أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - المرأة في رواية الكبسولة كميل أبو حنيش















المزيد.....



المرأة في رواية الكبسولة كميل أبو حنيش


رائد الحواري

الحوار المتمدن-العدد: 6197 - 2019 / 4 / 10 - 23:06
المحور: الادب والفن
    


الكبسولة
كميل أبو حنيش
مفخرة لفلسطين أن يكون أسرها متفوقين أدبيا، فاهم يتماثلون مع "فوتيشك وعبد الرحمن اللعيبي" في تألقهم وعطائهم الأدبي، فقد أصبح عندنا عدد كبير من الأدباء الأسرى، يكتبون في مختلف انواع الأدب، من القصة إلى الرواية إلى القصيدة، إلى انثر، مرورا بالمقال والتحليل السياسي.
هذا العمل الروائي الثاني لأسرى، يجمع بين الشعر والرواية، وكاتبه شاعر وروائي، فبعد رواية نرجس العزلة" لباسم خندقجي، جاءت رواية "الكبسولة" تتحدث كما تحدث سابقتها عن المرأة، وعن (خيبة) المناضل في التحرير، بعد أن تحول النضال إلى شركات والمناضلين إلى (واقعين)، وبكل موضوعية أقول أن هذه الرواية الفلسطينية الثالثة التي تصعقني، فبعد رواية "الرقص الوثني" لإياد شماسنة، ورواية "انهيارات رقيقة" لهشام نفاع جاءت "الكبسولة" لتحدث الدهشة من خلال فكرتها في تقديم الأحداث، فنحن أمام رواية يصبح فيها الخيال/التخيل واقعا، فهي تجسيد لما يعرف ب(البايروسكلوجي) الأبعد والأعلى من علم النفس، فمن خلال أحداثها وشخصيات "سميرة الحبيبة وعدنان، والفتاة الراعية وخلود وعدنان، وبين سميرة الأبنة وعدنان"، يمكننا ان نقول أننا أمام تجسيد "لبايروسكلوجي"، فمن خلال هذه العلاقات والأحداث نصاب بالدهشة.
والمفلت في الرواية مكانة المرأة فيها، فهي التي علمت "عدنان" كيف يكون إنسانينا، وحولته من مجرد راعي إلى إنسانا نبيل، إلى شاعر، إلى مناضل، إلى مفكر، إلى مقاتل، فبدت "كالبغي" بالنسبة "لانكيدو"، فهي سبب سعادته وتحوله من حالة التوحش إلى التمدن والتحضر، هكذا فعلت "سميرة" بعدنان، وكما كان لقاء البغي "بانكيدو" في الفلا وعند انبع الماء، كان لقاءهما عند بركة الوادي، وكما تعلم "انكيدو" الحب من البغي تعلمه "عدنان" من سميرة،، من ذات المصدر، فالعلامة الفارقة في الرواية هي المرأة وحضورها وأثرها.
"الكبسولة" ما هي إلا ناتج من نتائج المرأة، وما كانت لتكون دون "سميرة" التي تسببت بوجودها وظهور الرواية، فالمرأة هي مُوجد الأحداث، وكما انتهى الحال ب"سميرة" إلى امرأة عجوز تزوجها "الأخرس" عدوها اللدود بعد أن اغتصبها، انتهى الحال بالكبسولة التي اختلطت وساحت وتشابكت فيها الكلمات والحروف فلم يعد من المكن قرأتها، وقد انتهى زمانها ولم تعد ذات أهمية، فبعد اربعين عاما جاء "عدنان" ليسلم الكبسولة إلى صاحبها "أبو اسعد" فيخبره بأنها لم تعد مهمة، وأن ما فيها من معلومات قد تم نقله إلى زوجته "ام اسعد" شفهيا أثناء زيارتها له في السجن.
من بداية الجزء "43" وحتى نهاية الرواية يصبح الزمن متشابك ومتداخل، فتقرأ "سميرة" ابنة "عدنان" أوراقه التي تركها لها، وفي ذات الوقت يكون "عدنان" يقوم بالأحداث، وهذا الشكل من تقديم الأحداث هو المدهش والمثير.
شخصيات الرواية قدمت من خلال ظرفين، قبل اجتياح بيروت عام 1982، وما بعده، فكل الشخصيات قبل الاجتياح، ـ إذا ما استثنينا الأخرس ـ إن كانت في فلسطين أو في الأردن أو في لبنان قدمت بصورة ايجابية، لكن بعد الاجتياح، أخذت في (الانحراف)، وبعد "أوسلو" انتهى بها المطاف إلى السقوط، وهذا يعكس الحالة السياسية التي مر بها الفلسطيني والقضية الفلسطينية، ففي حالة النضال كانت الشخصيات متفانية في عطائها، وإثناء النزاعات والخلافات كانت تحمل شيئا من الخلل، وبعد أوسلو أمست في الحضيض.
قبل خروج "عدنان" من فلسطين كانت كافة الشخصيات ايجابية باستثناء الأخرس، "سميرة، أبو اسعد، أبو زهدي، أبو ثائر، مروان، خالة أبو عمر، أخوه حسان" وفي لبنان قبل الاجتياح عام 82 تقدم أيضا بصورة ايجابية، "علياء" التي ستصبح زوجة "مروان" والفتاة الراعية التي توهمها "عدنان" "سميرة" فيتقدم منها كحبيب مبديا لهفته وتولعه بها، فتمنعه، فيحدث (اشتباك جسدي/جنسي) بينهما، إلا أن الراعية وأهل قريتها يعفون عن "عدنان، قُبيل الاجتياح، وأثناء حرب المخيمات تأخذ الشخصيات منحى آخر، يعود "عدنان" إلى ألأدرن بعد عام 1987 وهناك يجد مجتمع غارق في الفساد، ف"خلود" تحدثنا عما تعرضت له من زوج أمها، وصاحب محل الملابس الذي وجدها فريسة سهلة، والرجل العاجز الذي يتحرش بها رغم كبر سنه وشلله، والتي تجبر على الزواج منه لتستطيع أن تواجه متطلبات الحياة، وعن أولاده الذين يرمونها بعد أن يموت العجوز، وكيف يعاملها المحيطين بها. وهذا الواقع يمكننا أن نربطه بنفسية "عدنان" الذي ابتعد عن مكانه كمناضل، وأمسى مجرد رجل (عادي) يمارس حياة (عادية)، وبعد "أوسلو" تتحول "علياء" سلبا، فيطلقها مروان، الذي يتحول إلى رجل هو أيضا (واقعي) متخليا عن تاريخه.
وإذا ما توقفنا عند بدايات ونهايات الشخصيات، نجد، منها من تحول وتبدل "مروان علياء" ومنها من استمر في نقائه "خاله أبو عمر" ومنها من يحتضر "عدنان، سميرة، أبو اسعد وزوجته" فالشخصيات لم تكن ثابتة بل متغيرة ومتحركة، فالمكان له أثر عليها، منها من حافظ على نقائه وتوهجه ومكانه: "خاله أبو عمر" الشيوعي الذي بقى في الأردن لم يغادرها، وشخصية "أبو اسعد" الذي بقى في بيته حتى بعد مرور أربعين عاما لم يغيره أو يضيف عليه، وهذا انعكس على شخصيته، فبدا (عتيق) أصيل كحال البيت، "وسميرة" بدت هرمة (متكيفة) مع الواقع بعد ان تزوجها الأخرس، لكن "مروان" الذي انتقل من الأردن إلى لبنان إلى تونس إلى فلسطين تغير وتبدل وتحول إلى انتهازي، "وعلياء" التي انتقلت من سوريا إلى لبنان إلى تونس إلى فلسطين" تخلت عن كل شيء وامست (سيدة اعمال).
وهذا ما يجعلنا نقول أن العقل الباطن للسارد يتحدث عن علاقة المكان بالشخصيات، فالمكان هو من يمنح (النقاء والصفاء) للشخصية، فكل من بقى متواجدا في مكانه لم يتغير سلوكه، بينما الشخصيات التي انتقلت من مكان إلى آخر، نجدها انحرفت، وانحرفت كثيرا عما كانت عليه.


سميرة الحبيبة
ليس من حقي التدخل في الرواية، لكنني لو كنت أنا كاتبها لأسميتها "سميرة" فهي الأجمل والأهم، وهي باعثة الفرح ليس "لعدنان" فحسب بل للقارئ أيضا، فنجدها أكبر وأعمق من المرأة العادية/المجردة، فهي المعلمة: "اعتادت سميرة أن تتحدث أكثر مني، اتعلم منها ماهية الحياة التي كنت اجعلها تماما قبل التعرف إليها، ...أجلس في حضرتها مستمتعا لكل ما تقوله، حتى شرودها الذهني وصمتها كان يشدني إليها" ص22، بهذا الشكل كانت "سميرة"، فهي معلمة، وملهمة، ومهدئة "لعدنان".
يتقدمنا "عدنان" أكثر من "سميرة" فيخبرنا:
"بربك هل ضممت إليك ليلى قبيل الصبح أو قبلت فاها
وهل رفت عليك قرون ليلة رقيق الأقحوانة نداها"
تسألني بشقاوة إن كنت فهمت معنى هذا الشعر، تضحك وهي تفسر لي معنى البيت الأول، فاها: يعني فمها، تشيح وجهها خجلا: ثم تتدارك وتسألني:
هل تعرف ماذا يعني يقرون ليلى؟، يعني جدائلها" ص27، "عدنان" كان صغيرا لا يفقه شيئا عن الشعر والشعراء، لكن "سميرة علمته الشعر، فبعد انتقاله إلى لبنان، أخذت مروان" يعلمه القراءة والكتابة وأصبح مثقفا وشاعرا.
وتعلمه التأمل في الطبيعة وما فيها من انسجام وجمال، فهي التي تمنح الهدوء والسكينة: "سميرة تعشق الطبيعة، قالت إنها في حالة انسجام معها، تفهم لغة الأزهار الأشجار والطيور، تسمع الأغاني عبر المذياع فترى توافقا بين الموسيقى والكلمات وما بين الطبيعة الخلابة قالت لي:
انظر من حولك، الأشجار تشبه ابيات الشعر، الوادي يشبه القصيدة، استمع لخرير الماء ونقيق الضفادع، استمع لتغريد البلابل والحساسين وتحسس النسائم، ستفهم الحياة، أنها الحياة الحقيقية يا عدنان، أن تغتسل بأشعة الشمس كل صباح، أن تترك النسائم تداعب وجهك في يوم قائظ وعبير الزهور يتغلغل في مسامات جسدك، أن تحدق في النجوم في السماء المفتوحة أمامك طوال الوقت" ص29و30، عندما قلنا أن سميرة تتماثل مع البغي معلمة "انيكدو" لم نكن مغالين، فما تحدثت به آنفا، يمثل عناصر الفرح والهدوء كاملة، فالمتحدث "سمير" امرأة، وقد تُحدثت العنصر المهدئ الثاني الكتابة/القراءة، الشعر والغناء، وتناولت العنصر الثالث، الطبيعة، بتفاصيل دقيقة، وأضافت إلى هذه ضرورة التوقف والتأمل بها، فهي مانحة الفرح بشكلة المطلق، لهذا سيكون أثرها على عدنان يتجاوز العقل والمنطق، فيأخذنا إلى ما وراء/ابعد من علم النفس "البايروسكلوجي".
وتعلمه الانسجام مع الطبيعة وما فيها، بحيث يكون جزء منها، فيكون عليه واجبات تجاه الطبيعة وما فيها، وعليه أن يغير سلوكه (المتوحش) تجاه الكائنات الطبيعية: "رأتني مرة أدوس ضفدعا بقدمي واقتله، حزنت وغضبت مني،...فالت لي إنها تشعر أنهم ابناؤها، وينبغي أن تحافظ عليهن، أراها تداعبهن وتتحدث إليهن كما يداعب الاطفال... التقت ...فرخي حمام... بهدف ذبحهما وشوائهما لنأكلهما انا وسميرة، غضبت وأجبرتني على إعادتهما للعش، ...حرام عليك، ماذا ستفعل أمهما حاما تعود ولا تجدهما في العش" ص32، إذن لم يقتصر تعليم "عدنان" على الأفكار والنظريات فحسب، بل طال السلوك والتصرف، وهذا ما جعلها ـ بالنسبة له ـ أكثر من معلمة وأكثر من امرأة.
بعد أن يشاهد "عدنان" "سميرة" في بركة الوادي، وتراه يراقبها، تعلمه درسا في الأخلاق، فيشعر بهذا الشعور: "كنت أود لو تبتلعني الأرض لأتخلص من شعوري بالخجل والإهانة، الخجل من نفسي والإهانة على يد سميرة" ص37، وهنا يأخذ "عدنان" درسا في الأخلاق ومحاسبة الذات قبل أن يحاسبها الأخرون، فكان دائما رجلا نقيا صادقا مع نفسه ومع الأخرين، وما كان لهذه الأخلاق أن تترسخ فيه، دون "سميرة":
"وغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
تصور يغض بصره عن جارته إذا رآها تخرج أو تطل من خيمتها، فما بالك لو رآها عارية، كما رأيتني أنت؟" ص43، استخدام "سميرة" لمقاطع شعرية يمثل تجاوزا للمباشرة في تقديم الأفكار، وهذا ما جعلت "عدنان" يميل إلى الشعر ويصبح شاعرا.
ولا تكتفي سميرة (بالتنظير) بل تقدم نموذج عملي في السلوك السوي، فبعد أن أنبت "عدنان" على (تلصصه) عليها: "...أنظر لعينيها الجميلة وشعور الخجل ما زال يأكلني، عندها قذفت بجسدها نحوي واحتضنتني، احتضنتني طويلا وهي تهتف:
أنا آسفة.. اعتذر منك... سامحني" ص40، هذه المبادرة من "سميرة" علمت "عدنان" أن يكون مبادرا لتصحيح خطئه، وعلمته أن يكون صارما ومسؤولا تجاه الآخرين، فلا يقلل من أثر أي فعل او قول، وهذا ما جعله حريص على إيصال "الكبسولة" إلى أصحابها بعد اربعين عاما.
وتعلمه الشهامة ورفعة النفس:
" لا تسقني ما الحياة بذلة بل اسقني بالعز كأس الحنظل
اعشق سميرة وهي تروي الشعر، أكون كالتلميذ الصغير في حضرتها، وهي تلقي دروس الحب والشهامة والفروسية" ص45، طريقة "سميرة" في (التعليم) طريقة عصرية وحديثة، فهي تجمع بين الشكل والمضمون وطريقة التقديم، فعندما تأتي الفكرة من امرأة فإن لها أثر أكبر على الرجل، وعندما تأتي الفكرة ببيت شعر، فأنها ترسخ الفكرة النبيلة وفي ذات الوقت تحبب المستمع للشعر الذي يسهم في تصفية النفس، فيكون أثر الكلام/الدرس (ثلاثي الأبعاد)، المرأة، الشعر، وطريقة التقديم.
وتعلمه الحب: "اتحسس صدرها وأهبط رويدا رويدا، بعد قليل قالت: قبلني. اقترب منها كالمنوم مغناطيسيا، أضبع قبلة صغيرة فوق جبينها وعلى وجنتيها، ضحكت وقالت:
أهبل، ألم تتعلم كيفية التقبيل؟ القبلة تكون في الفم
اقترب منها ثانية وأقبلها قبلة العمر التي ما انفكت تنبض في عروقي، قبلة كانت أشبه بشهادة ميلاد جديدة كتبت لكلنا في تلك اللحظة" ص48، إذن بداية الحب وما فيه تعلمه "عدنان" من سميرة، وهي من جعلته يعرف الحب الحقيقي وما يتعلق به، فهنا لم تكن العلاقة جنسية، بل علاقة حبية، لهذا كان الانسجام والتأثر والاثر باق ومستمر فيهما.
أثر الحب لا يقتصر على الحبيبين فحسب، بل يطال المحيطين بهم أيضا: "حتى أغنامنا بتنا نبذل جهدا كبيرا في فصلها عن بعضها البعض في موعد إعادتها للبيت، وكأنهن صرن عاشقات مثلنا." ص50، طريقة التفكير هذه تشير إلى أن عدنان وسميرة" متوحدين معا، لهذا ينظران إلى الأشياء/الأغنام بهذه الشكل المنسجم مع حالتهما.
وتعلمه الرومنسية: "قلت لسميرة سأتزوجك. ابتسمت وقالت: ليس الآن. أرغب في أن أتذوق الحب قبل الزواج، أرغب بأن أعيش قصة حب كما في الأغاني والقصائد الشعرية، لا تتحدث الآن عن الزواج، واترك لعلاقتنا أن تنمو وتزهر لنرى كيف تثمر. اتركها كما هذا الوادي، لنرى كيف ستشق مجراها، ,أين يكون مصبها" ص50، هذا التلذذ بالحب لا يأتي إلا من امرأة تعرف معنى الحياة، فلا تستبق/تسلق المراحل، بل تعيش المرحلة، وتعطيها زمانها/حقها، وهذا يشير إلى أنها لم تكن (شبقة) جنسيا، بل منسجمة مع الطبيعة، وإذا ما ربطنا ما جاء على لسانها فيما سبق، نتأكد أننا أمام امرأة استثنائية، تجمع نقاء القول بصفاء الفعل، وتميز بين الرذيلة وبين الحب، وبين الحب وبين الزواج، فعندما شاهدها "عدنان" عارية رد عليه بقسوة، وبعد أن عرف خطأه احتضنته، وبهذا الاحتضان علمته الفرق بين الحصول على شيء سرقة، وبين الحصول عليه برضا، وعلمته ان هناك فرق بين الجسد/الشهوة وبين الروح/الحب، فرغم أنهما يتشابهان شكلا، إلا أن مضمونهما ودوافعهما تختلف تماما.
وتعلمه معنى الهزيمة: "أواخر شهر أيار أرى سميرة قلقة متوترة، أسألها عن السبب فتجيبني بسؤال استنكاري يستهجن جهلي: إلا تتابع الأخبار؟ ...الحرب على الأبواب...النسكة، لم أكن أدرك في ذاك العمر ما معنى الهزيمة لكنني فهمتها من دموع والدي، عرفتها من ملامح سميرة الشاحبة والدموع التي ملأ عينيها" ص52و53، وكأن "سميرة" تُكبر "عدنان" قبل أوانه، فالحرب والهزيمة تجعل من الصغار كبار، وعليهم أن يتكيفوا مع واقعهم، مع حالة غير سوية.
بعد الهزيمة، أي بعد ان (كبرت) "سميرة" "عدنان" أصبح: "كبرت سميرة، اتفرس بملامحها ونحن نشرب الشاي، بدت كما لو أنها كبرت عدة أعوام مرة واحدة، وازدادت إشراقا وجمالا" ص56، إذا ما توقفنا عند هذا الكلام، يتبين لنا أن الذي كبر هو "عدنان" وليس "سميرة" فهو الذي نضج وأصبح يميز التغييرات فيها.
وتعلمه الوطنية: "حدثتني عما جرى في الأغوار بعد الحرب، وعن تمشيط الجيش المعادي للجبال والبيارات، عن مداهماتهم الليلية لخيمة أهلها، وأسئلتهم المتكررة عن الفدائيين والسلاح، ... وعن الجندي الذي أطال النظر إليها، وخلعه بنطاله وتبوله بالقرب منها، دون مراعاة مشاعرها" ص59، هذا الحديث يستفز "عدنان" عاشق "سميرة"، فكيف لهذا الجندي أن يجرح مشاعرها، او يفكر بالنيل منها، وكيف للجنود الاحتلال أن يعكروا صوفتها من خلال اقتحامهم للخيمة، كل هذا يجعله يربط المقاومة بالحبيبة، فعندما يقوم الاحتلال هو يدافع عن حبيبته، من هنا كان واقع الحديث عليه اكبر.
سميرة تحب الشعر، تسمعه أبياتا شعرية لعدد من الشعراء منهم "عبد الرحيم محمود":
"سأحمل روحي على راحتي والقي بها في مهاوي الردى" ص60
وهنا تكون "سميرة" قد ربطت بين نبل الفكرة وتقديمها، من خلال الشعر، فترسخها في العقل والقلب معا.
وبعد أن يقع "عدنان" بين أيدي جنود الاحتلال، ويتعرض للضرب المبرح يستحضر "سميرة" لتمنحه طاقة وقوة الصمود: "...وبأشعار اعتدت على سماعها من سميرة، القتها سميرة كالبذار فنبتت في احشائي وأثمرت تحديا وعزة وكرامة، وأنا اقاوم الضربات، كان صدى صوت سميرة ما زال في تلابيب دماغي وهي تهتف:
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم
فأزداد صمودا، أنشد الموت على أن أبوح بسر الفدائيين، واتسبب لهم بالأذى أفضل الموت على ايدي هؤلاء السفلة على أن اعترف فيلتصق بي العار" ص 73و74، تكرار اسم سميرة" يشير إلى تعلق "عدنان" بها، فهي من يمنحه القوة ويستمد منها القوة على الصمود والجلد، وكأن لفظ اسمها يجعله يتذكر كل ما تعلمه منها، الأفكار والأخلاق، فيصبح أكثر ثقة وقوة وتحمل، هكذا كانت "سميرة" بالنسبة لعدنان عندما اعتقل.
وأثناء الاعتقال نجدها حاضرة وفاعلة: "وسميرة ... أنا المشتعلة في لقلب، ويأبى أوارها أن ينطفئ، اعتدت استحضار طيفها كل يوم، اجتر ذكرياتي معها، وأعد الساعات والأيام لأعانق شمس الحرية وأعود إليها" ص86، مثل هذه الطاقة التي تبعثها "سميرة" كافية لجعل "عدنان" أكثر صلابة وأكثر اصرارا على الحرية، فهناك "سميرة" تنظره، والتي تعطيه الأمل في الحياة وفي الخلاص من الأسر.
وبعد أن يعبر إلى الضفة الشرقية من النهر، ويستعيد الكبسولة من أخيه "حسان" ويعود بها من عين الطريق، تحدث اشتباكات بين الفدائيين والاحتلال، فيحاصر، ولا يستطيع التقدم أو التراجع، وهنا تأتيه المخلصة "سميرة": " ...فأتذكر سميرة كل ما ينتمي للطبيعة يعيدني لسميرة، الأشجار.. الطيور.. الأنهار.. التلال البساتين .. آه سميرة" ص112، عندما تكون المرأة بهذا الحضور وبهذا الظرف بالتأكيد فأنها تتجاوز مكانتها كمرأة، فهي شيء أكبر وأعلى من المرأة المجردة، واعتقد ان تكرار اسمها ثلاث مرات في أقل من سطرين يؤكد الطاقة والقوة التي يستمدها "عدنان" من الاسم، فتبدو وكأنها قريبة من الإله، الذي نستعين به وقت الشدة والضيق.

سميرة بين الخيال والواقع
ما قدمناه من اقتباسات في السابق كان ضروريا لمعرفة العلاقة التي تجمع "عدنان بسميرة" فهي ـ بالنسبة له ـ ليست امرأة عادية، وهذا ما أكدته لنا الأحداث الرواية، بعد ان يذهب "عدنان" إلى لبنان ويشاهد الراعية اللبنانية تعود به الذاكرة إلى الأغوار وما كان بينه وبينها، فتتجسد له سميرة بهيئة الفتاة: "المكان ذات المكان، وعلى طرف الوادي كانت هناك بين أغنامها سميرة، خرج اسمها شهيا من أعماقي .. كانت جالسة على ضفة الوادي، ساقاها في الماء تلتقط الأحجار الصغيرة وترمي بها في الماء، قدماي تحثان الخطى وتسرعان كلما ادارت وجهها قليلا، إنها سميرة.. أجل سميرة.. لا ادري إن كان ما يجري أمامي حقيقة أم خيال" ص161، هذه الحالة تشير إلى تعلقه بها، وهذا ما جعله يتقدم منها مبدي رغبته في ضمها وعناقها، لكنه يفاجأ بصدها ومقاومتها له، فيتعرض للضرب من رفاقه الفدائيين ويغيب عن الوعي، وبعد أن يصحو يعلم أنه كان في حالة بين الحقيقة والوهم، ف"سميرة" هنا، ليست امرأة عادية، وهو لم يريدها كجسد، بل كما عرفها، معلمة وحبيبة ورفيقة.
وعندما يعود إلى الأردن، تأتيه "خلود" فيفتكرها "سميرة" ويضاجعها، لكن في الصباح وبعد أن يجد بجانبه "خلود" وليس "سميرة"، يعلم أن "خلود" استغلت حالته العاطفية وحاجته الجسدية ومارست معه الجنس: "لا أدري ما حدث لي، اعجز عن تفسير كيفية اختلاط الحلم بالواقع كل ما اعرفه أنني استيقظت من نومي على صوت الباب وهو يفتح ومن بين العتمة تبينت وجهها الفته وعشقته، كانت سميرة، سميرة بذات هيئتها، تقاسيم وجهها، رائحتها التي اميزها عن ملايين الروائح، اشم عبيرها، وهي تقترب مني بدأت ابتسامتها الساحرة المفاجأة، اذهلتني، رفعت رأسي قليلا واسندته على حافة الكنبة من خلفي وهتفت بذهول
ـ سميرة؟!!!" ص248، في الحالة السابقة "عدنان" من (باغت) الفتاة الراعية، فكان يفيض عاطفة وحب، وهنا تأتي "خلود" وتأخذ حاجتها منه أثناء تلبسه لطريف "سميرة"، أليس هذا دليل على حالة التوحد بين "عدنان وسميرة" وعلى أنهما يتواصلان رغم مرور الزمن وبعد المكان؟، وعلى أنهما في علاقة حميمة مستمر ودائمة؟.
طيف سميرة
فيما سبق تداخل الواقع على الخيال، والخيال دخل على الواقع، لكن هناك حالات/طروف يأتي بها طيف "سميرة" متوافقا مع الواقع الذي يعيشه "عدنان" فعندما يدخل السجن ويطلب منه "أبو اسعد" ان يجرح رأسه بعد أن يضربه بالجدار ليدخل العيادة ويسرق منها "قلم حبر" تأتيه "سميرة": " اشتم الاخرس وألحقه فيهرب من امامي،... ثم توقف فجأ، التقط حجرا من الأرض وقبل أن أصل إليه، قذفني بالحجر، ليفتح رأسي ويهرب، اتحسس رأسي بيدي فأرى الدماء تسيل من جبيني فأصرخ على سميرة .. لكن سميرة اختفت... استيقظ بعد أن هزني أبو أسعد بيديه" ص96، أن تأتي سميرة بهذا الظرف وبعد أن شج رأس "عدنان" ويحلم بأنه ينزف بعد ان ضربه الأخرس عدوه وعدو "سميرة"، يشير إلى أن العقل الباطن ل"عدنان" متعلق بها ومرتبط ارتباط وثيق.
وبعد أن يقرر "عدنان" الزواج من "خزامى" تأتيه سميرة: "لكن سميرة عادت تزورني في أحلامي بعد انقطاع استمر شهرين، كانت جميلة بحضورها كالعادة،...من تلك القردة التي تنوي الزواج منها" ص267، تأكيدا على حضورها وتفاعلها مع الأحداث، فهي تتأثر باي خطوة تمس علاقتهما، فتريد أن يكون "عدنان" لها وحدها وليس لغيرها، رغم مرور عشرات السنوات على آخر لقاء بينهما.
والشعر الذي تعلمه منها ما زال حاضرا فيه، لهذا نجدها تأتيه ليغير أبيات قصيدة كتبها لها:
"...وسأكر أضلاعي
حتلا لا أغرق في اثم
خطيئتنا ثانية"
ـ أنا أقول لك كيف. أكسر جميع أضلاعك، أبق على واحدة
ـ لكن ذلك صعب.
ـ ليس صعبا عليك أن تقول:
وسأكسر أضلاعي ـ إلا واحدة ـ
حتى لا أغرق في الاثم
قبلتني وهمست ثانية
ـ وعليك أن تكملها لتصبح
وأحن إليك
رغم صلاة التوبة
ستعود الرغبة
وسيكسو رب العشق الضلع المتبقي لحما
وتعود اللعبة" ص272و273، للوهلة الأولى، يبدو أن المشهد يمثل حرص "سميرة" على إبقاء ضلع سليم، والذي ارادة به أن تؤكد حضورها ووجودها وتعلقها بعدنان، لكن العكس هو الصحيح، ف"عدنان" وهو الذي يحمل في داخله، في العقل الباطن "سميرة" ويبقها حية وفاعلة ومأثرة فيه، فما تعلمه منها، جعله يستحضر الجانب الأخلاقي فجعلها "سليمة" وليست مكسورة.
العقل الباطن
ما تعلمه "عدنان" من سميرة، جعله يبتعد عن أي أحداث قاسية أو مؤلمة، فبعد أن يتم اعتقاله في سجن "الخيام" في لبنان، نجده: "أهرب من الأحاديث والجدالات العقيمة والحكايات المروعة التي يرويها الوافدون الجدد إلى الأسر، عن حرب المخيمات والانشقاقات التي أصابت الجسم الفلسطيني بعد خروج الثورة من لبنان، ولا ارغب بالاستماع إلى المزيد من الحكايات الموجعة" ص206، هذ ا الشعور ما كان ليكون، دون الأثر الذي تركته الطبيعة عليه أثناء تواجده في أغوار فلسطين مع "سميرة" فقد علمته كيف يصغي إلى العصافير والأشجار والنسمات، فالشعر وسميرة والطبيعة جعلت من "عدنان" رجل هادئ وناعم، تزعجه الأحاديث لقاسية والمؤلمة.
علاقة "عدنان بسميرة" لم تتوقف عند الواقع والخيال والأحلام والشعر فقط، بل وصل تأثره بها إلى استخدامه لغتها وألفاظها: " لكن حلم العودة للوطن بات يهيمن علي، ينمو ويتضخم في أحشائي، كبر الجنين وألام المخاض توجعني وتلح علي، سأولد من جديد" ص230، لغة الأنثى/المرأة هي الطاغية فيما قاله عدنان" وهذا يؤكد على أن تأثره بسميرة تجاوز المعرفة والتعلم والحالة النفسية ووصل إلى استخدم لغتها وألفاظها، فيبدو وكأنها يقول: ليس أنا عدنان المهجر، بل أنا سميرة المهجرة والتي ترغب بالعودة إلى الوطن، لهذا استخدم "أحشائي، المخاض، الجنين، توجعني".
ونجد أثر "سميرة" فيه حتى عندما يريد ان يتحدث عن مشهد أو حدث: "أواجه وجهه، أتأمله ويتأملني... بينما وقفت زوجته العجوز مسمرة حائرة إزاء هذا المشهد" ص363، استخدام "عدنان" لفظ "مسمرة" ليشير إلى هيئة العجوز يحمل اثرا من "سميرة" فتقارب اللفظين كبير بينمهما، وإذا ما رجعنا إلى تعلقه باسمها والذي تكرر كثيرا وفي اكثر من موقف، نتأكد أن "مسمرة" ما هو إلا ناتج عن تعلقه بها وباسمها.
ونجد العقل الباطن يتحكم في سرد الأحداث، فيخلي "عدنان" مساحة من السرد الرواية "لخلود" لتتحدث بثلاثة صفحات كاملة عن همومها وعن الجماع الذي تم بينها وبين عدنان: "جسدك العاري يدعوني أن أغتسل به، يداك تتسلل إلى أنحاء جسدي، أشعر بالانقباض وأنت تهتف باسم سميرة لكن قبلاتك كانت أكبر من ان تقاوم فاستسلم تحت دفئ انفاسك" ص251، فحالة (الأنثى) التي تتشارك بها "خلود وسميرة" هي من جعله يعطيها هذا المقدار من التحدث وبحرية، كما أنها عندما ذكرت له اسم "سميرة" الذي يردده دائما وباستمرار، زاد في المساحة التي اعطيت لها لتروي ما تريده.
ونجد العقل الباطن، عندما "جعل "خزامى" تموت بحادث سير مفاجئ: " ...نكبة جديدة نتعرض لها أنا وسميرتي الصغيرة بعد تعرض خزامى لحادث سير مروع أودى بحياتها، استمرت سميرتي حزينة مدة من الوقت قبل أن تنشغل بجامعتها" ص319، يبدو لنا الحادث وكأنه تخلص من "خزامى" أكثر منه حادث منطقي، فليس هناك أي مقدمات لهذا الحادث، كما انه مر عليه سريعا، ولم يعطنا أية تفاصيل عنه أو آثار له، فكان به يمهد لعودته إلى حبه الأول إلى "سميرة".
أثر سميرة على اللغة
في الطبيعة الخلابة تعرف "عدنان بسميرة" وتعلم منها الشعر والغناء والسماع إلى لغة الطبيعة وما فيها، يعبر عن علاقته/حاجته "لسميرة" بقوله: "كان جسدي كصخرة ظمآى، وجسدها كسحابة ممتلئة بالغيث" ص40، مثل هذه الصورة تشير إلى أن "عدنان" أخذ يتعلم ويعمل بتوجيهات "سميرة، فتشبه نفسه بالصحراء الظمآى، وسميرة بالسحابة الممتلئة لم يأتي إلا بعد تأمل بالطبيعة عرف الاستماع إليها.
ونجده يستخدم عين فكرة الجفاف وحاجته للماء عندما قابل أمه بعد غياب دام اكثر من ثلاثين عاما: "كنت جافا كالأرض الظمآى للمطر، وبعد ان سمعت صوت امي امتلأت وتخصبت روحي بالسعادة الجارفة" ص 234، مثل هذه الصورة ما كانت لتكون دون المعرفة التي أخذها من "سميرة" فهي من جعله يحسن الاصغاء والتأمل، فكان بهذا الصورة الأدبية يؤكد على اتقانه للتأمل والتعبير عما يشاهده/يسمعه، وإذا ما توقفنا عند حالة "الظمأ" التي يستخدمها نجد فيها حاجته للاغتسال، حاجته للماء، أي حاجته للتحول من حالته الآن، إلى حالة أخرى جديدة، فالاغتسال بالماء له دلاله التحول الانتقال من حالة متأخرة إلى حالة متقدمة ليس على صعيد الماديات فحسب، بل على صعيد الفكر، الروح/الإيمان.
وإذا ما توقفنا عند الأفعال السابقة نجدها متعلقة بالأنثى "الظمآى للمطر، تخصبت" وهذه اللغة ناتجة عن الـتأثر بالأنثى/بسميرة، فكان متماهيا معها في وصف مشاعره، حتى أنه استخدم لغتها.
"ونجده يحسن التعبير عن المواقف السياسية: "لن تطول تلك المدة التي ابهجتنا، ونحن نتدفأ بالنار التي اشعلها صدام لنا في زمن البرد العربي الطويل" ص281.
وبعد أن أصبح "عدنان" شاعر وأتقن فن الشعر، يقدم ما يريد طرحه بلغة جميلة، فيعبر عن رؤيته لحياة الغربة: "كم الغربة قاسية دون صديق" ص233، ويعبر عن التعاطي العربي مع الماضي والتاريخ: "عندما تنتكس أمة تخترع الأسطورة المنتظرة، التاريخ" ص283، ويكشف حقيقة (جرائم الشرف) فيقول: "هل الدفاع عن شرف العائلة تعويض عن شرف الأمة المنتهك؟" ص315، ويعبر عن حال وواقع المهجرة على الإنسان فيقول: "خطيئتي كانت في مغادرة الوطن، خطيئتي في إيقاف محاولات العبور" ص340.

الزمن والمكان
علاقة "عدنان" بالمكان والزمان في حالة تنافر، فالزمن يراه ثقيلا، بطيئا في حركته، ويرى المكان متحرك إلى الأمام وبسرعة، ففي حالة العشق وجد الوقت كطفل يحبو ببطيء شديد: "...قال قريبا، لكن قريبا هذه احسها ألف عالم" ص55 ويرى في مكان اللقاء متحركا بسرعة مبتعدا عنه: "أشعر أن المسافة طويلة من هول اشتياقي لها" ص55، وبعد أن سجن عامين عند الاحتلال، وعندما تحين لحظة الافراج، يكون الوقت بهذا الشكل: "يقودني السجان إلى احدى غرف الانتظار لأمكث قليلا قبل أن تجري لي بعض التفتيشات الروتينية .. وبعد دهر من الانتظار فتح أخيرا الباب الخارجي" ص100، بهذا الشكل لم يكن الزمن/الوقت طبيعيا عند "عدنان" فقط تعاطى معه على أنه يريد أن يسرق منه لحظات الفرح، وعندما حدثنا عن الطريق إلى الجسر ليلحق بأخيه "حسان" قبل أن ينتقل للضفة الأخرى للنهر: "تتحرك السيارة، أشعر ببطئ حركتها رغم حركتها السريعة" ص105، إذن كان "عدنان" في حالة صراع وسباق مع الوقت، ولم يشعر بأنه يمضي/يمر بشكل طبيعي أثناء تواجده في فلسطين، وهذا يعكس نفسيه السارد الذي يجد في الوقت عامل ضغط.
وبعد أن يتم الاعتداء على الفتاة الراعية، يقرر "أبو زهدي" اجراء محاكة "لعدنان" وحينها بدا وقت المحاكمة بهذا الشكل: "أقف مقيدا/ معصوب العينين، جسدي يتصبب عرقا، أنتظر بيأس انتهاء الاجتماع بين أبي زهدي ومروان، أكنت حينها استعجل انتهاء اجتماعهما، أم كنت اتنمى له أن يطول، لا أعرف حينها ما قيمة الزمن، الزمن محايد ازاء هذا الانتظار" ص160، حتى في لحظة محاكمته لم يرى في الوقت صديقا، بل وجده محايدا، وهذا يعكس حالة السارد الذي يعاني من ثقل الوقت داخل المعتقل.
أما بخصوص المكان، فهو أيضا لم يكن في حالة وفاق مع "عدنان" فبعد أن استعاد الكبسولة، وأراد أن يرجع الضفة الغربية للنهر: "... بهبوط الظلام، لأهبط بعدها مسافة قصيرة وأختبئ بين الشجيرات والاعشاب النهرية بضع دقائق، وما ان تمر الدورية حتى اسارع بعبور النهر نحو الضفة الأخرى، وعندها ينتهي كل شيء، وأكون في بلادي وأعود لبيتي" ص121، رغم ان المسافة قصيرة إلا أن قطعها بحاجة إلى وقت وظرف خاص، فعبور النهر يعني عبور الوطن، ورغم قرب المسافة إلى أن "عدنان" لم يستطع قطعها، فهي أبعد من أية مكان على الأرض، لهذا يتيه أربعين عاما بعيدا عن وطنه.
العنوان، الكبسولة
إذا ما توقفنا عند "الكبسولة" سنجد فيها فكرة الأمانة، وقد أكد هذا الأمر "أبو ثائر" عندما ذكر "عدنان" بالآية "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72" ص123، لكن لها مدلول آخر، يتمثل بالوطن: "ـ أن محتواها هام وخطير، وهي مسألة حياة أو موت" ص98، بهذا القول تحدث "أبو أسعد" عن الكبسولة.
لكن للكبسولة تأثير على بطلي الرواية "عدنان وسميرة" وهي من فرقت بينهما: "كنت احدق بجهة الغرب من الحدود بينما السيارة التي نستقلها تبتعد بالتدريج نحو الشمال الشرقي، وشيئا فشيئا اختفت الحدود، وتلاشى معها أي أمل لي بالعودة إلى الوطن.
... حدقت بالكبسولة وخاطبتها قائلا: أنت لعنة. أقسم أنك لعنة" ص145، إذا ما توقفنا عند فكرة الأمانة، فهل يمكننا القول أن الأمانة هي سبب عذاب وغربة "عدنان"؟، إذا أجبنا بعنم، فإننا نؤكد ضرورة التصدي للمحتل، مهما كان الثمن، وإذا قلنا لا، فإننا نؤكد على ضرورة القبول بما هو كائن/حاصل، وهنا نكون مشاركين في الجريمة الخنوع والقبول ما حصل، فرغم أن "عدنان" دفعا حياته ثمن للكبسولة/للوطن/الأمانة فأنه كان بهذا الثمن يعبر عن انسجامه مع المرأة، مع الطبيعة، مع الشعر، مع نفسه، بضرورة أن نكون صادقين مع مبادئنا/أفكارنا.
وتأكيدا على أن الكبسولة تمثل "الوطن" نجدها تنقذ "عدنان" من الإعدام رميا بالرصاص بعد أن (تحرش) بالفتاة الراعية، وكانت من الدعائم التي اعتمدها "أبو زهدي" لعفو عنه: "ـ شفعت لك الكبسولة، وهي التي انقذتك من الهلاك، لقد أذهلتني حكايتك معها، بعد ان تسترد عافيتك، أريدك أن تحدثني عن هذه الحكاية الظريفة" ص170.
وبعد أن يتم أسر "عدنان" في سجن الخيام في لبنان، تبقى "الكبسولة" محفوظة في أمان، فهي أمانة لا بد أن يحافظ عليها: "كانت الكبسولة طوال فترة الأسر في مكانها أسفل شفتي العليا" ص210، وبعد أن يتعرض للضرب المبرح في جميع انحاء جسمه، يفقد الوعي وتخرج "الكبسولة" من فمه، ومع هذا يبقى هاجس "الاحتفاظ بها هو المهيمن عليه، وليس هاجس التخلص من التعذيب: " اكتشفت كم هو جبار الإنسان، حتى في قلب غيبوبتي كنت أدافع عنها" ص212.


سميرة الأبنة وعودة عدنان
اثناء تواجد "عدنان" في الأردن، يتعرف على "خزامى" الفتاة المهتمة بالتأريخ، تنشأ بينهما علاقة اعجاب تتحول إلى حب، يتزوجان، ينجب "خزامى" طفلة يسميها عدنان "سميرة" ليتخلص ولينهي وجود الحبيبة سميرة، تكبر الفتاة وتدخل الجامعة، تتزوج من "خالد"، تقضي أمها بحداث سير، يصاب "عدنان" بالعزلة والوحدة، إلى أن يقرر أن يعود إلى فلسطين من نفس المكان الذي خرج منه، لكنه قبل أن يذهب، يكتب مجموعة اوراق يبقيها لابنته "سميرة"، لتقرأها وتعرف حقيقة ما جري ويجري ـ أثناء القراءة ـ لوالدها "عدنان".
وهنا كانت الرواية في ذروة التألق والإدهاش، سميرة تقرأ، وعدنان يفعل، يقوم بالأحداث والأقوال، وهنا يتداخل ويتشابك زمانان، زمن/وقت قراءة الأوراق، وزمن/وقت حدوث الأحداث،
ونتوقف قليلا عند مجرى الأحداث، لماذا لم يجعل "السارد" عدنان" يعود مع العائدين أثناء "أوسلو" وجعله محروما من فلسطين؟، ولماذا ترك "عدنان" سميرة ابنته في الأردن، وقرر العودة إلى فلسطين، رغم يقينه أن الحبيبة سميرة تغيرت ولم تعد تلك الفتاة التي عرفها؟. هل لهذا الامر علاقة بشخصية السارد؟، أم أن مسار الأحداث في الرواية جعلها تأخذ هذا المنحى، بعيدا عن (سلطة) السارد؟.
هناك قول لأبنة سميرة: "آه يا أبي العزيز ما أروعك، ما تركته لي في هذه الأوراق كان أجمل هدية أتلقها في حياتي" ص349، اعتقد أن ما جاء على لسان "سميرة" يتماثل مع ما سيقوله أي قارئ للرواية، فمن خلال هذا الأوراق اخذت الرواية شكلا جديدا، وازدادت تألقا، مما احدث متعة لدى القارئ، وهذا كاف لنقول أن بناء الرواية جاء بشكل خارج (سيطرة وسلطة الراوي) وهي عمل مستقل عن أي هيمنة أو سطوة، وعلينا التعامل معها كما جاءت، بعيدا عن الخوض أمور تربكنا وترهقنا دون فائدة.

سنأخذ نموذج من هذا التداخل والتشابك في الزمانين، زمن قراءة الأوراق وزمن حدوث الفعل: "...أنهض على قدمي... أغادر أسفل الشجرة .. أتنفس ملئ رئتي وانطلق ... وقلبي يسبقني دائما..
تحاول سميرة الاسراع في تصفح الأوراق المتبقية، قبل قليل انفجرت ضاحكة وهي تطالع بين السطور عن والدها وهو يراقبها أثناء تعارفها مع أحد ابناء الجيران في عمر المراهقة" ص349، الزمن الماضي والحاضر تراه سميرة، وفي ذات الوقت يقوم "عدنان" برحلة العودة التي تشاهدها "سميرة" وتطلع على تفاصيلها أولا بأول.
ومن النماذج لتشابك وتداخل الزمن: "أعادة مطالعة السطور ثانية كي تتأكد أنها لا تحلم.. إذن هو الآن في طريق عودته .. لفد رأى عودته في لحظة إلهام، فقرر أن يترجم ما رآه بحذافيره .. علي أن اسارع فوالدي سيقطع النهر .. ربما يتعرض للخطر، نظرت إلى ساعتها كانت تشير إلى السادسة والنصف.
عقارب ساعتي تشير إلى السادسة والنصف، نصف ساعة متبقية لملامسة الحلم" ص350و351، فالأحداث تصف سميرة الآن، أثناء قرأتها للأوراق، وايضا هي تشاهد/تتعرف على تفاصيل عودة والدها لحظة بلحظة، وفي ذات الوقت نجد ثلاثة رواة للأحداث، السارد، وسميرة، وعدنان، وهم يتفاعلون ويتأثروا بمجراها.
"يا إلهي والدي سجل كل لحظة وكأنه يكتب قصة.. حتى قبل أن تضع لي الأوراق اسفل الوسادة.. كان يعرف أن ذلك سيحدث.. وها هو يسجل قصته من البداية حتى النهاية ويضعها بين يدي .. ليس لما حدث معه فحسب بل أيضا لما سيكون .. ما الذي يجري .. هذا يعني أن والدي سجل ما سيحدث له بناء على ما رآه.. أو تصوره .. أو هيء له في السقف .. إذن انتهى كل ما كان.. وها أنا أطالع ما سيكون من رحلته أو ما تبقى منها.. الدقائق القادمة ستكون حاسمة ..علي أن أعجل في القراءة.

صوت خرير الماء ونقيق الضفادع من حولي... حواسي كلها متحفزة.. عيناي تراقبان الضفة الأخرى وأذناي ترهفان السمع، عشرون دقيقة وأكون على موعد مع هناك، بضعة امتر حاسمة، خمسة أمتار هي عرض النهر" ص352، عبقرية السارد تتمثل في الجمع بين سميرة والأحداث الماضية من جهة، وبين سميرة ومشاعرها الآن وهي ترى والدها يعبر النهر، وبين "عدنان" المنهمك في العودة إلى فلسطين.
تسمر الاحداث بهذا الشكل إلى يتم اللقاء بين "سميرة الحبيبة وعدنان"، فبعد غياب اربعين سنة لا بد ان يبكون رهبة لهذا اللقاء، ليس لعدنان وسميرة فحسب، بل لسميرة الابنة" المشاهدة للحدث: " تتسارع دقاق قلب سميرة الصغيرة وهي تقلب صفحة أخرى.. بعدما وصلت الحكاية إلى الذروة، قلبت الصفحة وتابعت:" ص374، انفعال سميرة ملازم لانفعال القارئ الذي يتابع الاحداث كما تتابعها "سميرة"، فهو في لهفة لمعرفة تفاصيل هذا اللقاء، فهو لقاء أكثر من حميم، وما بين "سميرة وعدنان" أبعد من أن العقل، من هنا ندخل إلى تفاصيل وحيثيات هذا اللقاء: " أقترب أكثر ورائحة سميرة تعود، رائحة سميرة، أشمها كما كنت أشمها بالحضور والغياب، مشاعر عاصفة متناقضة تعصف بي وعلى خطوات أتوقف عن المسير، إنها في الداخل، قلبي يحدثني أنها على بعد خطوات فقط، أخطو خطوتين وأقف على بعد استدارة واحدة لليمين سأكون قبالتها تماما، وقبل الاستدارة اقف محتارا من جديد، هي لحظات الحيرة البالغة السحر والجمال يقودها مركب الشوق الجليل، أكاد أختنق افتتانا بالحظة، استنشقت هواء ملأ رئتي، استدارة وأكون مواجها لها، إنها استدارة الحياة والعمر الضائع، وقبل الاستدارة اتسلح بالشعر ليقتل في الحيرة:
فررت من اللقاء إلى الفراق فحسبي ما لقيت وما الاقي
فيا برد اللقاء على فؤادي أجرني اليوم من حر الفراق
... اقف على حافة البكاء .. فثمة جلالة ورهبة للقاء يستحق أن تجثو أمامه.. ومن خلف رذاذ الدموع أراها ..تحق بي.. تتقاطع نظراتها كما تتقاطع السواقي امتزاجا... آه سميرة .. عدت .. عدت يا وجعي بمركب الحب يحمله بحر من لدموع ومساحة شاسعة من ألم اللهفة" ص ص373و374، إذا ما توقفا عند هذه التفاصيل نجدها منسجمة مع حالة الشوق التي تحدث عنها الأبنة سميرة، والتي يشعر بها القارئ، فكلهما يرغب وفي شوق لمعرفة هذا اللقاء، فكان السارد على دراية معرفة بهذا الشوف فقدمه لنا بهذه التفاصيل وهذه الدقة.
الرواية من منشورات مؤسسة الامة العربية للنشر والتوزيع، جمهورية مصر العربية، الطبعة الأولى 2017.







#رائد_الحواري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إياد شماسنة الحرف والكلمة في قصيدة
- ورشة نقد تناقش “قصة عشق كنعانية” للروائي صبحي فحماوي
- محمد عبد الباري خاتمة لفاتحة الطريق
- انهيار الارستقراطية في رواية - شتاء العائلة- علي بدر
- الغربة في ديوان أوراق مسافر -سامر كبه-
- جعفر بشير الشعر والشاعر
- يوميات ميكانيكية علي سفر
- اسراء عبوشي
- المرأة والسياسية عند جاسر البزور وجروان المعاني
- الادارة الفلسطينية
- القسوة في ديوان -خطى الجبل- محمد علوش
- قراءة في ديوان -ما يشبه الرثاء-* للشاعر فراس حج محمد
- الحزن يموت أيضا يوسف شرورو
- الأمير الأحمر مارون عبود
- مناقشة ديوان - مختارات من الشعر الروسي- في دار الفاروق
- حزن فاضل الفتلاوي
- القاهرة الجديدة نجيب محفوظ
- حزن فراس حج محمد في قصيدة -روائحُ العشرينَ الخَرِفة!-*
- سماء الفينيق مفلح العدوان
- مدينة الموتى حسن الجندي


المزيد.....




- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - المرأة في رواية الكبسولة كميل أبو حنيش