفتهم كل الحكومات المصرية ، لإنهم كانوا أفضل فى إدارة الأعمال من المسلمين، كما أنهم لم يكونوا خطيرين على عرشه، مثل كبار الضباط المسلمين، والذى كان على حذر دائم منهم ، وتعامل معهم بكل قسوة.
ولكن ومن جهة أخرى ، فقد كان خدامه وضباطه الأقل مرتبة، والجزء الأعظم من الشعب المصرى أحسن حالاً فى عهده. وقد ألغيت كثير من الضرائب المجحفة ، مثل ضرائب الملح والدجاج والسكر والقوارب ومسافريها والعبيد والخيول ، وتم تعويض خسائرها على حساب كبار النبلاء. وقد أمر بمسح جديد للأراضى ومداخيلها، ومن الأربعة وعشرين قسماً التى كانت تتكون منهم مصر ، خصص دخل عشرة للدولة ، والأربعة عشرة الأخرى للأمراء والجيش، تبعاً لمراتبهم . وقد حارب إرتفاع الأسعار الذى كان يسود فى أوقات الندرة، وأمر بجلد الطحانين والخبازين الذين كانوا يرفعون الأسعار، وإستورد القمح من سوريا ، وثبت أسعاره ، وأجبر الأمراء على فتخ مخازن غلالهم للبيع العام ، بدلاً من بيع قمحهم سراً بأسعار باهظة. وكان محتسبه، أو مشرف الأسواق ، ضياء الدين يوسف ، رجلاً مستقيماً لايخاف ، وكان يرفع إليه تقاريراً عن أى إعوجاج ، حتى أنه قد وبخ علانية ذات مرة صهره الأمير الكبير قوصون ، وضربه على رأسه بقاعدة سيفه ، وأمر بجلد ممثله التجارى فى حضوره. وكان لهذه الإجراءات القوية تأثيرها ، و تم تثبيت سعر معتدل للقمح. وكان الناصر حاسماً فى منع شرب الخمور وأى أنواع من الفجور. وكانت عقوباته بربرية بدائية بقدر ماكانت طرق مصادراته كاسحة وغير قانونية. والواقع أن القضاة كانوا يجدون أنه من الضرورى أحياناً أن يعترضوا على إجراءاته الإستبدادية ، وكانوا واثقين أنه سيستمع إليهم.
وقد وجد المثقفون فى شخصه المتأنى الهادئ نصيراً مقدراً ذو حظ من الثقافة. كان المؤرخ المثقف أبو الفدا، الأمير المنحدر من نسل أخى صلاح الدين، هو صديقه المقرب. وقد أعاده الناصر سنة 1310م، إلى إمارة أجداده فى حماة، وجدد ألقاب وإمتيازات عائلته، وإصطحبه إلى الحج فى مكة، وجعل الولاة السوريون يعاملونه كأنه سلطان، وكان هو نفسه يناديه بأخى ، وإستمر يحبه ويحترمه حتى وفاته سنة 1331م. كان العصر غنياً برجاله المثقفين، وقد تمتعوا بكل مظاهر الإحترام، وبمخصصات ليست بسيطة فى عهده. لقد كان عصراً إستثنائياً من التألق فى كل شئ تقريباً ، وبرغم من السجلات العرضية للندرة وإرتفاع الأسعار، فقد كانت ثروة البلد هائلة ، سواء من تربتها الخصبة أو من التجارة المتزايدة مع أوربا والشرق، وذلك إذا ما أمكن إعتبار ثروات الأفراد كدليل. إن حسابات التبذير الخرافى لأمراء ذلك الزمان فى الكتابات التاريخية العربية تُظهر مواردهم الواسعة ، كما أن مايزيد عن ثلاثين مسجد فاخر بناها أمراء الناصر مثل ، سنقر الجاولى وقوصون والماريدانى وأجاسنقر وشيخو، وهم قليلين من الذين ظلت آثارهم باقية حتى اليوم ، لهى دليل على أنهم كانوا ينفقون ثرواتهم من أجل الأعمال الطيبة أحياناً. ربما كان معمار هذه الفترة هو الأجمل فى تاريخ الفن الإسلامى فى مصر. ولم تراعى الفنون الأصغر بمثل هذا الكمال من قبل ، حيث كانت الطاسات والمباخر وعلب الجواهر وحفاظات القرآن والكراسى والمناضد الصغيرة المصنوعة من البرونز والنحاس، مطعمة بتصميمات رائعة منقوشة من الفضة، كما أن اللمبات الزجاجية المطلية بالمينا، والقرآن المزخرف، والأبواب الخشبية المنقوشة، والأسقف المزينة بالصور، وكل أنواع الديكور والزخرف، قد صُنعت فى هذه الفترة ، فى كمال لم يحدث أبداً من قبل. وعلى أى نموذج رائع من الفن الإسلامى محفوظاً فى متاحفنا، فمن المؤكد أننا سنجد عليه نقش نسبته بهذه الكلمات ، الملك الناصر، أو مملوك الملك الناصر. وقد قاد السلطان نفسه هذا الإتجاه فى رعاية هذه الأذواق الراقية. إن بعض أثاثه الخاص ، أو أساس مساجده ، قد حُفظت ، أما بنائيه الرئيسيين، المدرسة الناصرية فى سوق النحاسين ، والمقابلة لجزء من بين القصرين القديم ، والمبنية بين السنوات 1299-1304م ، ومسجده المبنى فى قلعة القاهرة سنة 1318م، فيعتبران من أروع الآثار الإسلامية. ومع الأسف فقد إختفى قصره الرائع فى القلعة ، والمعروف بإسم القصر الأبلق ، أو القصر المقلم، بسبب طبقاته المكونة من حجر أسود وأبيض، والذى كلف نحو 500000000 درهم وتم بنائه سنة 1313م، رغم أن قاعة الأعمدة كانت مازالت باقية حتى بواكير هذا القرن. والواقع أن القلعة كانت قد تم تجديدها على نطاق كبير سنة 1312م والسنوات التى تلتها، وتم إضافة عدداً من المبانى الجديدة. ويعُتقد أنه كان ينفق فى أحد الأوقات مبلغ 8000 درهم ، حوالى 300 إسترلينى على البناء يومياً.
ومن بين المنشآت العامة لعهده كانت قناة الإسكندرية، والتى كانت تربط الميناء بالنيل عند فوة ، وساهمت بقدر كبير فى تجارة وخصب البلاد ، وفى إحياء العاصمة الإغريقية المهملة، كما ساهم الطريق الكبير الذى أنشأه بجانب النيل ، كطريق وسد أثناء الفيضان. كانت القناة التى تقوم بتزويد القلعة بالمياه من النيل من عمله أيضاً سنة 1311م، رغم أنها تنسب بشكل شائع لصلاح الدين. ومن أجل إنجاز مشروعاته، وإرضاء أذواقه ، فقد كان يحتاج إلى مداخيل ضخمة، ولم يكن هناك نقص فى الأموال ، فقد زوج إحدى عشر من بناته إلى بعض كبار الأمراء، حيث كلفه كل زفاف نحو 800000 درهم، وكانت الموسيقى وحدها تكلف نحو 10000 لكل حفل. ولقد كان خبيراً بالجياد ، وكان يمكن أن يعطى مايصل إلى مليون درهم، مايوازى حوالى 4000إسترلينى، من أجل حيوان جميل. وكان بطبيعة الحال يحتفظ بكتاب جيد لأنساب الخيول ، وكان يعرف الإسم والعمر والسعر، و نسب كل جواد. كان حوالى ثلاثة آلاف من المهور التى تولد سنوياً فى إسطبلاته ، تدرب بواسطة البدو، لإهدائها للأمراء أو لدخول السباقات، التى كان مدرباً متحمساً لها. كان الناصر مزارعاً أيضاً، وكان يستورد أغناماً من سلالات جيدة لقطعانه التى بلغت 30000، والتى كان يرعاها فى القلعة. ولقد كان رجلاً رياضياً مغرماً بالصيد بالصقور، وكان مساعدوه فى الصيد يحظون بمرتبة هامة فى بلاطه، ويحصلون على معاشات كبيرة. وكان أيضاً جامعاً للأحجار الكريمة ، لكن ذلك كان هو المزاج العادى فى تكديس المال المنقول سهل المفاوضة. وبينما كان يشجع الرفاهية والبسطة فى بلاطه ، فلم يرتدى هو نفسه الجواهر، وكان ردائه فى أبسط وأرخص طريقة. كان هذا الرجل ، رابط الجأش ، حديدى الإرادة ، شديد الطغيان، الحاكم بأمره ، ضعيف البنية ، صغير القوام، أعرج الساق، المصاب ببياض فى العين ، بملابسه البسيطة وأخلاقياته الصارمة، وشغفه بالثقافة، وطاقته التى لاتلين، وأذواقه وإهتماماته المستنيرة، ودبلوماسيته الماكرة المخادعة ، وريبته التى لاتنام، وإنتقامه الوحشى، وبلاطه الفخم، ومبانيه الباهرة ، هو أحد أهم شخصيات العصور الوسطى. لقد كان حكمه يمثل بالتأكيد قمة الثقافة والحضارة المصرية. ومع الأسف فعندما مات، وهو يعترف بخطاياه سنة 1341م ، فى حوالى الثامنة والخمسين من العمر ، فلم يترك وريثاً قادراً على متابعة تنفيذ عمله. إن ثقة الناس فى حكومته الراسخة ، و مخاوفهم فيما قد يحدث بعدها ، إتضحت فى الجزع الذى دفعهم بمجرد سماع إشاعة موته، لإغلاق حوانيتهم ، وتخزين المؤن لوقت الحاجة. وإجتمع أمرائه حول فراشه ، وأعلنوا فى خشوع أنهم كانوا مماليك بيته، وأنهم سيدافعون عنه حتى الموت ، حتى لو لم يتبقى منه سوى إبنة ضريرة.
والواقع أنه وعلى مدى واحد وأربعين عام فقد تتابع إثنى عشر من ذرية الناصر على العرش سريعاً ، ولكن لايمكن أن يقال أنهم قد حكموا فعلاً. تبع ثمانية من الأبناء ، وإثنان من الأحفاد ، و أثنان من أبناء الأحفاد ، بعضهم البعض ، كان بعضهم مجرد أطفال ، وحمل بعضهم لقب السلطان لأشهر قليلة ، وإحتفظ بواحد منهم هوالسلطان حسن ، على العرش لأربعة أعوام ، ثم تم إعادته إليه لستة أعوام أخرى، بينما إحتفظ أحد الأحفاد ، السلطان شعبان ، بلقب السلطان لأربعة عشر عاماً. ولكن بينما لم يكن هؤلاء أطفالاً عديمى الحيلة ، فقد كانوا بشكل عام مستهترين عديمى الحيلة، وكانت السلطة الحقيقية فى يد كبار الأمراء، وكان قوصون ، وهو مغولى من أتباع عروس الناصر القوقازية ، وتشتمر ، وأغاسنقر، وشيخو ويلبغا وسرجتمش، هم الأكثر أهمية بينهم. ظل البلاط فاخراً مترفاً كما كان، وإستمر الأمراء فى جمع الثروات وبناء المساجد والقصور الفاخرة، وظلت مكانة مصر موضع إحترام القوى الأجنبية. ولكن صراعات الأمراء والفوضى االناجمة عنها دفعت بالإمبراطورية إلى ضائقة مالية ، وتم تعطيل الحج إلى مكة لأكثر من مرة بسبب نقص تمويل الدولة ، رغم أنه لم يكن هناك نقص أبدأً فى الأموال من أجل مغنيات وجوارى القصر. وقد حاول شيخو بحماس وقف تيار الإفلاس ، فقلل المصروفات ، وخصص للسلطان حسن ماقيمته 4 إسترلينى فقط فى اليوم ، وقمع عصابات النهب البدوية ، التى إجتاحت وادى النيل. ولكن إبتلاء الطاعون الأسود سنة 1348م، وهو نفس الطاعون الأسود الذى إجتاح أوربا فى نفس الوقت، قد إنحدر بالبلاد إلى حالة بائسة. ففى يوم واحد مات من سكان القاهرة مابين 10000 إلى 20000 إنسان، وصاحب طاعون الماشية ومرض الفواكه ، الطاعون الأسود ، حتى تسممت الأسماك فى الأنهار ، وفرغت المدن، وأصبحت الأرض خراباً.
وبالنسبة للسياسة الخارجية فلم يكن هناك الكثير الذى يمكن تسجيله فى فترات الحكم القصيرة لأحفاد الناصر. كان هناك إنتصار صغير على ملك اليمن فى مكة، وآخر فى سنجار فى ميزوبوتاميا على عصابة من قطاع الطرق الأكراد، وضم مؤقت لحاكم منشق فى بغداد ، والذى أصدر عملة بصفته تابعاً لمصر سنة سنة 1365م، وحملة تأديبية ضد البدو الغزاة فى الصعيد ، وأخرى على النوبة ، تساندها مراكب جُمعت عند الشلال الأول، وبنفس هدف حملة 1365م، والهجمات المعتادة على أرمينيا الصغرى ، حي تم الإستيلاء على أضنة وطرسوس والمصيصة، وكان تجهيز القلعتين الأولتين منهم قليل الأهمية. كان نزول أسطول أوربى معاد فى الإسكندرية تجربة جديدة بعد مايزيد عن القرن من الهدوء من الحماس الصليبى، حيث قام بطرس حاكم لوزيجنان وملك قبرص تساندهما فرسان رودس والجنوويون والفينسيون بإنزال نحو 12000 رجل فجأة ، وإحتلوا الإسكندرية ونهبوها وأبحروا ومعهم نحو 5000 أسير. وأجبر مسيحى مصر على فع فديتهم والمساهمة فى بناء أسطول فى القاهرة وطرابلس. ومرة أخرى فى سنة 1369م، هاجم الأسطول القبرصى طرابلس وظهر أمام الإسكندرية، ولكن بلانتيجة تذكر، وتم عقد الصلح بعد بعض المفاوضات مع قبرص والجمهوريات الإيطالية. كانت الحروب مع قادة تركمان دولقدر على الحدود الشمالية لسوريا أكثر أهمية، حيث إنحازت بعض القوات الأجنبية ، التى كانت تشارك فى الزحف ، إلى الأعداء ، طلائع الترك الذين غزوا مصر بعد مائة وأربعين سنة من ذلك التاريخ. لم يكن هناك سوى نهاية واحدة لسلسلة السلاطين الدمى الذين حكموا كسلاطين إسميين منذ وفاة الناصر. كان بعض الأمراء ، الأقوى وألأكثر حظاً من الباقين، يستولون على العرش، كما إستولى عليه بيبرس وقلاوون قبل قرن من الزمان. وأخيراً قام رجل يدعى برقوق، وبعد أن تخلص من منافسيه واحداً فى أثر الآخر، بالإطاحة بآخر سلطان من بيت قلاوون سنة 1382م، وأسس مملكة البرجية أو مملكة المماليك الجراكسة. كان الأمر العجيب الوحيد هو كيف إستطاعت ذرية ضعيفة مثل أحفاد الناصر أن تعيش طويلاً فى مثل ذلك العالم العاصف.




























أهم المراجع :

1-أبوالفدا
2-النويرى
3-إبن بطوطة
4-المقريزى
5-أبوالمحاسن
6-القلقشندى
7-إبن إياس
8-كواتريمير
9-ويل
10-لين بول
11-كازانوفا






























11-المماليك الجراكسة
1382-1517م

إختلفت المملكة الثانية لسلاطين المماليك عن الأولى، وبشكل أساسى ، فى العرق وفى غياب أى تتابع وراثى، كالذى تأسس تدريجياً فى المملكة الأولى فى بيت قلاوون. كان كل السلاطين البرجية من الجنس الجركسى ، بإستثناء خشقدم وتيموربغا، فقد كانوا من أصل إغريقى، كما لم يستطع أى منهم تأسيس مبدأ الحكم الوراثى فى عائلته. لقد كانوا فى الواقع مجرد أمراء كبار أكثر منهم ملوكاً ، بالمعنى المطلق المعروف فى الشرق. لم يكن السلطان الجركسى سوى أمير كبير إنتخبه زملائه المماليك ، معتمداً فى ولايته على مهارته فى إدارة الأقلية العسكرية ، التى كانت تمثل السلطة الحقيقية فى المملكة. كان نجاحه أو فشله يعتمد إلى حد كبير على براعته أو ديبلوماسيته ، وبشكل أكبر على كرمه وسخائه، وعلى الإنقسامات بين مجموعات المماليك المختلفة. كانت كل مجموعة من أتباع أى سلطان ، وبعد وفاته ، تشكل حزباً متميزاً يعرف بإسم سلطانه ، كالأشرفية والناصرية والمؤيدية والظاهرية، تحفزها روح قوية من الزمالة والإنتماء، وتصميم على الكسب والإحتفاظ بأكبر قدر ممكن من السلطة والثروة. وبالمناورة مع هذه الأحزاب، سواء بتكوين التحالفات أو بتغذية الصراعات، وبالخديعة والرشوة، كان يمكن لأحد الأمراء الكبار أن يكافح من أجل أن يصبح سلطاناً، ولكن وعندما يصل إلى العرش ، فلم يكن يجد نفسه سوى الأفضل قليلاً من ناخبيه التابعين ، والذى نادراً ما مارس عليهم أى سلطة حقيقية. وإذا ماإحتفظ بالعرش حتى وفاته ، فقد كان إبنه يتولى بعده لأشهر قليلة فى العادة، ليس مراعاة لأى تقليد وراثى يعود إلى زمن سابق ، بقدر الهدف فى أن يشكل ذلك حاجزاً بين الأحزاب الطموحة للأمراء المتنافسين. كان الإبن يحتفظ بالعرش دافئاً ، بينما يتصارع كبار الأمراء على الوصول إليه، وعندما يكسب الرجل الأفضل ، فقد كان يتم التخلص من ذلك الميزان الدافئ. وكقاعدة فقد كان كان يتم وضعه فى إقامة جبرية محترمة، أو حتى يُسمح له بالحياة فى حرية وعلانية فى أحد المدن المصرية، وكان من النادر قتله، تبعاً للعادة القديمة. ومن الثلاثة والعشرين سلطاناً لهذه المملكة، غطى حكم ستة منهم حوالى 103 عام من مجموع سنوات الحكم البالغة 134 ، كما غطى حكم تسعة منهم وهم برقوق وفرج وشيخ وبرسباى وجكمق وإينال وخشقدم وقايتباى وقنصوة الغورى نحو 125 عام، تاركين بذلك تسعة سنوات فقط للأربعة عشر سلطان الآخرين.
إنه مع هؤلاء السلاطين التسعة يملك التاريخ الكثير ليقوله، فقد كان الباقون تافهين، لكن هؤلاء التسعة كانوا رجالاً متميزين، كما يؤكد ذلك نجاحهم فى كسب العرش والإحتفاظ به لفترة ثمانية، وستة عشر، وحتى ستة وعشرين عاماً. لم تكن قدرات عادية تلك التى يحتاجها أى سلطان كى يملك حتى قليل من السلطة على الأمراء المتنافسين والمماليك المشاغبين ، لأى فترة من الزمن. ومع ذلك ، فقد كانت قدراتهم ، أندر من تلك التى يملكها الملك المحارب. فغالباً ماصارعوا طريقهم إلى العرش على جثث المنافسين، ولكن بمجرد أن يصلوا إليه ، فنادراً ماكانوا يقودون جيوشهم فى الميدان ، وكان الناصر فرج هو السلطان الجركسى الوحيد، تقريباً، الذى كان قائدأ عسكرياً فعلاً . لقد كان العديد منهم ، مثل برقوق وشيخ وجكمق ، وقايتباى ، بالإضافة إلى أصحاب فترات الحكم القصيرة مثل ططر وتيموربغا، شديدى الإرتباط بالأدب وبدوائر المثقفين، وكانوا مسلمين ملتزمين وأحياناً حتى متشددين، و مازلت كثير من منشآتهم الدينية، ومساجدهم وكلياتهم ، ومستشفياتهم ، ومدارسهم، تحمل شهادة بليغة على حسهم الجمالى. وربما كان البناء الثمين لتلك التحف المعمارية الرائعة مثل مساجد برقوق وقايتباى تهدف للتكفير عن كثير من أفعال البربرية والقمع التى كان سلاطين الجراكسة مسئولين عنها. فقد جعل برقوق منافسه منطاش يوضع تحت الإستجواب من أجل أن يكشف عن كنوزه المخفية ، حيث كُسرت أطراف الأمير المسكين، واحدة فى أثر الأخرى، ثم أحرق بالنار وعُذب ببراعة شيطانية، ولكن كل ذلك لم يفيد، وفى النهاية تم تخليصه من عذابه ، وإستعرضت رأسه على رمح من شوارع المدن السورية ، حتى باب زويلة فى القاهرة. وقد سُمر متآمرون آخرون إلى سرج جمل، وإستعرضوا فى الشوارع حتى الموت. وعن مثل تلك الأفعال فإن مدرسة برقوق الجميلة وضريحه الضخم ، كانت مجرد تكفيراً صغيراً. ولقد ضاهى خلفائه قسوته الوحشية.
لقد عانت مصر تحت حكمهم بشكل مأساوى فعلاً. حيث أنتجت الصراعات الدائمة للأحزاب المنقسمة للمماليك، وقتال الشوارع والفجور المباح للجند المسيطرين، حكماُ من الرعب والإرهاب. لم يكن لدى المماليك بالطيع أى تعاطف مع السكان المنكوبين، حيث كانوا جميعاً أجانب، ولم يكونوا بالضرورة من الجراكسة فقط ، ذلك أن برقوق وبعد مؤامرة بين أتباعه الجراكسة، قام بجلب مماليكه من العبيد الإغريق والأتراك والمغول. إن حجم هؤلاء المرتزقة المؤذيين ربما يمكن تقديره من حقيقة أن برقوق نفسه قد إشترى نحو 5000 منهم ، وأنه عند قمع أحد ثورات البدو والفلاحين فى مصر العليا والسفلى بواسطة نحو 7000 مملوك إنتشروا فى البلاد، فإن رعب هذه الحادثة قد فاق الخيال.
كان الجنود فى غاية الفساد لدرجة أنه حتى تحت حكم برسباى، أقوى سلاطين الجراكسة ، لم يكن من الممكن السماح للنساء بالظهور فى الشوارع ، ومُنعت مواكب الأعراس ، وكان يتم إعادة النساء التى تحاول حضور الجنائز أو زيارة المقابر، بالقوة ، خشية الإختطاف. لم يكن الفلاحون يتجرأون بإحضار منتجاتهم وماشيتهم إلى أسواق القاهرة ، خشية من إستيلاء المماليك عليها ، أو شراء الحكومة لها بسعر إجبارى لتموين القصر ، والذى كان يحتاج فى أيام برسباى لنحو 1200 رطل من اللحوم يومياً. كانت الحكومة فاسدة عديمة الكفائة، وكانت العدالة تُستحق لمن يدفع أكثر. ففى حكم المؤيد سرق شيخ الإسلام أموال الأوقاف، وكان فارسياً من هرات لايجيد العربية، وقد إكتشف جهله فى أحد المناظرات العامة فى مسجد المؤيد ، وتم عزله. وفى حدود نفس الوقت فى الإسكندرية قامت جماعة الصيادين بالإستيلاء على قوة القانون لنفسها ضد قامعيهم ، وقاموا بحلق أحد جوانب وجه نائب الوالى ، مثل رجال أريحا فى العهد القديم ، وإستعرضوه فى الشوارع على جمل ، يرافقه المغنون والموسيقيون، ثم قتلوه بعد ذلك. وقد جعلوا الوالى نفسه يقف عارياً أمام أحد القضاة، وضربوه حتى الموت. ولكن مثل ذلك التنفيذ الناجح لقانون العامة كان نادراً، وكقاعدة فقد كان الناس مجبرين على المعاناة بدون تعويض أو إنتقام. كانت البلاد فى حالة من الثورة الدائمة، خاصة فى أماكن إستقرار البدو، وكانت الضرائب المجحفة ، ومصادرات الحروب، والفوضى العامة، وعدم الأمان على الحياة والممتلكات، التى كان يضاعف منها الطاعون والمجاعة ، تدفع الناس إلى اليأس. لكن التمردات كانت تؤدى فقط إالى معاناة أكبر، وإنتقامات وحشية وبطش دموى شديد من المماليك الأشرار. وقد قيل أن عدد السكان فى زمن السلطان فرج ، قد إنخفض إلى ثلث العدد المعتاد.
كان السلاطين بلا قوة حقيقية لكبح جماح حرسهم الخاص. وقد حدثت واحدة من أكبر التجاوزات المشار إليها فى عهد المؤيد شيخ ، والذى كان شخصياً رجلاً تقياً مثقفاً، وموسيقياً بارعاً، وشاعراً وخطيباً، دقيقاً فى مراعاة قوانين عقيدته، بسيطاً متواضعاً فى لباسه وفى مزاجه الحياتى، بادياً فى أداء كل الطقوس الدينية كمسلم بسيط بين رفاقه المتعبدين، مرتدياً الصوف الأبيض العادى فى النحيب على ضحايا الطاعون الذى ضرب البلاد فى عهده. ولم ينفق على نفسه سوى 400000 دينار على المسجد الذى بناه إلى جانب أحد السجون، حيث كان قد عانى الأسر، وتظهر مستشفى وبعض المؤسسات الأخرى طبيعة روحه الخيرية. وبرغم كل ذلك، فلم يكن له أى سيطرة على وزرائه أو على الناس، ورغم أنه كان يجلد المعتدين، فلم يكن قادراً على حماية المعتدى عليهم. ولقد نُسيت تقواه فى خضم تردده ، كما غلبت تجاربه الغير ناجحة فى مسألة العملة على فضائله الأخرى ، وعندما مات فى الثانية والخمسين من العمر، وبرغم وجود أكثر من مليون دينار فى خزائنه ، فقد تم دفنه بلا مشيعين، وبلا كفن ، وبلا حتى منشفة لغسل الجسد، وغلب هم التفكير فى ولاية الحكم ، على أى حزن على الميت.
كان خشقدم ، السلطان التالى ، يتبع الجنس المتدنى لإغريق العصور الوسطى، وقد أدرك بصراحة إستحالة السيطرة على خدمه الخاصين، وحول فسادهم وعنفهم إلى مصلحته الشخصية. فلعب بجماعاتهم ضد بعضهم البعض ، بالظاهرية ضد الأشرفية، أو الناصرية ضد المؤيدية، مضعفاً قواهم ، مخلياً المسرح لمماليكه الفاسدين المشاغبين فقط، والذين قتلوا وإغتصبوا ونهبوا كما يحلوا لهم. لقد عرف هذا الإغريقى الداهية كيف يستفيد إلى اٌقصى حد من شيطان الظلم. كانت وظائف الدولة تُباع علانية، وقد دفع والى طرابلس 45000 دينار كى يرقى إلى والى دمشق، وتم إبتياع وظيفته الخالية من قبل أمير آخر بمبلغ 10000 دينار، بينما بيعت ولاية صفد الرخيصة بمبلغ 4000 دينار. والأسوء من ذلك ، فقد كان خشقدم يأخذ رشاوى من المماليك لإمتياز تعذيب وقتل خصومهم الشخصيين. وقد تم جلد وتعذيب وفى النهاية إعدام وزير غير مشهور بدون محاكمة بعد أن رشى الأعداء السلطان بمبلغ 7500 دينار. وكأنه قد جعلهم يدفعون من أجل ذلك السرور. وعندما كانت تنقصه الأموال كان يقوم بزيارة رسمية سريعة لأحد النبلاء الأغنياء، وقبل أن تنتهى الزيارة رسمياً، يكون المضيف سئ الحظ ، قد تم نهبه تماماً.
وبرغم الشغب ، والمؤامرة الشخصية، والتمرد، والحروب الأهلية المتكررة ، والصراعات الدائمة، والفساد المزمن، فإن السلاطين الجراكسة ومماليكهم، كانوا، وبشكل واضح، يمتلكون موهبة الحفاظ على الذات، ويعرفون كيف يحتفظون بصراعاتهم بينهم دون السماح للغرباء بالتدخل. وبرغم سوء حكومتهم وتحاسدهم القاتل، فقد كانوا جنوداً رائعين، ولذلك فلم يستطيعوا الإستمرار فى الإحتفاظ بمصر فقط ، وكذلك سوريا بشكل عام، لحوالى قرن وثلث من الزمان، ولكن أيضاً هزيمة غزو ساحق والعديد من الهجمات الصغيرة الأخرى . فعندما كان كل غرب آسيا يرتعد من صدمة غزوات تيمور لنك الهائلة، تشجع مماليك مصر وهزموه ، رغم أن الموقف السياسى وقت إقترابه كان غير مناسب ، وبشكل إستثنائى ، للمقاومة الصلبة.
كان برقوق، أول السلاطين الجراكسة، قد خلع فعلاً آخر سلاطين المملكة البحرية ، السلطان الطفل حاجى، بدون صعوبة، وقُبل كسلطان فى كل أنحاءوسوريا. ولكن بعد سنة من ذلك التاريخ، إهتزت سلطته بسبب مؤامرة لإقامة الخليفة المتوكل مكانه( من سلسلة الخلفاء العباسيين المقيمين فىى القاهرة ، منذ أن أحضر بيبرس أحد أبناء البيت العباسى بعد سقوط بغداد، وإقامته خليفة فى القاهرة ليكتسب منه الشرعية)، ورغم أنه قد تم قمع المؤامرة بمنتهى القسوة، فإن السخط الذى كان قد إنتشر إلى شمال سوريا، قد إزداد بسرعة. وقام المتمردون بقيادة منطاش ويلبغا، وولاة ملطية وحلب ، يساندهم المغول والتركمان، على الحدود الشمالية، بسحق الجيش المصرى بالقرب من دمشق ، ودخلوا العاصمة السورية، وزحفوا على القاهرة، حيث كان برقوق الذى فقد كل حضور العقل ، وبعد إلغاء كل الضرائب، قد سلح العامة وحصن الشوارع وتخندق بالقلعة ثم أجهش بالبكاء وإختبأ فى دكان أحد الخياطين.
نهب المتمردون القاهرة ، وأعادوا إقامة الطفل حاجى على العرش الإسمى، لكنهم إختلفوا فيما بينهم بعد ذلك، ومن سطح مسجد السلطان حسن، وشرفات القلعة المقابلة ، ضرب منطاش ويلبغا بعضهما البعض، ومهدا بذلك الطريق للثورة المضادة، التى كان برقوق يعدها فى سوريا. فبعد هربه من قلعة الكرك، جهز برقوق جيشاً، ودحر المتمردين بالقرب من صرخد، وأخذ حاجى والخليفة أسرى، ودخل القاهرة منتصراً. وخرجت الحامية والناس للترحيب به، يحمل اليهود توراتهم والمسيحيون أناجيلهم، وأضيئت المشاعل وفُرشت سجاجيد الشرف، وتم خلع السلطان الصغير حاجى مرة أخرى، ولكن سُمح له بالحياة فى رغد فى القلعة حتى وفاته سنة 1412م، رغم المشاكل التى سببها بوحشيته المتناهية مع جواريه، والذى كان يحاول إخفاء صرخاتهم فى ضجيج الأغانى والعربدة. وشُغلت السنتان التاليتان فى القضاء على المتمردين بقيادة منطاش فى سوريا، وبصعوبة كان ذلك قد تم عندما كان غزو تيمور يلوح مهدداً فى الأفق.
إستولى تيمور على بغداد فى أغسطس 1393م، وإجتاح ميزوبوتاميا-العراق- سنة 1394م، ضاماً أقاليم ، مثل ماردين، التى كانت تابعة لبرقوق، ومن هنا أصبح فى صدام مباشر مع مصر. لم يكن برقوق جندياً شجاعاً، وقد عاش فى خوف من الإغتيال، لكنه أظهر موقفاً ثابتاً فى وجه الغازى. إنضم برقوق إلى أمراء الشمال، برهان الدين أمير سيوس، قرا يوسف زعيم قبيلة الشاه السوداء التركمانية، تقتمش ، خان القبيلة الذهبية، وبايزيد، السلطان العثمانى، فى عصبة مقاومة عامة. وعندما أرسل تيمور بعثة إلى القاهرة، ظاهرياً لفتح مفاوضات سلمية، قام برقوق ، وفى شكه من دوافعه، بإعدام المبعوث. ومن أجل إظهار المزيد من تعاطفه مع ضحايا عدوان تيمور ، فقد دعى سلطان بغداد المطرود، أحمد الجلير إلى القاهرة وإستقبله بتشريف خاص. وفى الرد على رسالة تهديد من تيمور، إستخدم برقوق لغة مساوية فى الغطرسة، وقارن بإزدراء بين أسلوب سكرتارية الغازى الطنانة، بصرير الكمان السئ. وإحتشد الجيش المصرى فى قوة ضخمة وزحف على دمشق، ومنها إلى حلب ، ثم إلى البيرة على نهر الفرات، لكن تيمور فى ذلك الوقت كان منهمكاً تماما فى الصراع مع توكتمش فى جورجيا، ومن ثم تأجلت الأزمة. وتجنبت سوريا الغزو مؤقتاً ، ومات برقوق دون أن ينازل العدو، راضياً تماما لرؤية حلفائه يهاجمون، حيث كان يشعر بخوف من قوة العثمانيين الصاعدة ، أكثر من تيمور نفسه. كان قد تجاوز الستين من العمر، وكان قد حكم مصر فعلياً منذ 1378م، بحكمة وإعتدال بشكل عام ، وبرغم بعض الإعدامات البربرية. وقد ألغى الضرائب الأكثر فداحة، وكان محباً للثقافة وبناءً عظيماً. وقد بُنى مسجد مقامه بقبتيه فى الجبانة الشرقيه خارج القاهرة بواسطة إبنه السلطان فرج الذى دُفن هناك أيضاً، ولكن المدرسة الجميلة فى بين القصرين، والتى رممها محمد هرز بك مؤخراً، فتعود إلى السنوات الأولى من حكمه، وتدل على ذوقه فى الفن وحماسه للتعليم الدينى.
ومن أبناء برقوق الثلاثة، خلفه أكبرهم، الناصر فرج، كانت أمه إغريقية ، وكان إسمه الأصلى بلغاك، بمعنى المصيبة، لإنه قد وُلد أثناء تمرد منطاش، ثم تم تغييرإسمه إلى فرج بمعنى الفرج، وذلك بعد إنتصار برقوق على المتمردين. كان فرج فى الثالثة عشرة من عمره فقط عندما تولى العرش، لكنه لم يستغرق وقتاً طويلاً فى السيطرة على الأمور ، فمع نهاية سنة 1400م، كان فى سوريا على رأس جيش مصرى ضخم، محاولاً إيقاف الزحف الجديد لتيمور، والذى كان قد نهب حلب، وكان يهدد دمشق. وفى البداية بدا أن المصريين يدفعون الغزاة ، لكن التراجع ربما كان خداعياً، لإنه عندما هاجم المصريون، فقد تم صدهم بقوة ، ووجد فرج أن الهزيمة قد ولدت العصيان بين أمرائه، الذين كان من الطبيعى أن يرغبوا فى قائد أكثر خبرة فى مثل تلك الأزمة، فإنسحب مسرعاً إلى القاهرة، تاركاً جيشه لمصيره. إستسلمت دمشق بإتفاق ، ومع ذلك ، فقد قام التتار عديمى الرحمة بنهبها وتخريبها وإحراقها، كما قاموا بتدمير كل شمال سوريا بوحشية. وبعد حملة تيمور المنتصرة فى آسيا الصغرى، والهزيمة التامة للجيش العثمانى فى موقعة أنجورا، وافق فرج على الشروط التى طلبها مبعوثو تيمور، وأطلق سراح الأسرى، ووافق حتى على ضرب عملة بإسم الغازى. ومع ذلك فلم تُكتشف مثل تلك العملة، كما أن تيمور لم يدخل مصر أو يسيطر عليها أبداً، ومات سنة 1405م بينما كان فرج يجهز جيشاً جديداً مرة أخرى لمقاومة أى مزيد من المطالب.
ومع ذلك فقد فقد السلطان مكانته فى تلك الحوادث، ونشأ صراع قوى بين كبار المماليك، عُومل خلاله بإزدراء ، وإنتهى بهزيمته وإختفائه المفاجئ. ولحوالى شهرين جلس أخوه المنصور عبدالعزيز على العرش الخالى، ولكن أثناء تلك الفترة كان فرج قد تخلص من رعبه، وتمت إعادته إلى الحكم بواسطة الأمير يشبك. وقضى معظم الفترة الباقية من حكمه فى محاولة إسترجاع النظام إلى سوريا ، والتى أصبحت مقر الأمراء المنافسين ، حيث ذهب أحدهم ، جكم ، إلى درجة تسمية نفسه بالملك العادل، وبرغم حوالى سبع حملات منتصرة ، فقد ظلت سوريا فى حالة من الفوضى ، وهددت عرش السلطان ، السلطة المتزايدة للأمير شيخ المحمودى والأمير نوروز فى دمشق. وإنتهت الحملة السابعة بخلع الخليفة له عن العرش. وإستسلم فرج لشيخ عند دمشق على وعد بالإبقاء على حياته ، ولكن الخليفة والعلماء حكموا بموته، على أساس العادات الفاسقة التى إشتهر بها. قاوم فرج جلاديه عبثاً، وألقى بجسده فوق كومة من الروث. لقد كان سكيراً شديد الإدمان ، ولقد ذبح مماليكه وذبح حتى طليقته بيديه ( ذبحها لإنها تجرأت بالزواج بعد طلاقها منه ، فقطع رأسها بيديه ووضعها فى صينية، وهو يصيح ياقحبة كيف لمراكيب الملوك تركبها البلاصية ، ثم إستدعى زوجها وكشف له الرأس وقتله هو الآخر). ولقد عانت مصر تحت وطأة ضرائبه وتكليفاته الحربية، وقد غزا القراصنة الأوربيون الإسكندرية سنة 1403م، وطرابلس فى سوريا سنة 1404م، وكذلك بيروت وصيدا ، وكان العثمانيون يتقدمون على الحدود الشمالية.
لم تصنع عهود الحكم الخمس التالية كثيراً من التغيير فى هذا الموقف ، فقد أقيم الخليفة المستعصم كمجرد بديل مؤقت ، بينما كان شيخ ونوروز يتصارعان على مركز الرجل الأقوى، ثم تقاعد الخليفة بإرادته وبإرتياح فى أقل من ستة أشهر، عندما قبل شيخ العرش بلقب المؤيد. كانت الأحداث الرئيسية فى العهد الجديد حملتان على الحدود الشمالية، بهدف إعادة دويلات الحدود التركمانية مثل كرمان، ودولقدر، ورمضان، إلى موقع التبعية السابق، ففى سنة 1418م زحف المؤيد على أبلستين وطرسوس، وإستقبل خضوع أمرائها حتى أن كرمان قد أصدرت عملة بإسم السلطان المصرى، ولكن عند رحيله أعاد التركمان الإقليم الذى كان إستولى عليه كضمانة، وبناء على ذلك فقد قام إبنه إبراهيم سنة 1419م بالزحف شمالاً وإستولى على قيصرية وقونية ونجدة وضرب عملة بإسم المؤيد، وعين ولاة من بين أبناء العائلات التركمانية، وتم ضم إريكلى ولارندا، والتى تسمى الآن بكرمان ، وكذلك أضنة وطرسوس، ورُحب بإبراهيم فى القاهرة بحماس ، فقط ليموت مسموماً فى العام التالى ، بفعل أبيه الحاسد ، كما سرت الإشاعات بذلك. ومع ذلك فقد جنت مصر قليلاً من المكاسب فى فترات الحكم تلك. لم يكن المؤيد قادراً على السيطرة على المماليك، ومن ثم فقد عانى الناس يشدة، وإنتهى الحكم القصير لإبنه أحمد ووصاية ططر، ثم حكم ططر الأقصر نفسه، والذى تبعه إبنه محمد لبضعة أشهر تحت وصاية برسباى، كالعادة بإعتلاء الوصى نفسه للعرش.
حكم الأشرف برسباى لأكثرمن ستة عشر عاماً ، ورغم أن حكمه كان قمعياً بشكل إستثنائى، وعانت مصر بشدة من جراء إحتكاراته التجارية، ومن تجاوزات مماليكه والندرة وإرتفاع الأسعار، والتى كانت طبيعياً ترتبط بحالة من الوباء العام وإنعدام الأمن، فقد كان قوياً لدرجة لم تمكنه فقط من منع التعديات على أماكن سلطانه وقمع الثورات داخلها ، ولكن أيضاً لتحقيق بعض التوسع بغزو قبرص. كان القراصنة الذين يغزون سواحل مصر وسوريا، والذين لم يكونوا بالضرورة قبارصة، يستخدمون موانى قبرص كقاعدة لهم ، وطالما كانوا يجدون الملجأ هناك فقد كان من المستحيل الوصول إليهم. وفى صيف سنة 1414م قامت بعض السفن المزودة بالمتطوعين ، بالإبحار من بولاق ودمياط وطرابلس إلى قبرص، ونهبت ليماسول-ليمسون- وعادت محملة بالأسرى والغنائم. ومتشجعاً بهذا النجاح قام برسباى بإرسال أسطول من أربعين سفينة من مصر فى العام التالى، وإستسلمت ماجوسة وحاميتها الجنوية، وأحتلت لارناكا وليماسول بعد مقاومة قصيرة. وأحضر قائد الأسطول المصرى جرباش أكثر من ألف أسيراً، وكثيراً من الغنائم منتصراً إلى القاهرة. ومع ذلك فلم يكن بارسباى ينوى هذه العودة السريعة، ولكن غزواً مستمراً، وفى العام التالى ، وبعد رفض توسط إمبراطور القسطنطينية ،أرسل أسطولاً كبيراً إلى قبرص، مزوداً جزئياً بالمماليك ، وبالمتطوعين المغامرين فى الأغلب. ونزلت القوات الجديدة فى ليماسول والتى سقطت فى أيام قليلة برغم تحصيناتها المتجددة، وزحفت القوات على لارناكا، يصاحبها الأسطول على طول الساحل. قتل الملك جيمس ملك لوزيجنان المبعوث الذى أرسل ليدعوه للإستسلام، وتقدم بحراً وبراً ضد الغزاة. وفى مواجهة عند شيروسيتيوم أضاع القبارصة مكسبهم الأول ، وقام المماليك ، بعد أن جددوا المعركة، بأخذ الملك وكثيراً من فرسانه أسرى، قبل أن يظهر الأسطول المسيحى. وسقطت نيقوسيا بعد ذلك وتم إخضاع الجزيرة. كانت القاهرة مزدانة عند عودة الغزاة بعد هذه الحملة القصيرة الحاسمة. وحُمل تاج قبرص والرايات الملكية فى موكب نصرعبر الشوارع يصاحبها نحو ألفى أسير. ودخل الملك جيمس نفسه القلعة، ومثل فى حضرة السلطان المحاط بحاشية فخمة وبسفراء الباب العالى العثمانى، وأمراء تركمان آسيا الصغرى، وممثلو القبائل العربية ، وشريف مكة، وملك تونس. عارى الرأس مكبلاً بالسلاسل قبل الملك جيمس الأرض أمام برسباى ثم ترنح ، وفى الضغط من أجل الفدية أجاب ، ليس لدى شئ سوى حياتى، والتى يمكن أن يتصرف فيها السلطان كما يشاء. وفى تهديده بالموت لم يظهر أى خوف. ومع ذلك فقد توسط مجلس فينيسيا وتعهد بفدية من مائة ألف دينار مقدماً ، ومثلها بعد عودة الملك إلى قبرص، وتم إطلاق سراح الملك، وسُمح له بمنزل ومؤونة مناسبة. وتجول جيمس فى العاصمة على جواد مسرجاً فخماً ، وزار الأسواق والكنائس، ثم غادر مصر فى النهاية مع السفراء الروديسيين الذين حضروا لتوقيع معاهدة مع السلطان الرهيب، الذى تجرأ بوضع يده على قبرص. وتقررت جزية سنوية ، مقدارها غير مؤكد ، ولكن ربما كانت تتراوح بين 5000 و8000 من عملة الدوكات ، كان على الملك أن يدفعها كتابع لمصر.
إستمرت قبرص كتابع لمصر حتى نهاية دولة المماليك، وعندما خلف جون الثانى جيمس سنة 1432م جدد تعهدات سلفه، وهناك خطاب من السلطان إينال إلى جون يشكره فيه على الأفراح التى أقيمت فى قبرص إحتفالاً بإعتلاء السلطان الجديد عرش مصر، ويعفيه فيه من متأخرات الجزية، وعند موت الملك سنة1458م ساند إينال يعقوب إبن جون ضد إبنته الشرعية شارلوت ، زوجة لويس سافوى، وأرسل حملة من ثمانية وأربعين سفينة إلى قبرص لفرض مطلبه. لم تنجح الحملة تماماً فقد عانت القوات من الحمى، وتُرك يعقوب مع قوة مصرية صغيرة مسيطراً على معظم الجزيرة ، بينما صمدت شارلوت خارج سيرين/ كيرنيا، يساندها الجنويون وفرسان رودس. ولبعض الوقت سيطر غانى بك الأبلق والقوة المصرية على الملك الجديد، ولكن يعقوب تخلص منهم فى النهاية، ولكن بدون رفض دفع الجزية والخضوع لخشقجدم ، سلطان مصر الجديد.
وفى هذا السياق يمكن أن نضيف أن جكمق، وفى غيرته من إنتصار سلفه برسباى فى قبرص، قد قام بمحاولة لإحتلال رودس. فى أغسطس 1440م حيث أبحرت خمسة عشر سفينة حربية من بولاق ، مزودة بالمتطوعين بشكل أساسى، وبعد التزود بالمؤن فى قبرص تقدمت إلى ميناء الآية الآسيوى ومن هناك إلى شاتوروكس، وكانت جزيرة تابعة لفرسان القديس جون، والتى سقطت فوراً. ومع ذلك فقد كانت رودس ، التى حذرها جواسيسها فى مصر ، مستعدة للهجوم، وإستطاع أسطول الفرسان صد المصريين بخسائر فادحة. وتكررت المحاولة أكثر من مرة، وفى يونيو 1444م، أبحرت قوات كثيفة من بولاق ، تحمل ألفاً من مماليك السلطان ، بالإضافة إلى ثمانية عشر ألف متطوع ومجند من طرابلس ونجحت فى النزول فى رودس ، ولكن المدينة نفسها قاومت كل محاولات إحتلالها، وبعد أربعين يوماً من الحصار عادت الحملة إلى القاهرة فى أكتوبر ، وتم توقيع معاهدة صلح.
كان غزو قبرص هو الإضافة الوحيدة للإمبراطورية المصرية خلال حكم المماليك الجراكسة، ولم يكن ذلك هو العمل الوحيد الذى ميز فترة حكم برسباى عن باقى فترات المملكة. فقد أولى إهتماماً خاصاً للتجارة الهندية ، وإجتهد لإنتزاع مزيداً من الأرباح منها أكثر من أى من أسلافه. وفى سنة 1422م، حدثت إنطلاقة جديدة للتجارة، عندما قام قبطان بحرى من كلكتا بالإبحار بعد خليج عدن ، حيث جعلت إتاوات ملوك آل رسول من التجارة المربحة أمراً مستحيلاً ، ووصل إلى جدة ، ميناء مكة. وهناك وجد نفسه وقد خُدع بأسوء مما حدث فى عدن ، وبناء على ذلك فقد قام فى العام التالى بالإبحار لما بعد عدن وجدة وباع حمولته فى دهلق وسواكن. لكنه ظل غير راضى عن تلك الأسواق فقرر فى العام الثالث النزول فى ينبع، ميناء المدينة، والذى كان تابعاً لوالى مصرى. نصح هذا الوالى القبطان بالمحاولة فى جدة مرة أخرى، ووعد بحمايته من أى إبتزاز، وقد أسعدته المعاملة هناك فعلاً حتى أنه فى سنة 1425م ، أرسل أربعة عشر سفينة بحمولات ضخمة إلى جدة، وفى سنة 1426م وصل إلى هذا الميناء حوالى أربعين سفينة من الهند وفارس، دافعة جمارك تقدر بحوالى 70000 دينار، ذهب معظمها إلى الخزانة المصرية. وغير راضين بذلك ، بحث المصريون عن زيادة أرباحهم بمزيد من الجمارك بالإضافة إلى العشر المتعارف عليه، فبدأت التجارة فى العودة إلى عدن. وعندئذ عاد برسباى إلى ضريبة العشر الموحدة على كل الواردات التى تنزل فى جدة ، ولكن ضاعف الجمارك على كل البضائع القادمة من عدن بهدف إنعاش التجارة. وتم حتى مصادرة البضائع القادمة من مناطق الرسوليين - فى اليمن، وأصبح لزاماً على الحجاج دفع ضرائب جمركية على مايحضرونه معهم من مكة.
ومع الأسف فلاتوجد إحصائات موثوقة توضح نتائج هذه السياسة. لم تكن الجمارك مقصورة بأى حال على موانئ الإستيراد، وكان هناك عدد من الإحتكارات الحكومية، وكان لابد من إحضار كل السكر والفلفل والخشب والأشغال المعدنية إلى مخازن الحكومة حيث تباع بالأسعار التى تقررها مع دفع الجمارك. كانت حمولة الفلفل التى تساوى 50 دينار فى القاهرة تباع فى الإسكندرية للأوربيين ب 130 دينار. وعندما إعترض الفينيسيون من خلال مجلسهم، ولم يحصلوا على أى نتيجة، قطعوا العلاقات التجارية وأرسلوا أسطولاً إلى الإسكندرية لإعادة تجارهم. وهنا ثاب برسباى إلى رشده ومنح فينيسيا شروطاً أفضل، محتفظاً فقط بإحتكار الفلفل. وكذلك إعترض ملك أراجون وغشتالة، وأرسلوا طوافات لأسر السفن المصرية على الساحل السورى. وبجانب تدخله فى التجارة ، فقد تدخل برسباى أيضاً فى موضوع العملة، مغيراً علاقات الذهب والفضة، وكانت العملات الأخيرة قد تم تخفيض قيمتها بشكل إستثنائى فى عهد سلاطين المماليك ، فقام برسباى بعدم الإعتراف بقيمة العملات الأجنبية منها وإعادة تقديرها، مما سبب إزعاجاً كبيراَ وخسائر فادحة للتجار. وفى عهد جكمق نجد إستمرار الإحتكارات الملكية والجمارك الثقيلة، لكن الجمارك على الصادرات الهندية فى جدة ظلت على العشر. حاول إينال إصلاح العملة الفضية المنقوص قيمتها ، لكن تغييراته لم تحظى بالقبول. وذهبت العملة من سئ إلى أسوء، وعندما بدأت إمبراطورية المماليك فى الإضمحلال وأصبح لزاماً عليها الحرب من أجل مجرد الحفاظ على بقائها ، تصاعد إرهاق الضرائب.
مات برسباى غير مأسوف عليه، فقد كان حاكماً ظالماً مستبداً، ولم يكن البهاء الخارجى لمملكته دليلاً على رخائها. لقد أسعد غزوه لقبرص مماليكه، وأغنتهم إحتكاراته، لكن الناس عانت فى عهده. كان واحداً من آخر أعماله هو الأمر بإعدام طبيبين ، لإنهما لم يستطيعا شفائه، وحدث ذلك فى وجه إحتجاج الأمراء، الذين كانوا يحترمون الرجلين الطيبين. ومع ذلك فقد كان يحمل شخصية المسلم التقى، يصوم مرتين فى الأسبوع، بالإضافة إلى خمسة أيام خاصة خلال الشهر، يبتهج عندما يستمع للمؤرخ العيونى وهو يقرأ له بالتركية فى بعض الأمسيات. وسرعان ماسمح إبنه العزيز، ذو الرابعة عشر من العمر، بسلطنة نائبه نظام الملك جكمق ، الذى كان يوماً من عبيد برقوق، وضابطاً صغيراً فى عهد المؤيد، وضابطاً كبيراً فى عهد ططر، ووزيراً أول فى عهد برسباى، والتى كانت حكومته معتدلة بالنسبة لأسلافه، كما كانت شخصيته طيبة. كان يراعى قوانين القرآن بدقة، لايلمس الطعام الحرام، يحرم الخمر، ويمنع الموسيقى الدنسة. وقد دفعته صرامته الدينية لإضطهاد اليهود والمسيحيين، وفرض الفوارق المالية القديمة. وعلى عكس برسباى ، فقد كان ملماً بالعربية مثل التركية، وقد درس اللاهوت العربى، وكان مغرماً بمجتمع المثقفين. وقد مات فى نحو الثمانين من العمر، ورغم حياته البسيطة فلم يترك سوى ثروة بسيطة لإبنه، المولود من أم إغريقية.
إن هذا الإبن، المدعو المنصور عثمان، والذى أعلن سلطاناً خلال مرض أبيه الأخير، قد تم خلعه خلال شهر ونصف، بواسطة الأشرف إينال، وكان رجلاً عجوزاً يتسم بالهدوء واللين، كان يستطيع كتابة إسمه بصعوبة، وقد تكدر حكمه بمنافسات وفوضى المماليك المتواصلة. لم يكن إبنه المؤيد أحمد كفؤً أبداً لموقفه الصعب وسرعان ماتنازل لصالح أحد ولاته ، الظاهر خشقدم، ذو الأصل الإغريقى، والذى إشتهر حكمه بالفساد الكبير، والذى وكالعادة أزيح إبنه الظاهر يلبغا الذى إشتهر بالمجنون خلال شهرين بواسطة حزب من المماليك لإتاحة الفرصة لمرشحها، وكان إغريقياً عجوزاً آخر هو الظاهر تمربغا. كان السلطان الجديد على قدر عال من الثقافة، ضليعاً فى فقه اللغة والتاريخ واللاهوت ، وقد قبل العرش بكثير من التردد.
كانت خطواته الأولى هى إطلاق سراح الأمراء المسجونين للأحزاب المختلفة ، وكذلك السلطانين السابقين أحمد وعثمان، ومحاولة تحقيق المصالحة بين كل الأحزاب. كانت نتيجة نياته الحسنة أنه وجد نفسه بدون أصدقاء، ولا بأموال لشرائهم. وفى فقدانهم للصبر مع مثل هذا الرئيس الغامض، إندفع المماليك الى القلعة، وإعتقلوا السلطان المثقف وأقاموا بدلاً منه خاير بك بلقب العادل. ومع ذلك فلم يكن لدى خاير بك وقت سوى لنهب حريم سلفه، عندما قام أمير أقوى منه، هو قايتباى، بحشد مماليكه وخلع مغتصب العرش، وإغتصبه لنفسه. أما تمربغا الذى تم خلعه مرتين فى نفس اليوم، فقد عوُمل بمنتهى الإحترام وسًمح له بالحياة فى حرية وراحة فى دمياط.
تمتع الأشرف قايتباى بأطول فترة حكم تمتع بها سلطان مملوكى منذ عهد الناصر محمد بن قلاوون، وقد حكم لحوالى تسعة وعشرين عاماً وكان الأكثر نجاحاً وولعاً بالحرب فى ذرية المماليك الجراكسة. وقد شق طريقه تبعاً لأسلوب المماليك. كان برسباى قد إشتراه بخمس وعشرين جنيه، حوالى 50 دينار، ثم أعيد بيعه الى جكمق، وجعله إينال ملازماً ، ثم جعله خشقدم كابتن وأخيراًعقيداً، حتى أصبح قائداً للجيش فى عهد تمربغا. لقد كان مبارزاً خبيراً ، ومتمرساً فى الرماية ، وقد أعطته مسيرته العملية خبرة ومعرفة بالعالم، كان يملك الشجاعة، والحسم والحكمة، والطاقة والعزيمة. وقد سيطرت شخصيته القوية على مماليكه، الذين أخلصوا له، كما أرهبت منافسيه. كانت قوته البدنية تستعرض أحياناً فى جلد رئيس مجلس الدولة أو بعض كبار الموظفين الآخرين بذراعه نفسه، بهدف إنتزاع الأموال من أجل الخزانة. كانت مثل هذه المساهمات والضرائب الإستثنائية ضرورية تماماً للحروب التى كان مضطراً للدخول فيها. فلم يفرض على الأرض الزراعية الخمس من دخلها فقط، ولكن أيضاً عشراً إضافياً، بما يساوى نصف درهم عن كل أردب. وتم إعتصار أغنياء اليهود والمسيحيين بقسوة شديدة. كان هناك كثير من إنعدام الإنسانية والبربرية، كان الأبرياء من الناس يجلدون، حتى الموت أحياناً ، وقد تم سمل عينى الكيمائى على المرشوشى وقطع لسانه، لإنه لم يستطع تحويل نفايات المعادن إلى ذهب.
كان السلطان مشهوراً بالبخل، ومع ذلك فإن قائمة أعماله العامة، ليس فقط فى مصر، ولكن فى سورية والجزيرة العربية أيضاً ، تظهر أنه قد أنفق الدخل على أعمال رائعة. إن مسجديه فى القاهرة، ووكالاته، هى من بين أروع نماذج زخرف الأرابيسك الصافى، المرتبطة بأنقى عمارة إسلامية. وقد إجتهد فى إصلاح وترميم آثار أسلافة المتكسرة، مثل العديد من النقوش فى المساجد، والمدارس، والقلعة، وكثير من الأبنية الأخرى فى القاهرة. لقد كان مسافراً دائما، وقد سافر إلى سوريا والفرات والوجه القبلى والبحرى فى مصر، بالإضافة إلى أداء فريضة الحج إلى مكة وأورشليم القدس، وحينما ذهب ترك ورائه آثاراً على مروره فى شكل طرق جيدة وكبارى ومساجد ومدارس وتحصينات أو بعض المنشآت الدينية أو الضرورية الأخرى. وبإستثناء حكم الناصر محمد بن قلاوون، فلا يوجد عهد فى قائمة عهود سلاطين المماليك الطويلة، أكثر خصباً فى البناء المعمارى أو فى صناعات الفنون الصغرى، من عهده. وقد عانى الناس من تكلفة أبنيته الكثيرة، لكن عهداً تالياً قد إعترف بجمالها الذى لايضاهى.
ومع ذلك فقد كان لدى قايتباى أمور أخرى للتعامل معها ، أخطر من الإنجازات المعمارية. كانت الحدود الشمالية لسورية قد أصبحت منذ زمن طويل شوكة فى جانب سلاطين المماليك، ليس فقط بسبب التمرد االمزمن أو الثورات المستمرة بين تابعيهم التركمان، ولكن لإن هذه الإضطرابات كانت دائماً توفر حجة لتدخل أخطر جيرانهم، السلطان العثمانى، والذى كانت قوته على وشك الوصول إلى ذروتها بغزو القسطنطينية.
كان المؤيد وإبنه قد أخضعا منطقة الحدود المزعجة بشكل مؤقت، وقد شن برسباى حرباً ضد تركمان قبيلة الشاه البيضاء سنة ،1433 وألقى حتى الحصار على مدينة آمد فى ديار بكر، ولكن بدون نجاح. وقد صادق جكمق رؤساء المناطق الحدودية وتزوج من بناتهم ، وتلقى ولائهم ، شكلياً على الأقل، وقد إستمرت سياسته التصالحية تجاه تركمان الحدود وكذلك تجاه العثمانيين فى عهد إينال، الذى زين القاهرة لعدة أيام سنة 1453م عندما وصلت بعثة من محمد الثانى بأخبار غزو القسطنطينية، والذى حافظ على سيادة ودية، ولو إسمياً، على رئيس قبيلة الشاه البيضاء ومع دولقدر أمير أبلستين ، رغم أنه قد إضطر لإرسال جيش سنة 1456-1457م لإسترداد طرسوس وأدنه من إبراهيم ، أمير كرمان الطموح. ومع ذلك فقد أصبحت تبعية رؤساء الشاه البيضاء مضحكة عندما تبنى أوزون حسن مكيدة إحتلال المدن والقلاع المصرية، مثل كركر وخرتبرت، مدعياً إصلاح ذلك بإرسال مفاتيحها إلى القاهرة.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد كان هناك إشارات على أن العثمانيين لم يكونوا مرحبين بصداقة مصر. وقد إستخفت بعثة من محمد الثانى سنة 1464م عمداً ببعض البروتوكول المتعارف عليه. وفى الخلاف حول ولاية إمارة كرمان، إتخذ الباب العالى ومصر مواقف مختلفة، وكانا على وشك الصدام تقريباً، وفى خلاف آخر بين أخوين على دويلة دولقدر، والتى كانت عرفياً تابعة لمصر، أيد الباب العالى سراً الشاه سيوار ، المرشح الذى كانت تعارضه مصر، وهُزم المماليك بخسائر فادحة فى عينتاب، ومرة أخرى بالقرب من نهر سيحون. و لكن فى النهاية وبعد أن فقد المتمرد الدعم التركى، فقد أُجبر على الإستسلام واُحضر إلى القاهرة حيث تم شنقه، لكن مجرى الحرب قد أظهر خطر التدخل العثمانى. وإستمر أوزون حسن فى سياسة التظاهر بالتبعية لقايتباى، مرسلاً له هدايا من الجمال والدروع والعبيد الجراكسة، لكنه طالما إستمر فى الإحتفاظ بالقلاع وإعطاء سيده مفاتيحها فقط ، فإن سياسات العظمة التى كانت يتبعها ظلت مصدر قلق لقايتباى، بحيث عبر عن بعض الرضى عن هزيمته على يد محمد الثانى.
أثبتت كل هذه الصراعات الصغيرة القوة المتزايدة والتدخل المستمر للباب العالى، وإذا ماكان هناك مناسبة لتفجير هذا الخلاف، فقد كان من المؤكد أنها سوف توجد فى بعض خلافات الحدود. لكن قايتباى تعمد الإسراع بإستدعاء الصراع ، عندما رحب بالأمير المنفى جم، الأخ والمنافس لسلطان تركيا الجديد بايزيد الثانى، ولم يعامله فقط بحفاوة ملكية فى القاهرة، ولكن زوده أيضاً بالمساعدات من أجل ثورة عديمة الجدوى فى آسيا الصغرى. وعندما أصبح المنفى تعيس الحظ دمية للقوى الأوربية ، لعب قايتباى دوره فى المأساة الوضيعة، وتفاوض مع البابا على تسليم مثل هذه الملكية الثمينة وريثة العرش العثمانى، وعندما وجد أنه لاأمل فى إنتزاع مثل هذه الجائزة من القوى المسيحية ، بدأ فى مصالحة الأخوين المتخاصمين فى القسطنطينية. وفى البداية رفض بايزيد كل الإقتراحات وقام بغزو سيليشيا/كلكليا، وأستولى على طرسوس وأدنة، ولكن عندما حالف الحظ المماليك فى عدة معارك بقيادة الأمير أزبك، فى الوقت الذى كان فيه ماتيوس كورفينوس يهدد هنغاريا، وبينما كان جم ، مصدر كل هذه الصراعات ، مازال حياً فى روما، فكر الباب العالى أنه من الأفضل قبول إقتراح السلام الذى جدده قايتباى، بسبب إرهاقه من كل هذه الحملات. فشل المبعوث الأول ، ماماى، وسُجن، لكن المبعوث الثانى الأمير جنبلاط بن يشبك ، نجح فى إقناع بايزيد، وتم التوصل إلى السلام على أساس إرجاع الأتراك لمفاتيح القلاع التى إستولوا عليها.
غامت السنوات الأخيرة من عهد قايتباى، ليس فقط بسبب الضرائب الثقيلة والسخط الدائم بسبب الحرب، ولكن أيضاً بسبب طاعون إستثنائى شديد القسوة قضى على 12000 إنسان فى يوم واحد فى القاهرة، وقتل ثلث المماليك، وسلب السلطان نفسه زوجته الوحيدة وإبنة فى نفس اليوم. وتبع الطاعون ندرة ومرض فى الماشية، ولكى يزيد البؤس العام ، إشتعل صراع عنيف بين حزبين كبيرين من المماليك. رفع السلطان العجوز أعلامه على بوابة القلعة، ونادى على أنصاره للتجمع، وتمكن من قمع الشغب مؤقتاً، لكن التآمر والتحاسد إستمر، وفى النهاية غلب العمر والمرض والقلق قايتباى إذ كان فوق الثمانين وتنازل عن العرش لإبنه ، ومات فى اليوم التالى.
وبعد الحكم القصير لإبن قايتباى المتوحش عديم المقدرة، وللناصر محمد-7أغسطس-1496-31 أكتوبر1498 - وللظاهر غنوش- 2 نوفمبر-1498-28 يونيو 1500- وللأشرف جنبلاط – 30 يونيو 1500- يناير 1501- وللعادل طومان باى - 20 يناير-إبريل 1501- والذى خضع تماماً لرحمة المماليك المشاغبين، أُختير الأشرف قنصوة الغورى إلى العرش، وكان رجلاً قوياً فى الستين من العمر، وعبداً سابقاً لقايتباى، وسرعان ماأثبت أن العمر لم ينقص من قوة شخصيته الطبيعية. وبسرعة أعاد النظام إلى العاصمة المضطربة، ووضع من يمكنه الوثوق بهم فى المناصب العامة، وبدأ العمل على ملء الخزانة الفارغة. لم تعرف مثل تلك الإجراءات العنيفة التى إتخذها من قبل أبداً، فقد فرض ضرائب عشرة أشهر مرة واحدة، واضعاً ليس فقط الأراضى والمحلات وباقى المصادر المعتادة قيد المساهمة، ولكن أيضاً المطاحن والسواقى والقوارب وحيوانات الحمل والتنقل، واليهود والمسيحيين وخدام القصر وحتى الأوقاف الدينية. كا فرض جمارك ثقيلة، وجرد أقرب الأقارب من الجزء الأكبر من ميراثهم. وظل على سياسة تخفيض العملة من أجل فائدة الخزانة ، والإضرار بالتجار فى نفس الوقت. كانت النتيجة دخلاً كبيراً على حساب إيذاء الناس وإفقارهم. أنفق الغورى أمواله على مماليكه الذى زاد أعدادهم بشراء المزيد منهم، وعلى بناء مسجده ومدرسته فى شارع القاهرة الذى سمى بإسم الغورية على إسمه، وعلى تحسين طريق الحج إلى مكة، ببناء إستراحات وحفرينابيع مياه، وعلى شق القنوات وقنوات جر المياه إليها، والتحصينات فى الإسكندرية ورشيد، وتجديد قلعة القاهرة، وعلى تحسين المنشآت العامة للبلاد بشكل عام. وقد حافظ أيضاً على عظمة بلاطه، وكانت خيوله وجواهره وتجهيزات مائدته ومطبخه فاخرة سخية، ورغم أنه كان بخيلاً عديم القلب للدرجة التى سمحت له بقطع معاشات الأيتام، فقد كان يمكنه أن يكون ملكياً فى عطائه للشعراء والموسيقيين.
وبإستثناء بعض التمردات العسكرية والبدوية، فلم يكن هناك الكثير من الأحداث المقلقة للسنوات المبكرة من حكمه. كانت الحملات الرئيسية فى إتجاه البحر الأحمر، حيث ظهر منافساً جديداً رهيباً هدد بتدمير تجارة الترانزيت الهندية، التى جلبت كثيراً من الثروة لمصر. كان فاسكو دى جاما قد دار حول رأس الرجاء الصالح سنة 1497م وأسس البرتغاليون أنفسهم فى كلكتا سنة 1500م ، وتحولت التجارة التى كانت تذهب إلى مصر عن طريق عدن وجدة وسواكن إلى طريق الكاب ومنه إلى أوربا، وأسر البرتغاليون السفن المصرية أو السفن التى كانت تتاجر فى البحر الأحمر. توسل ملك جوجارات وباقى القادة المحمدين فى الهند وجنوب الجزيرة العربية الى الغورى من أجل النجدة، وكانت أهمية التجارة المهددة مسألة قوية بالقدر الذى يجعله يتحرك. وفى البداية حاول مدخل ديبلوماسى عن طريق البابا لوقف تعديات الإسبان والبرتغال على المسلمين غرباً وشرقاً، وهدد بتدمير الأماكن المقدسة فى فلسطين إذا ماإستمرت هذه الإضطهادات و السرقات. أيقنت القوى الأوربية بشكل صائب، أن ذلك مجرد تهديد تافه ، ولم توليه إعتباراً، وبناء على ذلك بنى الغورى أسطولاً جديداً فى البحر الأحمر، وواجه الأدميرال حسين البرتغاليين عند سواحل شاول البرتغالية فى غرب الهند سنة 1508م وهزمهم حيث خسروا سفينة العلم وقائدهم الأدميرال لورينشو إبن الميدا. ومع ذلك فقد قام البرتغاليون بالإنتقام فى معركة ديو البحرية فى العام التالى، وهاجم ألبوكرك عدن سنة 1513م، وهكذا تحدد مصير تجارة النقل المصرية مع الهند، ومعها مصير مملكة المماليك أيضاً.
ظل من الممكن مسايرة العثمانيين طالما كان بايزيد الثانى فى الحكم، ولكن مع وصول إبنه سليم الأول، الطموح المحب للحرب، للعرش سنة 1512م، لم يعد من الممكن تجنب الكارثة االمحدقة منذ زمن طويل، فبعد هزيمة إسماعيل، أول شاه للمملكة الصفوية الجديدة فى فارس، فى معركة جالديران سنة 1514م تحول سليم جنوباً، بإتجاه سوريا ومصر. وإستولى على دويلة الحدود دلقدر، التابعة لمصر آنذاك، وأرسل رأس حاكمها إلى القاهرة، رغم أن مصر وتركيا كانا مازالا فى سلام مع بعضهما البعض. وبضم ديار بكر إقترب العثمانيون من الحدود المصرية فى سوريا والفرات، وإستمر سليم فى حشد القوات على الحدود. كانت شكواه ضد الغورى عبثية ، حيث إدعى أن سلطان مصر قد سمح لأعداء تركيا، وحتى للأمراء الهاربين من البيت العثمانى بالمرور أو حتى باللجوء فى أراضيه ، وأنه كان على تواصل سرى مع الشاه إسماعيل فى فارس ، وأنه لم يأمر تابعه فى دلقدر بمساندة الأتراك فى حربهم ضد الفرس. مع ذلك لم يكن سليم بالرجل الذى ينتظر المبرر، فلقد كان مصمماً على غزو مصر، وماكان يمكن لمسألة تبرير الحق فى ذلك أن تقف فى طريقه.
كان قنصوة الغورى قد فقد فرصته ، فقد كان يجب أن ينضم للقتال إلى جانب الشاه إسماعيل الصفوى سنة 1514م ، حيث كان من الممكن أن يكون لمعركة جالديران نتيجة مختلفة، إلا أنه كان قد تجاوز السبعين من العمر وكانت قواه فى إضمحلال. وأيضاً فى مايو 1516م عندما غادر القاهرة على رأس جيشه ، فقد كان الوقت قد تأخر كثيراً. ومن الستة وعشرين أمير من قادة الألوف فى الجيش المصرى، لحق به إلى سوريا خمسة عشر أمير، وتراوح عدد اتباعه من المماليك الشخصيين بين 5000 إالى 14000 ألف فارس. والواقع أن العدد الكامل للقوات التى قادها غير مسجل ، لكنها إشتملت على وحدات من جيش مصر وسوريا ومن القبائل العربية. وفى يونيو دخل دمشق منتصراً ، ومن هناك توجه شمالاً إلى حلب ، ثم إستقبل سفارتين من سليم يؤكد له فيها حسن نياته ، مكرراً أن الأتراك كانوا يحشدون ضد فارس وليس ضد مصر. لكن الغورى لم يقتنع، وعندما أهان السطان التركى السفارة التى أرسلها له رداً على سفارته إهانة بليغة ، لم يعد لديه شك فى نياته. وإالتقى الجيشان عند سهل مرج دابق شمال حلب فى يوم الأحد 24 من أغسطس 1516م، وبرغم شجاعة المماليك، فقد عانى الجيش المصرى هزيمة فادحة، فقد ساعد العدد المتفوق للأتراك بالإضافة إلى مدفعيتهم ، وتحاسد بعض القوات، وخيانة خاير بك ، الذى كان سليم قد نجح فى إستمالته، ومن ثم هروبه بميسرة الجيش أثناء المعركة، ونشره إشاعة بمقتل الغورى، على هزيمة المصريين هزيمة ساحقة وهروبهم من ميدان المعركة. وكان الغورى قد قُتل فعلاُ ولم يعد لديهم قائد.
وفى القاهرة، أنتخب طومان باى النائب، وكان عبدأ من عبيد الغورى، سلطاناً بمجرد وصول أنباء مصرع سيده. وقد قبل العرش على مضض، وفقط بعد أن أخذ الشيخ أبو السعود العهد من الأمراء بالطاعة الكاملة. ووصل خطاب من سليم مقترحاً الإعتراف به كنائب للسلطان على مصر إذا ماإعترف بسلطان تركيا على العملة وفى الصلوات، لم يكن طومان باى رافضاً لتلك الشروط، لكن أمراء المماليك أجبروه على الرفض، وقتلوا المبعوثين الأتراك. ولاشك أن معظم المصريين قد إعتبروا الغزو العثمانى حقيقة لايمكن مقاومتها. وسرعان ماوجدوا الترك فوق رؤوسهم، وفى 22 يناير هزم الأتراك الجيش المصرى خارج القاهرة، وفى اليوم التالى أقيمت الصلاة بإسم سليم فى كل مساجد القاهرة. وفى السادس والعشرين من نفس الشهر دخل سليم نفسه القاهرة فى موكب رسمى بمصاحبة الخليفة الأسير، وتم القضاء على المقاومة القصيرة للمماليك، وخُدع طومان باى ثم شُنق على باب زويلة فى 14 إبريل. وحُمل الخليفة المتوكل ، آخر الخلفاء العباسيين فى مصر، إلى القسطنطينية حيث سُجن، ولكن بعد وفاة سليم فى سبتمبر 1520م، أفرج عنه السلطان سليمان القانونى وسمح له بالعودة إلى القاهرة سريعاً بعد ذلك ، حيث مات سنة 1538م ، بعد أن قام بتوريث لقبه وحقوقه لسلطان تركيا. لكن مشروعية ذلك الميراث قد رُفضت ، ليس فقط من قبل الشيعة، ولكن من قبل معظم النخبة فى العالم السنى فى إدراكهم بأن الخليفة يجب أن يكون من قريش ، قبيلة النبى. ولكن مهما كانت شرعية رؤيتهم، فقد أصبح سلاطين الأتراك خلفاء الأمر الواقع للجزء الأكبر من العالم الإسلامى التقليدى منذ وفاة المتوكل.
بعد الغزو العثمانى ، إنحدرت مصر إلى موقع مجرد ولاية من ولايات الإمبراطورية العثمانية، وتم فصلها عن الولايات المجاورة فى سوريا والجزيرة العربية، وأصبح الخائن خاير بك أول وال فى عهد النظام الجديد، لكن قوة المماليك لم تنتهى تماماً مع ذلك، وبمرور الزمن تراجعت قوة الباشوات الأتراك وإنكشاريتهم أمام قوة المماليك المتجددة، يقودهم أكبر أمرائهم والذى كان يعرف بإسم شيخ البلد. وفى القرن الثامن عشر إستطاع أحدهم ، وهو على بك الكبير، تسانده قوة كبيرة من المماليك الشجعان، وتعاطف السكان ، طرد الوالى العثمانى وإعلان إستقلال مصر سنة 1768م، كما أخضع جزءً من الجزيرة العربية وحاول ضم سوريا، ومع ذلك فقد تم خداعه وهزيمته ثم قتله بواسطة قائده المقرب محمد أبو الذهب سنة 1772م. ومنذ ذلك التاريخ ظل كبار المماليك يتصارعون على مصر، فى حالة من الخضوع النسبى للباب العالى، حتى حول غزو نابوليون وإنتصاره فى معركة إمبابة أو معركة االأهرام فى 21 يوليو 1798م مصر لمدة ثلاث سنوات إلى مقاطعة فرنسية إلى أن أجبر إنتصار الأسطول البريطانى فى معركة النيل البحرية التى وقعت فى خليج أبى قير فى 1 أغسطس سنة 1798م ومعركة الإسكندرية التى وقعت فى 21 مارس 1801م الفرنسيين على إخلاء مصر فى سبتمبر، وإسترداد سلطة الباب العالى عليها. إنتهت تحاسدات ومنازعات المماليك مع الباشوات الأتراك عندما طرد محمد على الباشا التركى سنة 1805م ، وذبح كبار المماليك سنة 18011م وأسس مملكة من التابعين لتركيا أو الخديوية، والتى مازلت تحكم مصر حتى اليوم.































قائمة سلاطين المماليك البرجية/ الجراكسة

1-الظاهر سيف الدين برقوق نوفمبر1382م
2-المنصور حجى- فترة مقتطعة من حكم برقوق يونيو 1389-فبراير1390
3-الناصر ناصر الدين فرج بن برقوق يونيو 1399
4-المنصور عزالدين عبدالعزيز بن برقوق سبتمبر1405
5-الناصر فرج-الولاية الثانية ديسمبر 1405
6-العادل المستعين- الخليفة العباسى مايو 1412
7-المؤيد شيخ نوفمبر 1412
8-المظفر أحمد بن شيخ يناير 1421
9-الظاهر سيف الدين ططر أغسطس 1421
10-صالح نصر الدين محمد بن ططر نوفمبر 1421
11-الأشرف سيف الدين برسباى إبريل 1422
12-العزيز جمال الدين يوسف بن برسباى يونيو 1438
13-الظاهر سيف الدين جكمق سبتمبر 1438
14-المنصور فخر الدين بن عثمان ببن جكمق فبراير 1453
15-الأشرف سيف الدين إينال مارس 1435
16-المؤيد شهاب الدين أحمد بن إينال فبراير 1461
17-الظاهر سيف الدين خشقدم يونيو 1461
18-الظاهر سيف الدين يلباى أكتوبر 1467
19-الظاهر تيموربغا ديسمبر 1467
20-الأشرف سيف الدين قايتباى يناير1468
21-الناصر محمد بن قايتباى أغسطس1496
22-الظاهر قنصوة أكتوبر 1498
23-الأشرف جنبلاط يونيو 1500
24-العادل طومان باى يناير 1501
25-الأشرف قنصوة الغورى إبريل 1501
26-الأشرف طومان باى أكتوبر 1516-يناير 1517
نهاية دولة المماليك ودخول العثمانيين مصر
------------------------------------------













أهم المراجع :

1-المقريزى
2-أبو المحاسن
3-إبن إياس
4-القلقشندى
5-ويل
6-هامر



#عبدالجواد_سيد (هاشتاغ)       Abdelgawad_Sayed#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مصر الحديثة وصراع الهوية
- تعديلات الدستور وأغلال العثمانيين والمماليك
- المرأة السعودية ، صراع الحرية والتغيير
- رسائل العام الجديد
- تداعيات التاريخ والصراع فى اليمن
- إغتيال خاشقجى والعالم والمملكة السعودية
- نبيل النقيب ، ضحية جديدة لمحاكم التفتيش المصرية
- الجامعة العربية والشرق الأوسط والمتوسط
- بوتين وإغتيال الثورة السورية
- مختصر تاريخ اليونان القديم
- قانون يهودية إسرائيل وصراع الخير والشر فى الشرق الأوسط
- صلح وستفاليا والشرق الأوسط والمستقبل
- سبينوزا- ضمير العصر الحديث
- تعريب التعليم - مزرعة الإرهاب
- الإنتخابات السيساوية وخيانة الثورة المصرية
- مثقفى الشهرة وتعطيل التطور
- لماذا يجب أن نكره الثورة الإيرانية؟
- محمد بن سلمان ورائف بدوى
- مصر بين البدوى والفلآح
- أربع ديكتاتوريات وكردى


المزيد.....




- عاصفة رملية شديدة تحول سماء مدينة ليبية إلى اللون الأصفر
- واشنطن: سعي إسرائيل لشرعنة مستوطنات في الضفة الغربية -خطير و ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من استهدافه دبابة إسرائيلية في موقع ال ...
- هل أفشلت صواريخ ومسيرات الحوثيين التحالف البحري الأمريكي؟
- اليمن.. انفجار عبوة ناسفة جرفتها السيول يوقع إصابات (فيديو) ...
- أعراض غير اعتيادية للحساسية
- دراجات نارية رباعية الدفع في خدمة المظليين الروس (فيديو)
- مصر.. التحقيقات تكشف تفاصيل اتهام الـ-بلوغر- نادين طارق بنشر ...
- ابتكار -ذكاء اصطناعي سام- لوقف خطر روبوتات الدردشة
- الغارات الجوية الإسرائيلية المكثفة على جنوب لبنان


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالجواد سيد - تاريخ مصر فى العصور الوسطى - تأليف ستانلى لين بول - ترجمة عبدالجواد سيد