أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - مذكرات نعيم أفندي















المزيد.....

مذكرات نعيم أفندي


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 6208 - 2019 / 4 / 22 - 16:49
المحور: الادب والفن
    


على الطاولة المفروشة بكل أنواع الطعام، كبة نية وكباب مشوي وكباب شقف وكباب باذنجان. وكأسات العرق بطة بيضاء تصدح بالماء والثلج في الفضاء الدافئ في بيت كارو ليفونيان الجار والصديق، الرجل الموهوب في الميكانيك وهيدروليك السيارات.
وعلى الطاولة ذاتها تفوح رائحة لذيذة لمخلل اللفت والشوندر والملفوف. والزيتون المغموس بالزيت والليمون والفليفلة الحمراء. وإلى جانبه طبق من الجبنة البلدي. وطبق فيه رشاد ونعناع وبصل أخضر.
صوت المطر وهو يهطل بغزارة يضفي على الغرفة المملوءة بالأطفال الصغار ونورما زوجة ابو ليموف وأبي وأمي، وأولاده الشباب جو من الألفة والراحة النفسية.
قال لي:
ـ أرسين، تعال أجلس إلى جانبي.
وقفت على قدمي واتجهت إلى الكرسي المجاور له. حضنني وابتسم لي، فاحت من أنفاسه رائحة عرق عريق نما في داخله كشتلة وردة جورية منذ فترة طويلة. وبعد أن جلست بالقرب منه، قلت لنفسي:
ـ لا أعرف بالضبط هل ابو ليفون حزين أم سعيد في هذه اللحظة؟ فملامحه لا تشيء بشيء محدد.
وبينما كنت أفكر في الاحتمالات القادمة، لمحت في نظراته شيء ما يجول في الحضور. كان ينظر إلى والدي ووالدته وأخواتي وأبناءه.
شعر أرسين بيد خشنة تدس في فمه زيتونة كبيرة فيها مزيج من الحامض والحاد والزيت:
ـ مد يدك إلى الطعام ولا تخجل. كل من طيبات الحياة. اليوم نحن هنا وغدًا سنكون تحت التراب. أفرح بنفسك وبالحياة. ولا تمرر يومك دون أن تمتعها باللذائذ. وفجأة التمت عيناها ببريق غريب وغامض:
ـ هل تعلم أن الجنود الأتراك قتلوا أهلنا. وكانوا يشقون بطن المرأة الحامل ويخرجون جنينها؟
حدق أرسين في وجه ابو ليفون خائفًا وعلامات الحزن ارتسمت على وجهه بينما فمه يمضغ قطعة لحم مشوية مع الخبز:
ـ لماذا شقوا بطن المرأة؟ لماذا أوردت هذا الكلام الثقيل على هذه الطاولة العامرة؟ إنه كلام مرعب يا ابو ليفون. صحيح أنني ما زلت طفلا لا يتجاوز الثانية عشرة من العمر، بيد أني سمعت أن الكثير من الأتراك والأكراد كانوا رافضين قتلنا.
ـ قلت هذا الكلام حتى لا تنسوا ما فعلوه بنا.
ـ قرأت البارحة في أحد الكتب أن حماقة الحكومات لا تعد ولا تحصى. وإنها متلونة تبعًا لمزاج ومصالح من يديرها. الناس العاديين من أمثالنا أسرى ظروفهم. ولا يتحملون تبعات قرارتهم. أعرف أن أهلنا تعرضوا للإبادة، بيد أن السؤال يطرح على الجميع:
من هو المسؤول، الحكومة أم الناس العاديين؟
ـ كلاهما يتحمل المسوؤلية.
ـ لكن الأرمن والأتراك والأكراد عاشوا معًا مئات، وربما ألف سنة أو أكثر إلى أن جاء بعض الحمقى وأخذوا قرارًا قاتلًا ومجرمًا ليس بحق الأرمن وأنما بحق الأتراك ذاتهم عندما أدخلهم في حرب لا ناقة لهم ولا جمل.
خيم على الطاولة حزن عميق وتوقفوا عن متابعة تناول الطعام، شاهد أرسين وجه والده ووالدته كيف امتقعا بالتوجس والاضطراب. وصمت الأطفال والشباب. خافوا من رد فعل ابو ليفون لأن أغلبهم يعلم مدى نرجيسته وعصبية مزاجه. بقوا في حالة انتظار وتوتر لما ستأول إليه الأمور من رد الفعل. استمرت العيون تحدق في ملامحه لأنهم يعلمون أنه لا يسمح لأي إنسان أن يخالفه الرأي وخاصة أنها جاءت من طفل غرير.
ـ وماذا تريد أن تقول؟ أليس جميع الأتراك السبب الأول في إبادتنا؟
ـ يجب أن نحدد بدقة من هو المجرم، الحكومة أم الناس؟
ـ الدولة العثمانية هي المسؤولة والناس العاديين سكتوا عن الجريمة.
ـ وكان الأرمن عثمانيون. أليس كذلك؟ كنّا رعايا أو مواطني تلك الحكومة. ألم يقتل في جبهات الحرب أكثر من مليون شاب تركي؟ لم لم يثور الأتراك ضد الحرب ما دام أبناءهم كانوا وقود هذه الحرب؟
ـ هل سمعت باسم نعيم أفندي؟
ـ لا لم أسمع به، من هو هذا الرجل؟
ـ إنه رجل تركي، موظف كبير، رئيس قلم ومدير الترحيل في مدينة حلب. رجل له قلب من ذهب. تعرف هذا الرجل على محامي أرمني، كاتب ومثقف. وأثناء ترحيل الأرمن باتجاه مدينة مسكنة قرب حلب أصيب بطلق ناري، بيد أنه استطاع الهرب إلى حلب من خط الرحلة باتجاه مدينة دير الزور أخر خط الذبح.
بوصوله إلى حلب علم أن نعيم أفندي موجود فيها، فأخبره عبر أحد الأصدقاء القدامى من الأكراد أنه يتمنى ان يلتقي به.
أثناء اللقاء وتبادل الكلمات بينهما، قال له نعيم أفندي:
ـ حاول أن تبتعد عن الأنظار أنت وبقية الأرمن إلى حين تنجلي الأمور، سيتم ترحيل القسم الأكبر منكم إلى دير الزور، هناك المحطة الأخير وسيتم تصفيه كل من يقع بين أيديهم من الذين جرى ترحيلهم من أقاصي السلطنة سواء من استانبول أو سيواس وقارص وأردهان ووان وطرابزون ووأرضروم بورصة وأزمير وديار بكر وأورفة وهاكاري وملاطية وأرزينجان. باختصار من جميع أطراف السلطنة بشمالها وجنوبها وشرقها وغربها. كل وثائق الترحيل في درجي.
ـ في درجك؟ ماذا تقول يا صديقي القديم؟
ـ لست مع القتل ولا مع الترحيل ولكن ليس باليد حيلة، إنه قرار الحكومة. وأي رجل أو موظف يتعاطف، مجرد تعاطف بسيط معكم سيتم تصفيته مباشرة شنقًا أمام بيته أو رميه بالرصاص.
ـ سأحاول أن أهرب إلى فرنسا لدي علاقات مع أغنياء هذه المدينة، وسيساعدوني على الرحيل.
ـ هل أنت متأكد أنك تستطيع الهرب؟
ـ نعم.
ـ قلت لك لست مع إبادة هذا الجنس من البشر، لا أستطيع إيقاف الموت. ولا من السير في طريقه إلى النهاية، لكني أستطيع أن أعطيك الوثائق لتكون شهادة حقيقية وموثقة لمن أخذ القرار من أجل الزمن القادم والأجيال القادمة ومن أجل الحقيقة. من أجل أن يعرف الناس أن الناس العاديين ليسوا كلهم مع قرار الحكومة.
كل البرقيات التي تأتي من رئيس الوزراء المجرم مدحت باشا تستقر في مكتبي، مكتب التهجير، كلها مشفرة. بعد أن أفك الشيفرة واقرأ محتوياتها بسرية تامة أدخلها إلى مكتب الوالي ومنها إلى قسم تنفيذ التهجير.
ـ لديكم مكاتب في كل محافظة ومدينة ومنطقة ومخترة في السلطنة لتنظيم الترحيل والتصفية الجسدية. عملكم يسير بدقة شديدة. يبدو أن الحكومة سهرت طويلًا على تنفيذ هذه الجريمة.
ـ إنه عمل منظم ومخطط له منذ مدة طويلة بإشراف ودعم بعض الجهات الأجنيبة في الداخل والخارج.
سأعطيك النسخ الأصلية للقرارت الصادرة من طلعت باشا شخصيًا وشيفرتها وفكها وتأخذها معك، لكن أن توعدني أن لا تنشر أي شيء إلا في حال أكون في أمان تام. إذا علموا بهذه القضية سيعدموني دون محاكمة.
ـ ماذا يمكنني تقديمه مقابل هذه الخدمة الجليلة؟
ـ قنينة عرق.
ـ قنينة عرق؟ أطلب يا رجل.
ـ لا أريد أكثر من قنينة عرق. سأسكر هذه الليلة لكشف الحقيقة وإزاحة هذا الهم الثقيل من على نفسي. ومن أجل إراحة ضميري وضمير الشعب التركي من دم الأبرياء من القومية الأرمنية المظلومة.
ـ شكرًا لك يا نعيم أفندي. لقد عوضتني عن نفسي. ستبقى كلماتك معرشة في حياتي وبعد موتي وفوق قبري كشاهدة لرجل مر من الجلجلة إلى الحياة.
ـ لا أريد شكر أ إنسان. ما أفعله هو لإرضاء ضميري. وضمير كل إنسان كريم ومحب للبشر.
عندما وصل آرام أنطونيان إلى باريس ألف كتابًا سماه مذكرات نعيم أفندي. ووثق الكتاب ووضعه في مكتبة نوبار باشا في باريس وأرسل جزء آخر إلى استانبول لدعم نقاشات المحكمة والحكم على طلعت باشا وأنور باشا وجمال باشا بالأعدام.
وقسم آخر من الوثائق قدمت لمحكمة برلين في العام 1921 للدفاع عن تهلريان الذي قتل طلعت باشا في الشارع في برلين.
خيم الوجوم على الطاولة وتوقف الأفواه عن التكلم أو متابعة تناول الطعام.



#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الراقدة على الصليب
- في البادية السورية
- التمرد 5
- التمرد 4
- ذكريات من القامشلي 2
- التمرد 3
- لماذا الغرب متسامح مع الإسلام؟
- التمرد 2
- من ذاكرتي في القامشلي
- إعادة هيكلة الدولة
- التمرد
- استانبول
- من ذاكرة الجزيرة السورية 3
- الخروج من الذاكرة 2
- الحسكة
- أمي
- سعرت باتمان والسلطنة
- السفينة والبطيخ
- ثانوية ابن خلدون
- في المناجير


المزيد.....




- فنان إيطالي يتعرّض للطعن في إحدى كنائس كاربي
- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - مذكرات نعيم أفندي