أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ياسر جاسم قاسم - قبل خراب البصرة















المزيد.....


قبل خراب البصرة


ياسر جاسم قاسم
(Yaser Jasem Qasem)


الحوار المتمدن-العدد: 6195 - 2019 / 4 / 8 - 00:04
المحور: الادب والفن
    


قبل خراب البصرة للشاعر طالب عبد العزيز ...

عندما يأسرك المكان ، اعلم انك قد ذبت فيه، حتى انك تمزج حاضره بأمسه ومستقبله وترصد من خلال هذا المزج الاذى الذي يكتنفه، والجمال الذي يلفه، ويبقى الوصف سيد الموف ، فهو مزيج من اسماء ، اشخاص ، مواقف، مناطق ، ووصف للمكان بكل تفاصيله، مياهه، اجواؤه ، شخوصه، انهاره، اضجحاره، ازقته، شوارعه، ترابه حتى ، والاهم انسانه، وهذا ما فعله "طالب عبد العزيز" عندما وصف المكان بكل صفاته قبل خرابه، على يد كارهي هذا المكان، والذين جاؤوا لينتقموا منهومما حواه على مر العصور، الشاعر طالب عبد العزيز يتماهى مع المكان حتى انه وضع شرطا لدخوله وهو الابواب، فمن غير الممكن ان تلج المكان الا عبر باب، وها هو يصف ابوابه التي يريد وضعها ، باب حكاية انهار، باب النداف، باب السباخ، باب سليمان، باب الكويت ، البصرة ... الخ. ابو الخصيب هي جنةالبصرة المحروسة بالمياه، وهو بالتالي يؤسس عبر ابي الخصيب والبصرة ل(مدلول متعالي) ودال اذ يقول جاك دريدا : ( يجب ان يكون هنالك مدلول متعالي حتى يكون الاختلاف بين الدال والمدلول مطلقا في مكان ما ومتعذرا على الاختزال) فلذلك كانت البصرة هي المدلول المتعالي لدى طالب عبد العزيز والدال هو كلامه وصفات المدينة التي يوردها قبل خرابها كما يمكن ان يكون الخراب هو الدال عليها اليوم بالتالي سيكون نصه يحمل المطلق بين الخراب والبصرة ، بين الدال والمدلول، او ان يكون الاختلاف بين البصرة وما قبل خرابها مطلقا ومتعذرا على الاختزال ، فلك ولخيالك ان يبحر في مداليل المدينة ، بالتالي نحن امامالكتابة المحسوسة /المتناهية في الوصف فشطها الذي اضحى مالحا اليوم هو مصدر بهجتها وفرحها وسعادتها ، والارض ينشد لرائحتها التي تتكون من رطوبة العشب والطين، المهم ان الراوي وسط النخل والماء وسط الظلام الامن ، وهنا نلاحظ الوصف الدقيق ، فهل هنالك ظلام امن؟ هذا فقط في اليوتوبيا وفي ابي الخصيب التي هي يوتوبيا حقيقية ، فهي المختارة التي اختارها علي بن محمد صاحب الزنج لاقامة عاصمته فيها وهي جنة محمية بالانهار ، ففي سنة 124هـــ احتفر سليمان بن جامع قائد جند علي بن محمد النهر المسمى باسمه حتى اليوم " نهر باب سليمان" هذا النهر كان ممرا لعشرات الابلام المحملة بالتمر ، الفاكهة الورد، الخضار ، قوارب الليل والغرام، وليله خمر ، اما صبحه امر وتمر ، وهذا الخيال يخلد في الذاكرة ، ويسكبها في بوتقة انسانية ليظل مذكرا بها بهذه الجنان التي ما بقي منها سوى هذا الوصف ، الانساني ، اسماء الخصيباويين كثيرة وتتوالى ، محمد علي الاسماعيل /شاعر / مربي / صديق لسياب /شيخ المعلمين كما وصفه ( ياسين صالح العبود) معلم الموسيقا والنشيد والرم والنحت ، محمد ناصر صاحب كتاب من القرية الى بغداد من بغداد الى العالم ، (وزير ثقافة عبد الكريم قاسم) ، مصطفى عبد الله الذي وصفه الشاعر الذي ارتوى غربة حتى مات، المهم ان بابا ك (باب سليمان) يعلم درسا في الماء والنخل والعشق والامل، ودرسا في الرفض والاباء، ان نصوص طالب تجتمع فيها رؤى انسانية عديدة غير قادرين على احصائها ، فهو مثقف يدرك معنى البيئة بشكل صحيح وتاثيرها على الانسان ، هذا التاثير الكبير اللامحدود ، فالماء والنخل، هما مقومات ابي الخصيب وكلاهما ينعيه طالب نعيا حزينا ودراماتيكيا .
يؤسس الشاعر طالب لسلطة المكان وبشكل عميق، ان الشاعر طالب عبر نصه المفتوح على اللغة المأسور بابي الخصيب وما جرى لها من ازاحة عن موقعها الذي خلقنا فيه ومن اجله، ضمن جنة عدن الموعودة ، انما يمارس التفكيك كعملية (على البنية او المعمار التقليدي كما يسميه (هايدغر)) بالتالي يفكك ما موجود ليذكر بما فقدناه بالتالي فان السياق مهم في هذه العملية ، واللغة ، فمن اطر التفكيك تطلق على الفعل والحركة والفكر والتفكير واللاوعي والوعي والتجربة والعاطفة ، ويطلق على هذه المفاهيم اذا احتواها النص جميعا (الكتابة ) بمعناها الاوسع.ومعنى ان يتفكك بتعبير ادق اي : يفقد بناءه ويكون حاضرا في سياقه .
واذا تقصينا هذه المفاهيم ضمن نص طالب عبد العزيز سنجدها كلها ، بالتالي يتحقق السياق التفكيكي حسب رؤية دريدا.
الفعل نجده في ثنايا النص باجمعه ،فالفعل تجده في كل مكان (انك الانفي نهاية الارخبيل ، او في بداية سهل فسيح ومعشب، هنالك في فسائل التمر الملفوفة بالبردي نور مهمل حزين وبقايا ليل لا يأبه له احد )ص47
هذا هو الفعل الذي صنع هذا الارخبيل ، والسهل المعشب الفسيح وفسائل التمر الملفوفة بالبردي ، اما العاطفة فنجدها مع الفعل تتعشق وتمتح الفعل ضوؤه وهيلمانه (نور مهمل حزين وبقايا ليل) اذن اللغة عند الشاعر صنعت (الفعل والعاطفة) وقرنتهما سوية .
اما الحركة فهي دائمة الحضور في نصه ولنأخذ هذه النماذج للحركة .
( في انعطافة الجسر ، حين تميل بك الطريق، وانت في مقعدك الوثير في العربة ، لن تجد ما تمسك به يدك لتستقر ولتمنع جسدك عن انحناءة طويلةكأنها الغمد، ولنقل انك استعدت استقامتك او ان الانعطافة انتهت ، فانك الان في نهاية الارخبيل) .
هكذا تاتي الحركة لتحرك الفعل وتنتهي بالعاطفة في هذا النص، وممكن في مكان اخر ، من الكتاب تتعاكس اتجاهات الحركة والعاطفة والفعل، وتلتقي في احيان اخرى كما في هذا النص: " وهي تسقي البساتين المنتشرة على اطرافها من املاك بيت العوجان والبابطين وابن عثيم والراشد ومحمد الخالد وغيرهم اسماء كان لها وقع في اذهان الناس" وهنا نرى العاطفة في ذكر هذه الاسماء والحركة والفعلالذي ادى لوجود هكذا اسماء تركت انطباعا رائدا لدى الناس ويضاف لها هنا في هذا النص التجربة التي جعلت الشاعر يتعرف عليها بهذه الرؤية ، ولا تنفك العاطفة مع الحركة والفعل والتجربة في نص الكتاب بتاتا .
"سترى ابنا لفلاح هنا، جبهته مالحة وذراعه سمراء نحيلة ، يمرح في حقل البرسيم مع حبيبة له" اذ نلحظ (الحركة : يمرح في حقل البرسيم ، مع الفعل) والعاطفة مع الوعي : ( ابنا لفلاح، جبهته مالحة ، ذراعه سمراء) والحركة مدار النص ، (ذات يوم وقبل اكثر من سنوات خمس ،وحدي ، اخذت الطريق الترابي ، طريق الطفولة القديم ماشيا للقصر ، حيث كنت اسلكه صبيا)وهكذا تقود الى الفعل والتجربة والعاطفة في مدينة كان الشاعر شاهدا على خرابها وهذا هو المؤلم في الموضوع، عندما يشهد المثقف على خراب مدينته ، والمهم انه لم يكن شاهد زور بل شاهد حقيقة ضمن حركة التفكير والوعي ، يقول ضمن (الفكر والوعي) : " نحن العميان ، عميان النخل والانهار والمحطات البعيدة ، الذين سمل الخليفة عيوننا ، نبتكر الان من هزائمنا الكثيرة اخر القرن، التي لم يكمل الرواة وصفها بعد، وطنا ايا ما كان شكل الضواري التي فيه، لكي لا نظل غرباء، متلفتين ، يسرق اللصوص وثائق سفرنا في المرافئ ومخافر شرطة الحدود ضمن حرب الخلجان ، اردنا ان نسترد ترابا / وطنا، كان لاهلينا الذين عصفت الريح باضرحتهم في الشلامجة ونهر جاسم وقصر شيرين وحاج عمران" ننظر هنا عندما يتحدث المثقف الواعي بشهادة صدق عن وطنه، والا يكون شاهد زور على مرحلة يمر بها العراق من دكتاتورية ادخلته بحروب ضروس الى عراق منهوب تحكمه ثلة سارقين لم يقل خطرهم عما جرى في العراق في عهد النظام البائد، انه اذن الفعل الواعي في النص والبعيد عن العاطفة لاحداث الوعي بما جرى ويجري، وهو يدخل شيئا جديدا بدلا من العاطفة في هذا النص ، وهو التاريخ والمعرفة بما جرى ، كي تكون شهادته بالاذهان لان التاريخ والمعرفة حسب "جاك دريدا" (كانا على الدوام مجددين كأنعطافات هادفة الى استعادة الحضور او اعادة احتواءه) الا ان الشاعر طالب عبد العزيز استطاع من خلال استحضاره التاريخ والمعرفة الى استعادة الحضور الا انه لم يستطع احتواؤه بسبب ما نعانيه ولا حلول تلوح في الافق.
انه في نصه هذا ينتج المفهوم وتحضر ذاته الفاعلة ، اما لغته المتكلمة فهو يحيطها بوسائل ويدفعها للعمل خارج نطاق الذات والتي تتكلم ، فهذه الذات وعبر اللغة تخرج من ذاتها كي تتكلم ، ونرى هذا في ( كنت قد شغلت بما لدي من اوراق، اكتبها فتصبح ابوابا ، بيبانا حتى وجدتني اخط الورقة الساعة ، واهجرها اليوم واليومين ، فاعتقد بما فيها، لكني سرعان ما اجد اني كتبت في هذا من قبل ) هنا تخرج ذات الشاعر لكي تنتج المفهوم وتحضر الذات الفاعلة ، فالكتابة اصبحت ابوابا /بيبانا وحسب دريدا فان كل من الفعل والحركة والعاطفة التي تحدثنا عنها هي لغة ، وهي كتابة وهنا يبرهن طالب على هذا الموضوع (اكتبها فتصبح ابوابا ) .
فالكتابة هي : الفعل /الحركة/ المتمثلة بالابواب ، فللباب دلالة الحركة وفعلها والعاطفة تتخلل هذه الذات الفاعلة (فاعتقد بما فيها) (عاطفة+وعي+تفكير) فنلاحظ كيف تتعشق هذه المعاني ومداليلها الفكرية الفلسفية .
اما التاريخ فهو فعل الوعي لدى الشاعر (المؤرخ يقول : التاريخ يكتبه الغزاة وفلاح ابي الخصيب يقول :اختلاف الاشرعة يخيف الريح) فحركة التاريخ لديه هي حركة الاختلاف ، هو لن يكون شاهد زور على ما فعله الغزاة ، الوعي حاضر في هذه العبارة ومقترن بالتفكير ، اما الصوت فله دلالة الحضور في نصه وهو خير مثال على (ما قبل خراب البصرة)
فالصوت يتجاور مع الوجود وبين معناه بين الصوت ومثالية المعنى . (انتظم الوراقون على الرصيف ، ونادى كل على بضاعته وبمختلف الالسن صيح على الجميع، حتى ابيضت الاصوات وتشققت الحناجر) فالصوت حاضر ويتجاورمعوجود هؤلاء الناس ويدلل على زمنهم ومعناهم الحقيقي الذي سلبته منهم جماهير الغزاة والقتلة واللصوص والذين احالوا المدينة الى خراب ، هذه هي لغة طالب عبد العزيز المتكلمة اذ يدفعها الى العمل خارج نطاق الذات التي تتكلم /الذات الفاعلة /التجاور الذي يصنعه هنا مطلق بين الصوت من جهة والوجود من جهة اخرى بل بين معناه وكنهه او بعبارة ادق بين الصوت ومثالية المعنى .

وهنا لا بد ان نعي ان "الفكر" بما هو حاضر وذات يفصح عن نفسه عبر الصوت ، اي : عبر لسان من الكلمات ، ان الصوت ينتشر ، وهذا ما يسمى ب(الوعي) باقرب ما يمكن من صميم الذات، اشبه ما يمكن ب"الامحاء" تشديد الميم، المطلق للدال: تاثر خالص بالذات ، يتمتع بالضرورة بشكل الزمن، ولايستعير من خارج ذاته اي : من العالم او الواقع اي دال ثانوي واية عادة للتعبير غريبة على عفويته الخالصة ، انها التجربة الفريدة للمدلول الذي ينتج نفسه عفويا في صميم ذاته.
ان نص طالب عبد العزيز هو "نسيج من العلامات" المدلولات المتعالية ، بالتالي يتحول نصه بين ما يورده في الماضي عن البصرة وبين المدلول الحالي - الذي يتمتع بجميع الاحوال بعلاقة مباشرة مع اللوغوس ، وبعلاقة متوسطة غير مباشرة مع الدال الذي يسميه دريدا (برانية الكتابة) - ووضعه بحيث ان الاختلاف بين الدال والمدلول مطلقا في البصرة عصيا على الاختزال كما بينا. هذا ما نراه في التراب عندما يحوله الشاعر الى (ابجدية الحياة /خطاطة الموت الاولى ، جيل الخلق منه، واليه يصيرون، ثم يمتزجون فيه، فيكونون هو ، ويكون هم ، هذه الواحدية الازلية التي دأب الانسان من جانب والحياة والموت من جانب على تجاذبهما ، كيف سيتسنى لنا نحن :التراب /المطلق ان نتحدث عنها، ان (نختزل) وباي حق نضع العلامات والبيانات بصحة هذا وبطلان ذاك؟ او قوة هذه وضعف تلك، بل كيف نستطيع رسم حدود الزمن /المطلق، نشهر به او نستنطقه، نتامله، نهمله، ونحن كائنون منه، ومتكون منا؟ كيف .
المدلول المتعالي هنا هو :البصريون، والدال عليهم هو :التراب ولكن لم يكن الاختلاف هنا بين دال/تراب، وبين مدلول/بصريون متعالي ،ابدا بل كان هنا امتزاج بينهما ومخالفة لقاعدة دريدا بالتفكيك ،فالدال والمدلول في عرف البصريين قبل خراب مدينتهم، متماهي ، فهما واحدا، (كيف سيتسنى لنا نحن التراب؟)
بل يستمر التماهي كاسرا قاعدة دريدا لابعد من ذلك، فالدال والمدلول ، (البصريون والتراب) متماهين الى درجة( نحن الارض والنهر والنخل والقطعة الزرقاء الوحيدة المتبقية من السماء وقبر الشيخ محمد ابو الجوزي (احد اشهر معالم ابي الخصيب) ) تستشعر وانت تقرأ الخصيبي طالب، انك امام فعل الكتابة ، الحياة، الكتابة المحسوسة كما يسميها (دريدا) المتناهية /المحسوسة لانه يجعلك تعيشها تحسها ، تتأملها، (تنطفئ تحت هذه القبة الفقيرة قريتان صغيرتان :كوت الضاحي وكوت الشافي، اللتان تمتد الارض تحتهما ، حتى الجرف الاخضر المنبسط لشط العرب، حيث يقع بستان وبيت سيد تاج، وبيوت العبيد ، وبيت الشيتي وغيرهم)
هكذا نجد فعل الكتابة يفعل بالحس والعيش والتأمل بصريح التعبير هنا (تكون مفكرا بها ضمن الثقافة والتقنية والحيلة) (جاك دريدا) وهو لا ينفك يضع العلامات في نصه فقبر الجوزي علامة ، وبيت الشيتي علامة ومحمد علي الاسماعيل علامة، وباب سليمان علامة وياسين العبود علامة، فنصه كما اسلفنا نسيج من العلامات، بالتالي عندما تخلص نصه من العلامة لادراك الحركة التي يرسمها ، وتفهم بصورة جديدة تعبيرات حقبة وحدودها وانحدار تاريخي وحركة وفعل وعاطفة وغيرها ، فهو بحق نص علاماتي /سيميائي مميز.
ويستمر الشاعر ، لكن هذه المرة ليفك الشفرات ويضع تساؤلات عميقة عاشت مع الانسان منذ وجوده على هذه الارض قبل 3.2 مليون سنة ، تساؤلات الانسان غير العاقل والعاقل سوية ، (اسأل جسدك المتهالك على الاريكة الان، هذا المستتب، كيف تنبسط الروح؟ بل كيف يتغلب المتحرك على الساكن فيه؟ ) وثنائي الجسد والروح والمتحرك والساكن استلهمهما طالب من اجداده المعتزلة ، من النظام استاذ الجاحظ الذي تحدث عن الحركة والسكون والطفرة وانتقال الجسم من مكان الى اخر ، دون المرور بنقطة معينة فكان الشاعر وريث هذه الطفرة ومعناها الاوسع ولكنه يصل الى نتيجة هي:
خلقت له ، وخلق لي ، وخلقنا معا من اجل لحظة لم نبتكر نهايتها بعد ، احييه اذا مات واموت حين احييه، صليبهومسيحه أنا، وكنت قد اخترت ماءه على المقاصد كلها، فكنت مفزعه وكان مفزعي ، وعنده نزعت ريش الشك من جناحي ، فطرت عليه ، ابعد من سمائه كان جناحي، لكن كان يملك الفضاء ،ولا املك البعد، وارضه كلها تحت خفق ريشه.
وللسؤال علاقة مباشرة مع (اللوغوس) مع العقل ومبتنياته النصية ، فسؤاله هو الخطاب الحقيقي للعنوان الرئيس الذي ابتدأ النص به (قبل خراب البصرة) الخطاب هنا بالاضافة الى العاطفة هو خطاب العقل ، المعرفة ، التفكير ،واي تفكير : الواعي.
اما الجسد فذلك هو الحضور بما للحضور من معنى ، فالحضور يتمثل هنا بكل ما مرتبط بالجسد وحيثياته فهنالك خطاب (مونولوج) داخلي مع الجسد /المادية تحضر هنا لكن ليس بشكلها الايديولوجي بل بتعبيراتها الانسانية (لا اريد لك الفناء ، فمن انا حتى تفنى من اجلي، كل جسد يتوعده الحدثان ، ويستدرجه الموت)
(اجعل لغدك نصيبا في جسد هذا ، وارفق بحرائقه وصحاريه ، فما كان الله ليثبت زرعا لم يخلق له ماء)
وتتجسد معاني المقدس في الجسد فتصبح كينونة الجسد هي القداسة ، بمعناها الانساني الاسمى.
(فلا تعطلن بعض صفاته وهو الغفور ،ولا تحرمن نفسك من مرضاته ، وهو العفو ، تقرب اليه بمعصيتك، يتقرب اليك بلطفه، واساله على خفق قلبك، وارتجاف اقاصيك ،فقد خلقت للحظات ومنحك الرخص، هو الذي يحب ان تؤتى رخصه)
الجسد في هذا النص هو (المقدس) ولاسواه، بل انه يحمل صفات المقدسفهو الغفور ، وهو العفو فلا يجوز لك ان تعطل صفاته ، اي تحرر وانعتاق هذا فهو عكس المقدس ، فالتقرب الى الجسد يكون بالمعصية ،فيتقرب اليك بالعطف والحنو والرحمة ، اما الخفق/الارتجاف/ فهي اللحظات التي من غير الممكن ان تتركها بعيدا تذهب دون ان تسلكها، لان الجسد منح الرخص ولانك انت خلقت لهذه اللحظة ، التي لن تعود بعد، فهو الذي يجب ان تؤتى رخصه.
(الجسد) هنا هو الدال العليا على حاجاته ومتطلباته ،فهو الذي يدلل على اللحظة التي تريد، هو المعنى الاسمى، هو قدس الاقداس على راي المتصوفة واصحاب المكذهب الباطن، هنا نجد عقيدة باطنية هذه المرة تختلف عن عقائد اهل الباطن ،فهي تنتصر للجسد المرأي المشاهد/الملموس /المحسوس/الفيزيقي /المتجلل بالمعاني الانسانية السامية .
بل انه يتحدث عن خصوبة الجسد، التي استمدها من خصوبة تفكيره ، والذي استمده بدوره من خصوبة الارض التي عاش عليها ،فهو الخصيبي الاثير فالارض التي تحدث عنها لم تمنحه التمر والخضار والجمال فحسب، بل منحته خصوبة التفكير وعذوبة اللغة وجماليتها،كذلك نلحظ على نصه انه لم يتضمن الشكل والعلامة والتشكل فحسب بل هنالك (التضامن بين العناصر) وبالتحديد التضامن بين الجسد والعقل (اللوغوس) المحسوس (اجعل لغيرك نصيبا في جسدك هذا) هذا هو مفهوم تضامني واضح، (تقرب اليه بمعصيتك يتقرب اليك بلطفه) اي تضافر عجيب هذا ، فالجسد هو الكلية التي يريد طالب ابرازها ، والعناصر هي: الاحاسيس/ المعصية/ الجمال/ اللذة المحرمة، وهنا اقول انه استطاع ان يؤسس لبانوراما الجسد.

(ما انطبقت عليه الحنايا من الامان، وملأت قلبه ما انفرد به من الالق الجمال، فانقطعت لمحبته فردا، ووقفت على انعتاقه بين يدي، فكان عندي خلاصة النهار، وانطباق الجفن على الجفن، اضمه فلا تسعه الاضلاع ، واني لأحس لحظته تخترق ابدي، حتى وددت لو ييأس الراس المفجوع من مقدرتي فيفيق لانسللت من المكان الى العري، وكنت قد مسحت على الاهداب الطويلة العتماء ضحى كاملا لاستبين الليل من النهار ، حتى اخرجتني الاحزان الى الاحزان، ومعها اكتويت بنار لا تعرفها النيران، فأنا في حضرته سكران، لا اجد الطريق ابعد من يدي مؤانسة الصديق واقرب لانفاسي انفاس الغريق، لا اجد في يدي ما احتال به، ولا يغمى علي فأنتبه ، احبه لانتصاره علي ،وابغضه لرجعة في يدي، فلا قربه مني ادناه الي ولابعده نسيان لدي، فالجسد وعاء والروح محتوى والجسد قحف والروح لطف ، الجسد من تراب والروح من امر الله، والروح مخلوق قبل الجسد وهو قديم والجسد محدث والجسد يبلى والروح لا ، الجسد ينطلق والروح تومئ
فأين انا ؟
اين انت؟ ايننا؟)
الرؤية الميتافيزيقية تحضر في هذا النص الميتافيزيقي بامتياز .والذي تتمثل به اية قرانية (ويسالونك عن الروح... قل الروح من امر ربي وما اوتيتم من العلم الا قليلا)الا ان طالب عبد العزيز يفلسف الروح ويجعلها تتكلم ويضفي عليها صفة الانسانية بمعنى اخر يؤنسن الروح ويعطيها بعدا انسانيا
وهذه الرؤية تتصل بالفلسفة بمضامينها الكبرى حول الروح والجسد ، هذه الثنائية التي ما انفكت يناقشها الفلاسفة وعلى مدى قرون من الزمان.
كما ناقش الاستاذ طالب "الفكر المتطرف" الذي بشرت به المؤسسة الدينية طوال حضورها التاريخي في خطبها وواقعها ، وكيف ساهمت في دمار الكثير من الثيمات الثقافية البصرية ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر تماثيل على شكل حوريات البحر في ساحة الطيران وسط البصرة كانت شاخصة حتى اقدم المتطرفون على سلبها حياتها وحياة المدينة فيما بعد,
(لم تنل الفؤوس والمعاول من فتنة سيقان حوريات البحر النائمات في ساحة الطيران، على نهر الخورة ، حوريات قيس العمر ، اللواتي كن يطوقن نافورة الماءالحجرية المتدفقة وسط الساحة والتي هلك عشبها وراحت خراف الرعاة الجوالين تقضم الجذور اليابسة)
اذن يتضح ان الفكر الداعشي في تحطيم التماثيل ما كان وليد اللحظة في الموصل ، بل انه قد بدأ في البصرة بتحطيم هذه التماثيل وتحويل الساحة الجميلة المعشبة الى مكان مقفر جدا من الفن او العشب على حد سواء.
فالمتطرفون هذا ديدنهم ، يقتلون كل شيء جميل لكنهم قد حسبوا انهم ينالون من الجمال بتحطيم التماثيل ولا يعرفون بسبب غبائهم ان ارادة الحياة مستمرة ولا توقفها هذه الاعمال المشينة وسيبقى التاريخ يلعنهم بافعالهم الشنيعة ، لان هذه التماثيل قد سهر الفنان العمر كي يظهر جمالها واذا بفؤوس المتطرفين تنال منها .
وهؤلاء المتدينين قد جاؤوا للبصرة على غفلة من حاضرها(الذين قدموا المدينة من ثلمة في تاريخها) فهؤلاء هم الذين ساهموا في دمار كل هذا الجمال فمنذ ان دخلوا المدينة هؤلاء الشباب وغطوا هذه التماثيل بقماش اسود انسجاما مع مناخ الحزن العاشورائي ، الذي بدأت تفرضه الحياة العامة في المدينة ... صارت المدينة (البصرة) تصرخ ""كل ارض كربلاء وكل يوم عاشوراء "" ) هذا الزخم الطقسي قد جاء متناغما مع الفقر المدقع والتاريخ المليء بالحوادث المحزنة لهؤلاء الفقراء والذين جاء الكثير منهم بغفلة من تاريخ المدينة.
اما الصورة الثانية التي ينقلها الشاعر وبأسى وهو صاحب تاريخ الاسى فهي عن اناس البصرة في الاربعينيات وحتى نهاية السبعينيات وينقل صورة عن هذا الماضي الممتلئ حرية ، وجمال. (يتذكرون صور الفاتنات من اللواتي كن يزين صالات التصوير في البصرة فوتوماتون ، كارد،فينوس، الخلود، ذكريات، ستراك، ارام) وكل البصريين لديهم ذكريات جميلة مع هذه الاستوديوهات اذ (كان المصور يقترح الصورة الجميلة ، واللقطة الاستثنائية لعدسة كاميرته ثم يستاذن الصبية الفاتنة هذه او تلك بأن تسمح له بتعليق صورتها في معرض الاستوديو ، طمعا في جلب اكبر عدد من الزبائن لانها الاجمل عنده) .
اما السينما فقد انتهت في هذه المدينة فلا سينما شط العرب ولا النصر التي تحولت الى دكان لاحد النجارين ولا الرشيد ولا الوطن ولا الحمراء ولا الكرنك مع صورة يرسمها الشاعر طالب لاجواء السينما انتهت في هذه المدينة ( حين كانت نساء بيوتات البصرة عريقة يسارعن لاخذ مقاعدهن امام الشاشة الكبيرة وسط احترام شباب المدينة ، الاحترام لا يخلو بكل تـأكيد من بعض الهمس والغزل البريئين) فالتاكيد حضور النساء في محافل المدينة وصالونات صورها وتماثيلها انما يؤكد الدور الذي لعبته المرأة على مستوى الوعي والحضور الجمالي في هذه المدينة، وان الجندر قد كان حاضرا في المدينة الى ان جاء المتطرفون في غفلة/ثلمة من تاريخ المدينة وسببوا كل هذا الدمار.
السينما ظلت (شاشة حياة رفيعة تلهم سكان المدينة الحالمين طرقا حضارية لا حصر لها) ينقلها الشاعر بكل امانة (فما ان ينتهي عرض الفيلم حتى يفاجأ الشباب بالتقليد السريع لفساتين الممثلة بطلة فيلم البارحة ، بنات البصرة الجميلات يذهبن مسرعات لخياطهن ، يطلبن منه يتوسلن اليه، بحق الشباب والجمال ان يخيط فساتينهن كما رأينها على بطلة فيلم البارحة) والنتيجة (تعاد صورة لورين ، مارلين مونرو ليستمتع المتنزهون بنسخة بصرية من الفيلم ) ولكن المكان اين؟ الساحل الاخضر لشط العرب ، اصبح مقاحلا اليوم وتملؤه الاراكيل /الاوساخ/السكراب دون مباهج الفرح .
مبرة البهجة في الخورة ، روضة راهبات التقدمة ، المعقل ، حدائق الاندلس (في مهرجان فرح ظل يتكرر كل ليلة) كل هذه الصور اجبر المصور /الجمال على انتزاعها من الحائط نفسه في (حمى التشدد الديني الذي افرط في التعامل مع مشاهد الجمال)
وما الذي حل بديلا عن كل هذا الجمال ،فهنا الاسى اذ ازيحت صور الجمال (ليعلق مكانها رسوما لطواطم ميتة في ضمير الزمن بوصفات لا تخلو من مكر واثواب تذكر بالصحارى والاودية الضمأى كالحة مثل قصيدة جاهلي مات مسموما) هكذا يصف البداوة التي اجتاحت البصرة /المدينة/المدنية ، هكذا ابدلت صور الحسناوات بهذه الوجوه الكالحة ، وابدلت تماثيل قيس العمر للحسناوات حوريات البحر بأقمشة سود ورعب ودمار وابدلت اصوات ام كلثوم ونجاة وشادية وسليمة مراد باصوات نشاز بما اسماه الشاعر (عصر انهيار كبير) مع ذلك تظل البصرة عاشقة للامل الذي لن يخبو ما بين شطها ونخلها وفنها وثقافتها ....



#ياسر_جاسم_قاسم (هاشتاغ)       Yaser_Jasem_Qasem#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نحو مجتمع الحوار واللاعنف
- ميلبا ألتا وكربلاء
- التطرف لا دين له
- عالم داعش خبايا واسرار ... تحليلات فكرية لادارة التوحش الخاص ...
- من هو وكيل الاله على الارض العقل ام رجل الدين
- اثر المدرسة النحوية في البصرة على تكوين العقل البصري ... انت ...
- مشاركة دولية واسعة وبدعم منقطع النظير من محافظ البصرة اقامت ...
- بمناسبة الذكرى السنوية لرحيل الشاعر مصطفى جمال الدين ، نهضة ...
- الفرض للاسلام هو الكفر في نظر عز الدين سليم
- ديانة الخوف والديانة الاخلاقية- دراسة مقارنة
- محي الدين بن عربي ونصر حامد ابو زيد........ العلاقة الفكرية ...
- الشريف الرضي بين عناد غزوان وعزيز السيد جاسم... دراسة مقارنة ...
- خطاب المرأة بين السلب والايجاب
- هل لدينا خطاب نواجه به الاخر
- خطاب المراة المستقل ضمان لتحقيق حريتها
- البريكان شاعر الانسانية بصمت
- التنوع الفكري لدى العلامة الدكتور علي الوردي
- النظرة الى الموروث والقدرة على التقدم
- هل قامت الاديان باختزال مفاهيم الانسانية
- لقاء مع الدكتورة نوال السعداوي


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ياسر جاسم قاسم - قبل خراب البصرة